✒️ نسبُه الشَّريف
ﻫﻮ اﻹﻣﺎﻡ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ اﻟﻜﺎﻣﻞ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ بن علي بن أبي طالب ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻼﻡ.
والِدُه: عبدُاللهِ بنُ الحسن المثنى ويُلقّب بالمحض؛ لأنّه أوّل فاطمي ولد من أبوين فاطمِيّين فوالده الحسن المثنى (ع)، ووالدتهُ فاطمة بنت الحسين بن علي عليها وعلى آبائها السلام. ويلقب أيضاً بالكامل؛ لأنه كان يقال: من أجمل النَّاس؟ من أفضل النَّاس؟ من كذا؟ من كذا؟ فيقال: عبدالله.
ﺃﻣُّﻪ: ﻫﻨﺪُ ﺑﻨﺖُ ﺃﺑﻲ ﻋﺒﻴﺪﺓ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺯﻣﻌﺔ ﺑﻦ اﻻﺳﻮﺩ ﺑﻦ اﻟﻤﻄﻠﺐ ﺑﻦ أﺳﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻌﺰﻯ ﺑﻦ ﻗﺼﻲ.
✒️ مولده وصفته
وُلِد الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية في المدينة المنورة سنة (93هـ)، وقد كان عليه السلام ﺁﺩﻡَ اﻟﻠَّﻮﻥ ﺷﺪﻳﺪَ اﻷﺩَﻣﺔ، ﻗﺪ ﺧﺎﻟﻂ اﻟﺸﻴﺐُ ﻓﻲ ﻋﺎﺭﺿﻴﻪ.
✒️ كنيتُه ولقبُه
يُكنَّى الإمام النفس الزكية بأبي عبدالله، وقيل: أبو اﻟﻘﺎﺳﻢ، وكان يقال له "ﺻﺮﻳﺢ ﻗﺮﻳﺶ"؛ لأنَّه ﻟﻢ يكن هناك ﺃﻡُّ ﻭَﻟَﺪٍ ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ أﻣَّﻬﺎﺗﻪ ﻭﺟﺪَّاﺗﻪ. كما كان يُلقَّبُ "باﻟﻨَّﻔﺲ اﻟﺰﻛﻴُّﺔ"؛ وذلك للخبر الذي جاء عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ﺇﻥَّ اﻟﻨَّﻔﺲ اﻟﺰﻛﻴَّﺔ ﻳُﻘﺘﻞُ ﻓﻴﺴﻴﻞُ ﺩﻣُﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﺣﺠﺎﺭِ اﻟﺰﻳﺖ، ﻟﻘﺎﺗﻠﻪ ﺛﻠﺚُ ﻋﺬاﺏ ﺃﻫﻞ ﺟﻬﻨَّﻢ))، ولُقِّبَ أيضاً "اﻟﻤﻬﺪﻱ"، لِمَا جاء في الحديث: ((اﺳﻤﻪ ﻛﺎﺳﻤﻲ ﻭاﺳﻢ ﺃﺑﻴﻪ ﻛﺎﺳﻢ ﺃﺑﻲ))، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺑﻨﻮ ﻫﺎﺷﻢ ﻻ ﺗﺪﻋﻮﻩ ﺇﻻ ﺑﺎﻟﻤﻬﺪﻱ.
✒️ ﺃﻭﻻﺩُﻩ
له ثلاثة أبناء وهم: عبدالله اﻷﺷﺘﺮُ ﻗُﺘِﻞ ﺑـ(ﻛﺎﺑﻞ) ﻭﻟﻪ ﻋَﻘِﺐ، ﻭﻋﻠﻲٌّ ﺃُﺧِﺬَ ﺑـ(ﻣِﺼﺮ) ﻓﻤﺎﺕَ ﻓﻲ ﺣَﺒﺲ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺟﻌﻔﺮ اﻟﻤﻠﻘﺐ ﺑﺎﻟﻤﻬﺪﻱ، ﻭاﻟﺤﺴﻦُ ﻗُﺘِﻞَ ﺑـ(ﻓَﺦّ). وله ابنتان: فاطمة وزينب درجتا وأمُّهم جميعاً أم سلمة بنت محمد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
✒️ من هو النفس الزكية؟
يعدُّ الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله واحداً من أئمة أهل البيت الذين أحيا الله بهم شريعة سيد المرسلين، وأقام بهم عمود الدين، ولقد أتاه الله من أسباب الرعاية والتوفيق، ما جعله إمام أهل زمانه في علمه بكتاب الله وحفظه له وفقهه في الدين، وما زال الإمام النفس الزكية يترقى في صفات الكمال ومراتب الخير حتى ذاع صيته وعلا فضله واعتقد الناس في زمانه أنه المهدي، ولقبوه به وشاع هذا الاعتقاد في الخاصة والعامة، كما امتاز الإمام النفس الزكية بالشجاعة فكان يشبه بحمزة بن عبدالمطلب، وتجلت شجاعته وبأسه في خروجه على الظالمين، ومواجهته جيوش الطغاة، كما كان يشبه في الفصاحة والخطابة والبلاغة بجده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن صفات الإمام النفس الزكية قوته البدنية وصلابته وهيبته حتى أنه كان إذا صعد المنبر يتقعقع، وروي أنه أقل صخرة إلى منكبيه فحزروها ألف رطل.
✒️ علمه
حرص الإمام الكامل ﻋﺒﺪُاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ على أن يُنشئ جيلاً مفعماً بالعلم، مستشعراً لعظمة الدين، فكان ﻳﺄﻣﺮ اﺑﻨﻪ ﻣﺤﻤﺪاً ﺑﻄﻠﺐ اﻟﻌﻠﻢ ﻭاﻟﺘَّﻔﻘُّﻪ ﻓﻲ اﻟﺪِّﻳﻦ، ﻭﻛﺎﻥ يأتي ﺑﻪ ﻭﺑﺄﺧﻴﻪ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺇﻟﻰ اﺑﻦ ﻃﺎﻭﺱ ﻓﻴﻘﻮﻝ ﻟﻪ: "ﺣﺪِّﺛﻬﻤﺎ ﻟﻌَﻞَّ اﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﻳﻨﻔﻌَﻬﻤﺎ".
وفي مقتبل العمر تنقل الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله بين العلماء، يأخذ عن أهل البيت وعن غيرهم العلم، ويسمع منهم الحديث؛ ويكشف الإمام عن رغبته في طلب العلم وهمته بقوله: "إني كنت لأطلب العلم في دور الأنصار حتى إني لأتوسد عَتَبَةَ أحدهم فيوقظني الإنسان فيقول: سيدك قد خرج إلى الصلاة ما يحسبني إلا عبده".
وممن أخذ عنهم العلم وسمع منهم أباؤه وأعمامه عليهم السلام كما لقي نافع ﺑﻦ ﻋﻤﺮ و ﺃﺑﺎ اﻟﺰِّﻳﺎﺩ ﻭﺳَﻤﻊ منهما ﻭﺣﺪَّﺙ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻭﻋﻦ ﻏﻴﺮﻫﻤﺎ، وكان علماء الأمة في المدينة والعراقين كأبي خالد الواسطي والقاسم بن مسلم السلمي وواصل بن عطاء وغيرهم يلازمونه، ويعتزون إليه.
وبالرغم من أن الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية عليه السلام كان السابق في العلم والفقه إلا أننا نجد مروياته وما أثر عنه من العلوم قليل بالنسبة لغيره؛ ومرجع ذلك أنه عليه السلام أمضى عمره في إخافة الظالمين ومقارعتهم متخفياً في الجبال، ومستتراً عن الناس، وكلَّما رُوِي عنه كان بعد استشهاده، ولقد ﺧَﺮَّﺝَ ﻟﻪ أئمة أهل البيت وعلماؤهم في كتبهم الحديثية، ومن العامة ﺃﺑﻮ ﺩاﻭﺩ، ﻭاﻟﺘّﺮﻣﺬﻱّ، ﻭاﻟﻨَّﺴﺎﺋﻲّ.
قال له اﻟﻘﺎﺳﻢُ ﺑﻦ ﻣﺴﻠﻢ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ، ﺇﻥَّ اﻟﻨَّﺎﺱ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﺇﻥَّ ﺻﺎﺣﺒﻜﻢ ﻣﺤﻤﺪاً ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﺫﻟﻚ اﻟﻔﻘﻪ.
ﻓﺘﻨﺎوﻝ الإمام النفس الزكية ﺳﻮﻃَﻪ ﻣﻦ الأرض ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: "ﻳﺎ ﻗﺎﺳﻢ ﺑﻦ ﻣﺴﻠﻢ، ﻣﺎ ﻳﺴﺮﻧﻲ أﻥَّ الأمَّة اﺟﺘﻤﻌﺖ ﻋﻠﻲَّ ﻛﻤﻌﻼﻕ ﺳﻮﻃﻲ ﻫﺬا ﻭأنِّي ﺳـﺌﻠﺖ ﻋﻦ ﺑﺎﺏ اﻟﺤﻼﻝ ﺃﻭ اﻟﺤﺮاﻡ ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻋﻨﺪﻱ ﻣﺨﺮﺝ ﻣﻨﻪ، ﻳﺎ ﻗﺎﺳﻢ ﺑﻦ ﻣﺴﻠﻢ، ﺇﻥَّ ﺃﺿﻞَّ اﻟﻨَّﺎﺱ ﺑﻞ ﺃﻇﻠﻢَ اﻟﻨَّﺎﺱ، ﺑﻞ ﺃﻛﻔﺮَ اﻟﻨَّﺎﺱ ﻣﻦ اﺩَّﻋﻰ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ الأمَّة، ﺛُﻢَّ ﺳُﺌﻞ ﻋﻦ ﺑﺎﺏ اﻟﺤﻼﻝ ﻭاﻟﺤﺮاﻡ، ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻋﻨﺪﻩ ﻣﻨﻪ ﻣﺨﺮﺝ".
ولقد ألف الإمام النفس الزكية ﻛﺘﺎﺏَ (اﻟﺴِّﻴَﺮ) اﻟﻤﺸﻬﻮﺭ، ﻗﺎﻝ اﻹﻣﺎﻡ ﺃﺑﻮ ﻃﺎﻟﺐ: وﺳﻤﻌﺖ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﻓﻘﻬﺎء ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺃﺑﻲ ﺣﻨﻴﻔﺔ ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﺇﻥ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ الشيباني ﻧﻘﻞ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﺴﺎﺋﻞ اﻟﺴﻴﺮ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎﺏ، وفيه من غرائب الفقه ما يدل على علوِّ منزلته، ويكشف عن عالي مرتبته.
✒️ نشأته وظروف مولده
في ظل ما مارسته خلافة بني أمية من ظلم واضطهاد، كان المجتمع الإسلامي يعيش لحظات الترقب والانتظار لبارقة الخلاص، ويأمل المسلمون في من يخلصهم ويرفع عن كاهلهم أعباء ذلك الطغيان، وفي هذه الأجواء المشحونة بالترقب والانتظار بزغ مولد الإمام النفس الزكية من بيت زكي طاهر؛ فتباشر الناس بمولده وأملوه ورجوه ووقعت عليه المحبة، وجعلوا يتذاكرونه في المجالس، حتى قال الشاعر فيه:
ﻟﻴﻬﻨـﻜﻢ اﻟﻤــﻮﻟـﻮﺩُ ﺁﻝَ ﻣﺤﻤـﺪ
ﺇﻣﺎﻡُ ﻫﺪﻯً ﻫﺎﺩﻱ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔِ ﻣﻬﺘﺪﻱ
ﻭﻛﺎﻥ ﻋَﻠَﻴْﻪ اﻟﺴَّﻼﻡ ﻟﺒﻴﺒﺎً ﻓﻲ ﺻﻐﺮﻩ، ﻃﺎﻫﺮاً ﻓﻲ ﻓﻌﻠﻪ ﻭﻧﺸﺄﺗﻪ، ﻣﻌﻈّﻤﺎً في أوساط المجتمع، وبلغ من تعظيمهم أنه لا يمر بملأ إلا أظهروا تعظيمه؛ فبلغت شهرته الآفاق، وسمع بفضله وبشخصه أهل الأقطار، فكانت تفد إليه الوفود من العراق؛ لتتعرف عليه وتتحدث معه في أمر الثورة على الخلافة الأموية.
✒️ دوره الثوري والجهادي
إن من المهم أن يتعرف القارئ على شخصية الإمام النفس الزكية ودوره الجهادي والثوري في وجه الظالمين، فلقد ضحى الإمام النفس الزكية بنفسه في سبيل هذه الأمة، والمحافظة على دين الإسلام الذي حاول طغاة الدولتين العباسية والأموية تحريفه وتغييره، ولقد امتاز الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية أن خاض جهاداً ثورياً على الدولتين الأموية والعباسية معاً، وهو بذلك قد سار على منهج أبائه وأهل بيته في الخروج والثورة ابتداء بالإمام الحسين بن علي.
وفي شبابه شارك الإمام النفس الزكية في ثورة الإمام زيد بن علي عليه السلام وكان أحد فرسانها وأبطالها.
وبعد استشهاد الإمام يحيى بن زيد عليه السلام تطلعت جماهير المؤمنين إلى الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية، باعتباره أهم شخصية في ذلك الزمان، فالتفوا حوله يتدارسون وضع الأمة الإسلامية، وما تتعرض له من ظلم وجبروت من قبل حكام بني أمية فأجمع العلماء والصالحون أن خير من يقود الأمة هو الإمام النفس الزكية.
✒️ شواهد تاريخية
تحدثنا سابقاً أن جميع المؤمنين من العلماء والفقهاء على اختلاف مذاهبهم قد أجمعوا على الإمام النفس الزكية ونصبوه قائداً لهم، وهناك عدة شواهد على هذا نذكر منها:
*اجتماع بني هاشم في منطقة الأبواء وفيه قال ﺃﺑﻮ ﺟﻌﻔﺮ اﻟﻤﻨﺼﻮﺭ: ﺑﺄﻱِّ ﺷﻲءٍ ﺗﺨﺪﻋﻮﻥ ﺃﻧﻔﺴَﻜﻢ، ﻓﻮاﻟﻠﻪ ﻟﻘﺪ ﻋﻠﻤﺘﻢ ﻣﺎ اﻟﻨُّﺎﺱ ﺇﻟﻰ ﺃﺣﺪ ﺃﺻﻮﺭ - ﺃﻱ ﺃﻣﻴﻞ - ﺃﻋﻨﺎﻗﺎ، ﻭﻻ ﺃﺳﺮﻉ ﺇﺟﺎﺑﺔ ﻣﻨﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﻫﺬا اﻟﻔﺘﻰ - ﻳﺮﻳﺪ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ -، ﻗﺎﻟﻮا: ﻗﺪ ﻭاﻟﻠﻪ ﺻﺪﻗﺖ ﺇﻥَّ ﻫﺬا ﻟﻬﻮ اﻟﺬﻱ ﻧﻌﻠﻢ ﻓﺒﺎﻳﻌﻮا ﺟﻤﻴﻌﺎ ﻣﺤﻤﺪا، ﻭﻣﺴﺤﻮا ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻳﻪ.
*اجتماع ﻭاﺻﻞ ﺑﻦ ﻋﻄﺎء، مع ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ باعتبارهما من أهم الشخصيات العلمية في ذلك الزمان، فقد اجتمعا ﻓﻲ منزل ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﻤﺨﺰﻭﻣﻲ، ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﺒﺼﺮﺓ، ﻓﺘﺬاﻛﺮﻭا اﻟﺠﻮﺭ، ﻓﻘﺎﻝ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ: ﻓﻤﻦ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﻬﺬا اﻷﻣﺮ ﻣﻤﻦ ﻳﺴﺘﻮﺟﺒﻪ، ﻭﻫﻮ ﻟﻪ ﺃﻫﻞ؟ ﻓﻘﺎﻝ ﻭاﺻﻞ: ﻳﻘﻮﻡ ﺑﻪ ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺃﺻﺒﺢ ﺧﻴﺮ ﻫﺬﻩ اﻷﻣﺔ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ، ﻓﻘﺎﻝ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ: ﻣﺎ ﺃﺭﻯ ﺃﻥ ﻧﺒﺎﻳﻊ ﻭﻻ ﻧﻘﻮﻡ ﺇﻻ ﻣﻊ ﻣﻦ اﺧﺘﺒﺮﻧﺎﻩ ﻭﻋﺮﻓﻨﺎ ﺳﻴﺮﺗﻪ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﻭاﺻﻞ: ﻭاﻟﻠﻪ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﻓﻀﻠﻪ ﺇﻻ ﺃﻥ ﺃﺑﺎﻩ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﻓﻲ ﺳﻨﻪ ﻭﻓﻀﻠﻪ ﻭﻣﻮﺿﻌﻪ، ﻗﺪ ﺭﺁﻩ ﻟﻬﺬا اﻷﻣﺮ ﺃﻫﻼ، ﻭﻗﺪﻣﻪ ﻓﻴﻪ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻜﺎﻥ ﻟﺬﻟﻚ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻣﺎ ﻧﺮاﻩ ﻟﻪ، ﻓﻜﻴﻒ ﺑﺤﺎﻝ ﻣﺤﻤﺪ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻓﻀﻠﻪ.
*خروج جماعة ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﺒﺼﺮﺓ ﻣﻦ اﻟﻤﻌﺘﺰﻟﺔ إلى محمد بن عبدالله ﻣﻨﻬﻢ: ﻭاﺻﻞ ﺑﻦ ﻋﻄﺎء، ﻭﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ ﻭﻏﻴﺮﻫﻤﺎ ﺣﺘﻰ ﺃﺗﻮا سويقة وهي موطن الإمام النفس الزكية وأسرته في المدينة، ﻓﺴﺄﻟﻮا ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺃﻥ ﻳﺨﺮﺝ ﻟﻬﻢ اﺑﻨﻪ ﻣﺤﻤﺪا ﺣﺘﻰ ﻳﻜﻠﻤﻮﻩ، ﻓﻄﻠﺐ ﻟﻬﻢ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﻓﺴﻄﺎﻃﺎ، ﻭاﺟﺘﻤﻊ ﻫﻮ ﻭﻣﻦ ﺷﺎﻭﺭﻩ ﻣﻦ ﺛﻘﺎﺗﻪ ﺃﻥ ﻳﺨﺮﺝ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ، ﻓﺄﺧﺮﺝ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ، ﻓﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﺛﻨﻰ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﺫﻛﺮ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ، ﻭﺣﺎﻟﻪ، ﻭﺩﻋﺎﻫﻢ ﺇﻟﻰ ﺑﻴﻌﺘﻪ، ﻭﻋﺬﺭﻫﻢ ﻓﻲ اﻟﺘﺄﺧﺮ ﻋﻨﻪ، ﻓﻘﺎﻟﻮا: اﻟﻠﻬﻢ ﺇﻧَّﺎ ﻧﺮﺿﻰ ﺑﺮَﺟُﻞ ﻫﺬا ﺭﺳﻮﻟُﻪ، ﻓﺒﺎﻳﻌﻮﻩ، ﻭاﻧﺼﺮﻓﻮا ﺇﻟﻰ اﻟﺒﺼﺮﺓ.
*موقف أبي خالد اﻟﻮاﺳﻄﻲ وهو من كبار تلاميذ وأنصار الإمام زيد (ع)، فقد روى عن نفسه: ﻟﻘﻴﺖ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺻﻠﻮاﺕ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻗﺒﻞ ﻇﻬﻮﺭﻩ، ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: ﻳﺎ ﺳﻴﺪﻱ ﻣﺘﻰ ﻳﻜﻮﻥ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ؟
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ: ﻭﻣﺎ ﻳﺴُﺮُّﻙ ﻣﻨﻪ ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﺧﺎﻟﺪ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: ﻳﺎ ﺳﻴﺪﻱ ﻭﻛﻴﻒ ﻻ ﺃُﺳﺮُّ ﺑﺄﻣﺮٍ ﻳُﺨﺰﻱ اﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﺃﻋﺪاءَﻩ ﻭﻳُﻈﻬﺮُ ﺑﻪ ﺃﻭﻟﻴﺎءَﻩ.
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﺧﺎﻟﺪ، ﺃﻧﺎ ﺧﺎﺭﺝٌ ﻭﺃﻧﺎ ﻣﻘﺘﻮﻝ، ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻳﺴﺮُّﻧﻲ ﺃﻥَّ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺄﺳﺮﻫﺎ ﻟﻲ ﻋﻮﺿﺎً ﻣﻦ ﺟﻬﺎﺩﻫﻢ، ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﺧﺎﻟﺪ، ﺇﻥَّ اﻣﺮﺃً ﻣﺆﻣﻨﺎً ﻻ ﻳﻤﺴﻲ ﺣﺰﻳﻨﺎً ﻭﻻ ﻳﺼﺒﺢ ﺣﺰﻳﻨﺎً ﻣﻤﺎ ﻳﻌﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﺃﻋﻤﺎﻟﻬﻢ ﺇﻧَّﻪ ﻟﻤﻐﺒﻮﻥٌ ﻣﻔﺘﻮﻥ.
ﻗﻠﺖ: ﻳﺎﺳﻴﺪﻱ ﻭاﻟﻠﻪ ﺇﻥَّ اﻟﻤﺆﻣﻦَ ﻟﻜﺬﻟﻚ ﻭﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﺑﻨﺎ ﻭﻧﺤﻦ ﻣﻘﻬﻮﺭﻭﻥ ﻣﺴﺘﻀﻌﻔﻮﻥ ﺧﺎﺋﻔﻮﻥ، ﻻﻧﺴﺘﻄﻴﻊُ ﻟﻬﻢ ﺗﻐﻴﻴﺮاً؟
ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﺧﺎﻟﺪ، ﺇﺫا ﻛﻨﺘﻢ ﻛﺬﻟﻚ ﻓﻼ ﺗﻜﻮﻧﻮا ﻟﻬﻢ ﺟﻤﻌﺎً ﻭاﻧﻔﺮﻭاً ﻣﻦ ﺃﺭﺿﻬﻢ.
✒️ الثورة في وجه الخلافة الأموية
عقيب مقتل الخليفة الأموي الوليد بن يزيد، دعا الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية إلى الثورة على بني أمية، فتلقاها الفضلاء والعلماء بالرضا والقبول، وتفاعلوا معها وسارعوا إلى نصرتها، وكان بنو العباس أول المناصرين والمبايعين، فتحركت الثورة بخطى ثابته، وتحركت جماهير المسلمين استجابة لدعوى الإمام النفس الزكية، وبدأت شرارة الثورة من خراسان، وامتدت حتى انتهت باجتثاث الخلافة الأموية في سنة (132هـ).
✒️ الانقلاب على الثورة
بعد أن انتصرت الثورة حدث انقلاب على الثورة من قبل بعض قادة الثورة من بني العباس وبمساعدة قائد من خراسان يعرف بـ "أبي مسلم الخراساني", فنصب بنو العباس أنفسهم خلفاء على المسلمين، وهنا يتساءل القارئ وأين جموع المسلمين من هذا الانقلاب، ليأتي الجواب أن بني العباس قد أدعوا أن الإمام محمد بن عبدالله قد قتل، وفعلاً قتل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور شخصية بريئة وجاء به إلى خراسان وأقسم بالأيمان المغلظة أنها جثة الإمام محمد بن عبدالله، وبهذه الحيلة انطلت على العامة فكرة الرضا بخلافة بني العباس.
✒️ مطاردة العباسيين للإمام
فأصبح الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله أول مطلوب لبني العباس بعد أن كانوا يدعو الناس باسمه، ويتحركون تحت رايته، ممَّا اضطَّره للاختفاء والتواري، فالتجأ إلى الجبال والبوادي متنقلاً من بلد إلى بلد، ومعه أخوه الإمام إبراهيم بن عبدالله عليهما السلام.
جدَّ الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر الدوانيقي في البحث عن الإمام النفس الزكية وعن أخيه إبراهيم، وحين لم يهتد إلى مكانهما أخذ أباهما الإمام الكامل عبدالله بن الحسن وأودعه السجن مع مجموعة من كبار أهل البيت (ع)، وطلب منهم تسليم الإمام النفس الزكية، وحين لم يفلح في إجبارهم على تسليم النفس الزكية وأخيه إبراهيم حبسهم في أضيق المحابس للضغط عليهم في ذلك، ثم قام بقتلهم جميعاً فيما عرف بجريمة محبس الهاشمية.
✒️ الثورة في وجه الانقلاب العباسي
عمل الإمام النفس الزكية طيلة مدة تخفيه على التجهيز للثورة والتحضير لها، وفي (28) جماد الأخرة من سنة (145هـ) أعلن عن انطلاقتها في المدينة المنورة، فبايعه أهلها وسارعت إلى بيعته القبائل العربية المحيطة بالمدينة كجهينة ومزينة وأسلم وغفار، وحظيت ثورته على تأييد كثير من العلماء، وفي مقدمتهم أهل البيت كالإمام جعفر الصادق وولديه وأبناء الإمام زيد بن علي عليهم السلام وغيرهم، وأفتى بالجهاد معه الإمام مالك بن أنس إمام المذهب المالكي، وممَّن بايعه من العلماء عبدالله بن يزيد بن هرمز شيخ الإمام مالك، ومحمد بن عجلان، وأبو بكر بن أبي سبرة الفقيه، وعبدالله بن عامر الأسلمي القاري، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وأرسل عماله إلى البصرة ومكة وخرسان والشام وبايعه معظم أهل تلك المناطق، واستبشروا بإمامته التي طالما انتظروها وترقبوا بزوغها.
✒️ استشهاده
انطلقت الثورة وأحكم الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية القبضة على المدينة المنورة، وطرد عامل بني العباس منها، فجهز الخليفة العباسي جيشاً عظيماً بقيادة عيسى بن موسى وحميد بن قحطبة، وسار الجيش العباسي حتى ضرب حصاراً خانقاً على المدينة المنورة وانطلقت المعركة، وكان الفارق العددي كبيراً بين الجيش المدني وجيش الخليفة العباسي القادم من العراق، لكن أفراد جيش الإمام النفس الزكية أبدوا على قلة العدد مواقف بطولية خالدة، ودافعوا عن المدينة المنورة بكل شجاعة واصرار.
قاتل الإمام النفس الزكية قتال الأبطال، وكانت المعركة تسير في صالح القلة المؤمنة وكان النصر يلوح بيده لجيش الإمام، فعاد الجيش العباسي إلى استعمال الحيلة والمكر، بما عرف في كتب التاريخ بمكيدة المرأة العباسية، أمرت المرأة العباسية خادمها برفع قناع أسود في منارة المسجد النبوي وأمرت خداماً لها آخرين بالنداء في عسكر الإمام الهزيمة الهزيمة، إن المسودة قد جاءوا من خلفكم ودخلوا المدينة، فالتفت الناس فأبصروا الراية السوداء على المنارة؛ فلم يشكوا في ذلك، فانهزم الناس، وثبت الإمام حتى استشهد، وهنا تتكرر مأساة كربلاء بكل تفاصيلها، لتضحي هذه الأمة بكبش أخر من أبناء نبيها.
✒️ تاريخ استشهاده وموضع دفنه
وكان استشهاده في: 15 رمضان 145هـ، وكان عمر الإمام النفس الزكية 52 سنة، وحَزَّ حميد بن قحطبة رأس الإمام وأرسله إلى الخليفة العباسي أبي جعفر، فاستوهبت جثته أخته زينب بنت عبدالله من عيسى بن موسى، فدفعها إليها ودفنت في المدينة المنورة بمقبرة البقيع.
وحمل رأسه ابن أبي الكرام الجعفري وفي هذا يقول الشاعر:
يا بن بنت النبي زارك زور ***لم يكن ملحفا ولا سالا
حمل الجعفري منك عظاما *** عظمت عند ذي الجلال جلالا
فإذا مر عابر سبيل *** يجمع القاطنين والقفالا
بهت الناس ينظرون إليه *** مثلما تنظر العيون الهلالا
✒️النسب الشريف
هو أبو طالب يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
والده: الإمام زيد بن علي عليهما السلام، عرف بحليف القرآن لملازمته كتاب الله؛ قال فيه اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ الله ﻋﻠﻴﻪ ﻭآله ﻭﺳﻠﻢ: ((ﺧﻴﺮ اﻷﻭﻟﻴﻦ ﻭاﻵﺧﺮﻳﻦ اﻟﻤﻘﺘﻮﻝ ﻓﻲ الله، اﻟﻤﺼﻠﻮﺏ ﻓﻲ ﺃﻣﺘﻲ اﻟﻤﻈﻠﻮﻡ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ سمِيُّ ﻫﺬا، ﺛﻢ ﺿﻢ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﺣﺎﺭﺛﺔ ﺇﻟﻴﻪ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﺯﻳﺪ ﻟﻘﺪ ﺯاﺩﻙ اﺳﻤﻚ ﻋﻨﺪﻱ ﺣُﺒَّﺎً، سمِيُّ اﻟﺤﺒﻴﺐ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ)).
أمُّه: ريطة بنت عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، وقد وصفها ابن الصوفي في كتاب المجدي ص224: (كان ريطة من سيدات بنات هاشم ومنجباتهن، روت الحديث عن أبيها وبعلها).
✒️مولده عليه السلام
97هـ على الأرجح.
✒️صفته
كان من صفة الإمام يحيى بن زيد أنه قطط الشعر، حسن اللحية حين استوت، وكان مثل أبيه عليهما السلام في الشجاعة، وقوة القلب، ومبارزة الأبطال، وله مقامات مشهورة بخراسان أيام ظهوره بها في حروبه من قتل الشجعان الذين بارزوه، والنِّكَايَةِ في الأعداء الذين قاتلوه.
وقد نشأ في ظل رعاية وتربية والده الإمام الأعظم زيد بن علي يسقيه من أخلاقه ويفيض عليه من علومه، فكان أشبه الناس به علماً ومعرفة وجهاداً واجتهاداً، وبرغم حداثة سنه يوم استشهاده إلا أنه بلغ ما لم يبلغه غيره في العلم في أعمار مديدة، ومن آثاره العلمية رواية الصحيفة السجادية عن والده الذي يرويها عن والده الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
وكان أخوه عيسى بن زيد عليهم السلام يتمثل فيه كثيراً بهذه الأبيات:
فلعلّ راحم أمِّ موسى والذي .... نجاه من لجج الخضم المزبد
سيسر ريطة بعد حزن فؤادها .... يحيى ويحيى بالكتائب مرتدي
حتى يهيج على أمية كلها .... يوماً كراغية الفصيل المقصد
يا بن الزكي ويا بن بنت محمد .... وابن الشهيد المستراد السيد
✒️أولاده
قال الإمام أبو طالب في الإفادة: وأولاده رضي الله عنه الذي أجمع عليه أصحاب الأنساب من الطالبيين أنه ولد أمّ الحسن حَسَنَة، وقال غيرهم: له أحمد، والحسين. درجوا صغاراً، وأمّ الحسين درجت صغيرة، وأجمعوا أن لا بقية ليحيى عليه السلام.
✒️من كلامه وأشعاره
قال الإمام يحيى بن زيد عليهما السلام: "إن ممن يصف هذا الأمر، ويزعم أنه من أهله، مَنْ لا خلاق لهم، ذلك أن صدورهم ضيقة به حرجة فيه تنطق به ألسنتهم، ولم تعتقد عليه قلوبهم، فإذا اجتمع القول واليقين والعمل فوصف اللسان وانشرح به الصدر وعقد عليه القلب باليقين تسارعت النفس إليه بالعمل، فذلك المؤمن عند الله جل ثناؤه، وذلك معنا ومنا".
ومن شعره عليه السلام:
خليلي عنا بالمدينة بلغا ... بني هاشم أهل النهى والتجارب
فحتى متى مروان يقتل منكمُ ... سراتكم والدهر فيه العجائب
لكل قتيل معشر يطلبونه ... وليس لزيد في العراقين طالب
وقال عليه السلام يخاطب نفسه:
يا بن زيد أليس قد قال زيد: ... من أحب الحياة عاش ذليلا؟
كن كزيد فأنت مهجة زيد ... تتخذه في الجنان ظلَّاً ظليلا
✒️جهاده مع أبيه
خرج الإمام يحيى من المدينة المنورة متوجهاً إلى الكوفة؛ للجهاد مع أبيه عليهما السلام، وكان عمره حينئذٍ يقارب 24 سنة، فقاتل تحت راية والده الإمام زيد أشد القتال، وثبت ثبات الأبطال؛ ولمَّا أصيب الإمام زيد عليه السلام أوصى إلى ابنه يحيى بوصية قال فيها: قاتلهم فوالله إنك لعلى الحق وإنهم على الباطل، وإن قتلاك لفي الجنة وإن قتلاهم لفي النار.
✒️بعد استشهاد أبيه
لما استشهد الإمام زيد خرج ابنه يحيى عليهما السلام إلى الكوفة متنكراً مستتراً مع نفر من أصحابه، فدخل خرسان، وانتهى إلى "بلخ" ونزل على الحريش بن عبدالرحمن الشيباني، وبقي عنده حتى توفي الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك، وتولى الخلافة بعده الوليد بن يزيد.
ثم إن والي الأمويين على الكوفة يوسف بن عمر كتب إلى والي خرسان نصر بن سيار يطلب يحيى بن زيد، فكتب نصر إلى عقيل بن معقل الليثي عامله على بلخ يطلبه، فذكر له أنه في دار الحريش، فطالب نصر الحريش بتسليمه له، فأنكر الحريش أن يكون عارفاً بمكانه، فضربه ستمائة سوط فلم يعترف، فقال له نصر: والله لا أرفع الضرب عنك إلا أن تسلمه أو تموت، فقال له حريش رحمه الله:((والله لو كان تحت قدمي هاتين ما رفعتهما، فاصنع ما بدا لك)).
كان للحريش ابن يقال له قريش، فخشي على أبيه القتل، فدسَّ إلى نصر بأنه يدل على يحيى إن أفرج عن أبيه، فدل على الإمام يحيى بن زيد، فأخذ وحمل إلى نصر بن سيار، فقيده وحبسه، وكتب بخبره إلى يوسف بن عمر، فكتب يوسف إلى الوليد بن يزيد بذلك، فكتب إليه الوليد يأمره بالإفراج عنه، وترك التعرض له ولأصحابه، فكتب يوسف إلى نصر بما أمره به، فدعاه نصر وحل قيده، فقال له: لا تثر الفتنة، فقال له يحيى عليه السلام: ((وهل فتنة في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من فتنتكم التي أنتم فيها من سفك الدماء والشروع فيما لستم له بأهل))، فسكت نصر وخلى سبيله.
✒️دعوته
لما خرج يحيى بن زيد عليهما السلام من سجن نصر بن سيار، توجه إلى "بيهق" وأظهر دعوته هناك، وذلك في زمان فرعون هذه الأمة الوليد بن يزيد، فبايعه فيها سبعون رجلاً، فكتب نصر إلى عمرو بن زرارة بقتاله، وكتب إلى قيس بن عباد عامل "سرخس"، وإلى الحسن بن زيد عامل "طوس" بالانضمام إليه، فاجتمعوا وبلغ عددهم زهاء عشرة آلاف، وخرج يحيى بن زيد بمن معه، فقاتلهم وهزمهم، وقتل عمرو بن زرارة واستباح عسكره وأصاب منهم دواباً كثيرة.
✒️خروجه إلى الجوزجان
بعد ذلك خرج الإمام يحيى عليه السلام إلى الجوزجان، ثم لحق به قوم من الزيدية، وكانوا قريباً من 150 رجل، ونزل عليه السلام بقرية يقال لها: أرعوى؛ ولحق به جماعة من عساكر خراسان، وبايعوه، وبقي بها مدة يسيرة.
ثم إن نصر بن سيار أنفذ إلى قتال الإمام يحيى بن زيد الجيوش، وكانوا قرابة عشرة آلاف، بقيادة سلم بن أحوز، ولما رأى يحيى (ع) كثرة العدو وقلة أصحابه الذين كانوا قرابة المائة والخمسين مقاتلا، قال لهم: ((أنتم في حل من بيعتي فمن شاء أن يثبت معي فليثبت، ومن شاء أن يرجع فليرجع، أما أنا فلست بارحاً هذا الموضع حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا)). فقال له أصحابه: ((والله لا نفارقك يا ابن رسول اللّه أبداً حتى لا يبقى منا أحد)). فقال: ((جزاكم اللّه خيراً من قوم فلقد قاتلتم ووفيتم))، وعندما بدأت المعركة أقبل الإمام يحيى على أصحابه، فقال: ((يا عباد الله، إن الأجل محضره الموت، وإن الموت طالب حثيث لا يفوته الهارب، ولا يعجزه المقيم، فاقدموا رحمكم الله على عدوكم والحقوا بسلفكم، الجنة.. الجنة، اقدموا ولا تنكلوا، فإنه لا شرف أشرف من الشهادة، فإن أشرف الموت قتل في سبيل الله، فلتقرَّ بالشهادة أعينكم ولتنشرح للقاء الله صدوركم))، ثم نهد إلى القوم وكان أرغب أصحابه في القتال في سبيل الله جل ثناؤه
فاقتتل الفريقان أشد قتال، وحمل الإمام وأصحابه عليهم، وضاربوهم مضاربة الأبطال؛ وقد روي عن بعضهم قال: رأيت يحيى بن زيد عليهما السلام حمل على رجل من أهل الشام فضربه على فخذه فقطع درعه وفخذه البتة حتى وصل إلى جنب دابته.
وفي حديثه عَلَيْه السَّلام أن رجلاً من القوم دعا رجلاً من أصحابه عَلَيْه السَّلام البراز فقتله، ثم ثانياً، ثم ثالثاً، فبرز إليه عَلَيْه السَّلام بنفسه فقال: يا عبدالله اتق الله وادرِ من أنت تقاتل، إنك إنما تقاتل ابن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم عن أرباب الظلم والنفاق، فشتمه وشتم أباه، فانتهر عليه الفرس وضربه فأزاغ رأسه فوقعت الضربة على فخذه وقطع الدرع وفخذه وجنب الفرس، وقال: يا عدو الله ما أشد مجاحشتك عن سلطان بني أمية.
استمرت المعركة ثلاثة أيام بلياليها حتى قتل أصحاب الإمام عليه السلام، وأتته نشابة في جبهته، رماه رجل من موالي عنزة يقال له: عيسى، ووجده سورة بن محمد الكندي، فحز رأسه، ثم حمل رأسه الشريف إلى الوليد بن يزيد، وأخذ العنزي الذي قتله سلبه، وقميصه؛ وبقي سورة وعيسى بعد ذلك حتى أدركهما أبو مسلم الخرساني فقطع أيديهما وأرجلهما وقتلهما وصلبهما.
✒️الرأس الشريف في حضن أمه
كما هي عادة الطغاة في استعمال أبشع الجرائم، هم يتفننون في ارتكاب أفظع الحروب النفسية، في هذا الصدد أرسل الوليد بن يزيد بالرأس الشريف إلى المدينة المنورة واهداه إلى أمِّه ريطة، فوضع الرأس بين يديها فشهقت وأخذتها العبرة، ثم قالت: ((شردتموه عني طويلاً وأهديتموه إلي قتيلاً)).
✒️رؤيا قاتل الإمام عليه السلام
روى الإمام المنصور بالله عليه السلام أن قاتل الإمام يحيى بن زيد كان قد رأى في منامه قبل قتله ليحيى عليه السلام، أنه رمى نبياً فقتله، فلما أصبح أخبر من أخبر بذلك من أصحابه، ثم غلَّ يده إلى عنقه، وأقام على ذلك مدة من الزمان حتى خرج الإمام يحيى بن زيد، واجتمعت الجنود الظالمة لحربه، فقال له بعضهم: قد قام هذا الخارجي ولا غناء لنا عن رميك فاخرج معنا فإذا انقضت الحرب عدت لحالك، فخرج فكان هو القاتل للإمام يحي بن زيد عليه السلام.
✒️ تاريخ استشهاده
استشهد عليه السلام في شهر رمضان، بعد صلاة الجمعة، سنة 126هـ، وكان عمره حين قتل 28 سنة، وصلب بدنه على باب مدينة الجوزجان، ولم يزل مصلوباً إلى أن ظهر أبو مسلم الخرساني، فأنزله وغسله وكفنه، ودفن بـ(أنبير) ومشهده معروف بالجوزجان مزور، وهي إحدى محافظات جمهورية أفغانستان على مسافة كيلومتر واحد ونصف الكيلومتر إلى الشرق من مدينة سَربُل (رأس الجسر) الحالية، والتي تقع في شمال أفغانستان بين بلخ ومَيمَنة، وهو يُعرف هناك بـ (إمام خُورد).
وروى الحموي في كتابه معجم الأدباء أن سلم بن أحوز قائد الجيش الذي قتل الإمام يحيى بن زيد كان يقول عن نفسه أنه قتل خير الناس وشر الناس يقصد بخير الناس يحيى بن زيد وبشر الناس جهم بن صفوان.
فسلام الله على إمامنا يحيى بن زيد يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
✒️النسب المبارك
هو الإمام أبو عبدالله جعفر بن محمد (الباقر) بن علي (السجاد) بن الحسين (السبط) بن علي بن أبي طالب عليهم السلام؛ يلقب بالصادق، ويقال له: عمود الشرف؛ ولم يعقب الباقر إلا من جعفر عليهما السلام.
✒️مولده ومكان الميلاد
ولد الإمام الصادق عليه السلام في المدينة المنورة في 17 ربيع الأول 80هـ.
✒️أمُّه
هي أم فروة بنت القاسم الفقيه بن محمد بن أبي بكر؛ وأمُّها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان الصادق(ع) يقول: ولدني أبو بكر مرتين.
✒️أولاده
هم: موسى (الكاظم)، وإسحاق(المؤتمن)، وأمُّهما أمُّ ولد يقال لها: حميدة المغربية وقيل: نباتة، وإسماعيل، وأمُّه فاطمة بنت الحسين الأثرم بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، وعلي العريضي، ومحمد (المأمون)، وأمُّه أم ولد؛ وهؤلاء لهم عقب، وعبدالله.
✒️فضائله
كان الإمام جعفر الصادق عليه السلام ذا فضل رفيع، ومكانة سامية، فهو من أعلام عترة المصطفى، ومن أئمة الاهتداء، وقد اشتهرت مناقبه بين العام والخاص، وتواترت فضائله بين الأنام، حتى سمِّي بـ "عمود الشرف"؛ كما كان كريم اليد، جواداً بمعروفه، من ذلك أنه - لما استشهد عمُّه الإمام زيد- أعطى عبد الرحمن بن سيابة ألف دينار وأمره أن يفرقها في عيال مَن أصيب مع زيد، فأصاب كل رجل أربعة دنانير، ولقد جاء في كتاب "سير أعلام النبلاء" أنه كان يطعم الناس حتى لا يبقى لعياله شيء.
ومما يدل على عظيم فضله، ومدى ثقته بالله، وتعلقه بما عنده، ما رواه الإمام أبو طالب عليه السلام في أماليه بسنده إلى علي بن موسى بن جعفر عن أبيه عليهم السلام، قال: أرسل أبو جعفر المنصور إلى جعفر بن محمد عليهما السلام ليقتله، فطرح سيفاً ونطعاً، وقال: يا ربيع إذا أنا كلمته ثم ضربت بإحدى يدي على الأخرى فاضرب عنقه، فلما دخل جعفر بن محمد عليهما السلام، ونظر إليه من بعيد فرق أبو جعفر على فراشه [قال: يعني تحرك]، وقال: مرحباً بك وأهلاً يا أبا عبدالله، ما أرسلنا إليك إلا رجاء أن تقضي ذمامك ونقضي دينك، ثم سأله مسألة لطيفة عن أهل بيته، وقال: قد قضى الله دينك وأخرج جائزتك، يا ربيع لا تمضي ثالثة ما قلته حتى يرجع جعفر بن محمد إلى أهله، فلما خرج هو والربيع، قال: يا أبا عبدالله أرأيت السيف والنطع، إنما كانا وضع لك، فأي شيء رأيتك تحرك به شفتيك، قال: نعم يا ربيع، لما رأيت الشرَّ في وجهه قلت: حسبي الرب من المربوبين، وحسبي الخالق من المخلوقين، وحسبي الرازق من المرزوقين، وحسبي الله رب العالمين، حسبي من هو حسبي، حسبي من لم يزل حسبي، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
✒️علمه
بلغ الإمام الصادق عليه السلام في العلم مبلغاً جاوز به أقرانه، ونافس آباءه وأجداده، ولقد نشأ على العلم والتقوى في كنف والده الإمام الباقر عليهما السلام، وأخذ عنه علوم أهل البيت الكرام؛ ولقد تخرج على يديه أكابر العلماء والفقهاء، كأولاده عليهم السلام، وكالإمام مالك بن أنس الأصبحي، وأبي حنيفة النعمان، وأبي المنذر هشام بن محمد الكلبي(صاحب: الجمهرة، والوجيز، والفريد)، وغيرهم.
ومما يدل على غزارة علمه وكثرة روايته كثرة المحدثين عنه، حتى صنف المحدث الكبير أبو العباس الملقب بابن عُقْدة كتاباً ذكر فيه أسماء الرجال الذين رووا عن الصادق عليه السلام، وعدَّهم أربعة آلاف رجل؛ منهم: ابنه موسى الكاظم، والحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وعلي الأكبر بن عمر الأشرف بن علي بن الحسين، وعيسى بن زيد بن علي بن الحسين، وسفيان بن أبي السمط، وأبو عمرو بن العلاء( أحد القراء السبعة).
يقول عمرو بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين، قد رأيته واقفاً عند الجمرة يقول: "سلوني سلوني". وعن صالح بن أبي الأسود: سمعت جعفر بن محمد يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني فإنه لا يحدثكم أحد بعدي بمثل حديثي".
وسئل أبو حنيفة: من أفقه من رأيت؟، قال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد، لما أقدمه المنصور الحيرة بعث إلي فقال: يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من مسائلك الصعاب، فهيأت له أربعين مسألة، ثم أتيت أبا جعفر وجعفر جالس عن يمينه؛ فلما بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لا يدخلني لأبي جعفر؛ فسلمت، أذن لي فجلست ثم التفت إلى جعفر، فقال: يا أبا عبدالله تعرف هذا؟، قال: نعم هذا أبو حنيفة، ثم أتبعها قد أتانا ثم قال: يا أبا حنيفة هات من مسائلك نسأل أبا عبدالله، فابتدأت أسأله فكان يقول في المسألة أنتم تقولون فيها كذا وكذا وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ونحن نقول كذا وكذا فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة وربما خالفنا جميعاً حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة، ثم قال أبو حنيفة: أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.
✒️دعاء أم داود
اشتهر عن الصادق عليه السلام دعاء أم داود الذي يسمى أيضاً بدعاء الاستفتاح؛ وداود هو السيد البقيَّة فخر آل الرسول داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يكنَّى أبا سليم، وهو رضيع جعفر الصادق عليه السلام، كان من عيون العترة، وسادات الأسرة، وكان يلي صدقات أمير المؤمنين عليه السلام نيابة عن أخيه عبد الله الكامل.
وأمه التي روت عن الصادق عليه السلام الدعاء هي أم ولد رومية تدعى جيبة، زوجة الحسن المثنى بن الحسن.
وكان من قصة داود أن المنصور الدوانيقي حبسه، فجاءت أمُّه إلى جعفر الصادق، وشكت إليه حالها، فعلمها دعاء الاستفتاح فدعت به كما علمها في منتصف رجب، فيسَّر الله لولدها الخروج من الحبس، ولهذا سُمِّي دعاء الاستفتاح، ودعاء أم داود.
✒️موقفه مع عمِّه زيد
كان الإمام جعفر الصادق عليه السلام ممن وقف في وجه الحكم الأموي؛ فهو المؤيد والمناصر لعمِّه الإمام زيد بن علي عليهما السلام في ثورته، وقد أراد أن يخرج معه إلى الكوفة حين خرج، وقال له: أنا معك يا عم. فقال له الإمام زيد: أو ما علمت يا ابن أخي أنَّ قائمنا لقاعدنا وقاعدنا لقائمنا، فإذا خرجت أنا وأنت فمن يخلفنا في حرمنا، فتخلف جعفر بأمر عمِّه زيد عليهما السلام.
قال ابن الأثير في الكامل: وكانت طائفة أتت جعفر بن محمد الصادق قبل خروج زيد، فأخبروه ببيعة زيد، فقال: بايعوه فهو والله أفضلنا وسيدنا، فعادوا وكتموا ذلك.
ولما أراد يحيى بن زيد عليهما السلام اللحاق إلى أبيه، قال له ابن عمه جعفر: أقرئه عني السلام، وقل له: فإني أسأل الله أن ينصرك ويبقيك، ولا يرينا فيك مكروهاً، وإن كنت أزعم أني عليك إمام فأنا مشرك.
وقد قيل أن الصادق عليه السلام لما جاءه خبر قتل أبي قرة الصقيل بين يدي زيد بن علي، تلا: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[النساء:100]، رحم الله أبا قرة.
وكذا لما جاءه خبر قتل حمزة بين يدي عمه عليه السلام تلا قول الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب:32].
فلما انتهت المعركة وجاءه خبر استشهاد عمه زيد وأصحابه، قال: ذهب والله زيد بن علي كما ذهب علي بن أبي طالب والحسن والحسين وأصحابهم شهداء إلى الجنة، التابع لهم مؤمن، والشاك فيهم ضال، والراد عليهم كافر.
وقد روي عن عباد الرَّواجني أنه قال: أنبأنا عمرو بن القاسم، قال: دخلت على جعفر الصادق وعنده ناس من الرافضة، فقلت: إنهم يبرؤون من عمك زيد، فقال: ((برأ الله ممن تبرأ منه، كان والله أقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله، وأوصلنا للرحم ما تركنا وفينا مثله)).
قال الإمام الهادي عليه السلام: ((وإنما فرَّق بين زيد وجعفر قوم كانوا بايعوا زيد بن علي، فلما بلغهم أن سلطان الكوفة يطلب من بايع زيداً ويعاقبهم، خافوا على أنفسهم فخرجوا من بيعة زيد ورفضوه مخافة من هذا السلطان، ثم لم يدروا بِمَ يحتجون على من لامهم وعاب عليهم فعلهم، فقالوا بالوصية حينئذ، فقالوا: كانت الوصية من علي بن الحسين إلى ابنه محمد، ومن محمد إلى جعفر، ليموهوا به على الناس، فضلوا وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل، اتبعوا أهواء أنفسهم، وآثروا الدنيا على الآخرة، وتبعهم على قولهم من أحب البقاء وكره الجهاد في سبيل الله)).
✒️شخصيته الجهادية
كان الإمام جعفر الصادق عليه السلام من المناهضين للحكمين الأموي والعباسي، رافضاً لظلمهم واستبدادهم، قد تجلت شخصيته الجهادية في مقالاته ومقاماته، قال في العباس بن علي بن أبي طالب: ((كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة صلب الايمان جاهد مع أبي عبد الله وأبلى بلاء حسنا ومضى شهيداً)).
وأيَّد الإمام الصادق عمَّه الإمام زيداَ عليهما السلام، ورغب في الخروج معه على حكم هشام بن عبدالملك، إلا أن الإمام أمره بالبقاء في المدينة.
ثم لما خرج الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية خرج الإمام الصادق معه، ثم استأذنه في الرجوع؛ لكبر سنه وضعفه، وأخرج معه ولديه موسى الكاظم، وعبدالله، وقد رُوي عن سليمان بن نهيك، قال: كان موسى وعبدالله ابنا جعفر عند محمد بن عبدالله، فأتاه جعفر فسلم، ثم قال: تحب أن يصطلم أهل بيتك؟ قال: ما أحب ذلك، قال: فإن رأيت أن تأذن لي فإنك تعرف علتي، قال: قد أذنت لك، ثم التفت محمد بعد ما مضى جعفر إلى موسى وعبدالله ابني جعفر، فقال: الحقا بأبيكما فقد أذنت لكما، فانصرفا فالتفت جعفر فقال: ما لكما؟ قالا: قد أذن لنا، فقال جعفر: ارجعا فما كنت بالذي أبخل بنفسي وبكما عنه، فرجعا فشهدا محمداً، وكانا حاضرين معه في جميع جهاده حتى قتل، وأعطياه بيعتهما مختارين متقربين إلى الله تبارك وتعالى.
ومن أجل مواقف الإمام الصادق قصده المنصور الداونيقي بالقتل مراراً، ولكن الله عصمه منه.
وسجل التاريخ للإمام الصادق موقفه مما تعرض له أولاد الحسن من التعذيب والسجن من قبل الخليفة العباسي أبي الدوانيق، روى الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام، قال: غدوت إلى المسجد فرأيت بني حسن يخرج بهم من دار مروان مع أبي الأزهر يراد بهم الربذة، فانصرفت فأرسل إليَّ جعفر بن محمد فجئته، فقال: ما وراءك؟ فقلت: رأيت بني حسن يخرج بهم في محامل، قال: اجلس، فجلست فدعا غلاماً له، ثم دعا ربه دعاءً كثيراً، ثم قال لغلامه: اذهب فإذا حملوا فأتِ فأخبرني، فأتاه الرسول، فقال: قد أقبل بهم، قال: فقام جعفر بن محمد، فوقف وراء ستر شعر يبصر من ورائه ولا يبصره أحد فطُلِع بعبدالله بن حسن في محمل معادله مسوِّد وجميع أهل بيته كذلك، قال: لما نظر إليهم جعفر هملت عيناه حتى جرت دموعه على لحيته، ثم أقبل عليَّ، فقال: يا أبا عبدالله والله لا تُحفظ لله حرمة بعد هؤلاء.
✒️وفاته
توفي الإمام جعفر الصادق عليه السلام بالمدينة المنورة، 25 شوال 148هـ ودُفن في مقبرة البقيع، في قبة العباس بن عبدالمطلب؛ وقد ضمت القبة جثامين أربعة من ذوي القربى وهم: الإمام جعفر الصادق وأبوه الإمام الباقر وجده الإمام السجاد والإمام السبط الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وقد أوصى الإمام جعفر الصادق بأمواله وصغار أولاده إلى ابنه الإمام موسى الكاظم والإمام يحيى بن عبدالله (الكامل).
✒ ️النسب المبارك
هو الإمام العابد الكامل أبو محمد عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام.
وأمُّه: هي الشريفة الطاهرة فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام؛ كانت تشبه بالحور العين في جمالها وحسنها، وهي أشبه الخلق بجدتها فاطمة بنت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وسلم، ويروى أنه عندما خطب الإمام الحسن بن الحسن إلى عمِّه الحسين، وسأله أن يزوجه إحدى ابنتيه؛ قال له الحسين: "اختر يا بني أحبهما إليك"، فاستحيا الحسن ولم يحر جواباً، فقال له عمه الحسين: "فإنِّى قد اخترت لك ابنتي فاطمة، فهي أكثرهما شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله"، ولقد قيل فيها وفي سكينة: "إن امرأتين أدونهما سكينة، لمنقطعتا القرين في الحسن والجمال"؛ وهي ممن شهدن معركة كربلاء، وشاهدت استشهاد أبيها وأهل بته عليهم السلام، وسيقت مع الأسرى إلى الشام.
✒️ لقبه
لقب الإمام عبدالله بن الحسن بالكامل؛ لكمال خُلُقِه وخَلْقِه، فقد تجمَّعتْ فيه كلُّ خصال الكمال، وإليه انتهى كل أمر جليل؛ فكان إذا قيل: من أفصح الناس؟، قيل: عبدالله بن الحسن، وإذا قيل: من أسخى الناس؟، قيل: عبدالله بن الحسن، وإذا قيل: من أعلم الناس؟، قيل: عبدالله بن الحسن، وإذا قيل: من أعبد الناس؟، قيل: عبدالله بن الحسن.
كما لُقِّب بالمحض؛ لخلوص نسبه من جهة الأب والأم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد كان حسنيَّ الأب، حسينيَّ الأم، وكان يقول عن نفسه: "أنا أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، ولدني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله مرتين"، يعني مرَّةً من جهة الحسن، ومرَّةً من جهة الحسين عليهما السلام.
✒ ️مولده
ولد عليه السلام في بيت جدته فاطمة بنت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وسلم الواقع في المسجد النبوي بالمدينة المنورة، سنة (70هـ).
✒ ️أولاده
كان للإمام الكامل من الأولاد: محمد (النفس الزكية)، وإبراهيم (شهيد باخمرى)، وموسى (الجَون)، وإدريس الأكبر، وهارون، وقد دَرَجَا، وفاطمة، وزينب، ورقية، وكلثم، وأم كلثوم، وأمُّهم هند بنت أبي عبيدة.
وسليمان، ويحيى (صاحب الديلم)، وأمُّهما قريبة بنت ركيح بن أبي عبيدة.
وإدريس الأصغر (صاحب المغرب)، وعيسى درج وداود، وأمُّهم عاتكة بنت عبد الملك بن الحارث.
✒️ نشأته
عاش الإمام الكامل عليه السلام في بيت النبوة، ومهبط الوحي، في ظل أسرة مباركة، قطباها أبوه الإمام الحسن بن الحسن وأمُّه فاطمة بنت الحسين، فتربى تربية نبوية خالصة، وعلى يدي والده وكبار أهل البيت تلقَّى تعاليم الإسلام من منبعه فشبَّ عليها، وحفظ القرآن الكريم، وتعلم سنة جده الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، حتى بلغ مبلغاً عظيماً، فكان سيداً من سادات عصره، ودرة فريدة بين أبناء دهره.
✒️ مكانته
كانت له عليه السلام مكانة عظيمة عند أهل البيت عليهم السلام وسائر الأمة؛ فهو شيخ بني هاشم، والمقدم عليهم، وعلم من أعلام أهل بيت النبوة .
يقول ابنه الإمام يحيى عليه السلام في وصفه: "أبي عَبدالله بن الحسن النفس الزكيَّة والهمَّة السنيَّة، والدَّيانَة المرضيَّة، والخشيَة والبَقيَّة، شَيخُ الفَواطِم وسَيَّد أبَناء الرَّسُل طُرّا، وأرفَعُ أهل عَصرهِ قَدراً، وأكرَمُ أهل بِلاد الله فِعلاً".
وقد انتهت ولاية صدقات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأوقاف أمير المؤمنين بعد موت أبيه الإمام الحسن بن الحسن عليهم السلام، حتى حازها أبو جعفر المنصور الدوانيقي عندما حبسه وقتله في محبس الهاشمية مع من قتل من أهل البيت عليهم السلام.
✒ ️عبادته وأخلاقه
كان الكامل عليه السلام خير قدوة وأعظم أسوة في زمانه، وقد ضرب أروع الأمثلة في العبادة والديانة والأخلاق والحلم وحسن المعاملة؛ من ذلك ما روي أنه عليه السلام صلى الفجر بوضوء العشاء ستين سنة، فإذا كان آخر الليل سجد وقال: "إلهي لم أعبدك حق عبادتك؛ لكني لم أشرك بك شيئاً ولم أتخذ من دونك ولياً".
وعن يحيى بن معين قال: شتم رجلٌ عبدَ الله بن الحسن؛ فقال: "ما أنت كفؤ لي فأسب ولا أنت عبدي فأشح".
وعند زوال ملك بني أمية قدم الكامل عليه السلام أروع أنموذج لعلوِّ النفس، وسموِّ الأخلاق؛ فبرغم كل ما تعرض له مع غيره من أهل البيت عليهم السلام من الأذى على أيدي بني أمية، إلا أنَّه لمَّا عزم أبو العباس السفاح أول خلفاء بني العباس على أن يقتلَ بني أمية بالحجاز، قال له عبد الله بن الحسن: "يا ابن عم إذا أسرعت بالقتل في أكفائك فمن تباهي بسلطانك فاعفُ يعفُ الله عنك؛ ففعل".
وفي خلافة بني العباس ذاق الإمام الكامل وأولاده وأهل بيته عليهم السلام من بني العباس أشد أنواع العذاب، لكن كل ذلك لم يحملهم على أن يغدروا أو يحتالوا؛ فقد سنحت فرصة لبعضهم لقتل الخليفة العباسي أبي جعفر الدوانيقي، فعزموا على قتله وهو بمكة في سنة حجها، فبلغ ذلك عبد الله بن الحسن فنهاه، وقال: "أنت في موضع عظيم، فما أرى أن تفعل".
✒ ️علمه وشهادات تاريخية
عكف الكامل عبد الله بن الحسن منذ صغره كعادة أسلافه من أهل البيت على تحصيل العلم بهمة عالية، فتتلمذ على العديد من العلماء، وروى ﻋن أبيه الإمام الحسن بن الحسن، وأمِّه فاطمة بنت الحسين، واﻹﻣﺎﻡ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ، ﻭﻋﺒﺪالله ﺑﻦ ﺟﻌﻔﺮ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ، وغيرهم، واستمر على ذلك حتى صار شيخ العترة في زمانه، ونال مرتبة عالية بين العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية، حتى أن مالك بن أنس إمام المذهب المالكي كان يستدل بفعله؛ ولنذكر هنا بعضاً من الشهادات التي سجلها التأريخ، ودونها في صفحاته:
• قال يحيى بن المغيرة الرازي عن جرير: كان مغيرة إذا ذكر الرواية عن عبد الله بن الحسن، قال: هذه الرواية الصادقة.
• قال ابن كثير في البداية: كان معظماً عند العلماء.
• وعن مصعب بن عبد الله قال: ما رأيت أحداً من علمائنا يكرمون أحداً ما يكرمون عبد الله بن حسن بن حسن.
• قال ابن شدقم في التحفة: كان سيداً جليل القدر, عظيم الشأن، رفيع المنـزلة، جمَّ الفضائل، حسن الشمائل، وجيهاً جميلاً حسن الصورة، كريماً سخياً، صالحاً عابداً ورعاً زاهداً، تقياً نقياً ميموناً، عالماً عاملاً فاضلاً كاملاً، شيخ بني هاشم، ورئيسهم ومقدمهم في زمانه.
• وقال المرزباني: هو شيخ بني هاشم، وأقعدهم نسباً، وأعظمهم خطراً، وأعلاهم سناً وقدراً.
• وقال صاحب عمدة الطالب: إنما سُمِّي المحض لأنَّ أباه الحسن بن الحسن، وأمَّه فاطمة بنت الحسين، وكان يشبه برسول الله، وكان شيخ بني هاشم في زمانه، وكان قوي النفس شجاعاً.
• وعن بندقة بن محمد بن حجارة الدهان، قال: رأيت عبد الله بن الحسن، فقلت: هذا والله سيد الناس كان مُلَبَّساً نوراً من قرنه إلى قدميه.
✒ ️دوره التعليمي والإرشادي
كان للإمام الكامل عليه السلام دوراً تعليمياً وتوعوياً هاماً وعظيماً، وهو الدور المناط بأهل البيت عليهم السلام، فهم حفَّاظ الشريعة، وأقطاب الدين؛ فقد نشأ على يديه العديد من التلاميذ الذين صاروا من كبار الأئمة ومشاهير العلماء، ويكفي أن نتذكر أولاده العظام الذين غطوا العالم الإسلامي هدياً وعلماً وجهاداً.
كما أن عدداً كبيراً من علماء المسلمين تلقوا العلوم عنه؛ منهم: الإمام الحسين بن زيد بن علي، وأبو الجارود، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس الأصبحي، وليث بن أنس الأصبحي، وأبو بكر بن حفص بن عمرو بن سعد، وإسماعيل بن علية، وسفيان بن علية، وعبد الرحمن بن أبي الموالي، واﻟﺮﺑﻴﻊ ﺑﻦ ﻋﺒﺪالله.
✒ ️تحركه الثوري
ما كان لشخصية مثل شخصية الكامل عليه السلام أن تكون بمعزل عما تعانيه الأمة؛ كيف لا، وهو سليل أهل البيت الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟؟ فوالده الإمام الحسن المثنى الذي قاتل وجرح مع عمه الحسين في كربلاء، ثم خرج ثائراً في سبيل إصلاح الأمة.
وكيف لا يكون لكامل أهل البيت دور في معالجة وإصلاح ما كانت تعانيه الأمة في أواخر عصر بني أمية؟ لاسيما وهو كما قلنا من كبار سادات أهل البيت في عصره، ويحظى بقدر كبير من الاحترام والعلاقات الواسعة.
ويعبر عن شخصيته الثورية قوله عليه السلام: "لولا ألا يبقى للإسلام ثاغية، ولا راغية، لخرجنا جميع آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأجمعنا، فأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، ودعونا إلى كتاب الله ربنا، وسنة نبينا، حتى يحكم الله بيننا وبين عدونا؛ ولكن يخرج الخارج منا فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، حجة على أهل زماننا، ويقعد القاعد، بقية لغد".
وقد كان من أهم أدواره ما نقله المؤرخون أنه عند اضطراب دولة بني أمية وبالتحديد بعد مقتل الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك عام (126هـ)، جمع عبد اللّه الكامل الشخصيات المؤثرة من أهل البيت وغيرهم للتشاور فيمن يعقدون له الخلافة، ويروى أنه ألقى فيهم خطبة قال فيها: "إنكم أهل البيت قد فضلكم الله بالرسالة، واختاركم لها، وأكثركم بركة يا ذرية محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وسلم بنو عمه وعترته، وأولى الناس بالفزع في أمر الله، من وضعه الله موضعكم من نبيه (ص)، وقد ترون كتاب الله معطلا، وسنة نبيه متروكة، والباطل حياً، والحق ميتاً، قاتلوا لله في الطلب لرضاه بما هو أهله، قبل أن ينزع منكم اسمكم، وتهونوا عليه كما هانت بنوا إسرائيل، وكانوا أحب خلقه إليه".
✒ ️محنة الإمام الكامل وحبسه
في بداية الخلافة العباسية وفي زمن الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر الدوانيقي تعرض الإمام الكامل لمحنة عظيمة، بسبب مواقفه المناهضة للظلم والطغيان، ففي سنة 140هـ سجن الوالي العباسي على المدينة الإمام الكامل في دار مروان، حتى يدلهم على مكان ولديه محمد وإبراهيم، اللذين كانا يقودان معارضة قوية في وجه ظلم بني العباس، وفي سبيل الضغط على الإمام الكامل عليه السلام أمر الخليفة العباسي ببيع أثاثه وممتلكاته، وقام بملاحقة كل من له علاقة بالإمام الكامل، وأودعوا في السجن، وأوذوا أشد الأذية.
وقد روي أن رياحاً عامل أبي جعفر قال لأبي البختري: خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ. فأقبل متكئاً عليَّ حتى وقف على عبدالله بن الحسن، فقال: أيها الشيخ، إن أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة، ولا يد سلفت إليه، والله لا لعبت بي كما لعبت بزياد وابن القسري، والله لأزهقن نفسك، أو لتأتيني بابنيك محمد وإبراهيم، قال: فرفع رأسه إليه، وقال: نعم، أما والله إنك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة، قال أبو البختري: فانصرف رياح والله آخذاً بيدي أجد بَرْد يده، وإن رجليه ليخطان مما كلمه، قال: قلت: والله إن هذا ما اطلع على الغيب، قال: أيهاً ويلك، فوالله ما قال إلا ما سمع، قال: فذبح ذبح الشاة.
واجه الإمام الكامل كل ذلك التسلط والظلم بالصبر والجهاد؛ وقد عبر عن تلك البلية العظيمة بقوله لمن جاءه ليقنعه بتسليم ولديه: "لبليتي أعظم من بلية إبراهيـم عليه السلام، إن الله عز وجل أمر إبراهيم الخليل بأن يذبح ابنه وهو لله طاعـة، وإنكم جئتمونـي تكلموني في أن آتي بأبنيَّ لهـذا الرجل ليقتلهمـا وهو لله جل وعز معصية، فو الله يا بن أخي لقد كنت على فراشي فما يأتيني النوم، وإني على ما ترى أطيب نوماً".
بقي الإمام الكامل ومن معه في سجن العباسيين في المدينة ما يقارب الأربع سنوات، وفي عام 144هـ أمر الخليفة العباسي واليه على المدينة بإحضار السجناء إلى الربذة التي تبعد عن المدينة ثلاثة أميال، فجيء بهم مكبلين في القيود والأغلال، وأقعدوا بالربذة في العراء، ثم أمر بنقلهم إلى الكوفة، فنقلوا على محامل بدون وطاء وعليهم القيود والأغلال.
✒ ️محبس الهاشمية
في منطقة الهاشمية من الكوفة، سُجِن الإمام الكامل ومعه (20) رجلاً تقريباً من أهل بيته في قصر ابن هبيرة، وكان في شرقي الكوفة، وكان سجنهم عبارة عن سرداب تحت الاَرض لا يفرَّقون فيه بين النهار والليل.
وقد عدد بعض المؤرخين من كان مع الإمام الكامل في سجن الهاشمية فذكروا منهم: إخوته: إبراهيم والحسن وداوود، وأولاد أخيه الحسن: علي الخير والعباس وعبدالله، وأبناء أخيه إبراهيم وهم: محمد وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وأبناء أخيه داوود وهم: سليمان وعبد الله، والحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن، ومعهم محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان أخو عبد اللّه الكامل لأُمِّه فاطمة بنة الحسين بن علي؛ كل هؤلاء استشهدوا في سجن الهاشمية، وقد تفنن الخليفة العباسي في قتلهم بأنواع القتل، فمنهم من بُني عليه وهو حي، ومنهم من سُمِّرت يداه في الأرض.
✒ ️شهادته
استشهد الإمام الكامل عليه السلام في سجن الهاشمية في يوم الأضحى، كما يحكي الخطيب في تاريخه وغيره، سنة 145هـ، وعمره خمس وسبعون سنة.
وقد اختلف في موته فقيل: دس له السم، وقيل: عذب بأشد العذاب حتى مات، وقيل: سمر في الجدار، ولقد قيل لبشير الرحال: لِمَ خَرَجْتَ على أبي جعفر؟ فقال: أدخلني ذات يوم بعض البيوت فنظرت إلى عبدالله بن الحسن مسموراً بالمسامير إلى الحائط فخررت مغشياً عليَّ إعظاماً لما رأيتُ، وأعطيتُ الله عهداً: لا اختلف عليه سيفان إلا كنت مع الذي عليه.
ثم دُفن جثمانه الطاهر في موضع الحبس على شاطئ الفرات بالكوفة، وقد عُمِر عليه وعلى من دُفن معه, وهو اليوم مشهور مزور في محافظة الديوانية في ناحية الشنافية بالعراق، يبعد عن النجف الأشرف سبعين كيلو متر قرب شط الفرات.
فصلاة الله وسلامه على كامل أهل البيت يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيا.
✒️ النسب المبارك
هو أبو جعفر محمد بن علي (زين العابدين) بن الحسين (شهيد كربلاء) بن علي بن أبي طالب عليهم السلام؛ سمَّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالباقر.
أبوه هو: سيد العابدين، الإمام السجاد علي بن الحسين عليهما السلام.
وأمه هي: أمُّ عبدالله بنت سبط رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- الحسن بن علي عليهم السلام؛ وهي ممن خرجن مع الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء، وأسرت مع من أُسِرْن من النساء.
✒️ مولده
ولد الإمام الباقر عليه السلام في المدينة المنورة سنة 56 أو 57 هـ.
✒️ أولاده
هم: جعفر الصادق، وعبد الله، وإبراهيم، وعبيدالله، وعلي، وزينب، وأم سلمة.
✒️ فضله وحديث رسول الله عنه
الإمام الباقر عليه السلام سيد من سادات أهل بيت النبوة، وعلم من أعلامهم الكبار، وهو بحرٌ من الفضائل، وشعلة من النور، وغصن من شجرة النبوة المباركة، قد جمع عليه السلام الفقه، والديانة، والسؤدد، ومكارم الأخلاق.
وقد جرى ذكره عليه السلام على لسان جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؛ فجاء في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (كنت مع رسول الله والحسين في حجره وهو يلاعبُه، فقال يا جابر يُولَد لابنى الحسين ابن يقال له عليٌّ إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ لِيَقُمْ سيد العابدين، فيقوم علي بن الحسين، ويُولَد لعليٍّ ابنٌ يُقال له محمَّد؛ يا جابر فإن رأيته فاقرأه منِّي السَّلام).
وفي تاريخ اليعقوبي وغيره عن جابر بن عبد الله الانصاري قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنك تستبقي حتى ترى رجلاً من ولدي أشبه الناس بي اسمه على اسمي، إذا رأيته لم يخل عليك، فأقرئه مني السلام))؛ فلما كَبِرَتْ سنُّ جابر، وخاف الموت، جعل يقول: يا باقر؛ يا باقر؛ أين أنت؟ حتى رآه فوقع عليه يقبل يديه ورجليه، ويقول: بأبي وأمي شبيه أبيه رسول الله؛ إن أباك يقرئك السلام.
وعن ابن عقدة حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي نجيح حدثنا علي بن حسان القرشي عن عمه عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمد قال: قال أبي: أجلسني جدي الحسين في حجرة وقال لي: رسول الله يقرئك السلام.
✒️ تسميته بالباقر
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو من سمى محمد بن علي بالباقر؛ ويدل على ذلك ما جاء عن الإمام زيد عليه السلام في كلامه مع هشام بن عبدالملك؛ وذلك أن هشام بن عبدالملك قال له: فما يصنع أخوك البقرة؟ فغضب زيد، حتى كاد يخرج من إهابه، ثم قال: سماه رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله الباقر، وتسميه أنت البقرة؟! لشد ما اختلفتما! لتخالفنه في الآخرة، كما خالفته في الدنيا، فيَرِدُ الجنةَ، وتَرِدُ النار.
وإنما لقبه رسولُ الله عليه وآله وسلم بالباقر لِبَقْرِه العلومَ بقراً؛ أي أظهرها إظهاراً، أو لأنّه تبقّر في العلم، أي توسّع؛ وفي الحديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله أنّه قال: «يا جابر إنّك ستعيش حتى تدرك رجلًا من أولادي اسمه اسمي، يبقر العلم بقرًا».
✒️ علاقة الإمام الباقر بأخيه الإمام زيد (ع)
الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين هو الأخ الأكبر للإمام زيد عليهم السلام، وأستاذه؛ فقد أخذ عنه العلم مع أخذه من والدهما علي بن الحسين عليهم السلام؛ حتى بلغ في العلم مبلغاً عظيماً فاق به أهله، وجاوز أقرانه؛ وقد روي أن الإمام زيداً عليه السلام اختفى عن الأنظار سنوات، ولزم القرآن يتأمله ويتدبره حتى عُرِف بـ"حليف القرآن".
تُحاول الإماميةُ أن تفرق بين الإمام زيد وأخيه الباقر عليهما السلام، ويظهرون أنهما مختلفان، وأن الإمام هو الباقر ثم ابنه جعفر، ولكنَّ المرويات عن الإمام الباقر وولده الإمام جعفر الصادق عليهما السلام تكشف خلاف ذلك؛ فالباقر يقول في الإمام زيد: ((بأبي أنت وأمي يا أخي أنت والله نَسِيْج وحدك، بركة اللّه على أمٍّ ولدتك، لقد أنجَبَتْ حين أتَتْ بكَ شبيه آبائك)).
وقال أيضاً فيه، وقد سئل عنه: ((لقد أوتي زيدٌ علما لَدُنِيّاً؛ فاسألوه فإنه يعلم ما لا نعلم)).
وقال لسائل آخر سأله عنه: ((سألتني عن رجل مُلئ إيماناً وعلماً من أطراف شعره إلى قدميه، وهو سيد أهل بيته)).
وقال الباقر أيضاً: أمَّا زيد فلساني الذي أنطق به، وقال: ((ما وُلِد فينا أشبه بعلي بن أبي طالب منه)).
وروي عنه عليه السلام أنه قال - وأشار إلى زيد -: ((هذا سيد بني هاشم، إذا دعاكم فأجيبوه، وإذا استنصركم فانصروه)).
وقال عنه أيضاً: ((إن أخي زيد بن علي خارج، ومقتول على الحق، فالويل لمن خذله، والويل لمن حاربه، والويل لمن يقتله)).
✒️ شهادات تاريخية
قال ابن كثير في الباقر عليه السلام في كتابه البداية والنهاية: "وهو تابعي جليل كبير القدر كثيراً؛ أحد أعلام هذه الأمة علماً وعملاً وسيادةً وشرفا.
وقال سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص: "وإنّما سمي الباقر من كثرة سجوده، بقر السجود جبهته أي فتحها ووسّعها، وقيل لغزارة علمه".
وقال الجاحظ عنه في رسائله عند ذكره الرد عمَّا فخرت به بنو أميّة على بني هاشم ما نصّه: ".. وهو سيد فقهاء الحجاز، ومنه ومن ابنه جعفر تعلّم الناس الفقه، وهو الملقّب بالباقر، باقر العلم، لقّبه به رسول الله (صلى الله عليه وآله)".
وقال ابن حجر: "صفا قلبه، وزكاه علمه وعمله، وطَهُرَتْ نفسُه، وشَرُفَ خُلُقُه، وعُمِرَتْ أوقاتُه بطاعة اللّه، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلُّ عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة".
✒️ نشأته ودوره التعليمي والتثقيفي
نشأ الإمام الباقر في بيت الرسالة فعاش مع جدِّه الحسين بن علي عليهم السلام أربع سنين، ومع أبيه نيفاً وثلاثين سنة؛ وكانت بدايات حياته مع واقعة الطف وسبي نساء أهل البيت بعد الواقعة؛ فقد كان آنذاك في سنِّ الرابعة، وبعد واقعة الطف لازم والده سيد العابدين طيلة حياته؛ فتأثّر بهديه وعلمه وتقواه وورعه وزهده وشدة انقطاعه وإقباله على الله, وتلقى العلم بدايةً عن والده كما هي سنة أهل البيت عليهم السلام في تلقي العلوم عن آبائهم, ثم تلقاه عن عدد كبير من الصحابة والتابعين.
لقد أثر الإمام زين العابدين عليه السلام في بناء شخصية ولده الإمام الباقر؛ فانطبعت فيه صفات الزاهد والعبادة، وبلغ من العلم درجةً عاليةً سامية، حتى إن كثيراً من العلماء كانوا يرون في أنفسهم فضلاً وتحصيلاً، فإذا جلسوا إليه أحسُّوا أنهم عِيالٌ عليه، وتلاميذٌ بين يديه، وأشار إلى مثل ذلك أحد كبار الرواة في ذلك العصر، وهو عبد الله بن عطاء، بقوله: "ما رأيت العلماء عند أحد، أصغر علماً منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم بن عتيبة عنده مع جلالته في القوم بين يديه، كأنه صبي بين يدي معلِّمه".
لقد تلقى الكثير من الطلبة والرواة العلم والحديث عن الإمام الباقر, حتى أن جابر الجعفي وهو أحد تلامذته النجباء كان يحفظ عنه ثمانين ألف حديث.
إن الإمام الباقر عليه السلام علمٌ من أعلام أهل البيت عليهم السلام الذين أوصانا الله باتباعهم، واستأمنهم على حفظ الدين, وإحياء معالمه، وحياطته من التحريف والتبديل.
✒️ دوره الثوري والجهادي
تلقَّى الإمام الباقر عليه السلام العديد من المضايقات, وواجه الكثير من التحديات، ووقف في وجه صلف الأمويين بكل شجاعة واقتدار، صابراً محتسباً، فلم يُخِفه سلطانهم، ولم يتردد في مواقفه، ممتثلاً وصية والده عليه السلام، التي يحكيها، فيقول عليه السلام: "لما حضرت وفاة علي بن الحسين أبي ضمني إلى صدره، ثم قال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي يوم قتل، وبما ذكر لي أن أباه علياً عليه السلام أوصاه به: يا بني عليك ببذل نفسك، فإنه لا يسر أباك بذل نفسه حمر النعم".
لقد شهدت حياةُ الإمام الباقر فصولاً مهمَّة ومصائب جمة كوقعة الحرَّة بأهل المدينة، وغزو مكة المكرمة، كما عاصر فترة نشوء الثورات والحركات المعارضة للدولة الأموية، كثورة المدينة المنورة، وثورة ابن الزبير، وثورة التوَّابين، وثورة المختار الثقفي، وثورة القرَّاء، وثورة ابن الأشعث.
كما أدرك بدايات تحركات أخيه الامام زيد بن علي عليه السلام؛ وبلا شك فقد كان داعماً ومناصراً له عليهما السلام، وحاثاً للناس على مناصرته والقيام معه, وقد روى الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام عن محمد بن علي بن الحسين باقر العلم أنَّ قوماً وَفَدُوا إليه فقالوا: يا ابن رسول الله إنَّ أخاكَ زيداً فينا وَهُوَ يسألُ البيعة؛ أفَنُبايعُهْ؟ فقال لهم محمد: "بايعوه فإنّه اليومَ أفضَلُنا".
وهكذا كانت حياته كسائر سادات أهل البيت عليهم السلام، بين نشرٍ للعلم والهدى والدين وانشغال بالعبادة وذكر الله وبين جهاد وتضحية في سبيل الله إن استطاع وإلا فهو المناصر لمن قام بذلك منهم عليهم السلام.
✒️ وفاته عليه السلام
توفي الباقر عليه السلام في الحميمة، ثم نقل إلى المدينة المنورة سنة 114هـ، ودفن في مقبرة البقيع، في قبة العباس بن عبدالمطلب؛ وهذه القبة تحوي: العباس بن عبدالمطلب، والإمام الحسن بن علي بن أبي طالب، والإمام زين العابدين، والباقر، وولده جعفر الصادق.
وتَذْكر بعضُ المصادر أنه توفي بالسم من قبل بني أمية.
وقال فيه أخوه الإمام زيد عليه السلام يرثيه:
يا موتُ أنت سلبتني إلفا ... قدمته وتركته خلفا
وا حسرتا لا نلتقي أبدا ... حتى نقوم لربنا صفا