النسب المبارك
❁هو الإمام أبو الحسين يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام؛ يُلقّب بـ(صاحِب الدَّيلم)؛ نظراً لاستقراره حقبةً من الزَّمن في بلاد الدَّيلم.
الده: شيخ العترة الإمام الكامل عبدالله بن الحسن المثنى وقد لُقِبَ بالمحض؛ لأنّه أوَّلُ فاطمي وُلِدَ من أبوين فاطميَين، فوالده الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ووالدتهُ فاطمة بنت الحسين بن علي عليهم السلام. ويُلقّب أيضاً بالكامل.
أمََّه: قُرَيْبَة بنت عبدالله (يُعرَف بربُيح) بن أبي عبيدة بن عبدالله بن زمعة بن الأسود بن المُطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي.
أولاده
محمد، (وله العقب، أمُّه: خديجة بنت إبراهيم بن محمد بن طلحة)، وعيسى (وله إناث)، وإبراهيم دَرَجَ، وعبد الله دَرَجَ، وصالح دَرَجَ، وقُرَيْبَة.
صفته
❁كان الإمام يحيى بن عبدالله عليه السلام آدم اللون حَسَن الوجه، خفيف اللحية، أقرب إلى القِصَر، تُعرف سلالة الأنبياء في وجهه، وكان فارساً شجاعاً، له مقامات مشهورة في مبارزة الأعداء وقتل صناديد الظالمين، تجلى ذلك في معركة فخ مع الإمام الحسين بن علي الفخي عليهما السلام، وكان عليه السلام في زمانه مقدَّمَ جماعة أهل بيته في العلم والفضل.
ولمكانته السامية والرفيعة في أسرة أهل البيت جعله الإمام جعفر الصادق من أوصيائه على أمواله وأولاده القاصرين؛ وهذه المكانة الرفيعة لم تختلف عند علماء المسلمين؛ فقد كان كبار علماء المسلمين في زمانه - كالإمام الشافعي، وشيخه إبراهيم بن أبي يحيى- من دعاته وأنصاره؛ ولقد نال الإمام يحيى بن عبدالله شهرة كبيرة من خلال تنقلاته بين اليمن، والحبشة، وبلاد الترك، والديلم، ومصر، وغيرها من البلدان، التي قابله أهلها بالإجلال والتعظيم.
نشأته
❁نَشأ الإمام يحيى بن عبدالله (ع) في بلادِ بني الحسن في قرية "سويقَة" من قُرى المدينة المنورة، وبها عاصرَ مَشيخَة بني الحسن عليهم السلام، متنقلاً في أحضان الفضل والعلم والتقى، مكتسباً منهم جليل الصفات، وعظيم الأخلاق.
ولقد عاين مُنْذُ نعومة أظفاره الأحداث التي حلَّت بأهل البيت عليهم السلام، فعاصر صلب وتحريق الإمام زيد، كما عاصر مصيبة الإمام يحيى بن زيد، وما نال بعدها أباه وبني عمومته من السجن والقتل والتعذيب في سجن بني العباس، الذي اشتهر بمحبس الهاشمية؛ وقد عبر عليه السلام عن هذه الأحداث في رسالته لهارون الملقب بالرشيد: ((وكَيفَ لا أطلُبُ بِدِمَائهِم وأنَامُ عَن ثَأرِهِم؟ والمَقتُولُ بالجوعِ والعَطَش والنّكَال، فِي ضِيق المحَابس، وثِقَل الأغلال، وعدو العَذاب، وتَرادُف الأسواط، أبِي عَبدالله بن الحسن النفس الزكيَّة والهمَّة السنيَّة، والدَّيانَة المرضيَّة، والخشيَة والبَقيَّة، شَيخُ الفَواطِم وسَيَّد أبَناء الرّسُل طُرَّاً، وأرفَعُ أهل عَصرهِ قَدراً، وأكرَمُ أهل بِلاد الله فِعلاً؛ ثمّ يَتلوهُ إخوَتُه وبَنوا أبيه، ثم إخوَتي وبَنوا عُمومَتي، نجومُ السّماء، وأوتَاد الدّنيا، وزينَة الأرض، وأمَان الخَلق، ومَعدِنُ الحِكمَة، ويَنبوعُ العِلم، وكَهفُ المظلوم، ومَأوى الملهُوف، مَا مِنهُم أحَدٌ إلا مَن لَو أقسَمَ عَلى الله لبرّ قَسَمه... إلى قوله: ... فَما أنْسَ مِن شَيء فَلا أنسَى مَصَارِعَهُم، ومَا حَلَّ بِهِم مِن سُوء مَقدِرَتِكُم، ولُؤم ظَفَرِكُم، وعَظيم إقدَامِكُم، وقَسوَةَ قُلوبِكُم، إذْ جَاوزتُم قتْلَة مَن كَفَر بالله إفرَاطاً، وعَذابَ مَن عَانَدَ الله إسرَافاً، ومُثلةَ مَن جَحَد الله عُتواً)).
وقد شهد بعد تلك المآسي استشهاد أخويه محمد وإبراهيم عليهم السلام؛ فكانت كل هذه الأحداث كفيلةً بأن تبني شخصية الإمام يحيى عليه السلام، وأن تغرس في نفسه حبَّ البذل والعطاء والتضحية في سبيل الله والفداء.
علمه
❁كان الإمام يحيى بن عبدالله عليهما السلام على طريقة آبائه الأطهار السادة الأبرار جامعاً بين العلم والعمل، والإمام يحيى هو كبير أهل زمانه في العلم والفضل، ومن عيون العترة عليهم السلام.
وعلى الرغم مما ناله في سبيل الله إلا أنه روى حديثاً كثيراً عن أبيه الكامل، وأخيه الإمام النفس الزكية، والإمام جعفر الصادق، وعن أبان بن تغلب، وغيرهم؛ وأخذ عنه العلم كثير من علماء المسلمين كالإمام الشافعي، ومُخَوَّل بن إبراهيم، وبكار بن زياد، ويحيى بن مُسَاور، وعمرو بن حماد.
عبادته
❁سار الإمام يحيى بن عبدالله عليه السلام في الذكر والعبادة بسيرة آبائه، فكان واحداً من عباد الله المنقطعين إليه؛ وقد روي أنه كان إذا فرغ من صلاة العشاء الآخرة سجد سجدة إلى قرب السَّحر، ثم يقوم فيصلي، ولما كان في سجن الخليفة العباسي هارون، وكان هارون يشرف عليه من قصره، فقال ليلة ليحيى بن خالد البرمكي، وهو عنده: انظر؛ هل ترى في ذلك الصحن شيئاً؟ وأشار إلى الموضع الذي كان يسجد فيه فقام ونظر. فقال: أرى بياضاً، ثم قال له قرب طلوع الفجر: انظر هل ترى ذلك البياض؟ فنظر فقال: لست أراه. فقال: ذلك يحيى بن عبد الله إذا فرغ من صلاة العَتَمَة يسجد سجدة يبقى فيها إلى آخر الليل. قال يحيى البرمكي: فقلت في نفسي: انظر ويلك ألا تكون المبتلى به.
الإمام يحيى في معركة فخ
❁في سنة 169هـ ثار الإمام الحسين بن علي الفخِّي ضدَّ الخلافة العباسية، فتسابق إلى نصرته أهل البيت عليهم السلام والمؤمنين المخلصين من غيرهم، وكان الإمام يحيى بن عبدالله أحد أركان تلك الثورة وأعظم رجالاتها، وهو رسول الإمام الفخي إلى ابن عمه الإمام موسى الكاظم، وله مواقف بطولية سجلها التأريخ منذ اليوم الأول للثورة.
ويظهر أنه كان يقوم بدور التوجيه المعنوي لجيش الإمام، وقد نقل لنا التاريخ عدداً من خطبه في تلك الثورة، منها خطبته البليغة التي خطبها في أنصار الإمام قبل أن تقرع طبول المعركة, قال فيها: "أبْشِروا مَعشَر مَن حَضرَ مِنَ المُسلمِين ، فإنَّكم أنصَارُ الله وأنصَارُ كِتَابِه، وأنْصَارُ رَسولِه وأعوانُ الحق، وخِيارُ أهلِ الأرض، وعَلى مِلّة الإسلامِ ومِنهَاجِه الذي اختَارَه لأنبيَائهِ المُرسَلين، وأوليائه الصّابرين، أوَ مَا سَمِعتُم الله يَقول:{إنَّ اللَّه اشْترَى مِن المؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُم بأنَّ لهُم الجنّةَ يُقاتلونَ في سبيلِ الله فَيقتُلونَ ويُقتَلون وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومَن أوفَى بعهدِه من الله فاستبشروا بِبَيعِكم الذي بَايَعتُم به وذلكَ هُو الفوزُ العظيم، التّائبون العابدونَ الحامدونَ الرّاكعونَ السّاجدونَ الآمرونَ بالمعروف والنّاهونَ عن المُنكَر والحافِظونَ لحدودِ الله وَبشِرِ المُؤمِنِين}.
ثم قال: والله مَا أعرِفُ عَلى ظَهرِ الأرضِ أحَداً سِواكُم، إلا مَن كَانَ على مِثلِ رأيِكُم حَالَت بَينَكُم وَبينَه المعَاذِير، إمَّا فَقيراً لا يَقدرُ على مَا يَحتَمِلُ بهِ إلينَا فَهُو يَدعُو الله في آناءِ لَيلِه ونَهَارِه، أو غَنيَّاً بَعُدَتْ دارُه مِنَّا فَلم تُدركهُ دَعوتُنا، أو مَحبوسٌ عِند الفَسَقَة وقَلبُه عِندنَا، ممَّن أرجُو أن يَكونَ ممَّن وفَّى لله بما اشترى مِنه، فَمَا تَنتظرونَ عِبادَ الله بِجهادِ مَن قَد أقبلَ إلى ذُرِّيَة نبيكم لِيَسبُوا ذَرَارِيهم ويجتاحوا بقيتهم؟
ثم قال: اللهم احْكُم بينَنَا وبينَ قَومِنا بالحق وأنتَ خيرُ الحاكمِين"
ثم قاتل قتال الأبطال حتى جرح عليه السلام جراحات كثيرة، ولقد شبهه البعض لكثرة ما أصابه من الرماح والسهام بالقنفذ، كانت معركة فخّ يوم التروية من شهر ذي القعدة سنة 169هـ.
هجرة الإمام إلى الحبشة
❁بعد معركة فخٍّ أخذ رجلٌ من خزاعة الإمامَ يحيى بن عبدالله، ومعه أخوه إدريس وابن عمه إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا، وطبَّبّ جراحاتهم حتى تشافت، ولأن الدولة العباسية كانت جادة في البحث عنهم قرروا الهجرة إلى الحبشة، فأكرمهم ملكها وأحسن في استقبالهم وتعظيمهم, وفي أثناء إقامتهم في الحبشة كان يتنامى إلى أسماعهم ما يناله أهل البيت من ويلات العذاب، فكتب الإمام يحيى عليه السلام إلى علماء المسلمين وعامتهم يحثهم على النصرة للحق والإجابة لداعي أهل البيت، فأجابوه وواعدوه موسم الحج، فلمَّا عاد الإمام يحيى وأخوه إدريس من الحبشة كتب إلى الناس وواعدهم موسم الحج في مِنَى، فلما وافى الموسم إلتقى في شِعب الحضارمة بمنى بسبعين عالماً ممَّن واعدوه.
لقاء الإمام بأنصاره
❁عندما اجتمع الإمام يحيى في موسم الحج بمن وافاه، تشاوروا في أمر الجهاد والثورة، فأجمع الحاضرون على أن جهاد بني العباس من أعظم أعمال البر؛ وأنه لا شيء يعدله عند الله تعالى، وكان الرأي أن يكاتب الإمام إلى المسلمين في مختلف الأمصار في نصرته، فأرسل ثلاثة من أنصاره إلى العراق، وأرسل أخاه إدريس مع رجلين إلى المغرب، كما وجَّه ثلاثة آخرين إلى مصر، لكن جواسيس الخليفة العباسي هارون الملقب بالرشيد كانت تتعقب تلك التحركات؛ فتتبعت رسل الإمام وأتباعه، وعرضتهم للعذاب والتنكيل، مما اضْطرَّ الإمام إلى التخفي من جديد، فقصد بغداد فعلمت الخلافة العباسية بذلك، فشددت الحراسة على مداخلها واستنفرت جنودها للبحث عنه، فاحتال الإمام في خروجه من بغداد على هيئة عامل البريد، فتمكن بذلك من النجاة.
الإمام يحيى في صنعاء
❁بعد أن خرج الإمام يحيى بن عبدالله من بغداد توجَّه إلى اليمن، وقصد صنعاء، وقصد زكريا بن يحيى بن عمر بن سابور وهو رجل من الأبناء، ومكث في صنعاء ثمانية أشهر، التقى فيها بعلمائها وعقد فيها جلسات العلم، وممَّن أخذ عنه العلم في صنعاء الإمام الشافعي، ثم لمَّا اشتدَّ به الطلب خرج منها إلى شعاب مكة ومنها إلى الديلم.
الهجرة إلى بلاد الديلم
❁خاف الإمام يحيى أن يقع في أيدي السلطات العباسية التي ظلت تلاحقه وتتعقب تحركاته في مكة، فتوجه للبحث عن بلد منيع لا يصل إليه العباسيون؛ حتى تتهيأ له الأمور؛ فكاتب الإمام يحيى ملكَ طبرستان (شروين) وطلب منه أن يؤويه ثلاث سنين، فأبدا شروين استعداده على أن يؤويه الدهر كلَّه؛ لكنه اعتذر أن بلاده غير منيعة إن طلبته الجنود العباسيون، واقترح عليه الذهاب إلى بلاد الديلم، وواعده الذهاب معه إلى ملك الديلم، فتوجه الإمام إلى الديلم ومعه ملك طبرستان، فاستقبلهم ملكها جستان بكل حفاوة وترحاب، وفي الديلم أسلم كثير من أهلها على يدي الإمام يحيى وتعلموا شرائع الإسلام منه.
وبلغ المسلمين في النواحي والبلدان دخولُ الإمام يحيى إلى بلاد الديلم، وانتشر خبره، وكان خروجه إلى الديلم دينمو لتحريك الثورة، حتى أنه قيل: "أنه كثر الدعاة إليه، وسارعوا إليه، وقصده كل من له رغبة في الدين".
محاولة استمالة هارون لملك الديلم
❁لما تناهت الأنباء إلى مسامع هارون العباسي عن ظهور الإمام يحيى بن عبدالله في بلاد الديلم، جُنَّ جنونه، وأقلع عن شرب الخمر، وتظاهر بالعبادة، وترك الأغاني والمجون، وبدأ يخطط ويدبر لطريقة يتخلص بها من الإمام يحيى عليه السلام، فكلَّف قائد جيشه و وزيره الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي بأن يتدبر أمر الإمام، وجهز له جيشاً قوامه سبعون ألف مقاتل من صناديد رجاله ووجوه قواده، وأمره بأن يغدق على جستان الهدايا، وأن يجزل له العطاء؛ بغرض استمالته إلى تسليم الإمام، لكن جستان رفض كلَّ الإغراءات، وقاله له: لو أعطيتني جميع ما تملكه ملوك الدنيا لم أسلمه إليكم فاعمل ما بدا لك أن تعمله، وأمام امتناع جستان حاول هارون أن يستميل الإمام ويغريه بترك الديلم، فكتب أماناً تضمن عدم التعرض للإمام، وأن يعطيه أموالاً كثيرة وأراضي واسعة مقابل أن يعود إليه.
نفس أبية وعزيمة علوية
❁رفض الإمام يحيى عليه السلام أمان هارون وإغراءاته وكتب إليه كتاباً جاء فيه: "أما بعد فقد فهمتُ ما عرضت عليَّ من الأمان على أن تبذل لي أموال المسلمين، وتقطعني ضياعهم التي جعلها الله لهم دوني ودونك، ولم يجعل لنا فيها نقيراً ولا فتيلا، فاستعظمت الاستماع له فضلاً عن الركون إليه، واستوحشت منه تنزهاً عن قبوله؛ فاحبس أيها الإنسان عني مالك وإقطاعك وقضاءك حوائجي، فقد أدبتني أمي أدباً ناقصاً وولدتني عاقاً قاطعاً، فوالله لو أنَّ من قتلتم من أهلي تُرْكَاً ودَيَالِمَ على بُعدِ أنسابهم مني وانقطاع رحمهم عني لوجَبَتْ عليَّ نصرتُهم، والطلب بدمائهم؛ إذ كان منكم قتلهم ظلماً وعدواناً، والله لكم بالمرصاد لما ارتكبتم من ذلك، وعلى الميعاد لما سبق فيه من قوله ووعيده، وكفى بالله جازياً ومعاقباً وناصراً لأوليائه ومنتقماً من أعدائه.
إلى أن قال عليه السلام ـ مبيناً أسباب جهاده للخليفة العباسي ـ :" ولِمَ لا تجَاهد وأنت معتكف على معاصي الله صباحاً مساءً، مغتراً بالمهلة، آمناً من النقمة، واثقاً بالسلامة؟!"
ثم قال عليه السلام: " ووالله ما أكلي إلا الجشب، وما لباسي إلا الخشن، ولا شعاري إلا الدرع، ولا صاحبي إلا السيف، ولا فِراشي إلا الأرض، ولا شهوتي من الدنيا إلا لقاؤكم والرغبة إلى الله في مجاهدتكم، ولو موقفاً واحداً؛ انتظار إحدى الحسنين في ذلك كله من ظفر أو شهادة".
حيلة أبي البحتري
❁لمَّا وصل كتاب الإمام يحيى عليه السلام إلى هارون، زاد غمُّه وضاقت به خلافته، فجمع بطانته واستشارهم، فأشاره أبو البحتري بحيلة مفادها أن يذهب إلى جستان بصفته قاضي القضاة، ومعه من يقدر من العلماء، ويشهدوا عند جستان أن يحيى بن عبدالله عبدٌ لهارون، وينكروا نسبه من فاطمة بنت رسول الله.
فتوجه أبو البحتري ومعه سليمان بن فليح وجمعوا من علماء ووجهاء أهل دسينا، وقزوين، وزنجان، وأبهر، والري، وهمذان، ما يقارب 1300 رجل, وفعلاً ذهب هؤلاء الشهود مجرَّدين عن الدين والمروءة وشهدوا عند ملك الديلم أن يحيى بن عبدالله عبدٌ لهارون، وأنه ليس من نسل فاطمة الزهراء، فانطلت الحيلة على جستان، وعزم على تسليم الإمام لأبي البحتري.
بين الخديعة والخذلان
❁لما رأى الإمام يحيى أن جستان قد مال إلى الدنيا، وأنَّه مُسَلِمُهُ إلى هارون، وجده نفسه بين خديعة هارون وخذلان جستان حينها لم يجد بدا من أعمال الفكر في الخروج من ذلك الواقع، فطلب من جستان أن ينظره حتى يطلب الأمان له ولأصحابه، فكتب نسخة الأمان إلى هارون، والتي اشتملت على طلب الأمان له ولسبعين رجلاً من أصحابه هم دعاته وخلص أصحابه.
قال الإمام القاسم بن إبراهيم الرسِّي عليهما السلام : "لما بعث يحيى بالأمان - كتب إلى هارون أن يجمع الفقهاء والعلماء ويحلف بطلاق زبيدة (زوجة هارون) باسمها واسم أبيها، وعِتْق كل ما ملك من السراري، وتسبيل كل ما ملك من مال، والمشي إلى بيت الله الحرام، والأيمان المحرجات، وأن يُشِهد الفقهاء على ذلك كله. قال: فأسرع هارون إلى أمانه وأعطاه الشروط التي اشترط له كلها، والأيمان التي طلب والإشهاد عليها".
فخرج الإمام يحيى عليه السلام من الديلم، فلمَّا قرب من عسكر الفضل بن يحيى البرمكي استقبله وترجل له وقبَّل ركابه، وذلك بعين جستان، وبذلك أمره هارون.
فلمَّا رأى جستان ما فعل الفضل بالإمام يحيى بن عبدالله جعل ينتف لحيته ويحثو التراب على رأسه ندامةً على ما فعل، وجعل يدعو بالويل والثبور، ويتأسف على يحيى كيف خذله وأسلمه، وعلم أنهم مكروا به، وأنهم شهدوا زورا.
عودة الإمام يحيى إلى المدينة
❁عاد الإمام يحيى (ع) إلى المدينة، بعدَ أن أخذ ميثاق الله وأمانه من هارون العباسي، فصار الإمام إلى منزله، وكان هارون قد أعطاه مبلغاً من المال، فوزعه بين كل من له به نسبٌ أو خؤولة أو محبة، فكثر اختلاف الناس إليه وتعظيمهم له، فأثارت تلك المنزلة غضب هارون، وأحيت فيه مخاوفه، وزاد تلك المخاوف وشايةُ بكار بن مصعب الزُّبيري - وكان عاملاً لهارون على المدينة- وذلك أنه كتب إلى هارون أن بالحجاز خليفة يُعَظِمُه النَّاس ويختلفون إليه من جميع الآفاق، ولا يصلح خليفتان في مملكة واحدة. وذكر أن الإمام يحيى يكاتب أهل الآفاق.
فاستدعى هارون الإمام يحيى بن عبدالله (ع) من المدينة إلى بغداد؛ فضيّقَ عليه وحبسَه في أضيق الحبوس.
مساومة رخيصة
❁عرض هارون على الإمام يحيى الخروج من السجن مقابل أن يخبره بأسماء السبعين الذين أخذ لهم الأمان، فكان جواب الإمام يحيى جواب المؤمن التقي الراسخ في عقيدته ودينه، فقال له: "يا هارون إلهَ عن ذكر أولئك؛ فإنَّك لو قَطَّعتني إرباً إرباً لم يرني الله أشركك في دمائهم، ولو أعطيتني جميع ما في الأرض ما أنبأتك باسم واحد منهم، فاصنع ما بدا لك، فإنَّ الله بالمرصاد."
اليمين الزبيرية وعاقبة خاسرة
❁في يوم من الأيام أحضر هارونُ الإمام يحيى عليه السلام من السجن وأحضر معه بكار بن مصعب الزبيري, وتداعى في الوشاية التي وشى بها الزبيري على الإمام يحيى, وفي ذلك المجلس ادَّعا الإمامُ يحيى على الزبيري أنه سبق وحرض ضدَّ هارون, وذَكَر أبياتاً للزبيري تشهد بذلك, فأنكر الزبيري حصول ذلك.
فاستأذن الإمام يحيى من هارون أن يستحلفه، فأذن له, فأقبل الإمامُ على الزبيري فقال: "قل بَرَأك الله من حَولِه وقوته وَوَكلَكَ إلى حَولكَ وَقوتِك، إن كنت قلت هذا الشعر"، فحلف الزبيري بذلك فلمَّا حلف قال الإمام يحيى: "قتلته والله يا هارون"، فخرج الزبيري من عند هارون فأصيب بمرض يسمَّى الفالج فمات من ساعته. وهكذا نال الزبيري غبَّ ما أضمره من بغض الإمام يحيى، وهي صفقة خاسرة ونهاية وخيمة.
استشهاد الإمام يحيى
❁بعد ذلك، رُدَّ الإمام يحيى (ع) إلى السجن، ثم أرسل هارون من يسقيه السُّم، فمات عليه السلام في حبسه ببغداد، وقيل: إنَّه خُنِقَ، وقيل: قتل جوعاً، وأياً تكن الوسيلة التي قُتل بها عليه السلام فقد شقي بدمه الزكي قاتله هارون الغوي.
نعم رحل الإمام يحيى عليه السلام بعد عمر زاخر بالخير والعلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكنه بقي للأجيال درساً خالداً في التضحية والفداء والبطولة في قول الحق والنضال في سبيل أعلاء كلمة الله وتحقيق العدل والخير بين البشرية.