جرت العادة أن تكون الكتابة عن العظماء من الرجال الذين شغلوا مساحة واسعة، وحيزاً كبيراً في صفحات التأريخ، ذلك لأن الرجال هم الأقدر على تحمل التكاليف، وتقحم المخاطر، وتجشم الصعاب على مختلف الازمان، لكن ذلك لم يمنع أن تُخترق تلك الصفحات، ويتخلل تلك السطور المشرقة نساء كوامل، لم تقل شأنا عن أولئك العظماء، بل لربما كُنَّ في مقدمات أولئك الأصفياء، هذا إذا لم يتناه إلى علمك أو يقرع سمعك لقباً صار تاجاً فوق الرؤوس تتحلى به النساء، ودرة وسط العقد تملأ الكون بالضياء.
إذا ذكرت فهي الحورية الإنسية، والبضعة الطاهرة الزكية، فاطمة البتول الرضية، هنا سيكون الكلام له عبق مختلف، وشذى فريد، وأريج فواح يصل نداه إلى جميع البقاع، ويملأ المدى الفسيح بلا انقطاع، وكيف لا وهي ربة الفواضل والفضائل، وفي الطبقة العليا من النساء الكوامل، وخاتمة عقد النبي الفريد، وسيدة النساء في كل العوالم بلا محيد، وكيف لا وهي في مصاف آسيا وخديجة ومريم، بل هي منهن في المحل الأول، وقد كان النبي الكريم يقول: "مريم سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء العالمين"، وقال صلوات الله عليه وعلى آله وسلم: "حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسيا بنت مزاحم"
الولادة
ولدت فاطمة في بيت يتضوع منه عبق الإيمان، وتفوح منه رائحة الفضيلة، وتتهدل فيه ثمار السماحة والكرم، وشاءت عناية الله أن تبصر النور وتفتح عينيها على الدنيا لتكون في كنف أشرف وأكرم بيت عُرف في التأريخ، هو بيت النبوة، مهد البضعة الطاهرة، بيت تحفه ظلال الوحي، وتحوطه جوانب الطهارة، ويشع منه نور الرسالة الخالدة.
استقت من أبيها النبي الكريم حبّ الإيمان والفضيلة ومكارم الأخلاق، وتشبعت بالتربية الإيمانية والأخلاق الربانية والصفات الإنسانية الكاملة، ومن أمها خديجة رضعت الشهامة والحياء والكرم والمواساة وحب الخير، فصارت درة تتوسط العقد، وجوهرة تشع دوماً بالسعد.
عندما ولدت أسماها أبوها النبي الكريم فاطمة ليفطمها الله ومحبها من النار، وكان ولادة البضعة الطاهرة في بداية بعثة النبي، وتكليفه لأداء رسالة الله إلى جميع الخلق.
النشأة
تتميز نشأة بضعة الرسول بأنها كانت في كنف الأب الرسول محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- والأم الطاهرة خديجة بنت خويلد، فكانت نشأة مميزة في ظلال هذا الجو الروحي، والسمو العائلي، والخلق النبوي الكريم.
وشاء الله تعالى أن تبدأ فاطمة حياتها الكريمة في مرحلة من أشد مراحل الدعوة الاسلامية محنة، وأكثرها قسوة على والدها النبي، وعاينت عن قرب ما كان يتعرض له أبوها النبي من الأذية من قبل كفار قريش، وما كان يلقاه من الجفوة والغلظة، فقد كانت هي التي تبعد القذارة من على ظهر رسول حين يتجرأ أشقى الناس ويضعها على ظهره الكريم وهو يصلي، وفي هذا الموقف كانت تتملكها شفقة البنت البارة، ويتداخلها العطف الشديد على أبيها النبي الكريم، الذي كان يصبر على ما يصيبه فاكتسبت منه هذا الخلق النبوي العظيم، وأيضا لم تكن بمنأى عن الأذى في الوقت الذي فرضت فيه قريش المقاطعة الإقتصادية والحصار الخانق الذي بسببه أكل المؤمنون أوراق الشجر, وربط فيه النبي على بطنه بالحجر، ومعه بنو هاشم فكان النبي الكريم في شعب أبي طالب، ومعه زوجته خديجة، ومعهم فاطمة البتول.
ورغم أن أمها خديجة قد توفيت وهي في سن العاشرة أو ما يقاربها لكن لم يفتها عطف الأب العظيم ودفئه، وحنانه الفياض الذي كان يغمرها في كل وقت، ويعوضها عما أصابها من فقد أمها، وهي لمست ذلك وشعرت به، فقد كانت تذهب إلى أبيها إذا أصابها غم، أو ألم بها حزن، أو نزل بها مصيبة، أو فاجأتها جائحة، أو كدر صفوها رنق، أو اعتراها شيء من نوائب الدهر؛ فتجد عند أبيها السلو والبهجة والمواساة، وتخرج من عنده طيبة الخاطر، راضية النفس، طلقة المحيا، يعلو محياها قسمات الفرح، وتظهر من ثناياها ملامح التباشير فانعكس ذلك عليها في تصرفها وفي جميع فعالها
زواج فاطمة
كان زواج فاطمة بالإمام علي بن أبي طالب مختلفاً، وخاصاً ومميزاً من بين كل الزيجات التي حصلت في تأريخ البشر؛ أنه لم يكن بيد أحد، بل كان المتولي لأمره مباشرة هو رب السماء، وخالق الكون ومنشئ الأنفس، تتلخص تلك الحقيقة في قول النبي الأكرم صلوات الله عليه وعلى آله وسلم: "ﺇﻧﻤﺎ ﺃﻧﺎ ﺑﺸﺮ ﻣﺜﻠﻜﻢ ﺃﺗﺰﻭﺝ ﻣﻨﻜﻢ ﻭﺃﺯﻭﺟﻜﻢ ﺇﻻ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﻓﺈﻥ ﺯﻭاﺟﻬﺎ ﻧﺰﻝ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء"، فلم يأذن الله لنبيه الكريم في قطع الأمر لأحد حينما توافد الخطاب من كبار الصحابة يطلبون يد البضعة الطاهرة والجوهرة المكنونة.
وكيف لا يكون شأنه عظيم وهو عرس باركته السماء واحتفلت به الملائكة، وزُخرفت له الجنة، وتزينت له الحور العين؟!.
وكيف لا ونثار عقده بين أهل السماء من اللؤلؤ الرطب والياقوت الأحمر والدر اﻻخضر، تتبادره الحور من كل جانب ويتناهبنه من كل طرف؟!
و كان الذي تولى زفافها إلى بيت زوجها هو خير أهل الأرض أبوها النبي الكريم يرافقه خير أهل السماء جبريل ومعه ميكائيل وصفوة من الملائكة.
وكيف لا يكون ذلك الزواج استثنائياً ومتميزاً وإرادة الله تقتضي أن يكون من ثمار هذا العرس تلك الذرية المباركة التي اختيرت لتكون موضع عناية الله لهداية البشر، وتكون الحبل الممدود للناس الذي يصلهم ويربطهم بالثقل الأكبر؟!
وقد كان هذا العرس المبارك في السنة الثانية للهجرة، وعندما أختارها أبوها لتكون حليلة الوصي هُمس في أذنها، وتردد كلام إلى مسامعها بأن من صارت له عروسة هو رجل فقير ليس من ذوي المال والجاه، فذهبت إلى أبيها النبي الكريم لا للاعتراض على من ستظل في كنف بيته، وتكون سكنه ومأواه ، فهو رجل أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه خير الخيرة، وصفوة الصفوة، بل ذهب إلى أبيها ليصدر منه ما تصحح به المفاهيم الخاطئة التي يعتقدها بعض الناس في معايير الاختيار للرجل المناسب، ولينبه بفضيلة وعظمة من سيكون خدينها وقرينها وزوجها المستقبلي، فقال لها: "ﺃﻣﺎ ﺗﺮﺿﻴﻦ ﺃﻧﻲ ﺯﻭﺟﺘﻚ ﺃﻭﻝ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﺇﺳﻼﻣﺎً، ﻭﺃﻋﻠﻤﻬﻢ ﻋﻠﻤﺎً، ﺃﻣﺎ ﺗﺮﺿﻴﻦ ﻳﺎ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﺃﻥ اﻟﻠﻪ إﻃَّﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻞ اﻷﺭﺽ ﻓﺎﺧﺘﺎﺭ ﻣﻨﻬﺎ ﺭﺟﻠﻴﻦ، ﻓﺠﻌﻞ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﺃﺑﺎﻙ ﻭاﻵﺧﺮ ﺑﻌﻠﻚ", وهذا الموقف ينسجم مع ما فعله الإمام علي مع النبي الكريم حين خلفه صلى الله عليه وآله في المدينة وقيل فيه إنه ما تركه إلا استثقالاً له، فجاءه علي وقال: "أتخلفني مع النساء والصبيان؟".
فقال له النبي صلوات الله عليه وعلى آله وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي"
وبعد العرس المبارك انتقلت فاطمة الزهراء إلى البيت الزوجي الذي كانت تحيط به عظمة الزهد وبساطة العيش، فكانت تعين زوجها على أمر دينه وآخرته، وتقوم بشؤونها المنزلية والأعمال البيتية من طبخ وتنظيف وإحضار للماء, ورعاية الأطفال، حتى أنّها كانت تطحن بيد وترقد طفلها باليد الأخرى، في حياة يصبغها طابع القناعة والزهد بعيداً عن زخارف الدنيا وزبرجها.
مكانة فاطمة الزهراء
أحتلت فاطمة البتول مكانة كبيرة لدى أبيها النبي الكريم صلى الله عليه وآله، وتربعت على عرش قلبه، وكان لها الحظ الأوفر والنصيب الأكبر من بين كل أخوتها، ذلك ليس لأنها أصغر الأولاد وخاتمة العقد الذين يكون لهم شأنهم آخر عن سائر الأبناء، ويحظون باهتمام أكثر من غيرهم، بل لأن فاطمة اكتسبت من الأخلاق الفاضلة، والمكارم الحميدة ما جعلها سيدة النساء ليس في عالمها فحسب، بل سيدة نساء العالمين، وكانت نموذجاً فريداً في عالم النساء، وشخصية مميزة امتلأت بالحب والعطف الكبير، ولا عجب أن اكتسبت واستحقت الكنية العظيمة من أبيها النبي الكريم "أم أبيها"؛ لأنها كانت تغدق على أبيها النبي بفيض من العطف ونبع من الحنان والرأفة والرعاية العظيمة, والاهتمام الكبير أعظم مما تفيض به الأم الحانية لولدها، فكانت تضمّد لأبيها جرحه، وتمسح الدم من على جبينه وخده، وتحزن لحزنه، وتفرح لفرحه، وترفع عنه الأذى، وتبعد عنه الشوك والقذى، ويغمها فراقه، ويشق عليها الابتعاد عنه، وتتعاهده بما يحتاجه، وتتفقده في جميع أموره و أحواله، وكانت تستقبله كلما جاء من سفره وترحاله، فتكون أول من يلتقي به من أهله ونسائه، فتقوم له وتقبله، وتجلسه في مكانها، وتقربه إلى جنبها.
ولعظم مكانتها لديه كانت هي منفردة التي دعاها النبي الكريم لمباهلة النصارى وكانت المباهلة لا يحضر فيها إلا أخص الخواص، ومن يصطفيهم عن سواهم من الناس، وجعلها خامسة أصحاب الكساء حينما جمع النبي علياً والحسن والحسين وأمهما فاطمة وقال في حقهم: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" بعدما نزل قوله تعالى: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا"، ما ذلك إلا لعظم خطرها وعظيم فضلها وشرفها، وكيف لا وقد جعلها بضعته التي يغضبه ما يغضبها، ويرضيه ما يرضيها، فلا عجب أن كان النبي يخصها بالذكر دون غيرها من بناته وزوجاته، وقد كان في كل يوم يذهب الى بيتها ويقول: "الصلاة الصلاة يا أهل بيت رسول", بعدما كان الأمر الإلهي للنبي "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها"، وممَّا يدل على أنها راجحة المقام، عظيمة المكان، أنه ينصب لها منبر يوم القيامة وتتخطى رقاب العالمين كما ورد في الأثر: "ينادي منادٍ يوم القيامة: يا أهل الجمع غضّوا أبصاركم من فاطمة بنت محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم" قال: فتخرج من قبرها معها ثياب تشخب بالدم حتى تنتهي إلى العرش وتقول: "يا رب انتصف لولدي ممن قتلهم"
وقد جعلت ذرية النبي الكريم في ولد فاطمة وعقبها، وخصت بهذه المكرمة دون سواها يقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم "كل بني آدم ينتمون إلى أبيهم إلا الحسن والحسين فأنا أبوها وعصبتهما".
خصائصها
لقد كانت فاطمة أسوة لجميع النساء عبر الزمان، لأنها في صفاتها كانت البنت البارة والزوجة الصالحة والأم الفاضلة، وفي حياتها دورس كثيرة، وصفات كريمة جعلتها تمتطي جواد العلى, وتتربع عرش الفضل, وتحلق في سماء الفضيلة من رحاب إلى رحاب متفوقة على قريناتها من بنات جنسها، فمن التحلي بالصبر إلى الرضى والزهد والقناعة، ومن الرحمة بالناس إلى الإيثار لهم، ومن العفاف إلى الكرم، ومن السخاء إلى الحياء، ولا تُنْسى تلك المواقف التي رُسمت فيها أنصع الصور للزاهراء البتول منها:-
- لما زوجها اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ: ((ﻳﺎ ﺃﻡ ﺃﻳﻤﻦ زفي ﺑﻨﺘﻲ ﺇﻟﻰ ﻋﻠﻲ، ﻭﻣﺮﻳﻪ ﺃﻥ ﻻ ﻳﻌﺠﻞ ﺣﺘﻰ ﺁﺗﻴﻬﺎ))، ﻓﻠﻤﺎ ﺻﻠﻰ اﻟﻌﺸﺎء ﺃﻗﺒﻞ ﺑﺮﻛﻮﺓ ﻛﺎﻥ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎء ﻓﺘﻔﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﺷﺎء اﻟﻠﻪ ﻭﻗﺎﻝ: ((ﺇﺷﺮﺏ ﻳﺎ ﻋﻠﻲ ﻭﺗﻮﺿﺄ، ﻭاﺷﺮﺑﻲ ﻳﺎ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﻭﺗﻮﺿﺄﻱ، ﺛﻢ ﺭﺩ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺒﺎﺏ ﻓﺒﻜﺖ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﻓﻘﺎﻝ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ﻣﺎ ﻳﺒﻜﻴﻚ ﻳﺎ ﺑﻨﻴﺔ؟ ﻗﺪ ﺯﻭﺟﺘﻚ ﺃﻗﺪﻣﻬﻢ ﺇﺳﻼﻣﺎ، ﻭﺃﺣﺴﻨﻬﻢ ﺧﻠﻘﺎ، ﻭﺃﻋﻠﻤﻬﻢ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻋﻠﻤﺎ)).
- ذات يوم قال علي ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ لفاطمة ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺮﺿﻮاﻥ: "ﺇﻥ اﻟﻄﺤﻦ ﻭاﺧﺘﺪاﻣﻚ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻚ ﻗﺪ ﺟﻬﺪاﻙ، ﻓﻠﻮ ﺃﺗﻴﺖ ﺃﺑﺎﻙ ﻓﺴﺄﻟﺘﻴﻪ ﺧﺎﺩﻣﺎً"، ﻓﻘﺎﻟﺖ: "ﻓﺎﻧﻄﻠﻖ ﻣﻌﻲ"، ﻗﺎﻝ: "ﻓﺄﺗﻴﻨﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﺬﻛﺮﺕ ﻟﻪ ﺫﻟﻚ"، ﻓﻘﺎﻝ: "ﺃﻻ ﺃﺩﻟﻜﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﻋﻤﻞ ﺧﻴﺮ ﻟﻜﻤﺎ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ، ﺗﺳﺒﺤﺎﻥ اﻟﻠﻪ ﺇﺫا ﺁﻭﻳﺘﻤﺎ ﻓﺮاﺷﻜﻤﺎ ﺛﻼﺛﺎ ﻭﺛﻼﺛﻴﻦ، ﻭﺗﺤﻤﺪاﻧﻪ ﺛﻼﺛﺎ ﻭﺛﻼﺛﻴﻦ، ﻭﺗﻜﺒﺮاﻧﻪ ﺃﺭﺑﻌﺎ ﻭﺛﻼﺛﻴﻦ، ﻓﺘﻠﻚ ﻣﺎﺋﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﺴﺎﻥ ﻭﺃﻟﻒ ﻓﻲ اﻟﻤﻴﺰاﻥ", فرضيت سلام الله عليها بما دلها عليه رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم.
- ذات مرة أصابت عليًّا عليه السَّلام خصاصة، فقال لفاطمة: "لو أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألتيه"، فأتتهُ وكانت عنده أم أيمن، فدقت الباب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن هذا الداق فاطمة، وقد أتتنا في ساعة ما عوّدتنا أن تأتينا في مثلها، فقُومي فافتحي لها الباب"، فقال عليه وآله الصلاة والسَّلام: "يا فاطمة لقد أتَيْتِنَا في ساعة ما عوّدتنا أن تأتينا في مثلها؟" فقالت: "يا رسول الله هذه الملائكة إن طعامها التسبيح والتهليل، والتّحميد والتّمجيد، فما طعامنا؟". قال صلوات الله عليه وعلى آله: "والذي نفس محمد بيده ما اقتبس لآل محمد نار منذ ثلاثة أيام، وقد أُتينا بأعنزٍ فإن شئت فخُذي خمس أعنزٍ، وإن شئتِ علّمتك خمس كلماتٍ علمنيهن جبريل عليه السَّلام؟" قالت: بل علّمني الكلمات، قال: قولي: "يا أول الأوّلين، ويا آخر الآخِرين، ويا ذا القوة المتين، ويا رازق المساكين، ويا أرحم الراحمين" فانصرفت حتى دخلت على عليٍّ عليه السَّلام فقال: "ما وراءك؟" فقالت: "ذهبتُ من عندك إلى الدنيا فأتيتك بالآخرة، قال: خير أيَّامك، خير أيَّامك".
- لما ﻣﺮﺽ اﻟﺤﺴﻦ ﻭاﻟﺤﺴﻴﻦ نذر اﻹمام علي وفاطمة صيام ثلاثة أيام متتالية إن تعافا الحسنان من مرضهما, فلما أنعم الله عليهما بالشفاء، قررا أن يوفيا بالنذر الذي عليهما ﻭﻓﻲ اﻟﻴﻮﻡ اﻷﻭﻝ ﻣﻦ اﻟﺼﻴﺎﻡ ﺟﺎءﻫﻢ ﻣﺴﻜﻴﻦ, وقال: مسكين يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة؛ ﻓﺄﻋﻄﻮﻩ ﻃﻌﺎﻣﻬﻢ ﻭﺷﺮﺑﻮا اﻟﻤﺎء ﻓﻘﻂ.
ﻭﻓﻲ اﻟﻴﻮﻡ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﺮﺽ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻳﺘﻴﻢ: يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة؛ ﻓﺄﻋﻄﻮﻩ ﻃﻌﺎﻣﻬﻢ ﻭﺃﻛﻤﻠﻮا ﺻﻴﺎﻣﻬﻢ ﻭﻟﻢ ﻳﺬﻭﻗﻮا ﻏﻴﺮ اﻟﻤﺎء، ﻭﻓﻲ اﻟﻴﻮﻡ اﻟﺜﺎﻟﺚ ﺟﺎءﻫﻢ ﺃﺳﻴﺮ ﻓﺄﻋﻄﻮﻩ ﻃﻌﺎﻣﻬﻢ, وهنا تتجلى الفضائل، وتظهر ملامح الشيم والمكارم، ففضيلة الصبر جلية، وفضيلة الإيثار ليست فيهم بخفية، وفضيلة الوفاء شيمة علوية فاطمية، وفضيلة الإخلاص في العمل تكمل تلك الصفات الرضية، وفي ذلك نزل قول الله تعالى في فاطمة وفي زوجها وبنيها: "ﻳﻮﻓﻮﻥ ﺑﺎﻟﻨﺬﺭ ﻭﻳﺨﺎﻓﻮﻥ ﻳﻮﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺷﺮﻩ ﻣﺴﺘﻄﻴﺮا ﻭﻳﻄﻌﻤﻮﻥ اﻟﻄﻌﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﺣﺒﻪ ﻣﺴﻜﻴﻨﺎ ﻭﻳﺘﻴﻤﺎ ﻭﺃﺳﻴﺮا ﺇﻧﻤﺎ ﻧﻄﻌﻤﻜﻢ ﻟﻮﺟﻪ اﻟﻠﻪ ﻻ ﻧﺮﻳﺪ ﻣﻨﻜﻢ ﺟﺰاء ﻭﻻ ﺷﻜﻮﺭا "
الرحيل
كان فراق النبي الكريم على بضعته الزكية مؤلماً؛ لذا حزنت عليه حزناً شديداً، وكان حزنها عليه مؤثراً حتى أثر على صحتها، إضافة إلى ما أصابها من الأذى الذي كان بسبب أخذ حقها، وسلب نصيبها الذي وهبه لها أبوها النبي الكريم أثناء حياتها فقد صارت كارة للدنيا وللعيش فيها، وتتشوق إلى الرحيل واللحاق بأبيها صلوات الله عليه وعلى آله, وتجلى ذلك عندما جمعت نسوة من الأنصار، وألقت على مسامعن هذه الخطبة :"واللهِ أصبحتُ عائفةً لدُنياكم، قالِيَةً لرجالكم، لفظتُهم بعد أن عَجمْتُهم، وشِنئتهم بعد أن سَبَرتهم، فقبحاً لفُلول الحدّ، وخَوَر القناة، وخَطَل الرأي، وبئسما قدّمَت لهم أنفسُهم أن سَخِط اللهُ عليهم وفي العذاب هم خالدون؛ لا جرم قد قلّدتهم رِبْقَتها، وشنّت عليهم غارتها، فجَدْعاً وعَقْراً، وسُحْقاً للقوم الظالمين، وَيْحَهم أين زحزحوها عن رَوَاسي الرّسالة، وقواعدِ النبوّة، ومَهبِط الرُّوح الأمين، والطيبين بأمر الدّنيا والدّين ، ألا ذلك هو الخسران المبين.
وما الّذي نَقَموا من أبي حسن؟!, نَقَموا واللهِ نكيرَ سيفه، وشِدّة وَطْأته، ونَكالَ وَقْعته، وتنمّره في ذات الله، وتالله لو تكافُّوا عن زِمام نبذَه إليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لاعتَلَقه، ولسار إليهم سيراً سُجُحاً، لا تكلم حشاشته، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم مَنهلاً نَميراً فضفاضاً يطفح ضفّتاه، ولأصدرهم بِطاناً قد تحيّر بهم الرأي، غير متحلّ بطائل، إلاّ بغَمْر الناهل، وردعه سورة الساغبِ، ولفتحتْ عليهم بركات من السّماء والأرض، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون.
ألا هلمّ فاستمع وما عشت أراك الدهر عجبه، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث، إلى أيّ لجأ استندوا، وبأيّ عُروة تمسّكوا! لبئسَ المَولى ولبئس العَشِير، ولبئس للظالمين بدلاً! استبدلوا والله الذُّنَابَى بالقَوادم، والعَجُز بالكاهل؛ فرغماً لمعاطس قومٍ يَحسَبون أنّهم يُحسِنون صُنْعاً: «ألا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ»، وَيْحهم! «أفَمَنْ يَهْدِي إلَى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلاّ أنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»! أما لَعَمر الله لقد لقِحت فنظِرة ريْثما تنتَج، ثمّ احتلبوها طِلاعَ العَقْب دَماً عَبيطاً وذُعافاً مُمقِراً هنالك يَخسَر المُبطِلون، ويَعرِف التالون غِبَّ ما أسّس الأوّلون، ثمّ طِيبوا عن أنفسكم نفساً، واطمئنّوا للفتنة جأشاً، وأبشِروا بسيفٍ صارم، وهرْج شامل، واستبدادٍ من الظالمين يَدَعُ فيئكم زهيداً، وجمعَكم حَصِيداً؛ فيا حسرةً عليكم، وأنَّى لكم وقد عُمَّيتْ عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون"
وقد ﻛﺎﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ في أثناء مرضه اﻟﺬﻱ ﺗﻮﻓﻲ ﻓﻴﻪ ﺳﺎﺭ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﺑﺸﻲء ﻓﺒﻜﺖ، ﺛﻢ ﺳﺎﺭﻫﺎ ﺑﺸﻲء ﻓﻀﺤﻜﺖ، فسُئلت ﻋﻦ ﺫﻟﻚ, ﻓﻘﺎﻟﺖ: "ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﺃﻧﻪ ﻣﻘﺒﻮﺽ ﻣﻦ ﻭﺟﻌﻪ ﻓﺒﻜﻴﺖ، ﺛﻢ ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﺃﻧﻲ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﻳﻠﺤﻖ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺃﻫﻠﻪ ﻓﻀﺤﻜﺖ".
فلم تلبث إلا بضعة أشهر حتى مرضت، فأوصت الإمام علي أن يدفنها سرا، وهنا ترتسم في الذهن علامة استفهام عريضة عن السبب لهذه الوصية، ليذكر التأريخ في صفحاته الإجابة الكاملة عن هذه الحقيقة, ثم لحقت إلى جوار ربها الكريم، وبذلك ينهدم ركنا الوصي ويكتمل مشهد الحزن العميق الذي خيم على أبي الحسن كما أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا علي كيف بك إذا انهد ركناك؟!".
وبعدما ذهب الأمام علي ليورايها الثرى توجه إلى قبر فاطمة يتمثل كأنه يخاطب النبي الكريم فقال: "اﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻴﻚ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻲ ﻭﻋﻦ اﺑﻨﺘﻚ اﻟﻨﺎﺯﻟﺔ ﻓﻲ ﺟﻮاﺭﻙ ﻭاﻟﺴﺮﻳﻌﺔ اﻟﻠﺤﺎﻕ ﺑﻚ, قلَّ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﻋﻦ ﺻﻔﻴﺘﻚ ﺻﺒﺮﻱ ورقَّ ﻋﻨﻬﺎ ﺗﺠﻠﺪﻱ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻓﻲ اﻟﺘﺄﺳﻲ ﻟﻲ ﺑﻌﻈﻴﻢ ﻓﺮﻗﺘﻚ ﻭﻓﺎﺩﺡ ﻣﺼﻴﺒﺘﻚ ﻣﻮﺿﻊ ﺗﻌﺰ, ﻓﻠﻘﺪ ﻭﺳﺪﺗﻚ ﻓﻲ ﻣﻠﺤﻮﺩﺓ ﻗﺒﺮﻙ ﻭﻓﺎﺿﺖ ﺑﻴﻦ ﻧﺤﺮﻱ ﻭﺻﺪﺭﻱ ﻧﻔﺴﻚ فإنَّا ﻟﻠﻪ ﻭﺇﻧﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﺭاﺟﻌﻮﻥ ﻓﻠﻘﺪ اﺳﺘﺮﺟﻌﺖ اﻟﻮﺩﻳﻌﺔ ﻭﺃﺧﺬﺕ اﻟﺮﻫﻴﻨﺔ ﺃﻣﺎ ﺣﺰﻧﻲ ﻓﺴﺮﻣﺪ, ﻭﺃﻣﺎ ﻟﻴﻠﻲ ﻓﻤﺴﻬﺪ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻳﺨﺘﺎﺭ اﻟﻠﻪ ﻟﻲ ﺩاﺭﻙ اﻟﺘﻲ ﺃﻧﺖ ﺑﻬﺎ ﻣﻘﻴﻢ ﻭﺳﺘﻨﺒﺌﻚ اﺑﻨﺘﻚ ﺑﺘﻀﺎﻓﺮ ﺃﻣﺘﻚ ﻋﻠﻰ ﻫﻀﻤﻬﺎ ﻓﺄﺣﻔﻬﺎ اﻟﺴﺆاﻝ ﻭاﺳﺘﺨﺒﺮﻫﺎ اﻟﺤﺎﻝ ﻫﺬا ﻭﻟﻢ ﻳﻄﻞ اﻟﻌﻬﺪ ﻭﻟﻢ ﻳﺨﻞ ﻣﻨﻚ اﻟﺬﻛﺮ ﻭاﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻴﻜﻤﺎ ﺳﻼﻡ ﻣﻮﺩﻉ ﻻ ﻗﺎﻝ ﻭﻻ ﺳﺌﻢ ﻓﺈﻥ ﺃﻧﺼﺮﻑ ﻓﻼ ﻋﻦ ﻣﻼﻟﺔ ﻭﺇﻥ ﺃﻗﻢ ﻓﻼ ﻋﻦ ﺳﻮء ﻇﻦ ﺑﻤﺎ ﻭﻋﺪ اﻟﻠﻪ اﻟﺼﺎﺑﺮﻳﻦ".
ثم كان يزور قبر النبي الكريم اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ وقبر بضعته الكريمة كل أسبوع وينشد هذين البيتين:
ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﺃﺷﻜﻮ ﻻ ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺎﺱ ﺇﻧﻨﻲ ***ﺃﺭﻯ اﻷﺭﺽ ﺗﺒﻘﻰ ﻭاﻷﺧﻼء ﺗﺬﻫﺐ
ﺃﺧﻼﻱ ﻟﻮ ﻏﻴﺮ اﻟﺤﻤﺎﻡ ﺃﺻﺎﺑﻜﻢ*** ﻋﺘﺒﺖ ﻭﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻮﺕ ﻣﻌﺘﺐ
فصلوات الله عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث يوم الدين