نسبه
هو الإمام الأعظم فاتح باب الجهاد والاجتهاد أبو الحسين زيد بن علي سيد العابدين بن الحسين السبط بن علي بن ابي طالب عليهم السلام, نسب دونه فلق الصباح الأنور، بل شعاع الشمس والقمر، ولله القائل:
آمل أن يعطيني.... ربي أقصى أملي
بحب زيد بن علي.... بن الحسين بن علي
وهو مجدد المائة الأولى.
أمه: أم ولد اسمها جيدا اشتراها المختار بن أبي عبيد بثلاثين ألف درهم، وقال: ما أرى أحداً أحق بها من علي بن الحسين، فبعث بها إليه، وروي أن علي بن الحسين هو الذي اشتراها، ويروى أن زين العابدين كان قد رأى تلك الليلة رسول الله آخذاً بيده فأدخله الجنة فزوجه حوراء قال: فواقعتها فعلقت فصاح بي رسول الله : يا علي، سم المولود منها زيداً، قال: فما قمنا حتى أرسل المختار بأم زيد.
مولده عليه السلام
ولد عليه السلام سنة (75)هـ, وحين قرعت البشرى سمع زين العابدين بولادته قام فصلى ركعتين شكراً لله، ثم أخذ المصحف مستفتحاً لاختيار اسم مولوده، فخرج في أول السطر قول اللّه تعالى: ((وَفَضَّلَ اللّه المُجَاهِدِيْنَ عَلَى القَاعِدِيْنَ أَجْراً عَظِيْماً))، فأطبق المصحف، ثم قام وصلى ركعات، ثم فتح المصحف، فخرج في أول السطر: ((وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ قُتِلُوْا فِيْ سَبِيْلِ اللّه أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُوْنَ))، ثم قام وركع، ثم أخذ المصحف وفتحه فخرج في أول سطر: ((إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنْ المُؤْمِنِيْنَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللّه فَيَقْتُلُوْنَ وَيُقْتَلُوْنَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِيْ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيْلِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه فَاسْتَبْشِرُوْا بِبَيْعِكُمُ الَّذِيْ بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيْمُ))، وبعد ذلك أطبق زين العابدين المصحف وضرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، عُزِّيت في هذا المولود، إنه زيد ..أما واللـه ما أجد من ولد الحسين في يوم القيامة أعظم منه وسيلة، ولا أصحاباً آثر عند اللّه من أصحابه، وقامَ عليه السلام بالتأذين في أذنه اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى، وعوَّذه بالله من الشيطان الرجيم.
أولاده:
للإمام زيد (ع) أربعة من الأولاد وهم: الإمام يحيى بن زيد وليس له عقب، وعيسى، ومحمد، والحسين، وأعقب هؤلاء الثلاثة من ولده عليهم السلام، وكلهم علماء من أفاضل أهل بيت النبوة.
صفته:
كان عليه السلام أبيض اللون، أعين، مقرون الحاجبين، تام الخلق، طويل القامة، كث اللحية، عريض الصدر، أقنى الأنف، أسود الرأس واللحية، إلا أن الشيب خالط في عارضيه.
وكان يشبَّه بأمير المؤمنين في الفصاحة، والبلاغة، والبراعة، قال خالد بن صفوان: انتهت الفصاحة، والخطابة، والزهادة، والعبادة من بني هاشم إلى زيد بن علي عليه السلام، وكان يعرف في المدينة: بحليف القرآن.
بعض الآثار الواردة فيه:
جاء فيه على لسان جده رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله العديد من الآثار، منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر يوماً إلى زيد بن حارثة فبكى وقال: ((المقتول في اللّه المصلوب من أمتي المظلوم من أهل بيتي سمي هذا)) وأشار إلى زيد بن حارثة، ثم قال: (( أدن مني يا زيد زادك اسمك عندي حباً فإنك سمي الحبيب من ولدي زيد)).[الإمام المرشد بالله, الأمالي الإثنينية ج1/ ص554● ابن عساكر, تأريخ دمشق ج19/ ص458● المتقي الهندي, كنز العمال ج13/ ص398]
ورُوي عن أبي جعفر محمد بن علي، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، أنه قال للحسين: ((يخرج من صلبك رجل يقال له: زيد، يتخطى هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس غراً محجلين، يدخلون الجنة أجمعين بغير حساب)).[الإمام الموفق بالله, الاعتبار ص391● أبو الفرج الأصفهاني, مقاتل الطالبيين ج1/ ص104]
ومما روى الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: أخبرني أبي، قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه سيخرج مني رجل يقال له زيد، فينتهب ملك السلطان، فيقتل، ثم يصعد بروحه إلى السماء الدنيا، فيقول له النبيون: جزى الله نبيك عنا أفضل الجزاء، كما شهد لنا بالبلاغ، وأقول أنا: أقررت عيني يا بني وأديت عني)).[الإمام الهادي إلى الحق, مجموع رسائل الإمام الهادي, ج1/ ص72]
وخطب أمير المؤمنين على منبر الكوفة، فذكر أشياء وفتناً، حتى قال: (ثم يملك هشام تسع عشرة سنة، وتواريه أرض رصافة، رصفت عليه النار، مالي ولهشام جبار عنيد، قاتل ولدي الطيب المطيب، لا تأخذه رأفة ولا رحمة، يصلب ولدي بكناسة الكوفة، (زيد) في الذروة الكبرى من الدرجات العلى، فإن يقتل زيد، فعلى سنة أبيه، ثم الوليد فرعون خبيث، شقي غير سعيد، يا له من مخلوع قتيل، فاسقها وليد، وكافرها يزيد، وطاغوتها أزيرق.. إلى آخر كلامه).الإمام المنصور بالله, الشافي, ج1/ ص400]
نشأته عليه السلام
نشأ في ظل والده السجّاد قرابة (19) عاماً ينهلُ من علمه ومعارفه، وعندما توفى والده انتقل؛ ليعيش تحت رعاية أخيه الباقر، مواصلاً الطريق في طلب العلم، بهمة ليس لها مثيل حتى أصبح فارس هذا الميدان، لا يجارى ولا يبارى وانتهت إليه معارف آباءه وأجداده، وأصبح يعلم ما لا يعلم غيره.
حليف القرآن
اعتكف الإمام زيد عليه السلام مع القرآن ما يقارب (13) سنة، حتى اشتهر بحليف القرآن، قال أبو الجارود: دخلت المدينة وكلما سألت عن زيد بن علي قيل لي: ذلك حليف القرآن.
ويروى أنه عليه السلام طلب من أخيه محمد الباقر كتاباً كان لجده علي عليه السلام، فنسي أبو جعفر الباقر مدة من الزمن، ثم تذكر فأخرجه إليه، فقال له زيد: قد وجدت ما أردت منه في القرآن!! فأراد أبو جعفر أن يختبره وقال له: فأسألك؟ قال زيد: نعم، سلني عما أحببت ففتح أبو جعفر الكتاب وجعل يسأل، وزيد يجيب كما في الكتاب فقال أبو جعفر: (بأبي أنت وأمي يا أخي أنت والله نَسِيْج وحدك، بركةُ اللّه على أم ولدتك، لقد أنجبت حين أتت بك شبيه آبائك ). قال الإمام زيد: (واللـه لا تأتونني بحديث تصدقون فيه إلا أتيتكم به من كتاب اللّه).
عبادته عليه السلام
وكما ورث آباءه علما فقد ورثهم عبادة وزهدا، قال الإمام يحيى بن زيد عليه السلام واصفاً عبادة والده: رحم اللّه أبي كان أحد المتعبدين، قائم ليله صائم نهاره، كان يصلي في نهاره ما شاء اللّه فإذا جن الليل عليه نام نومة خفيفة، ثم يقوم فيصلي في جوف الليل ما شاء اللّه، ثم يتوجه قائماً على قدميه يدعو اللّه تبارك وتعالى ويتضرع له ويبكي بدموع جارية حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر سجد سجدة، ثم يصلي الفجر، ثم يجلس للتعقيب حتى يرتفع النهار، ثم يذهب لقضاء حوائجه، فإذا كان قريب الزوال أتى وجلس في مصلاه واشتغل بالتسبيح والتحميد للرب المجيد، فإذا صار الزوال صلى الظهر وجلس، ثم يصلي العصر، ثم يشتغل بالتعقيب ساعة ثم يسجد سجدة، فإذا غربت الشمس صلى المغرب والعشاء، وقال الإمام الكامل عبدالله بن الحسن عليه السلام: (كانَ زيد بن علي إذا قرأَ آيةَ الخوف ، مادَ كما تميدُ الشجرةُ من الريح في اليوم العاصف، ولَم أرَ فينا ولا في غيرنا مثله).
وأما عن زهده وورعه فهو يقول عن نفسه: (واللـه ما كذبت كذبة منذ عرفت يميني من شمالي، ولا انتهكت لله مَحْرَماً منذ عرفت أن اللّه يعاقب عليه).
اهتمامه بأحوال المسلمين
من الصفات التي تميز بها الإمام زيد حرقته لأوضاع الناس واهتمامه بأحوالهم يقول أخوه الحسين بن علي بن الحسين عليهم السلام: (كانَ أخي زيد بن علي يُعَظِّمُ ما يأتِيه أهلُ الجور وما يكونُ مِن أعمالهم فيقول: " والله ما يدعني كتابُ ربي أنْ أَكُفَّ يدي، والله ما يَرضَى الله من العارفينَ به أن يَكُفُوا أيديَهُم وأَلْسِنَتَهُم عَنْ المُفسدينَ في أرضِه").
منزلته عليه السلام
يتبين للمطلع على سيرة الإمام زيد عليه السلام أنه قد فاق أقرانه، وصار أوحد عصره علماً وفضلاً وزهداً وعبادة وجهاداً وسعياً في إصلاح حال الأمة الإسلامية، بل يتبين له أنه أعظم شخصية إسلامية بعد الأنبياء والوصي والحسنين، ويتأكد ذلك من خلال الآثار التي وردت فيه على لسان جده النبي وأبيه الوصي، بالإضافة إلى شهادات فضلاء وأئمة أهل البيت عليهم السلام وغيرهم من علماء وفضلاء الأمة الإسلامية.
روى الحافظ أبو عبدالله العلوي بسنده عن أبي حمزة الثمالي أنّه قال: قال أبو جعفر- أي الباقر-: (لا والله الذي لا إله إلاّ هو، ما خَرَجَ فينا أهل البيت ناسٌ أشبهُ بعلي بن أبي طالب منه يعني من زيد بن علي).
روى الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام عن محمد بن علي بن الحسين باقر العلم أنَّ قوماً وَفَدُوا إليه فقالوا: يا ابن رسول الله إنَّ أخاكَ زيداً فينا وَهُوَ يسألُ البيعة، أفَنُبايعُهْ؟ فقال لهم محمد: (بايعوه فإنّه اليومَ أفضَلُنا).] الإمام الهادي، مجموع رسائله، ج1/ ص104]
قال جعفر الصادق عليه السلام لأحد أصحابه: (لا أظنك ترى فينا أحداً مثله إلى أن تقوم الساعة).
قال الإمامُ جعفرُ الصادق: (برئ اللهُ ممّن برئ من عمّي زيد، كان والله أقرأُنا لكتاب الله، وأفقهُنا في دين الله وأوصلُنا للرحم، والله ما ترك فينا لدينا ولا لآخرة مثله).
عن عبدالله بن الحسن بن الحسن أنه قال: (اللهم إنّي أُشهِدُكَ وحَمَلَةَ عرشك وملائكتك ومَنْ حَرَني مِنْ خَلْقِكْ، أنَّي أتولّى زيد بن علي وأبرأُ إليكَ ممن برئَ منه وأصحابه، مضىَ واللهِ زيد ما خلفَ فينا لدين ودنيا مثله(.
الإمام الكامل عبدالله بن الحسن: ( العلم بيننا وبين الناس وبين الناس علي بن أبي طالب، والعلم بيننا وبين الشيعة زيد بن علي).
الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الجرجاني بسنده عن قاسم بن إبراهيم أنّه قال: حدّثني عبدالله بن موسى الكاظم عن أبيه أنّه قال: (كانَ زيد بن علي خير ولد فاطمة صلوات الله عليها). ] المرشد بالله، الأمالي الإثنينية، ج1/ ص571].
الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام في كتاب معرفة الله عن محمد بن الحنفية أنّه قال: ( سيُصلَبُ منَّا رجلٌ يُقالُ له زيد بن علي في هذا الموضع - يعني موضعاً يُقالُ له الكنائس - لم يسبقهُ الأولون ولا الآخرون فضلاً). [الإمام الهادي، مجموع رسائله، ج1/ ص103].
عبدالله بن محمد بن الحنفية أنّه قال: ( لو نزلَ عيسى بن مريم لأخْبَرَكُم أنَّ زيد بن علي خيرُ من وَطِئَ على عفر التراب).
أبو حنيفة النعمان: (شاهدتُ زيداً بنَ علي، فما رأيتُ في زمانه أفقهَ منه ولا أعلمَ ولا أسرعَ جواباً ولا أبْينَ قولاً، لقد كان منقطعَ النظير، ولقد ضاهى خروجُه خروجَ رسول الله في بدر).
المحدث الكبير سليمان بن مهران الأعمش حيث يقول: (ما رأيت فيهم ـ يعني أهل البيت ـ أفضل منه ولا أفصح ولا أعلم).
عامر شرحبيل الشعبي: (ما ولد النساء أفضل من زيد بن علي، ولا أفقه، ولا أشجع، ولا أزهد).
سفيانُ الثوري: (قام مقام الحسين بن علي وكان أعلمَ خلق الله بكتاب الله، والله ما ولدت النساءُ مثله).
الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية عليه السلام: (أما والله لقد أحيا زيد ما اندثر من سنن المرسلين، وأقام عمود الدين إذ أعوج، ولن نقتبس إلا من نوره، وزيد إمام الأئمة).
الإمام أبو طالب في كتاب الديانة: (وكثير من معتزلة بغداد كمحمد بن عبدالله الإسكافي وغيره ينسبون إليه في كتبهم، ويقولون: نحن زيدية وحسبك في هذا الباب انتساب المعتزلة إليه مع أنها تنظر إلى الناس بالعين التي ينظر بها ملائكة السماء إلى أهل الأرض مثلاً، فلولا ظهور علمه وبراعته وتقدمه على كل أحد في فضيلته لما انقادت له المعتزلة).
الإمام زيد وواصل بن عطاء
من الأخطاء التي يرددها البعض جهلاً والبعض الآخر عمداً للتشكيك في الإمام زيد عليه السلام خصوصاً ومنهج أهل البيت عموماً، قولهم أن الإمام زيداً عليه السلام تتلمذ على يد واصل بن عطاء كبير المعتزلة، وهذا القول لا شك أنه عارٍ من الصحة، ليس لأجل واصل بن عطاء شخصياً، بل لأن الواقع لا يصدقه، وإليك بعض الملاحظات التي تكشف عدم صوابية ذلك القول:
أولاً: الإمام زيد عليه السلام ولد في المدينة المنورة في بيت النبوة، ونشأ في أحضان والده الإمام زين العابدين علي بن الحسين أعلم أهل زمانه، وأخيه الأكبر باقر العلم الإمام محمد بن علي، ودرس وتعلم على يديهما، وبلغ من العلم والمعرفة ما فاق به أقرانه كما تقدم، وغدى قبلة يرجع إليها في حل المعضلات، فما الذي يحوجه إلى التتلمذ على يد واصل بن عطاء؟!
ثانياً: واصل بن عطاء نفسه جاء يستفسر الإمام زيداً عن مسألة الخلافة، وأسئلة واصل للإمام زيد موجودة ضمن رسائل الإمام زيد عليه السلام.
ثالثاً: المروي أن واصل بن عطَاء وعمرو بن عُبيد من المبايعين للإمام زيد بن عَلي.
رابعاً: من المعلوم أن الإمام زيداً أكبر سناً من واصل بسنوات، إذ كانت ولادته عليه السلام سنة 75هـ على أصح الأقوال, بينما ولادة واصل بن عطاء سنة (80)هـ، وصحيح أن بعض كتب الطبقات والتراجم ذكرت أن ولادة الإمام زيد كانت في سنة (80)هـ وهو أبعد تقدير، فعليها فهما متساويان في العمر، وهذا يجعل من البعيد كثيرا أن يتتلمذ الإمام زيد على يد واصل.
خامساً: نجد في كتب المعتزلة أنهم جعلوا الإمام زيد بن علي في الطبقة الثالثة، وجعلوا واصل بن عطاء في الطبقة الرابعة وهذا يدل أن المعتزلة نفسهم لا يعتقدون أن الإمام زيداً عليه السلام درس عند واصل، ولو علموا ذلك لافتخروا به ولما غفلوا عنه.
سادساً: ومما يدحض صحة هذا القول – أيضاً- أن أهل الحديث الذين ترجموا لزيد بن علي لم يذكروا أنه تتلمذ على يد واصل بن عطاء.
سابعاً: فقد سبق وأن نقلنا أن كثيراً من المعتزلة كانوا ينتسبون للإمام زيد وليس العكس.
ثامناً: المروي أن واصل بن عطاء درس على يد عبدالله بن محمد بن علي، وعبدالله بن محمد درس على يد أبيه محمد بن الحنفية، ومحمد بن الحنفية درس على يد الإمام علي بن أبي طالب، فعلم واصل بن عطاء في الأصل مقتبس من أهل البيت، فكيف يحتاج الإمام زيد إلى التتلمذ على يد واصل، وهو من أهل البيت بل أعلمهم.
نعم حصل اجتماع بين الإمام زيد مع واصل بن عطاء، واستفسر من الإمام زيد، ويظهر أنهما تناقشا العلم وبعض المسائل، فكانت أفكارهما في مسائل العقيدة متقاربة؛ بسبب أن المنهل الذي يلتقي فيه علمهما هو علي بن أبي طالب.
ثورة الإمام زيد
لم تكن ثورة الإمام زيد عليه السلام وليدة لحظتها, ولا ردة فعل متشنجة, ولا تهور غير مدروس العواقب, بل كانت أوضاع الناس وأحوال المسلمين تضيق على الإمام زيد (ع) القيام بالثورة؛ لأن بني أمية قد حرفوا حركة الإسلام عن مسارها النبوي, وهنا سنقف على شرح بعض أحوال العالم الإسلامي قبيل قيام الثورة:
الوضع الديني والعقائدي
على الصعيد الديني والعقائدي وطد بنو أمية حكمهم وملكهم بتحريف عقيدة الناس وأفكارهم, فجاؤوا بعقيدة الجبر والإرجاء، وتقديس ولي الأمر ووجوب طاعته، حتى لو كان ظالماً يجلد ظهرك ويفري لحكمك, ووظفوا لنشر هذه الأفكار علماء السلطان, ولقد بلغ الأمر بأحد ولاتهم، وهو الحجّاج بن يوسف الثقفي أن يخطب أمام الجماهير قائلاً: رسولك أفضل أم خليفتك؟ يريد بذلك أن عبد الملك بن مروان أفضل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وأجبروا الناس باعتقاد تلك الأقوال, تعاملوا بالصرامة والقتل والتعذيب لكل من خالفهم في الرأي، ومن أمثلة ذلك ما مارسه الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك مع غيلان الدمشقي والجعد بن درهم.
أما الجعد بن درهم فلما أنكر أن يكون القرآن أزليا وقال بأنه محدث، أخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري، وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فحبسه خالد، فلما صلى صلاة العيد, يوم الأضحى قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا يقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم.
أما غيلان الدمشقي, فقد ذكر المؤرخون أن غيلان كان يقول أن معاصي العباد منهم, وليست من الله, فأمر هشام بضربه مع أحد رفقائه سبعين جلدة, ثم أمر هشام بإخراج ألسنتهما من أقفيتهما، فلم يلبثا أن ماتا، ثم ألقيا على مزبلة يراهما الناس مصلوبين.
الوضع المعيشي والاجتماعي
وأما على الصعيد المعيشي والاجتماعي، فبدلاً من أن يعملوا على إصلاح أحوال الناس ومعيشتهم، ويخففوا من معاناتهم، أصبحت مهمتهم الأساسية وشغلهم الشاغل جمع الثروات والأموال، ما أدى إلى حرمان الكثير من عامة الناس من أبسط مقومات الحياة, مع الحاجة الشديدة التي كانت تعصف بالسواد الأعظم من الرعية, ولقد روى التاريخ صوراً عن ثراء خلفاء بني أمية عموماً وثراء الطاغية هشام, وعبثه, وغناه الفاحش على وجه الخصوص, فقد جمع من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبله.
يصف أحد من وفد على هشام عرشه فيقول: في دار قوراء مفروشة بالزحام، وهو في مجلس مفروش بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب ذهب وحيطانه كذلك، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب خز حمر، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب يقلبه بيده فتفوح روائحه.
وهنا مثال لفحش هشام بن عبد الملك, فحين علم أن أحد أولاده كان مولعاً بالفاحشة، وكان قد ولاه حمص فقدم إليه أهلها يشكون فحشه, فعزله عن عمله، وقال له: أيزني القرشي؟ أتدري ما فسق القرشي وفجوره؟ إنما هو أن تأخذ مال هذا فتعطيه هذا، وتقتل هذا وتأخذ مال هذا, وهذا تحريض من هشام لولده بأخذ أموال الناس وقتلهم, واعتراف بما كان بنو أمية عليه من الظلم والفساد.
الوضع العام
سنلخص الوضع العام التي كانت تعيشه الأمة في عناوين عامة تكشف بعض جرائم بني أمية:
وقعة الحرة وقتل (10000) من أهل المدينة واغتصاب (1000) امرأة.
هدم الكعبة.
قتل سعيد بن جبير وخيار التابعين وأبناء الصحابة.
قتل كل من يحب أهل البيت.
سب أمير المؤمنين على المنابر.
تعاطي الخمر ومعاقرته جهاراً نهاراً.
جلب المغنيين والمغنيات وتشجيعهم وإهدار أموال المسلمين فيه المنكرات.
الاستهانة بالمقدسات الإسلامية, ومن أمثلة ذلك:
*أن الإمام زيداً عليه السلام دخل على هشام وفي مجلسه يهودي يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانتهره الإمام زيد وقال: يا كافر أما والله لئن تمكنت منك لأختطفن روحك، فقال هشام: مه يا زيد لا تؤذِ جليسنا. فخرج زيد عليه السلام، وهو يقول: من استشعر حب البقاء استدثر الذل إلى الفناء.
* وفي يوم من أيام المواجهة ظهر رجل من أهل الشام من كلب على فرس رائع، فلم يزل شاتما لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، فجعل زيد يبكي حتى ابتلت لحيته وجعل يقول: أما أحد يغضب لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله؟ أما أحد يغضب لرسول الله صلى الله عليه وآله؟ أما أحد يغضب لله؟
الإمام زيد ومعاناة الأمة
أدرك الإمام زيد عليه السلام المعاناة التي تعيشها الأمة، وخطورة الوضع التي وصلت إليه، فكان كثير التحسر على حالها، مستشعراً لضرورة التحرك للإصلاح فيها حتى لو أدى ذلك إلى استشهاده، وهو ما عبر عنه الإمام زيد في عدة مقامات:
قال الإمام زيد بن علي عليه السلام يوماً لأحد أصحابه: (والله لوددت أن يدي ملصقة بالثريا، ثم أقع منها حيث أقع، فأتقطع قطعة قطعة, ويصلح الله بذلك أمر أمة محمد).
ويقول: (كيف لي أن أسكن، وقد خولف كتاب الله، وتحوكم إلى الجبت والطاغوت، والله لو لم يكن إلا أنا وابني يحيى لخرجت وجاهدت حتى أفنى).
وكيف له مع فضله وعلمه أن يترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الذي ما فتئ يحث عليها في كتبه ومراسلاته للعلماء، لا سيما أن سكوته يعني اندثار هذه الفريضة العظيمة، وانطماس الكثير من معالم الدين.
سبب ثورة الإمام زيد
لقد صرح الإمام زيد بن علي عليه السلام في الكثير من المواضع بالأسباب التي دعته للخروج والثورة، وهي في الجملة لا تخرج عن الأسباب التي خرج لأجلها جده الإمام الحسين عليه السلام، وتجتمع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال عليه السلام حين خفقت رايات الجهاد: (والله ما يسرني أني لقيت محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم آمر في أمته بمعروف، ولم أنههم عن منكر، والله ما أبالي إذا قمت بكتاب الله وسنة نبيه أنه تأجج لي نار، ثم قذفت فيها، ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة الله).
وقال عليه السلام مُخاطباً علماء الأمة: (قد ميزكم اللّه تعالى حق تمييز، ووسمكم سِمَة لا تخفى على ذي لب، وذلك حين قال لكم: ﴿وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُوْنَ باِلمعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيْمُوْنَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوْنَ الزَّكَاةَ وَيُطِيْعُوْنَ اللَّهَ وَرَسُوْلَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ﴾، فبدأ بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بفضيلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عنده، وبمنزلة القائمين بذلك من عباده ... واعلموا أن فريضة اللّه تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أقيمت له استقامت الفرائض بأسرها، هينها وشديدها).
قال عليه السلام حين شاهد امرأة تأكل من بقايا الطعام: (من أجل هذه كان خروجي).
ويقول في خطبة له: (أيها الناس إن لكم علي أن لا أضع حجراً على حجر، ولا أكري نهرا، ولا أكثّر مالا، ولا أعطيه زوجة ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلدة إلى بلدة حتى أسد ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل فضلة نقلتها إلى البلد الذي يليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم؛ وأن لكم أعطياتكم عندي في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم).
احتوت بنود بيعته على عدة أمور تدل أنه كان يولي إقامة العدالة الاجتماعية اهتماماً كبيراً كما سيأتي نص بيعته.
الثورة الفكرية
لقد أخذت ثورة الإمام زيد عليه السلام مسارين، مسار فكري ومسار عسكري, فبدأ أولاً بالتحرك في المسار الفكري, فتحرك في أوساط الأمة ثقافياً وفكرياً, لمواجهة الأفكار الضالة التي حاول بنو أمية نشرها بين المسلمين كما تقدم بيانه, فعمل بداية على نشر العلم وتدريسه.
فكان له العديد من الطلبة الذين تعلموا على يديه وساهموا في نشر العلم والمعرفة الصحيحة، والذين أصبحوا فيما بعد من علماء الإسلام المشاهير، أمثال الإمام يحيى بن زيد، والإمام عيسى بن زيد، والحسين بن زيد، والإمام جعفر الصادق، والإمام عبد الله بن الحسن الكامل، وأبي خالد الواسطي، وأبي حنيفة النعمان، وشعبة بن الحجاج العتكي، ومنصور بن المعتمر، وثابت بن دينار الثمالي، وجابر بن يزيد الجعفي، وسلمان بن مهران الأعمش، وغيرهم كثير.
قام بتأليف الكثير من الكتب والرسائل منها رسالته المشهورة الى علماء الأمة، والتي فيها: ( إنما تصلح الأمور على أيدي العلماء، وتفسد بهم إذا باعوا أمر اللّه تعالى ونهيه بمعاونة الظالمين الجائرين)، ومن أشهر مؤلفاته: المجموع الفقهي والحديثي- ومجموع رسائل الإمام زيد- وتفسير غريب القرآن.
عقد العديد من اللقاءات والنقاشات مع العلماء, ولم يترك فرصة إلا واستغلها؛ لتبيين الحق وإزهاق باطل بني أمية.
الالتقاء بالناس في مواسم الحج, وفي أثناء زيارة المدينة المنورة من القادمين من مختلف الأمصار, ومن الأمثلة على ذلك:
ما روي أن عزيزة بنت زكريا بن أبي زائدة قالت: سمعت أبي يقول: لما حججت مررت بالمدينة، فقلت: لو دخلت على زيد بن علي بن الحسين فسلمت عليه، فدخلت عليه فسمعته يتمثل بأبيات وهو يقول:
ومن يطلب المال الممنع بالقنا
يعش ماجدا أو تخترمه المخارم
متى تجمع القلب الذكي وصارما
وأنفا حميا تجتنبك المظالم
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم
فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم
فخرجت من عنده فمضيت فقضيت حجتي، ثم انصرفت إلى الكوفة، فبلغني قدومه فأتيته فسلمت عليه وسألته عما قدم له، فأخبرني بكتب من كتب إليه يسأله القدوم عليه، فأشرت عليه بالانصراف، فلحقه القوم فردوه.
دخل زيد بن علي مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصف النهار، في يوم حار من باب السوق، فرآه سعد بن إبراهيم في جماعة من القرشيين قد حان قيامهم، فأشار إليهم فقال لهم سعد بن إبراهيم: هذا زيد يشير إليكم فقوموا له، فجاءهم فقال: أي قوم أنتم أضعف من أهل الحرة، فقالوا: لا، فقال: فأنا أشهد أن يزيدا ليس شرا من هشام بن عبد الملك فما لكم؟ فقال سعد لأصحابه: مدة هذا قصيرة. فلم ينشب أن خرج فقتل.
قال محمد بن يحيى بن عبد الكريم بن شعيب الحجبي: أقبل زيد بن علي بن حسين، فدخل المسجد وفيه نفر من قريش قد لحقتهم الشمس في مجلسهم، فقاموا يريدون التحول، فلما توسط زيد المسجد، خاف أن يعوقوه فحصبهم فوقعوا، فقال لهم: أقتل يزيد بن معاوية حسين بن علي؟ قالوا: نعم، قال: ثم مات يزيد؟ قالوا: نعم، قال: فكأن حياة بينهما لم يكن. قالك فعلم القوم أن زيداً يريد أمرا.
فرض عليه هشام في دمشق إقامة إجبارية, لمدة (5) أشهر, فجعل من سجنه مدرسة لتعليم السجناء أمور الدين وتوضيح معالم الإسلام الصحيحة, فعن أبي غسان الأزدي قال: قدم علينا زيد بن علي إلى الشام أيام هشام بن عبدالملك, فما رأيت رجلاً كان أعلم بكتاب الله منه, ولقد حبسه هشام خمسة أشهر يقص علينا ونحن معه في الحبس بتفسير الحمد وسورة البقرة يهذو ذلك هذا.
المناظرات التي كانت بينه وبين مخالفيه, حتى من العلماء المحسوبين على السلطة الأموية، ففي أثناء بقائه في الشام اتفق علماؤها على رجل منهم قد انقاد له أهل الشام في البلاغة والبصر بالحجج، فجمعوا بينه وبين زيد بن علي، وعند المناظرة تكلم الشامي واعتمد على أن الجماعة هم حجة اللّه على خلقه، وأن أهل القلة هم أهل البدع والضلالة، وأنه لم تكن جماعة إلا كانوا هم أهل الحق، حتى قتل عثمان فخرج علي بن أبي طالب باغياً مفرقاً للجماعة، حتى هاجت الفتنة فاقتتلوا حتى رُدَّ هذا الأمر إلى أهل بيت هذا الخليفة المظلوم عثمان - يعني بني أمية- قال خالد بن صفوان: فحمد اللّه زيد بن علي وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم تكلم بكلام ما سمعنا قرشياً ولا عربياً، أبلغ في موعظة، ولا أوضح حجة، ولا أفصح لهجة منه, ثم إن الإمام زيداً ذكر لهم جميع ما يتعلق بالقلة والكثرة من الآيات القرآنية، فإذا هي تمدح القلة وتذم الكثرة.
قال خالد بن صفوان: فبئس الشامي فما أحلى ولا أمر، وسكت الشاميون فلم يجيبوا لا بقليل ولا بكثير، ثم قاموا من عنده، فلما خرجوا قالوا لصاحبهم: فعل اللّه بك وفعل، عزرتنا وزعمت أنك لا تدع له حجة إلا كسرتها فخرست فلم تنطق! قال: ويلكم كيف أكلم رجلا إنما حاجني بكتاب اللّه؟ فلم أستطع أن أكذب كتاب اللّه.
قال عطاء بن أبي سلمة: فكان خالد بن صفوان يقول بعد ذلك: ما رأيت رجلا قرشياً ولا عربياً يزيد في العقل والحجج والخير على زيد بن علي.
المسند أول كتاب حديثي
مجموع الإمام زيد بن علي عليه السلام الحديثي والفقهي، والذي حوى ستمائة وسبعة وثمانين خبرا، ما بين حديث نبوي وأثر علوي، غير ما ذكر فيه من أقوال وآراء الإمام زيد عليه السلام الفقهية، يعتبر هذا المجموع أقدم وأول مدونة في الحديث والفقه، جمعه ووطأه الإمام زيد عليه السلام بنفسه، ورواه عنه تلميذه النجيب أبو خالد الواسطي، والذي يظهر من خلال الرواية الآتية أن أبا خالد الواسطي إنما قام ببعض الترتيب لأبواب هذا المجموع، وأما الجمع والتدوين فقد كان من الإمام زيد عليه السلام بنفسه.
قال ﻧﺼﺮ ﺑﻦ ﻣﺰاﺣﻢ اﻟﻤﻨﻘﺮﻱ: ﺳﻤﻌﺖ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎﺏ ﻣﻦ ﺃﺑﻲ ﺧﺎﻟﺪ اﻟﻮاﺳﻄﻲ ﻋﻠﻰ ﻏﻴﺮ ﻫﺬا اﻟﺘﺄﻟﻴﻒ ﺇﻧﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﻤﻠﻲ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻣﺎ ﻛﺘﺒﻨﺎﻩ ﺇﻣﻼء، ﻓﺄﻣﺎ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎﺏ اﻟﺬﻱ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻤﺎﻡ ﻓﻠﻢ ﻳﺮﻭﻩ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﺧﺎﻟﺪ ﻋﻦ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻦ ﺃﺑﻴﻪ ﻋﻦ ﺟﺪﻩ ﻋﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻼﻡ ﻏﻴﺮ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺑﻦ اﻟﺰﺑﺮﻗﺎﻥ, ﻗﺎﻝ: ﺣﺪﺛﻨﻲ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎﺏ ﺃﺑﻮ ﺧﺎﻟﺪ، ﻋﻦ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ، ﻋﻦ ﺃﺑﻴﻪ، ﻋﻦ ﺟﺪﻩ، ﻋﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻼﻡ، ﻭﻛﺎﻥ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺑﻦ اﻟﺰﺑﺮﻗﺎﻥ ﻣﻦ ﺧﻴﺎﺭ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻭﻛﺎﻥ ﺧﺎﺻﺎ ﺑﺄﺑﻲ ﺧﺎﻟﺪ, ﻗﺎﻝ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ: ﺳﺄﻟﺖ ﺃﺑﺎ ﺧﺎﻟﺪ ﻛﻴﻒ ﺳﻤﻌﺖ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎﺏ ﻣﻦ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ؟ ﻗﺎﻝ: ﺳﻤﻌﻨﺎﻩ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺏ ﻣﻌﻪ ﻗﺪ ﻭﻃﺄﻩ ﻭﺟﻤﻌﻪ ﻓﻤﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﻣﻤﻦ ﺳﻤﻌﻪ ﺇﻻ ﻗﺘﻞ ﻏﻴﺮﻱ.
ويرجع تأريخ تدوين مجموع الإمام زيد الحديثي والفقهي تقريبا إلى أواخر القرن الهجري الأول وبدايات الثاني، ولم يكن هناك في هذه الفترة أحد قد جمع مدونة في الحديث غير الإمام زيد "ع"، حيث أن أقدم المدونات في الحديث بعد مجموع الإمام زيد هو موطأ مالك، والذي يرجع تأريخ تدوينه إلى منتصف القرن الثاني الهجري تقريبا، وهو ما يعني تأخره عن مسند الامام زيد عليه السلام بحوالي نصف قرن, إذ يروى أن الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر الدوانيقي هو من ألزم مالكا أن يعمل مدونة في الحديث لكي يحمل الناس عليها ويفرضها على المجتمع بقوة سلطانه فوضع الموطأ.
التهيئة للثورة
عاش الامام زيد عليه السلام حياته في المدينة المنورة، وفي المدة الأخيرة تعرض للكثير من المضايقات من قبل واليها خالد بن عبدالملك بن الحارث، وكان تحت المراقبة الشديدة، لكن لم يمنعه ذلك من المضي في مشروعه.
روي أنه جمع مرة مجموعة من أهل البيت قائلا لهم: (وقد أتاني بعض من أعرف إخلاصه ودينه من أهل العراق يدعوني للخروج إلى العراق والالتقاء بعلمائه، لعل الله يجمع شتاتهم بنا.. وأنا أرى أن نخرج إلى العراق لزيارة قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام والحسين بن علي عليه السلام وأصحابهم.. ومحاورة العلماء العراقيين والإصلاح ما استطعنا).
خروجه إلى الكوفة
وصل الإمام زيد عليه السلام إلى العراق وحضي باستقبال مهيب والتقى بعلمائه وتعرف الأخبار هناك, كتهيئة للثورة والتعرف عن كثب على مدى توفر ظروف انطلاقة الثورة ونجاحها, ثم عاد إلى المدينة وضيق عليه الخناق أكثر.
عودة الإمام إلى مدينة جده
عاد الإمام عليه السلام مع أصحابه إلى مدينة جده رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، ولكن ذلك لم يرق لواليها الأموي، فبعد أن كتب إليه هشام: ((إن زيداً قد أفسد عليك المدينة))، استغل بعض الخلافات بين الإمام زيد(ع) وبين بعض بني عمومته، فأراد أن يؤجج ذلك الخلاف السطحي ليجعل منه فتيل فتنة تثور بين طرفين كلاهما يشكل مصدر رعب وقلق لسلاطين الجور، فيكون كما يقال: (يضرب عصفورين بحجر)، فيقف موقف المتفرج والناصح ويكفى المؤنة, ولكنهم تنبهوا لذلك، فقدموا مشهداً عظيماً في التنازل والإيثار..... بعدها اشتدت الضغوطات والمضايقات من والي المدينة على المستضعفين وعلى الإمام وأهل بيته عليهم السلام.
رحلة الإمام من المدينة إلى الشام
بعد أن واجه الإمام زيد(ع) المضايقات من والي هشام في المدينة المنورة قرر أن يخرج إلى الشام ليُسمع طاغيتها هشام كلمة الحق, وصيحة الصدق, وقبل مغادرته المدينة ذهب ليودع قبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, جاء إلى المسجد النبوي وصلى ما شاء الله، ثم وقف مبتهلاً، فقال: اللَهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أني مُكْرَهٌ مَجْبُورٌ مضطرٌ غيرُ مختارٍ، ولا مالك لنفسي، اللَهُمَّ واكفني كَيْدَهُ وألبِسْنِي جُبَّةَ عِزٍّ لكيلا أخشعَ لسلطانِه، ولا أرهب من جنوده، اللَهُمَّ وابسُط لِساني عليه بإعزازِ الحقِّ ونُصْرَتِه، كي أقولَ قولَ الحقِّ ولا تأخُذنِي لومةُ لائم، ولا إذلالُ الجبَّارِين، اللَهُمَّ واجْمَعْ قَلْبِي عَلَى هِدَايتِكَ، وأرني من إِعزازِكَ إياي ما يَصْغُرُ به عندي مُلْكُه، وتَذِلُّ لي نَخْوَتُه، اللَهُمَّ فاطْرَحِ الهيبة في قَلْبِه وذَلِّلْ لي نفسه، واحْبِسْ عَنِّي كَيْدَهُ.
الوداع الأخير لقبر الرسول
ثم أتى قبرَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فصلى إلى جَنْبِه، ثم انصرف من صلاته فقال: السَّلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا نبي اللّه، السلام عليك يا خيرة الأنبياء وأشرف الرسل، السلام عليك يا حبيب اللّه، هذا آخر عهدي بمدينتك، وآخر عهدي بقبرك ومنبرك، أخْرِجْتُ يا أبَهْ كارهاً، وسِرْتُ في البلاد أسيراً يا رسول اللّه، وإني سائلك الشفاعة إلى اللّه عز وجل، وأن يُؤَيِّدَنِي بِثِقَةِ اليقين، وعِزِّ التقوى، وأن يختم لي بشهادة تلحقني بآبائي الأكرمين وأهلي الطاهرين.
الإمام زيد في الشام
ثم شخص الإمام زيد بن علي إلى دمشق بحجة أن خالد القسري الوالي الأسبق على الكوفة ادعا على الإمام زيد مالاً, ومكث عليه السلام قرابة (5) أشهر تحت الإقامة الجبرية, كان الهدف من فرض تلك الإقامة إذلال الإمام وتحقيره بين الناس، ثم سمح له بعد أن أوصى حضّار مجلسه بمقابلته بالجفاء والاحتقار، وأن لا يردّوا عليه السلام، وأن لا يتركوا له مقعدا يجلس عليه، دخل الإمام زيد عليه السلام، فسلّم على هشام فلم يردّ عليه السلام، والتفت إلى الحاضرين فرأى ما دُبّر له من المكيدة، فوجّه سلاما خاصا إلى هشام قائلا له: السلام عليك يا أحول، فإنّك ترى نفسك أهلا لهذا الاسم، فصاح به: ما يصنع أخوك البقرة؟ فردّ عليه زيد قائلا له: سمّاه رسول الله الباقر، وأنت تسمّيه البقرة، لشدّ ما اختلفتما فيدخل الجنّة وتدخل النار.
فقال هشام: بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمنّاها، ولست أهلا لها لأنك ابن أمة.
فرد عليه الإمام زيد قائلا: إنَّ الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، لقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحاق، فلم يمنعه ذلك أن بعثه الله تعالى نبياً وجعله أباً للعرب، وأخرج من صلبه خير الأنبياء محمّد ففقد هشام بن الحكم صوابه، ولم يطق الردّ على زيد سوى أن أمر شرطته بضرب زيد ثمانين سوطا.
وخرج الإمام زيد عليه السلام من عند هشام بن عبد الملك، وهو يقول: والله لن تراني إلا حيث تكره, وأدلى بما صمّم عليه قائلا: ما كره قوم حرّ السيوف إلاّ ذلّوا. وتميّز هشام غضبا، وراح يقول: ألستم زعمتم أنَّ أهل هذا البيت - يعني البيت العلوي - قد بادوا، فلعمري ما انقرض من مثل هذا - يعني زيدا- خلفهم .
الإمام في الكوفة ثانية
سرح هشام الإمام زيداً عليه السلام إلى والي العراق يوسف بن عمر؛ ليتدبر أمر زيد بن علي، وكتب هشام إلى يوسف بن عمر: إذا قدم عليك زيد بن علي فاجمع بينه وبين خالد، ولا يقيمن قبلك ساعة واحدة، فإني رأيته رجلا حلو اللسان شديد البيان خليقا بتمويه الكلام، وأهل العراق أسرع شيء إلى مثله.
فلما قدم الإمام زيد الكوفة، دخل إلى يوسف فقال: لم أشخصتني من عند هشام؟ قال: ذكر خالد بن عبد الله أن له عندك ستمائة ألف درهم.
قال: فأحضر خالدا! فأحضره وعليه حديد ثقيل، فقال له يوسف: هذا زيد بن علي، فاذكر ما لك عنده! فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما لي عنده قليل ولا كثير، ولا أردتم بإحضاره إلا ظلمه.
حاول يوسف بن عمر بأمر من هشام بن عبدالملك أن يستعجل الإمام زيد على مغادرة الكوفة خوفاً من أن يلتقي بشيعته وأنصاره فقال يوسف بن عمر: إن أمير المؤمنين أمرني أن أخرجك من الكوفة ساعة قدومك! فقال الإمام (ع): فأستريح ثلاثاً، ثم أخرج؟ فقال له يوسف: مالي إلى ذلك سبيل. قال: فيومي هذا، قال: ولا ساعة واحدة.
فخرج الإمام زيد (ع) ومعه رسل وعيون يوسف، وهو يتمثل بهذه الأبيات:
مُنْخَرق الخفّين يشكو الوجى
تنكبه أطراف مَروٍ حداد
شرَّده الخوف وأزْرَى به
كذاك من يكره حَرَّ الجِلاد
قد كان في الموتِ له راحة
والموت حتم في رقابِ العباد
الإمام زيد في القادسية
خرج الإمام زيد عليه السلام إلى القادسية وقد عزم على العودة إلى المدينة, فلحقه أنصاره وشيعته وفيهم نصر بن خزيمة بمنطقة العذيب, وقالوا له: أين تذهب يا ابن رسول اللّه وتذر الكوفة، ولك بها مائة ألف سيف يقاتلون عنك بني مروان؟ ننشدك اللّه إلاّ ما رجعت.
كان برفقة الإمام زيد عليه السلام في رحلته تلك عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب, فقال الإمام زيد لغلمانه, حين سمع كلام أنصاره: اعزلوا متاعي من متاع ابن عمي.
فقال له عبدالله: ولم ذاك أصلحك الله؟
فقال الإمام زيد عليه السلام: أجاهد بني أمية, والله لو أعلم أنه تؤجج لي نار بالحطب الجزل, فأقذف فيها وأن الله أصلح لهذه الأمة أمرها لفعلت.
فقال عبدالله: الله الله في قوم خذلوا جدك وأهل بيتك!
فأنشأ يقول:
فإن أقتل فلست بذي خلود وإن أبقر اشتفيت من العبيد
ثم أخذ متاعه وأنطلق إلى الكوفة.
الثورة العسكرية
عودة الإمام إلى الكوفة
عاد الإمام زيد عليه السلام إلى الكوفة مستخفياً، فنزل في دار نصر بن خزيمة, ثم تحول إلى دار معاوية بن إسحاق في جبانة سالم, وفي مدة قعوده في الكوفة التي استمرت بضعة عشر شهراً بدأ بجمع نخبة من العلماء والفرسان ورؤساء العشائر الذين يتمتعون بمواصفات خلقية رفيعة، وشكل منهم فريق الدعاة الذين نشرهم في الآفاق لدعوة الناس، وأخذ البيعة منهم, وكان تحرك الإمام زيد (ع) في تلك الفترة تحركاً سرياً يهدف إلى تهيئة الثورة للنجاح، كما ذهب الإمام (ع) خلال تلك الفترة إلى البصرة في سبيل تهيئة الأمور، وأخذ البيعة من أهلها، ومع أنه عليه السلام كان في هذا الوقت أحوج ما يكون إلى من ينصره ويعينه في حركته إلا أنه كان يتحاشا أن يأخذ البيعة من حديثي السن، وهذا أبو معمر خير شاهد على ذلك، فقد جاء في التأريخ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻣﻌﻤﺮ ﻗﺎﻝ: ﺃﺗﻴﺖ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: اﺑﺴﻂ ﻳﺪﻙ ﺃﺑﺎﻳﻌﻚ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ: ﻻ, ﻗﻠﺖ: ﻭﻟﻢ؟ ﻗﺎﻝ: ﺇﻧﻚ ﺣﺪﺙ، ﺃﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﺃﺣﻤﻠﻚ ﻣﺎ ﻻ ﺗﻄﻴﻖ ﻓﺂﺛﻢ، ﺃﻭ ﺗﺤﻤﻞ ﻣﺎ ﻻ ﺗﻄﻴﻖ ﻓﺘﺄﺛﻢ. ﻗﻠﺖ: ﺃﺳﺄﻟﻚ ﺑﺤﻖ اﻟﻠﻪ ﻭﺣﻖ ﺭﺳﻮﻟﻪ ﺇﻻ ﺑﺎﻳﻌﺘﻨﻲ، ﻗﺎﻝ: اﺑﺴﻂ ﻳﺪﻙ، ﻓﺒﺴﻄﺖ ﻳﺪﻱ, ﻓﻘﺎﻝ: ﻋﻠﻴﻚ ﻋﻬﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﻣﻴﺜﺎﻗﻪ ﻭﺫﻣﺘﻪ ﻭﻛﻔﺎﻟﺘﻪ، ﻭﻣﺎ ﺃﺧﺬ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺒﻴﻴﻦ ﻣﻦ ﻋﻬﺪ ﺃﻭ ﻣﻴﺜﺎﻕ ﺃﻭ ﺫﻣﺔ ﺃﻭ ﻛﻔﺎﻟﺔ، ﻟﺘﺼﺒﺮﻥ ﻣﻌﻨﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻮﺕ ﻋﻠﻰ ﻗﺘﺎﻝ ﻋﺪﻭﻧﺎ ﻻ ﺗﻮﻟﻲ ﺩﺑﺮاً ﺣﺘﻰ ﻳﺤﻜﻢ اﻟﻠﻪ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻭﺑﻴﻦ ﻋﺪﻭﻧﺎ، ﻭﻫﻮ ﺧﻴﺮ اﻟﺤﺎﻛﻤﻴﻦ. ﻗﻠﺖ: ﻧﻌﻢ؛ ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ: ﻭﻟﻚ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻣﺜﻞ ﺫﻟﻚ، ﺃﻥ ﻧﺼﺒﺮ ﻣﻌﻚ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻮﺕ ﻋﻠﻰ ﻗﺘﺎﻝ ﻋﺪﻭﻧﺎ ﻻ ﻧﻮﻟﻲ ﺩﺑﺮاً ﺣﺘﻰ ﻳﺤﻜﻢ اﻟﻠﻪ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻭﺑﻴﻦ ﻋﺪﻭﻧﺎ، ﻭﻫﻮ ﺧﻴﺮ اﻟﺤﺎﻛﻤﻴﻦ.
وكذلك لم تكن قيم الإمام زيد عليه السلام تقبل أن يأخذ البيعة من المماليك إلا بإذن مالكيهم، وهذا العبد السندي الذي أخبر عن محل قبر الإمام زيد، كان قد أتى إلى الإمام (ع) من أول النهار، في قوم أتوه، ليقاتل معه، فلم يقبله زيد، وقال: لا يقاتل مملوك بغير إذن مولاه، فدل على قبره بعد دفنه.
ثورة الفقهاء
يعرف عن ثورة الإمام زيد أنها ثورة الفقهاء والعلماء, لتأييد الكبير من العلماء لهذه الثورة ومباركتها ونصرتها.
فبعث الإمام زيد الفضلَ بن الزبير وأبا الجارود إلى أبي حنيفة النعمان، فوصلا إليه وهو مريض، فدعياه إلى نصرته، فقال: هو واللـه صاحب حق، وهو أعلم مَنْ نعرف في هذا الزمان، فأقرآه مني السلام وأخبراه أن مرضاً يمنعني من الخروج معه , ثم أرسل معهما بثلاثين ألف درهم للإمام زيد يستعين بها على جهاده، وقال: لئن شفيت لأخرجن معه.
وبعثَ الإمام زيد عليه السلام الحافظ الكبير والمحدث الشهير منصور بن المعتمر السلمي إلى العلماء، فكان يدخل عليهم وهو يعصر عينيه ويبكي ويقول: اجيبوا ابن رسول اللّه.
وبعثَ الإمام زيد عليه السلام عثمانَ بن عمير الفقيه إلى الأعمش ومن يتردد عليه من العلماء، فلما وصل إليه وعرض عليه رسالة الإمام زيد قال: ما أعرفني بفضله, أقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك الأعمش: لست أثق لك ـ جعلت فداك ـ بالناس، ولو أنا وجدنا لك ثلاثمائة رجل نثق بهم لعَفَّرْنا لك حواجبنا, وقال شعبة: سمعت الأعمش يقول: واللـه لولا ضُرة بي لخرجت معه، واللـه ليُسْلِمُنَّه كما فعلوا بجده وعمه.
قال سليمان الرازي: لم أرَ يوما كان أبهى ولا أكثر جموعاً ولا أوفر سلاحاً ولا أشد رجالاً ولا أكثر قرآناً وفقهاً من أصحاب زيد بن علي.
ثورة أمة لا ثورة مذهب
ولأن منطلقات ثورة الإمام زيد عليه السلام منطلقات جامعة, كانت ثورته محل إجماع من الأمة الإسلامية بمختلف مذاهبها, وهذا ما يدلل على أن فكر ونهج الإمام زيد عليه السلام هو نقطة الاجتماع والتوحد التي تلم شمل الأمة الإسلامية وتوحد فرقتها وشتاتها.
قال السيد أبو طالب في كتاب الدعامة: (لما شهر فضله وتقدمه وظهر علمه وبراعته، وعُرف كماله الذي تقدم به أهل عصره اجتمع طوائف الناس على اختلاف آرائهم على مبايعته فلم يكن الزيدي أحرص عليها من المعتزلي، ولا المعتزلي أسرع إليها من المرجي، ولا المرجي من الخارجي، فكانت بيعته عليه السلام مشتملة على فرق الأمة مع اختلافها ولم يشذ عن بيعته إلا هذه الطائفة القليلة التوفيق). يقصد الرافضة
الإمام زيد والرافضة
اجمعت الأمة على أن الرافضة هم الفرقة الناكثة لبيعة الإمام زيد بن علي، أي أنهم كانوا بايعوه ثم نكثوا بيعته، ولكن اختلفت الروايات في سبب نكثهم عليه، والحقيقة في سبب رفضهم ونكثهم أنهم بعد أن سمعوا بملاحقة الخليفة الأموي هشام للمُبايعين للإمام زيد، خافوا على أنفسهم وجبنوا عن المواجهة، فأرادوا التخلّص من البيعة والخروج منها، فالتمسوا المخارج والأعذار فقالوا بالوصية فيما بين الأئمة، فقالوا له: يا زيد لست الإمام، قال: ويلكم فمن الإمام؟ قالوا: ابن أخيك جعفر بن محمد، قال: إن قال هو الإمام فهو صادقٌ.
قالوا: الطريق مقطوع ولا نجد رسولاً إلاَّ بأربعين ديناراً. قال: هذه أربعون ديناراً. قالوا: إنه لا يظهر ذلك تقية منك وخوفاً.
قال: ويلكم إمامٌ تأخذه في الله لومة لائم اذهبوا فأنتم الرافضة، ورفع يديه فقال: اللهم اجعل لعنتك، ولعنة آبائي وأجدادي ولعنتي، على هؤلاء الذين رفضوني، وخرجوا من بيعتي، كما رفض أهل حروراء علي بن أبي طالب عليه السلام حتى حاربوه.
ومن هنا نعرف أن الرافضة هم من رفضوا الإمام زيداً عليه السلام ونكثوا بيعته, ويسري هذا الحكم وهذه التسمية على كل من يرفض الجهاد مع الأخيار من ذرية رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم.
نص بيعته عليه السلام
أقبل المسلمون في الكوفة على الإمام زيد عليه السلام مبايعين, حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة خاصة سوى أهل المدائن، والبصرة، وواسط، والموصل، وخراسان، والري، وجرجان, وكان نص بيعته, أنه يبدأ فيقول: إنا ندعوكم أيها الناس إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وقسم الفيء بين أهله، ورد المظالم، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا الحرب، أتبايعونا على هذا؟
فإن قالوا: نعم؛ وضع يد الرجل على يده فيقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله لتفين ببيعتي ولتقاتلن عدونا، ولتنصحن لنا في السر والعلانية.
فإذا قال: نعم؛ مسح يده على يده ثم قال: اللهم اشهد.
انطلاق الثورة
حدد الإمام زيد عليه السلام غرة صفر من سنة (122هـ) موعداً لانطلاق الثورة, وبسبب أن السلطة الأموية كانت متخوفة من الإمام زيد, وبثت الجواسيس والمخبرين في ذلك، تسربت أخبار الثورة.
فيروي التاريخ أن رجلاً من أهل الكوفة يقال له ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﺳﺮاﻗﺔ اﻟﺒﺎﺭﻗﻲ ذهب ﺇﻟﻰ ﻳﻮﺳﻒ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ فأخبره بخبر الإمام(ع)، ﻓﻘﺎﻝ له ﻳﻮﺳﻒ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ: ﻭﻳﺤﻚ ﻓﻜﻴﻒ ﻋﻠﻤﺖ ﺑﺬﻟﻚ؟ ﻓﻘﺎﻝ: ﻷﻧﻪ ﺧﺒﺮﻧﻲ اﻟﺼﺪﻭﻕ ﺃﻧﻪ ﻗﺪ ﺑﺎﻳﻌﻪ اﻟﻨﺎﺱ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﻭﻭﺟﻪ ﺑﻜﺘﺒﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻞ اﻟﺴﻮاﺩ ﻳﻮاﻋﺪﻫﻢ ﺑﺎﻟﺨﺮﻭﺝ.
أخبر البارقي يوسف بن عمر بأن الإمام زيداً ﻓﻲ ﺩاﺭ ﺭﺟﻠﻴﻦ من الكوفة، ﻓﺒﻌﺚ ﻳﻮﺳﻒ ﻓﻲ ﻃﻠﺐ ﺯﻳﺪ ﻟﻴﻼ، ﻓﻠﻢ ﻳﺟﺪه في تلك الدار فقبضوا على اﻟﺮﺟﻠﻴﻦ وأتي ﺑﻬﻤﺎ ﺇﻟﻰ ﻳﻮﺳﻒ، ﻓﻠﻤﺎ ﻛﻠﻤﻬﻤﺎ تأكد واستبان ﻟﻪ ﺃﻣﺮ الإمام ﺯﻳﺪ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻭﺃﻣﺮ ﺑﻬﻤﺎ ﻓﻀﺮﺑﺖ ﺃﻋﻨﺎﻗﻬﻤﺎ.
فلما علم الإمام زيد عليه السلام بذلك, وأن موعد الثورة قد تسرب إلى بلاط السلطان الأموي, حاول أن ينقذ الثورة من أن تضرب في مهدها, فقرر أن يعلن الثورة قبل موعدها.
المعــــركة
ليلة ويوم الثلاثاء
في ليلة يوم الثلاثاء الموافق 22 محرم أمر يوسف بن عمر قائد شرطته اﻟﺤﻜﻢ ﺑﻦ اﻟﺼﻠﺖ بجمع ﺃﻫﻞ اﻟﻜﻮﻓﺔ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻷﻋﻈﻢ ﻓﻴﺤﺼﺮﻫﻢ ﻓﻴﻪ، حتى يحول بينهم وبين نصرتهم للإمام زيد, ﻓﺒﻌﺚ اﻟﺤﻜﻢ ﺇﻟﻰ اﻟﻌﺮﻓﺎء ﻭاﻟﺸﺮﻁ ﻭاﻟﻤﻨﺎﻛﺐ ﻭاﻟﻤﻘﺎﺗﻠﺔ بأن يجمعوا أهل الكوفة في المسجد، ﺛﻢ ﻧﺎﺩﻯ ﻣﻨﺎﺩﻳﻪ: ﺃﻳﻤﺎ ﺭﺟﻞ ﻣﻦ اﻟﻌﺮﺏ ﻭاﻟﻤﻮاﻟﻲ ﺃﺩﺭﻛﻨﺎﻩ ﻓﻲ رحله الليلة فقد برأت منه الذمة, ائتوا اﻟﻤﺴﺠﺪ الأعظم. وفي يوم الثلاثاء جاء الناس إلى المسجد.
ليلة الأربعاء
في ليلة الأربعاء 23 محرم 122هـ، ومن دار معاوية بن إسحاق في ليلة شديدة البرد خرج الإمام زيد (ع) بين أصحابه راكباً على بغلة شهباء، يلبس قباء أبيض، تحته درع، مُعْتَمّاً بعمامة سوداء، ومعه سيف ودَرَقَة، وبين يديه مصحف، فوقف وقال: ((أيها الناس أعينوني على أنباط أهل الشام، فوالله لا يعينني عليهم أحد إلا رجوت له أن يجيء يوم القيامة آمناً حتى يجاوز الصراط ويدخل الجنة, ثم قال: سلوني، فوالله ما تسألوني عن حلال أو حرام، أو محكم أو متشابه، أو ناسخ أو منسوخ، أو أمثال أو قصص، إلا أنبأتكم به، والله ما وقفت هذا الموقف ولا قمت مقامي هذا حتى قرأت القرآن، وأتقنت الفرائض والأحكام، والسنن والآداب، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل، وفهمت الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والخاص والعام، وأنا أعلم أهل بيتي بما تحتاج إليه الأمة، وأنا على بصيرة من ربي)).
وكان يتمثل بهذين البيتين:
إن المحكم ما لم يرتقب حسداً
لو يرهب السيف أو وخز القنا هتفا
من عاذ بالسيف لاقى فرجة عجبا
موتا على عجل أو عاش فانتصفا
كان أصحاب الإمام زيد يحملون الهرادي (القصب) فيها النيران, ويصيحون بشعار الإمام (يا منصور أمت)، نظر الإمام زيد (ع) إلى أصحابه فوجدهم قلة, فبعث أحد قادته (القاسم بن كثير) ومعه رجل آخر؛ ليناديا في شوارع الكوفة بشعاره: (يا منصور أمت), ليعلن للناس بدء المعركة.
خرج القاسم بن كثير وصاحبه إلى شوارع الكوفة, وظلا يناديان بشعار الإمام زيد، فاعترضته كتيبة من جند الأمويين بقيادة العباس بن جعفر الكندي، فقاتلوهم قتال الأبطال حتى جُرِح القاسم وسقط على الأرض وقتل صاحبه، فأُخِذ القاسم إلى الحكم بن الصلت فأمر بضرب عنقه، فكانا رحمهما اللّه أول شهيدين في المواجهة.
صبيحة يوم الأربعاء
وفي صباح الأربعاء تجمع أنصار الإمام زيد عليه السلام فبلغوا مائتان وثمانية عشر رجلاً، وبدأ بتشكيلة جيشه, فكانت على النحو التالي, نصر بن خزيمة على الميمنة, ومعاوية ين إسحاق على الميسرة, في جيش يقول سليمان الرازي في وصفه: ((لم أرَ يوماً كان أبهى ولا أكثر جموعاً ولا أوفر سلاحاً ولا أشد رجالاً ولا أكثر قرآناً وفقهاً من أصحاب زيد بن علي)).
اكتمال الدين
رفرفت رايات الجهاد على رأس ذلك الجيش القليل العدد, الكثير الإيمان والبصيرة, وبدأ ينظر الإمام زيد (ع) إلى ذلك المشهد الذي طال ما انتظره, فانطلقت شفتاه عليه السلام قائلاً: ((الحمد لله الذي أكمل لي ديني أما والله لقد كنت أستحي من رسول اللّه (ص) أن أَرِدَ عليه ولم آمر في أمته بمعروف ولم أنه عن منكر))، ثم نظر إلى أصحابه، وقال: ((والله ما أبالي إذا أقمت كتاب اللّه وسنة نبيه أن تأجج لي نار ثم قُذفت فيها ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة اللّه، والله لا ينصرني أحد إلا كان في الرفيق الأعلى مع محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.. يا معاشر الفقهاء ويا أهل الحجا أنا حجة اللّه عليكم هذه يدي مع أيديكم على أن نقيم حدود اللّه ونعمل بكتاب اللّه، ونقسم بينكم فيئكم بالسوية...)).
ثم قال: ((اللهم لك خرجت، وإياك أردت، ورضوانك طلبت، ولعدوك نصبت، فانتصر لنفسك ولدينك ولكتابك ولنبيك ولأهل بيتك ولأوليائك من المؤمنين، اللهم هذا الجهد مني وأنت المستعان)).
وقال- والمصحف منشور بين يديه-: (سلوني، فوالله ما تسألوني عن حلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وأمثال وقصص، إلا أنبأتكم به، والله ما وقفت هذا الموقف إلا وأنا أعلم أهل بيتي بما تحتاج إليه هذه الأمة).
ثم نظر عليه السلام إلى أصحابه فوجدهم قليل العدد فقال: سبحان الله!! أين الناس؟ فقيل له: هم محصورون في المسجد، قال: لا، والله ما هذا لمن بايعنا بعذر، وتوجه مع أنصاره لرفع الحصار عن أهل المسجد وفي طريقه إلى المسجد وقعت بينه وبين جند الأمويين مواجهة عنيفة كان النصر فيها حليفه، ولما وصل إلى جوار المسجد نادى أصحابه بشعاره ( يا منصور أمت ) وأدخلوا الرايات من نوافذ المسجد، وكان نصر بن خزيمة رحمه اللّه ينادي: يا أهل الكوفة اخرجوا من الذل إلى العز ومن الضلال إلى الهدى اخرجوا إلى خير الدنيا والآخرة فإنكم لستم على واحد منها، وانتشر أصحاب الإمام زيد في الكوفة وأمرهم الإمام زيد أن ينادوا: من ألقى سلاحه فهو آمن.
واستمرت المواجهة بين المعسكرين، وكان جنود الأمويين يتزايدون بينما كان جند الإمام زيد ينقصون، والتفت الإمام زيد عليه السلام إلى نصر بن خزيمة وقال له: يا نصر أخاف أهل الكوفة أن يكونوا قد فعلوها حسينية! فقال نصر: جعلني اللّه فداك أما أنا فواللـه لأضربن بسيفي بين يديك حتى أموت!!
ثم انطلق الإمام زيد إلى الكناسة, فحمل على من فيها من جند أهل الشام, ثم اتجه إلى الجبانة (جبانة الصائديين)، وفيها 500 من الجند الأموي فحمل عليهم الإمام فهزمهم, ويوسف بن عمر قائد الجيش الأموي على التل, يقول الراوي: فرأيته ـ أي الإمام زيداًـ يشد عليهم كأنه الليث.
ثم دخل الإمام زيد عليه السلام وأصحابه الكوفة, وانجلت معركة يوم الأربعاء عن 2000 قتيل من الجيش الأموي, وكانت معظم المواجهات بين الحيرة والكوفة، فقسم الإمام زيد جيشه إلى فرقتين: فرقة تواجه الجيش الأموي القادم من الحيرة, وفرقة تواجه الجيش الأموي المتواجد في الكوفة.
يوم الخميس
وبعد أن كانت المواجهات طيلة يوم الأربعاء, جاء يوم الخميس لتبدأ المواجهات من جديد، أكثر تضحية واستبسالاً، وفيه كان للإمام زيد عليه السلام وأصحابه مواقف بطولية خلدها التأريخ، فقد قاتلوا قتال المستميت فلم يجرؤ أحد على مواجهتهم أو مبارزتهم.
ليلة الجمعة
مضى يوم الخميس, وكان يوماً دامياً على جيش هشام بن عبدالملك, فقد انجلت معاركه عن 200 قتيل من الجيش الأموي, لكن الجراحة قد كثرت في أصحاب الإمام, أمر الإمام زيد أصحابه أن يحيوا ليلة الجمعة بالصلاة والتهجد وقراءة القرآن والتضرع إلى الله ويقول لهم: وأنا أعلم والله إنه ما أمسى على وجه الأرض عصابة أنصح لله ولرسوله وللإسلام منكم, وأمضى الإمام ليلته تلك في مناجاة وتهجد, وكان يدعو الله تعالى ويقول: اللهم إن هؤلاء يقاتلون عدوك وعدو رسولك ودينك الذي ارتضيته لعبادك فاجزهم أفضل ما جزيت أحداً من عبادك المؤمنين.
يوم الجمعة
فجاء يوم الجمعة وقد كثرت الجراح في أصحاب الإمام زيد عليه السلام, واستبان الفشل, وترك من ضعفت بصيرته المعركة, ودخل المصر, بعد أن عقد الإمام لمن تأخر عنه الأمان, وثبت مع الإمام أهل البصائر, فما زالوا يسقون الأعداء كؤوس الموت دون إمامهم إلى غسق الظلام، وحين شعر جيش الأمويين أنه لا قدرة لهم على المواجهة تحصنوا خلف الكثب والجدران، واستنجد العباس بن سعد بقائد جيش هشام يوسف بن عمر وشكى إليه ما ناله من الزيدية, وسأله أن يبعث إليه بالناشبة (رماة السهام), فبعث إليه سليمان بن كيسان وكان قائداً على كتيبة الناشبة، وكانوا جميعهم من القيقانية وهم بخارية (نسبة إلى بخارى مدينة في خرسان)، وعددهم 2300رامٍ, فجعلوا يمطرون جيش الإمام (ع) بوابل من السهام.
المصاب الأليم
انتهت مواجهات ذلك اليوم بخبر فاجع ومصيبة عظيمة, فمع غروب شمس ذلك اليوم أصاب سهم غادر جبهة الإمام اليسرى، فنزل الإمام (ع) من فرسه جريحاً, ووضع يده على جبهته قائلاً: الشهادة ... الشهادة الحمد لله الذي رزقنيها!
تراجع أصحاب الإمام زيد (ع)، فظن الأمويون أنهم تراجعوا لدخول الليل وحلول الظلام.
وصية الإمام زيد لولده يحيى
جاء يحيى بن زيد إلى أبيه وهو يبكي وأكب عليه والدماء تنزل منه، والسهم نابت في جبينه، فجمع يحيى قميصه في يده ومسح به الدم من وجه أبيه، ثم قال له: ابشر يا ابن رسول اللّه، ترد على رسول اللّه وعلي وفاطمة وخديجة والحسن والحسين وهم عنك راضون.
فقال له الإمام: صدقت يا بني، فأي شيء تريد أن تصنع؟ قال يحيى: أجاهدهم إلا أن لا أجد الناصر. قال: نعم يا بني، جاهدهم، فواللـه إنك لعلى الحق، وإنهم لعلى الباطل، وإن قتلاك في الجنة، وقتلاهم في النار
والتف الأصحاب حول إمامهم، وجيء بطبيب، ولكنه وجد السهم قاتلاً، فالضربة القاسية قد وصلت إلى الدماغ, فانتزع الطبيب السهم، وفاضت روح الإمام عليه السلام إلى بارئها، فصلوات الله وسلامه عليه من قتيل ما أكرمه على الله، وسلامٌ على أصحابه الصابرين من عصابة ما أحبها إلى الله، وأنصحها، وأعرفها بفضل عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولما فرغ من ذلك نزعت النشابة منه، فقضى نحبه سلام الله عليه.
استشهاده عليه السلام
كان استشهاد الإمام زيد عليه السلام في ليلة الجمعة (25) محرم سنة (122هـ)، وله من العمر (46) سنة.
الرأٍس الشريف
عندما ﺗﻮﻓﻲ الإمام زيد ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ اﺧﺘﻠﻒ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﻓﻲ ﺩﻓﻨﻪ، ﺛﻢ اﺗﻔﻘﻮا ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻋﺪﻟﻮا ﻧﻬﺮا ﻋﻦ ﻣﺠﺮاﻩ، ﺛﻢ ﺣﻔﺮﻭا ﻟﻪ ﻭﺩﻓﻨﻮﻩ ﻭﺃﺟﺮﻭا اﻟﻤﺂء ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ اﻟﻤﻮﺿﻊ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻌﻬﻢ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺎﻝ ﻏﻼﻡ ﺳﻨﺪﻱ ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺻﺒﺢ انتشر خبر مقتل الإمام وبلغ يوسف بن عمر ذلك، فأمر منادياً أن ينادي ﻣﻦ ﺩﻝ ﻋﻠﻰ ﻗﺒﺮ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻛﺎﻥ ﻟﻪ ﻣﻦ اﻟﻤﺎﻝ ﻛﺬا ﻭﻛﺬا، ﻓﺪﻟﻬﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﺫﻟﻚ اﻟﻐﻼﻡ، ﻓﺎﺳﺘﺨﺮﺟﻮﻩ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻣﻦ ﻗﺒﺮﻩ ﺛﻢ احتزوا رأسه فبعث به يوسف بن عمر الثقفي إلى الشام، وبعد أن وضع بين يدي هشام أمر أن يطاف به في البلدان لنشر الرعب في نفوس الناس حتى وصل إلى المدينة المنورة، ونصب في المسجد النبوي أمام قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ثم أخذ إلى مصر ونصب في الجامع الأعظم أياماً ومنه أخذ سراً ودفن هنالك.
الجسد الطاهر
أما الجسد الطاهر فقد أمر يوسف بن عمر بصلبه على شجرة الرمان في موضع يعرف بالكناسة في مدينة الكوفة، ﻭﺑﻘﻲ ﺫﻟﻚ اﻟﺠﺴﺪ اﻟﻄﺎﻫﺮ ﻣﺼﻠﻮﺑﺎ ﺑﺎﻟﻜﻨﺎﺳﺔ ﻧﺤﻮ (4) ﺳﻨﻴﻦ، وفي زمن اﻟﻮﻟﻴﺪ ﺑﻦ ﻳﺰﻳﺪ ومع خروج اﻹﻣﺎﻡ ﻳﺤﻴﻰ ﺑﻦ ﺯﻳﺪ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﺑﺨﺮﺳﺎﻥ ﻜﺘﺐ اﻟﻮﻟﻴﺪ ﺇﻟﻰ ﻳﻮﺳﻒ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ:
((ﺃﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﻓﺈﺫا ﺃﺗﺎﻙ ﻛﺘﺎﺑﻲ ﻫﺬا ﻓﺎﻧﻈﺮ ﻋﺠﻞ اﻟﻌﺮاﻕ ﻓﺄﺣﺮﻗﻪ ﻭاﻧﺴﻔﻪ ﻓﻲ اﻟﻴﻢ ﻧﺴﻔﺎ .. ﻭاﻟﺴﻼﻡ)) ﻓﺄﻣﺮ ﻳﻮﺳﻒ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺟﻼ ﻳﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺧﺮاﺵ ﺑﻦ ﺣﻮﺷﺐ ﺑﺈﻧﺰاﻝ ﺟﺜﺔ الإمام ﺯﻳﺪ عليه السلامن ﻓﻘﺎﻡ ﺑﺈﻧﺰاﻝ اﻟﺠﺜﺔ ﺛﻢ ﺃﺣﺮﻗﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﺻﺎﺭﺕ ﺭﻣﺎﺩا، ﺛﻢ ﻧﺴﻔﺖ ﻓﻲ ﻧﻬﺮ اﻟﻔﺮاﺕ، فقال في ذلك أحد الشعراء:
ﻟﻢ ﻳﺸﻔﻬﻢ ﻗﺘﻠﻪ ﺣﺘﻰ ﺗﻌﺎﻭﺭﻩ ... ﻗﺘﻞ ﻭﺻﻠﺐ ﻭﺇﺣﺮاﻕ ﻭﺗﻐﺮﻳﻖ
شيء من كراماته
حاول الأمويون أن يبثوا الرعب في قلوب الناس, وأن يهينوا الإمام زيداً علي السلام فقاموا بقطع رأسه والطواف به في الأمصار كما فعل بجده الحسين بن علي عليهما السلام, وزادوا على ذلك أن صلبوا جسده الطاهر عرياناً, فأمحق الله باطلهم, وخيب آمالهم, وجعل من صلبه محل كرامة له، فأسبل عليه الكرامات، ومنها:
ﻣﺎ ﺭﻭﻱ ﺃﻥ اﻟﻌﻨﻜﺒﻮﺕ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﺴﺞ ﻋﻠﻰ ﻋﻮﺭﺗﻪ ﻟﻴﻼ، ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻟﻌﻨﻬﻢ اﻟﻠﻪ ﺇﺫا ﺃﺻﺒﺤﻮا ﻳﻬﺘﻜﻮﻥ ﻧﺴﺠﻬﺎ ﺑﺎﻟﺮﻣﺎﺡ.
مرت اﻣﺮﺃﺓ ﻣﺆﻣﻨﺔ على موضع صلبه، ﻓﻄﺮﺣﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺧﻤﺎﺭﻫﺎ ﻓﺎﻟﺘﺎﺙ- التف حول عورة الإمام- ﺑﻤﺸﻴﺌﺔ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﻓﺼﻌﺪﻭا ﻓﺤﻠﻮﻩ.
ولما تكرر من حراس خشبة الإمام هتك كل ساتر يستر عورة الإمام، استرخت بطنه ﺣﺘﻰ ﻏﻄﺖ ﻋﻮﺭﺗﻪ, فعن ﺳﻤﺎﻋﺔ ﺑﻦ ﻣﻮﺳﻰ اﻟﻄﺤﺎﻥ ﻗﺎﻝ: ﺭﺃﻳﺖ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻣﺼﻠﻮﺑﺎ ﺑﺎﻟﻜﻨﺎﺳﺔ ﻓﻤﺎ ﺭﺃﻯ اﺣﺪ ﻟﻪ ﻋﻮﺭﺓ اﺳﺘﺮﺳﻞ ﺟﻠﺪ ﻣﻦ ﺑﻄﻨﻪ ﻣﻦ ﻗﺪاﻣﻪ ﻭﻣﻦ ﺧﻠﻔﻪ ﺣﺘﻰ ﺳﺘﺮ ﻋﻮﺭﺗﻪ.
ﺟﺮﻳﺮ ﺑﻦ ﺣﺎﺯﻡ ﻗﺎﻝ: ﺭﺃﻳﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻓﻲ اﻟﻤﻨﺎﻡ، ﻭﻫﻮ ﻣﺘﺴﺎﻧﺪ ﺇﻟﻰ ﺟﺬﻉ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻭﻫﻮ ﻣﺼﻠﻮﺏ، ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ ﻟﻠﻨﺎﺱ: " ﺃﻫﻜﺬا ﺗﻔﻌﻠﻮﻥ ﺑﻮﻟﺪﻱ ؟ ".
ﻣﺮ ﺑﻪ ﺭﺟﻞ ﻓﺄﺷﺎﺭ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺄﺻﺒﻌﻪ ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ: ﻫﺬا اﻟﻔﺎﺳﻖ اﺑﻦ اﻟﻔﺎﺳﻖ ﻓﻐﺎﺑﺖ ﺇﺻﺒﻌﻪ ﻓﻲ ﻛﻔﻪ.
ومنها أنه كانت تفوح من جثته رائحة المسك, فعن ﺷﺒﻴﺐ ﺑﻦ ﻏﺮﻗﺪ ﻗﺎﻝ: ﻗﺪﻣﻨﺎ ﺣﺠﺎﺟﺎ ﻣﻦ ﻣﻜﺔ ﻓﺪﺧﻠﻨﺎ اﻟﻜﻨﺎﺳﺔ ﻟﻴﻼ، ﻓﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﻛﻨﺎ ﺑﺎﻟﻘﺮﺏ ﻣﻦ ﺧﺸﺒﺔ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﺃﺿﺎء ﻟﻨﺎ اﻟﻠﻴﻞ، ﻓﻠﻢ ﻧﺰﻝ ﻧﺴﻴﺮ ﻗﺮﻳﺒﺎ ﻣﻦ ﺧﺸﺒﺘﻪ ﻓﻨﻔﺤﺖ ﺭاﺋﺤﺔ اﻟﻤﺴﻚ ﻗﺎﻝ: ﻓﻘﻠﺖ ﻟﺼﺎﺣﺒﻲ: ﻫﻜﺬا ﺗﻮﺟﺪ ﺭاﺋﺤﺔ اﻟﻤﺼﻠﺒﻴﻦ؟! ﻗﺎﻝ: ﻓﻬﺘﻒ ﺑﻲ ﻫﺎﺗﻒ ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ: ﻫﻜﺬا ﺗﻮﺟﺪ ﺭاﺋﺤﺔ ﺃﻭﻻﺩ اﻟﻨﺒﻴﻴﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﻀﻮﻥ ﺑﺎﻟﺤﻖ ﻭﺑﻪ ﻳﻌﺪﻟﻮﻥ.
ﺭﻭﻱ ﺃﻥ ﺭﺟﻠﻴﻦ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﺿﺒﺔ ﺃﻗﺒﻼ، ﻭﻳﺪ ﻛﻞ ﻭاﺣﺪ ﻓﻲ ﻳﺪ ﺻﺎﺣﺒﻪ ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻣﺎ ﺑﺤﺬاء ﺧﺸﺒﺔ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ، ﻓﻀﺮﺏ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﺑﻴﺪﻩ ﻋﻠﻰ اﻟﺨﺸﺒﺔ، ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ: {ﺇﻧﻤﺎ ﺟﺰاء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺤﺎﺭﺑﻮﻥ اﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﻭﻳﺴﻌﻮﻥ ﻓﻲ اﻷﺭﺽ ﻓﺴﺎﺩا ﺃﻥ ﻳﻘﺘﻠﻮا ﺃﻭ ﻳﺼﻠﺒﻮا ﺃﻭ ﺗﻘﻄﻊ ﺃﻳﺪﻳﻬﻢ ﻭﺃﺭﺟﻠﻬﻢ ﻣﻦ ﺧﻼﻑ ﺃﻭ ﻳﻨﻔﻮا ﻣﻦ اﻷﺭﺽ{، ﻗﺎﻝ: ﻓﺬﻫﺐ ﻟﻴﺤﻨﻲ ﻳﺪﻩ ﻓﺎﻧﺘﺜﺮﺕ ﺑﺎﻷﻛﻠﺔ، ﻭﻭﻗﻊ ﺷﻘﻪ ﻓﻤﺎﺕ ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺎﺭ.