نسبها
هي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي[1]؛ فيلتقي نسبها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند هاشم.
أولادها
تزوجها أبو طالب بن عبد المطلب رضي الله عنهما، وولدت له ولده كلهم وأول ولدها طالب وبه يكنى أبوه، ثم عقيل وهو أصغر من طالب بعشر سنين، ثم جعفر وهو أصغر من عقيل بعشر سنين، ثم علي وهو أصغر من جعفر بعشر سنين، وجعفر ذو الجناحين وذو الهجرتين الأَولة إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة[2]، وأم هانئ، وجمانة؛ فكانت فاطمة بنت أسد رضي الله عنها أول هاشمية ولدت لهاشمي[3].
تربيتها للنبي
بعد وفاة عبد المطلب انتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعيش في بيت عمه أبي طالب وزوجته فاطمة بنت أسد رضي الله عنهما، فسخرَّا طاقتهما لرعايته والاهتمام به، وكانت فاطمة بنت أسد من أبر الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى قال فيها صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني كنت يتيماً في حجرها فأحسنت إلي))[4].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها))[5].
ويكفي دليلاً على ذلك الاهتمام منها رضوان الله عليها ما أخبر عنها صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: رحمك الله يا أمي! كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعينني وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيبا وتطيبيني تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة الله الذي يحي ويميت وهو حي لا يموت ، اغفر لامي فاطمة بنت اسد ولقنها حجتها ووسع مدخلها بحق نبيك والانبياء الذين من قبل يا ارحم الراحمين))[6].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((رَحِمَ اللَّهُ أُمِّي فَاطِمَةَ لَقَدْ كَانَتْ تُؤْثِرُنِي عَلَى وَلَدِهَا وَتُحْسِنُ التَّرْبِيَةَ))[7].
إسلامها
أدركت فاطمة بنت أسد رضي الله عنها بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت ممن سبق إلى الإسلام، فروي عن جعفر بن محمد قال: كانت فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب حادية عشرة، يعني في السابقة إلى الإسلام، وكانت بدرية[8]، كما أنها أول امرأة هاجرت إلى المدينة على قدميها[9].
وروى الزبير بن العوام في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ}...الآية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوا النساء إلى البيعة حين نزلت هذه الآية، فكانت فاطمة بنت أسد أول امرأة بايعت[10].
شيء من مناقبها
عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: "كانت فاطمة بنت أسد بن هاشم أول هاشمية ولدت من هاشمي، وكانت بمحل عظيم من الأعيان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"[11]، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكرمها ويعظمها ويدعوها أمي.
وعن علي عليه السلام، قال: "كانت فاطمة بنت محمد تكفيه الداخل وفاطمة بنت أسد تكفيه الخارج" يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم[12].
وروي أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن الناس يحشرون عراة))، فقالت: وا سوأتاه، فقال لها: ((فإني أسأل الله أن يبعثك كاسية))، وسمعته يذكر ضغطة القبر، فقالت: واضعفاه، قال: ((إني أسأل الله أن يكفيك ذلك))[13].
وعن علي عليه السلام، قال: أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير فبعث بها إلي وقال: ((إني لم أبعثها إليك لتلبسها إني أكره لك ما أكره لنفسي ولكن اقطعها خُمرا واكسها فاطمة أمك وفاطمة ابنتي))[14].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام: ((يا علي لك أشياء ليست لي منها، لك زوجة مثل فاطمة وليست لي، ولك ابنان من صلبك الحسن والحسين وليس لي مثلهما من صلبي، ولك مثل خديجة أم أهلك وليس لي مثلها حماة، ولك صهرك مثلي وليس لي صهر مثلي، ولك أخ مثلي وليس لي أخ مثلي، ولك أخ في النسب مثل جعفر وليس لي مثله في النسب، ولك أم مثل فاطمة بنت أسد الهاشمية وليس لي أم مثلها))[15].
وفاتها
عن علي عليه السلام قال: إنه لما ماتت أمي جئت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلت: إن أمي فاطمة قد ماتت.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنا لله وإنا إليه راجعون)) وأخذ عمامته ودفعها إليَّ وقال: ((كفنها فيها، فإذا وضعتها على الأعواد فلا تحدثن شيئاً حتى آتي)).
فأقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المهاجرين وهم يمشون قدامه لا ينظرون إليه إعظاماً له حتى تقدم رسول الله فكبّر عليها أربعين تكبيرة، ثم نزل في قبرها فوضعها في اللحد، ثم قرأ عليها آية الكرسي ثم قال: ((اللهم اجعل من بين يديها نوراً، ومن خلفها نوراً وعن يمينها نوراً، وعن شمالها نوراً، اللهم املأ قلبها نوراً))، ثم خرج من قبرها.
فقال المهاجرون: يا رسول الله قد كبّرت على أم علي مالم تكبر على أحد!
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((كان خلفي أربعون صفاً من الملائكة فكبرت لكل صف تكبيرة))[16].
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم حفر اللحد بيده وأخرج ترابه بيده، وألبسها قميصه واضطجع في قبرها، فلما سئل عن ذلك، قال: ((إني إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة واضطجعت معها في قبرها ليهون عليها))[17].
وعن جابر لما توفيت فاطمة بنت أسد حزن عليها رسول الله حزناً شديداً، ثم قال: ((يرحمك الله يا أماه لقد كنت تشبعيني وتجوعين علياً وجعفراً وعقيلاً، يرحمك الله يا أماه لقد كنت تؤثريني على نفسك وولدك))[18].
وروي عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله دفن فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب بالروحاء مقابل حمام أبي قطيفة[19] بالمدينة المنورة[20].
[1] المجدي في أنساب الطالبيين، ص30.
[2] الأمالي الاثنينية للمرشد بالله، ص 470.
[3] الإفادة في تاريخ الأئمة السادة، ص21.
[4] المصابيح في السيرة، ص122.
[5] مقاتل الطالبيين، ص5.
[6] كنز العمال، ج12/ص147.
[7] الأمالي الاثنينية، ص470.
[8] مقاتل الطالبيين، ص5.
[9] تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين، ص201.
[10] تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين، ص201.
[11] المستدرك على الصحيحين، ج4/ص192.
[12] المعجم الكبير للطبراني، ج24/ص351.
[13] تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين، ص201.
[14] وفي كنز العمال "عن علي قال : أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم حلة مكفوفة بحرير إما سداها وإما لحمتها ، فأرسل بها إلي ، فأتيته فقلت : يا رسول الله ! ما أصنع بها ؟ ألبسها ، قال : لا ولكن اجعلها خمرا بين الفواطم".
[15] الشافي للإمام عبدالله بن حمزة، ج3/ ص475.
[16] المصابيح في السيرة، ص122؛ وفي المعجم الكبير للطبراني أنه حين اضطجع صلى الله عليه وآله وسلم في قبرها، قال: ((الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت أغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين)).
وروى في كنز العمال أنه صلى الله عليه وآله وسلم كبر عليها سبعين تكبيرة؛ وروي غير ذلك.
[17] مقاتل الطالبيين، ص5؛ وفي كنز العمال أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني ألبستها قميصي لتلبس ثياب الجنة، واضطجعت معها في قبرها لأخفف من ضغطة القبر، إنها كانت أحسن خلق الله صنيعاً إلي بعد أبي طالب)).
[18] تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين، ص201.
[19] مقاتل الطالبيين، ص5.
[20] المجدي في أنساب الطالبيين، ص11.
الاسم: أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر (الأشرف)[1] بن علي (زين العابدين) بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام
الأمُّ: أمُّ حبيب, وهي أمُّ ولد جلبت من خراسان.
الأب: والد الإمام الناصر[2] هو السيدُ الإمام المجتهد شيحُ العِترة عليُّ بن الحسن, وكان يُلقب بالعسكري, ويُلقب بـ (ابنِ المُقعَدة), أمَّا سببُ تسميته بالعسكري[3]؛ فإنَّه جاء أنَّه عندما أخرجه عمر بن الفرج[4] من المدينة إلى العراق, إلى واسط أولاً ثم إلى سامراء, وهي كانت تسمى قديماً العسكر ولهذا سُمِّيَ العسكري[5], أمَّا سببُ تسميتِه بابنِ المُقعدة فنسبة لوالدته التي كانت مُقْعدةً، وهي من ذرية محمَّد بن الحنفية واسمُها أمُّ هاشم عُلَيةُ[6] بنت محمد بن عون بن محمد بن علي بن أبي طالب, وقد ترجم لوالدِ الإمام الناصر في كتاب مطلع البدور, فقال[7]: "السيدُ الإمام الكبير المُجْتهدُ الحافِظ شيخُ الشُّيوخ عليُّ بن الحسن بن علي بن عُمَر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليهم السلام - والدُ النَّاصر الكبير شيخ العترة، كان من المحدثين والفقهاء، ناظورة زمانه، وكان مُحدِّثُ أهل البيت الحسين بن علي المصري صنو الناصر يروي عنه مُشافَهَةً، وكذلك السيد الإمام المحدث أحمد بن محمد بن عمِّ الناصر، وعن طريقهما روى الناصر ما حكاه صاحب الحاصر عنه، وهو أنَّهما رويا للناصر عن أبيه علي بن الحسن المذكور أنه قال: حدثنا علي بن عبد الله بن الحسين عن موسى بن جعفر في قوله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾[آل عمران:97]، فهذا لمن له مال يسوقه من أجل تجارة فلا يسعه، فإن مات على ذلك فقد ترك (شريعة) من شرائع الإسلام إذا ترك الحج وهو واجد ما يحج به وإن دعاه قوم إلى أن يحج فاستحيا من ذلك فلا يفعل فإنه لا يسعه إلا أن يخرج ولو على حمار أبتر أجدع، وقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾، فإنما يعني من ترك الحج وهو يقدر عليه".
ويعتبر والد الناصر من علماء الحديث وقد روى عنه ولده الناصر في البساط بواسطة أخيه الحسين والمؤيد بالله في شرح التجريد وأبو طالب في تيسير المطالب ثلاث روايات, كما أن له روايات رواها عن محمد بن منصور المرادي في البساط وشرح التجريد ص102 وص103 وأحمد بن عيسى في الأمالي
أما مشائخ والد الإمام الناصر الذين روى عنهم الحديث, فعُدَّ منهم والده الحسن بن علي, وعلي بن جعفر الصادق (البساط, وشرح التجريد ص103 , وأحمد بن عيسى), وأبو ضمرة أنس بن عياض الليثي (تيسير المطالب), إبراهيم بن رجاء الشيباني (شرح التجريد ص103)
وكان والد الناصر من الشعراء, وقد ترجم له في كتاب معجم الشعراء ص44, وأورد بعضاً من أشعاره ومنها:
قوله لعلي بن عبد الله الجعفري وكان عمر بن فرج الرخجي حمله من المدينة:
صَبْراً أبا حسنٍ فالصَّبرُ عادَتُكم |
|
إنَّ الكرامَ علَى ما نَابَهم صُبُرُ |
أنْتم كِرامٌ وأرْضَى النَّاسِ كُلِّهُمُ |
|
عَنِ الإلهِ بما يَجري بِهِ القَدَرُ |
وَاعْلمْ بأنَّكَ مَحفُوظٌ إلى أَجَلٍ |
|
فَلَن يَضُرَكَ مَا سدى به عُمَرُ |
ومما أورده من أشعاره:
إنَّ الكرامَ بَني النَّبيِّ مُحَمَّدٍ |
|
خَيرُ البَّريةِ رَائحٍ أو غادِ |
قَومٌ هَدَى اللهُ العِبادَ بِجَدِّهم |
|
والمُؤثِرون الضَّيفَ بالأزوادِ |
كانوا إذا نَهَلَ القَنا بأكُّفِهم |
|
سَكَبوا السُّيوفَ أَعالي الأَعمادِ |
وَلَهم بِجَنْبِ الطَّفِ أكْرمُ مَوقِفٌ |
|
صَبَروا على الرّيبِ الفّظِيعِ العّادي |
حَولَ الحُسينِ مُصَرَّعين كأنَّما |
|
كانت مناياهُمُ على مِيعادِ |
كانت وفاة والد الإمام الناصر في العراق عن عمر ناهز السابعة والسبعين عاماً
المولد
ولد الإمام الناصر عليه السلام في المدينة المنورة, سنة 230هـ.
أولاده
أبو الحسن علي, وأبو القاسم جعفر, وأبو الحسين أحمد, وأمُّ الحسن، وهي: فاطمة، وأمُّ محمَّد، ومباركة، وأمُّ إبراهيم، وميمونة.
أخوة الناصر
كان للإمام الناصر أربعة من الأخوة ذكرهم في كتاب جمهرة أنساب العرب فقال: "وكان للحسن الأطروش من الإخوة: جعفر؛ ومحمد؛ وأحمد المكنَّى بأبي هاشم، وهو المعروف بالصوفي؛ والحسين المحدِّث، يروي عنه ابن الأحمر وغيره. وكان هذا الأطروش فاضلاً، حسن المذهب، عدلاً في أحكامه؛ ولي طبرستان ومات سنة 304هـ مقتولاً"
وأشهر أخوته الحسين وتلقب بالمصري, وكان من علماء الحديث بل من مشاهيرهم في ذلك العصر, وقد ترجم له في مطلع البدور, فقال[8]: "الحسين المحدِّث المصري، هو الحسين بن عليٍّ بنُ الحسن بن علي بن عُمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليهم السلام- هو إمام الحديث، وشيخ القديم والحديث، يعرف بالمحدِّث، وهو صنو الناصر الكبير، ويروي (أي الناصر) عنه كثيراً، ويروى عنه جماهير المحدثين من أهل البيت"
أما أخوه جعفر فقد قتل على باب نيسابور في الوقعة التي جرت بين الإمام محمد بن زيد وبين أهلها كما ذكر ذلك في كتاب مقاتل الطالبيين ص455.
أساتذته
تلقى الإمام النَّاصرُ العلمَ في المدينة المنَّورة, ثم انتقلَ إلى العراق فدَرَسَ على كبار علماء أهل البيت فيها وشيعتهم, وكان يَتَنقلُ لتلقِّي العُلُومَ بين الكوفة وبغداد, ومن خلال تراجم الإمام النَّاصرِ وتراجُمِ علماءِ عصْرِه, وما بينَ أيدِينا من مرويات الإمام النَّاصرِ نستطيعُ أنْ نستخلصَ عدداً ممن تلقى العلم عليهم:
ـ الإمام محمَّدُ بنُ منْصُورٍ المُراديُّ (ذكره في الإفادة)
ـ الإمام الحسنُ بنُ يحيى الكُوفيُّ (ذكره في الإفادة)
ـ أخوه الحسينُ المصري (هناك عدةُ مرويات للناصر عن أخيه الحسين في أمالي أبي طالب وغيره, وقد عدَّه ابن أبي الرجال ممَّن أكثرَ النَّاصر الروايةَ عنه)
ـ أحمدُ بنُ محمَّد بن الحَسن بن علي بن عمر الأشرف ابنُ عمِّ الإمام النَّاصر (هناك رواية رواها عنه الناصر في "كتاب الحاصر لفقه الإمام الناصر" كما ذكر في مطلع البدور)
ـ أحمدُ بنُ محمَّد (روى عنه في البساط ص20, ولم يذكر من اسمه إلا ما تقدم, ويحتمل أن يكون المتقدم ذكره)
ـ عبدُاللهِ بنُ يحيى العومسي العلويِّ (ذكر في مطلع البدور ج3/ ص139 أنَّ النَّاصر أكثر الرواية عنه وهو من أصحابِ الإمامِ القاسمِ الرسَّي)
ـ جَعفرُ بنُ مُحمَّد بنُ شُعْبةَ النيروسي (ذكره في مشائخ النَّاصرِ في كتاب أعلام المؤلفين في ترجمة المذكور ص285)
ـ محمَّدُ بنُ نوكرد (روى عنه في البساط)
ـ محمَّدُ بن عليٍّ بنُ خلفٍ العَطَّار( روى عنه في البساط في مواضعَ كثيرةٍ وكذلك جاء في الأمالي في مواضعَ متعددة رواية الناصر عن العطار)
ـ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ (جاء في الأمالي الاثنينية رواية الناصر عنه ولعله العطَّار)
ـ بشرُ بنُ عبدالوهاب (روى عنه في البِسَاط في مواضعَ كثيرةٍ وكذلك في أمالي أبي طالب)
ـ بشرُ بنُ هارون (جاء في أمالي أبي طالب أكثر من رواية للناصر عنه)
ـ أحمَدُ بنُ محمَّد بن عيسى القمي ( روى عنه في البساط)
ـ محمَّدُ بن خلف (جاء في الاعتبار رواية للناصر عنه, ويحتملُ أنْ يكونَ محمَّدَ بنَ عليّ بنَ خلفِ العطَّار المتقدم ذكره وقد وقع السقط في اسم والده)
ـ عبدُ اللهِ بنُ محمَّد المدني (جاء في أمالي أبي طالب رواية الناصر عنه)
ما وَرَدَ عن رسولِ الله وأميرِ المُؤمنين عَنهُ
ذَكَرَ عُلماءُ السِّيرِ والتَّراجِمِ في أَثْناءِ تَرجَمَتِهم للإِمامِ النَّاصرِ أحاديثَ ومروياتٍ بشَّرتْ بالإمامِ النَّاصرِ, وممَّن ذكر ذلك المولى العلامةُ مجدُ الدين المؤيدي عليه السلامُ في التُّحف شرح الزُّلف, فقد جاءَ فيه عن أميرِ المؤمنين عليه السلامُ في إحدى خُطَبِه أنَّه قالَ: "يَخرجُ من نَحوِ الدَّيلم مِن جبالِ طبرستان فتىً صبيحُ الوَجه اسمُه اسمُ فَرخِ النَّبي صلى اللهُ عليه وآلَه وسلم الأكبرِ يعني الحسنَ بن علي عليه السلام".
وعن النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وآلَه وسلم رواه بعضُ علمائِنا رحمهم اللهُ تعالى أنَّه صلى اللهُ عليهِ وآلَه وسلم لمَّا سألَهُ أنسٌ عن علاماتِ السَّاعة, قال: "من علاماتِها خروجُ الشَّيخِ الأصمِّ مِن وَلَدِ أخي معَ قومٍ شُعورُهم كشُعور النِّساءِ بأيديِهم المزاريقُ".
وعن جدِّهِ صلى اللهُ عليه وآلَه وسلم أنَّه قال: "يا عليُّ يَكونُ من أولادِك رجلٌ يُدعى بزيدٍ المظلوم، يأتي يومَ القيامَةِ معَ أصحابِه على نُجُبٍ مِن نُورٍ، يَعْبرون على رُؤوسِ الخلائقِ كالبَرقِ الَّلامِع، وفي أعقابِهم رجلٌ يُدعى بِناصرِ الحقِّ حتى يقفوا على بابِ الجنَّة...إلى آخر الحديث"، قالَ في الحدائقِ: "وأعلمَ بِهِ أميرُ المؤمنين عليه السلامُ في خُطبتِهِ بالكُوفةِ، وخُطبتِهِ بالنَّهروان".
قالَ الإمامُ النَّاصرُ عليه السلامُ: "حَفِظتُ من كُتُب اللهِ بِضْعَةَ عشرَ كتاباً فما انتفعْتُ منها كانتفاعي بكِتابين أحدُهُما: الفُرقانُ لِمَا فيه مِن التَّسليةِ لأبينا، والثَّاني: كِتابُ دانيال لِمَا فيه مِن أنَّ الشّيخَ الأصمَّ يَخرجُ في بَلَد يُقالُ لها ديلمان..الخ"
صِفَتُه
كانُ الإمامُ النَّاصرُ عليه السلامُ طويلَ القامَةِ، يّضْربُ إلى الأدَمةِ، بِهِ طَرَشٌ من ضَربةٍ أصابَتْ أُذنَهُ في حادثةٍ قيل: أنَّها وقعَتْ بنيسابور وقيلَ: في جُرجان[9], ومضمونُ القِّصة والمُتَّفقُ عليه أنَّ ذلك الطَّرشَ كان نتيجةَ التَّعذيب الذي نالَه الإمامُ النَّاصر في سِجن الجحستاني, فقد روى المؤرخون أنَّ الإمامَ النَّاصر حينَ شاهدَ جبروتَ وطغيان ذلك القائد حاول أنْ يقودَ ثورةً ضِدَّه, وبدأ في التواصل بالنَّاس والتحضيرِ لها وأجابَه على ذلك خلقٌ كثيرٌ, لكن لم يكتب لتلك الثورةِ أنْ تنجحَ ففي أثناءِ التحضير لها وشى بعضُ المنافقين بما يخططُ له الإمامُ النَّاصر, فأودعه السِّجنَ وكان يَضربُهُ بالسِّياط ضرباً شديداً؛ كي يعترفَ بأسماءِ من أجابه من النَّاس, فأمتنع الإمامُ عن الاعتراف, وأصرَّ على الحفاظِ على أسماءِ أنصارِه, فأصابَه سوطٌ في أذنِه فسبَّبَ له طرشاً, والطَّرَشُ ثِقَلٌ في السَّمع كما في معجم الوَسيط, ولقد كان الإمامُ النَّاصر يستثمرُ ذلك الطَّرَشَ في الأوقات الذي لا يُحِبُ أنْ يسمعَ فيها حديثَ المُتحدث, يقولُ في الإفادة: "وكان ربَّما يتطارشُ تطارشاً زايداً على ما بِهِ من الطَّرش يعرضُ له ولِضَربٍ من التَّطرفِ.
فحدثني أبي رحمَهُ الله قالَ: قامَ يوماً في مجلسِه شاعرٌ ليُنشدَهُ قصيدةً كان مدحَهُ بها، فلمَّا ابتدأَ بالإنشاد أشارَ رضي اللهُ عنه بيدِهِ إلى أذنِه أنَّي لا أسمعُ ما تُنشدُه فلا فائدةَ لك في إنشادِه، فتَضَرَّعَ إليه الرجلُ في أنْ يأذنَ في الإنشاد وسألَ في بابِهِ من حَضَرَ، فأومي إليه أنْ يُنشِدَه، فلمَّا مَرَّ الرجلُ في قصيدتِهِ، انتهى في بيتٍ أنشدَهُ إلى كلمةٍ لَحَنَ فيها، فلمَّا أطلعَ الكلمَةَ أوْمأَ إليه وأشارَ بيدِهِ مُنَبِهاً على خطَئِهِ، فَضَحِك النَّاسُ وقالوا: أيُّها النَّاصر ألمْ تُظهِرْ له أنَّك لا تسمعُ؟ فتبسَّمَ.."
جوانب من شخصية الإمام الإيمانية
إِمامُ هُدًى
الإمامُ النَّاصرُ واحدٌ من الأئمَّةِ الذين تشرفَتْ بِهم البسيطةُ, وتعطَّرت بِمَقدَمِهِم الدنيا وازدانَت بذكرِهِم صفحاتُ التاريخ, وهو حينَ يُذكر فإنَّما يُذكرُ في مَصافِ أئمَّة أهلِ البيتِ الكِبار كزيدٍ والهادي, بلْ هو من تلك الطبقةِ المُنيفةِ التي غيَّرت مسارَ هذه الأمَّة, وَخَلَّدَتْ آثاراً علميةً وفكريةً مازالت ملهمة للبَشرية, ولقد ظلَّ الإمامُ النَّاصر مدرسةً اجتهاديةً وإماماً مُتَّبعاً يُصّنَّفُ في أقوالِه ويُنتصرُ لاجتهاداتِه, ولقد حفظَ علومَ الإسلام واستوعب كُتُبَ المسلمين على اختلاف مباحثها ومذاهبِها من عقيدةٍ وفقه وحديثٍ ولغةٍ وتاريخ, قال في الإفادة: "وكان جامعاً لعلمِ القرآن والكلامِ والفقه والحديث والأدب والأخبار واللغة، جيَّدَ الشِّعر، مَليحَ النَّوادر، مُفيدَ المجلس[10]", بل كان من توسعه المعرفي أنِ اطَّلع على الكتب السماوِّية القديمة حتى أنَّه ذكرَ عن نفسِهِ أنَّه قرأ 15 كتاباً من الكُتُب السماوِّية.
ولقد تركَ لنا تراثاً فكرياً عظيماً ومؤلفاتٍ علميةً متعددة, أَثْرَتِ الفِكرَ الإسلامي, ومدًتِ المكتبةَ الإسلامية بِجواهرِ العُلُوم وكنوزِ المعارف, قال في التحف شرح الزلف: "ومن مؤلفاته: كتابُ البِساط، والمُغني، وكتابُ المُسفر، والصفي، وكتابُ البَّاهر جمَعَه بعضُ علماءِ عصرِِهِ على مذهبِهِ، وكتابُ ألفاظِ النَّاصر رتَّبَه أيضاً أحدُ العلماء المعاصرين له، كان يَحضُرُ مَجلسَهُ ويكتُب ألفاظَهُ جَمَعَ فيه من أنواعِ العُلوم ما يَبهَر الألباب، وكتابُ التفسير اشتمل على ألفِ بيتٍ من ألفِ قصيدةٍ، وكتابُ الإمامة، وكتابُ الأمالي فيها من فضائلِ أهلِ البيت الكثيرَ الطيب، وغيرُها كثير, قيل: إنَّ مؤلفاتِ الإمام الناصر تزيدُ على ثلاثمائة"[11]
عِلمُه
قالَ النَّاصر للحق عليه السلامُ في بعض خُطَبِهِ: "فَسَلوني عن جَميعِ أمْرِ دينِكم وما يُعييكُم من العلم، وتَفسيرِ القُرآن فإنَّا نحن تراجِمَتُهُ وأولى الخَلْقِ به، وهو الذي قُرِنَ بنا وقُرِنَّا بِهِ"
هذا الدعوى العظيمة تذكرنا بما قاله جدُّه عليُّ بن أبي طالب: "سلوني قَبلَ أنْ تفقدوني", وكرَّره حَفيدُه الإمامُ زيد بن علي: "سلوني، فواللهِ ما تسألوني عن حلالٍ أو حرامٍ، أو مُحكَمٍ أو مُتَشابِهٍ، أو ناسِخٍ أو مَنسوخٍ، أو أمْثالٍ أو قِصَص، إلا أنْبَأتُكم بِه، واللهِ ما وقَفتُ هذا المَوقفَ ولا قُمتُ مَقامي هذا حتى قَرأتُ القُرآن، وأتقنتُ الفرائضَ والأحكام، والسنن والآداب، وعرفتُ التأويلَ كمَا عرفتُ التَّنزيلَ، وفهِمتُ النَّاسخَ والمَنسوخَ، والمُحكمَ والمُتشابه، والخاصَ والعام، وأنَا أعلمُ أهلِ بيتي بما تحتاجُ إليه الأمَّةَ، وأنا على بَصيرَةٍ من ربي".
والإمامُ النَّاصر حينَ يُكرر ما قاله الإمامُ علي وما قالَه الإمامُ زيد, لَيَدُلَّ دلالةً بينةً عن المَقام المُتقدِمِ والمُستوى المعرفيّ والعِلمي الرفيع الذي وَصَلَ إليه الإمامُ النَّاصر عليه السلام, وهو ما يَحُطُّ عنَّا ثِقلَ البيانِ عن علمِ الإمام النَّاصر عليه السلام.
ويقول الإمام الناصر في إحدى رسائله في أثناء دعوته وما يكشف جانباً من علمه: ﻭﻟﻘﺪ ﺑﻠﻐﻚ - ﺃﻋﺰﻙ اﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺃﺩﻋﻮ ﻭﺃﻫﺪﻱ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ اﻷﻣﺮ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﻭاﻟﻨﻬﻲ ﻋﻦ اﻟﻤﻨﻜﺮ، ﺇﺣﻴﺎء ﻟﻤﺎ ﺃﻣﻴﺖ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻭﺩﻓﻦ ﻣﻦ ﺳﻨﺔ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻣﺤﻀﺖ ﺁﻱ اﻟﺘﻨﺰﻳﻞ ﻋﺎﺭﻓﺎ ﺑﻬﺎ، ﻣﻨﻬﺎ ﺗﻔﺼﻴﻞ ﻭﺗﻮﺻﻴﻞ، ﻭﻣﺤﻜﻢ ﻭﻣﺘﺸﺎﺑﻪ، ﻭﻭﻋﺪ ﻭﻭﻋﻴﺪ، ﻭﻗﺼﺺ ﻭﺃﻣﺜﺎﻝ، ﺁﺧﺬا ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻤﻌﺮﻓﺘﻬﺎ ﻳﻜﻮﻥ اﻟﻜﻤﺎﻝ، ﻣﺴﺘﻨﺒﻄﺎ ﻟﻠﺴﻨﺔ ﻣﻦ ﻣﻌﺎﺩﻧﻬﺎ، ﻣﺴﺘﺨﺮﺟﺎ ﻟﻠﻤﺘﻜﻤﻨﺎﺕ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻣﻨﻬﺎ، ﻣﻨﻴﺮا ﻟﻤﺎ اﺩﻟﻬﻢ ﻣﻦ ﻇﻠﻤﻬﺎ، ﻣﻌﻠﻨﺎ ﻟﻤﺎ ﻛﺘﻢ ﻣﻦ ﻣﺴﺘﻮﺭﻫﺎ"
مدرسته العلمية
لقدْ تَرَعرَعَ الإمامُ النَّاصرُ مُنذُ صِباه على العِلم والدَّرس, وما زال يَتَرقَّى في العلم حتى أَصْبحَ أحدَ أئمَّةِ الإسلام وعلماً من أَعلامِ الشَّريعة العِظام, ولقدْ سَخَرَ الإمامُ النَّاصر حياتَهُ في نشر العلم, وإحياءِ الحياةِ العلمية, وحين استقر له الزمان, ودانت له الأقطارُ, ومكنَّه اللهُ من إقامةِ الحَقِّ والعَدلِ, لم يَكُنْ ليَشغَلَه تَولِّى الأمرَ, والقيامُ بمصالحِ العباد عن الاهتِمامِ بالعلم, ونشرِه, باعتبارِ العلم هو الرَّافِعَةُ الأساسيةُ لرِفْعةِ الأُمَّةِ وتَقَدُّمِها, ولذلك فقد خصَّصَ له مَجْلِساً علْمياً كانَ يحضُرُه كِبارُ العُلماء والطَّلبة ينشرُ عليهم مَسائلَ العقيدةِ والفِقهِ والقرآنِ الكريم لفظاً ومعنًى واللُّغة والحديث رِوايةً ونقداً, ونقل التاريخ وإنشادِ الأشعار للقُدماء والمُحدثين، ورِوايةِ الحِكاياتِ المُفيدة, حتى أنَّ أحدَ رُوَّادِ مَجلِسِه, ومُلازمِيه وهو القاضي أبو عبد الله الوليدي, جَمعَ جميعَ ما كانَ يسمعُه من الإمام النَّاصر ممَّا يتصلُ بجنس العلم والأدب، ويتعلق بضرب من الفائدة، فصنَّفَ فيه كتاباً سمَّاهُ (ألفاظُ النَّاصر), كما خصَّصَ الإِمامُ النَّاصرُ مَجلِساً لرِوايةِ الحديثِ النَّبَويّ.
وقد كانَ لهُ عليه السلامُ في كُلِّ يومٍ رحلةٌ إلى أطرافِ البلد, وفي انصرافِه منها يجتمعُ إليه فُقَهاءُ البلد وأهلُ العلم في المُصلى, فيجلسوا ويُملي عليهم الحديثَ وهذا يدُلُّ على هِمَّةٍ قعساء, في نشرِ الفكرِ والمعرفةِ.
وعَمِلَ الإمامُ النَّاصر على تشجيعِ العُلماء على نَشرِ العلم, وأسس لهم المدارسَ العلمية, وتُعَدُّ مدرستَه العلمية التي أسسَّهَا بَعدَ فَتْحِ آمل من أشهرِ المدارس العلمية التي كان لها دورٌ رائدٌ في تلك البلاد, واستمرت قروناً منهلاً للعلم ومقصداً للفكر ومنصةً لانطلاق العلماء والمفكرين الذين أثروا المكتبة الإسلامية بنفائس الفكر في شتَّى المجالات العلمية، حتى أنَّ البعض قد ذهبَ إلى أنَّ الإمام النَّاصرَ حين وطَّدَ دعائمَ دولته العادلة في طبرستان تفرَّغَ في نهايةِ عُمرِه لبناءِ مداميك تلك المدرسة العلمية, وما زالَ الحديثُ عن تلك المدرسة إلى الآن, وهو شاهدٌ على عراقَتِها ودورِها وأثرِها الكبيرِ في الواقع العلمي.
دعوتُه إلى الله
الإمام ـ الذي جعلَه اللهُ قائداً للنَّاس وإماماً لهم ـ يمنحُه الله سمات القيادة وصفات الإمَامة, وفي شخصيتِه تتعدّدُ ملامحُ العظمة والسمو التي تُؤهلُه للأخذِ بيدِ الأمَّةِ الى حيث الرِّفعة والسعادة والحياة الكريمة, ومن شأنِ هذا الصفاتِ أنْ تتجلَّى في ميدان العمل, فيترك صاحبُها آثاراً خالدة, لولا تواترُه لظنَّه الباحثُ ضرْباً من الخيال, وفي أقربِ الأحوال بعيدَ المنال, ولعمري لقد كان الإمامُ النَّاصر حائزاً لكلِ صفات القيادة الربانية, وهو ما خَوَلَه أنْ يُخلِّدَ ذلك الأثرَ, ولعلَّ من أعظمِ الآثار الذي ارتبطتْ بشخصيةِ الإمام النَّاصر اسلامُ الآلاف البشر على يديه ودخولهم في دين الله بمساعيه, فلا يكاد إنسان أنْ يتحدثَ عنه إلا ويستحضرُ أولئك الآلاف من الجيل والديلم الذين أسلموا بدعوةِ الإمام النَّاصر, ويتذكرُ تلك الجهودَ العظيمة التي بذلَها في سبيل الدعوة إلى الله.
افتتح المسلمون بلادَ الجيل والديلم في العقدِ الثالثِ للهجرة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب, ودانت تلك البلادُ للدولة الإسلامية, وتعاقبَ على حكمِها بنو أمية وبنو العباس, لكنَّه لم يكنْ لهم همٌّ في إسلام أهل تلك البلاد, بل اقتصرَ همُّهم على جمعِ الأموال, وتحصيلِ الخراج, والمحافظة على رقعة دولتهم, ولم يُسجَّلْ لهم أيُّ عملٍ يُذْكر في هداية تلك المجتمعات, أو نشر مبادئ الإسلام في أوساطهم, بلْ أَعظمُ من ذلك فقدْ كانت تصرفاتُهم وظلمُهم حاجزاً دونَ إسلامِهم, ولذلك استمرَّ أهل تلك البلاد على الديانة المجوسية والوثنية من عبادة النَّارِ والنُّجومِ والأصنام, إلى أنْ جاء الإمامُ النَّاصرُ سنة 287هـ, وبجهودٍ عظيمةٍ ومَساعٍ حَثِيثةٍ وخلال أربعةَ عَشَرَ عاماً من الدعوة والمثابرة استطاع الإمامُ أنْ يدخلَهم في دين الله أفواجاً, ويقنعهم بشريعة الحق جماعاتٍ وأفراداً حتى قيل أنَّه أسلم علي يديه مليون نسمة, يقول ابنُ حزم[12]: "الحسن الأطروش - الذي أسلم على يديه الديلم[13]".
قال مؤلفُ أخباره: "رأيتُ في يومٍ واحدٍ وقدْ وَفَدَ عليه أربعةَ عشرَ ألف رجل شبانٌ كلُّهم قد أسلموا وأُخِذَتْ عليهم البيعةُ"[14].
ولك أنْ تتصورَ حَجْمَ التَّغيُّرِ العظيم الذي حَدَثَ في تلك المساحةِ الجغرافية في غضونِ أربعةَ عَشَرَ عاماً, على كافةِ المُستوياتِ الدِّينية والإنسانيةِ والاجتماعية والاقتصادية دنياً وآخرة.
لم يكنْ لذلك التحول العظيم والفتح المبين أن يحصلَ ـ في تلك الجغرافيا المترامية الأطراف, وفي تلك المجتمعات التي كانت بلا شك يحكمُها ارتباطٌ تاريخيٌّ وديني وشعبي بدياناتها ـ لولا أنَّ الإمامَ النَّاصر كان يمتلكُ صفاتٍ استثنائيةٍ بكلِّ ما تحمِلُه الكلمةُ من معنى, وفي هذا السياق يقولُ الدكتورُ أحمد محمود صبحي: "والواقعًُ أنَّه ما كانَ لأَهلِ الدّيلم وطبرستان أنْ يستجيبوا للنَّاصر وأنْ يدينوا بدين الإسلام إلا لأنَّهم وجدوا فيه خُلُقاً يباين تماماً ولاةَ العباسية, كان عالماً زاهداً إذْ يقولُ ليسَ لي شبرَ أرضٍ ولا يكونُ إنْ شاءَ الله, قوياً في الحقِّ مُتمسكاً بقول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( لو أنَّ عبداً قامَ ليلَه وصامَ نهارَه وأنفقَ مالَه في سبيل الله وعبدَ اللهَ بين الركنِ والمَقام ثُمَّ يكونُ أخرَ ذلك أنْ يُذبحَ بين الركنِ والمَقام مظلوماَ لمَا صَعَدَ إلى اللهِ من عملِهِ وزنُ ذرةٍ حتى يُظهِرَ المحبةَ لأولياء الله والعداوة لأعداءِ الله)"[15]
لقد حَسُنَ إسلامُ أهل الدَّيلم, وترسَّخَتْ في قلوبِهم تعاليمُ الدين الحنيف وتَمَكَنت مبادئُه حتى فاقوا في التزامِهم كثيراً ممَّن وُلِدوا وهم يحملون الهويةَ الإسلامية, وظل الدينُ الإسلامي هو السائد في بلادِهِم إلى اليوم, ولقد تحدَّثَ الإمامُ النَّاصر في إحدى خُطَبِهِ عن حُسنِ إسلامِهِم, إذ يقول: "أيُّها النَّاس إنِّي دخلتُ بلادَ الدَّيلم وهم مشركون، يعبُدُون الشَّجرَ والحجرَ، ولا يعرفون خالقاً، ولا يدينون ديناً، فلم أزلْ أدعوهم إلى الإسلام، وأتلطف في العطف بهم حتى دخلوا فيه أرْسالاً، وأقبلوا إليَّ إقبالاً، وظهر لهم الحقُّ، وعرفوا التوحيدَ والعدل، فهدى الله بي منهم زهاءَ مائتي ألف من رجل وامرأة، فهم الآنَ يتكلمون في التوحيد والعدل مستبصرين، ويناظرون عليهما مجتهدين، ويدعون إليهما محتسبين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المُنْكر، ويقيمون حدود الصلوات المكتوبة، والفرائض المفروضات، وفيهم من لو وَجَدَ ألفَ دينارٍ مُلقَى على الطريق لم يأخذْ ذلك لنفسِهِ، ويَنْصُبُه على رأس مزراقة ينشده ويُعَرِّفه، ثم قاموا بنصرتي، وناصبوا آباءَهم وأبناءَهُم، وأكابرهم للحرب في هواي، واتباعَ أمري في نصرة الحق وأهله، لا يوليِّ أحدٌ منهم عن عدوه، ولا يعرف غير الإقدام، فلو لقيتَ منهم ألف جريح لم ترَ مجروحاً في قفاه وظهره، وإنَّما جراحتُهُم في وجوههم، وأقدامهم يرون الفرار من الزحف ـ إذا كانوا معي ـ كفراً، والقتل شهادةً وغُنْماً"
شجاعته وجهاده
تدل المواقف البطولية والملاحم العظيمة التي رُويت في سيرة الإمام الناصر عن شجاعة منقطعة النظير, فهو حفيد الوصي عليه السلام صاحبِ بَدْرٍ وحُنين والجمل وصفين والنَّهروان, حتى ذكر أنه في بعض أيامه وقد أتته الخيل والعسكر من ثلاث جوانب من ورائه الخيل وقدامه من الديلم ومن فوقه من الجيل حتى ردهم وهزمهم الله.
وفي كتاب الحدائق الوردية يحكي موقفاً له يدل عن رباطة جأشه وقوة قلبه, وقع في معركة "نورود" العظيمة, والتي سيأتي الحديث عنها, يقول في الحدائق: "وفي الرواية أنه في ذلك اليوم لما اشتد القتال نزل بين الصفين بحيث كانت تصله النبل ودونها, قيل: إنه قيد رمحين, فصلى ركعتين وأخذ من موضع سجوده تراباً ثم ركب فرسه ورمى بالتراب الذي في يده في وجوه أعدائه وقال: (شاهت الوجوه) فانهزموا عند ذلك".
وأعظمُ البراهين على شجاعتِهِ وهمتِه العالية، وعزيمته الصلبة دخولُه بلادَ الجيل والديلم وأكثرُهم كفار, عبدة الأشجار والأحجار, فدعاهم إلى دينِ الله, وقعد بينهم 14 سنة, وكان كلَّما اُضْطر للخروج منها عاد بروح أقوى، ولم تتهيَّأْ له أسبابُ القبول إلا في المرة الخامسة, فكتب الله لذلك الإصرار وتلك العزيمة في الدعوة النجاح؛ فدخلت الجيلُ والديلم في دين الله أفواجا، وأسلم على يديه ألفُ ألفُ نسمة كما تقدم الحديث عنه، وهذه من الحقائق المسلمة التي أقرَّ له بها الموالف والمخالف.
لقد خاض الإمام الناصر معارك عدة وحروباً كثيرة, وكانت كُلُّها معارك اضطرارية بعيدة عن روحِ المحارب المنتقم والمقاتل الذي يقاتل من أجل القتل, ولهذا فقد عُرِف عنه أنَّه في معاركه كان يَرِدُ بين الصفين متقلداً مصحفه وسيفه، ويقول: "انا ابن رسول الله، وهذا كتاب الله، فمن أجاب إلى هذا، وإلا فهذا", فكان يعرض على عدوه الحقَّ، ويدعوه إلى الصدق حتى يتبين السبيل للمغرر بهم وتتضح الطريق للمخدوعين, ويعطي فرصة للتوبة والإنابة للعاصين, فيدعوهم في بادئ الأمر إلى كتاب الله والانصاف, فإن أبوا إلا مكابرةَ الحق ومواجهته, اضطرَّ لحربهم, ولذا تكللت كُلُّ معاركه بالظفر والفوز؛ لأنه كان يحمِل قضية، ويدافع عن حق؛ فكان الله معه مؤيداً وناصراً, وأعظم تلك المعاركة معركة "نورود", كما كان له معارك عدة في الديلم مع آل وهسوان وكان المنتصر في جميعها حتى سلَّم له ملوكُها بالأمر بعد أن يئسوا من الظفر.
وَرَعُه
إنَّ من أهمِّ صفاتِ القائد الورعَ والزهدَ عن الدنيا, وبها يتمكَّنُ من قيادة الأُمَّةِ والسَّير بها إلى مَرافِئِ الاستقرار والعدالة, من دونَ أنْ يكونَ له اهتمامٌ في جمع الأموال وعمارة القصور, ولقد تجلَّتْ صفةُ الورع في شخصية الإمام النَّاصر عليه السلام وحياته فكانتْ نظْرتُه إلى الدنيا باعتبارها متاعاً فانياً وظلاً زائلاً, ولقد دانت له بلادٌ متراميةُ الأطراف, وجُبِيَتْ له الأموالُ من مُختَلَفِ الأصقاع, ومع ذلك فقد ذُكِر عنه أنَّه قالَ: "ما وضعت لبنة على لبنة، ولا آجرة على آجرة"، ولمَّا دخل مدينة آمل ونزل في دار الإمارة لم يشتغل مدة بإصلاحها وترميمها حتى تهدَّمَتْ؛ فقيل له: لو أَمَرتَ بالإصلاح؟ فقال: "إنَّما جِئتُ للتّخريب والهدم لا للعِمَارة والتَّجديد، فلم يعمرْها", وعبارةُ النَّاصر جليةُ المَعْنَى إذ أنَّه لم يَقصُدْ أنَّه جاء لِهَدم المُدُن والقُرى, وإنَّما قصدَ أنَّه جاء لِهَدم سياسات الجبابرة الجائرة ومُمَارساتِهم الخاطئة التي أثْقَلت كاهلَ الرَّعية, وانعَكَست على حياتِهم, واجترحت حقوقَهم والتي تمثلت في تشييد القصور الملكية ونحوها.
وكما لم يَعْمِر له بيتاً وهو إمامُ المسلمين كذلك لم يحصلْ على العقارات، ولم يشتغل بتَمَلُكِ الأراضي, فقد رُوي عنه عليه السلام أنَّه قال: "ليسَ لي شبرُ أرض ولا يكون إنْ شاء الله تعالى، ومهما رأيتموني أقتني ذلك، فاعلموا أنَّي قد خُنتُكم فيما دعوتكم إليه"[16], وهنا تنحني المعاني إجلالاً للإمام الناصر؛ وهي تسمع منه تلك الكلمات الخالدات, فبَعدَ أنْ أقام دولة مترامية الأطراف, واسعة الحدود, على أرض تعتبر من أغنى بلاد العالم, ها هو يخرجُ من الدنيا دون أن يملك شبراً من الأرض, أو أن يكون له بيتاً يملكه, وهنا درسٌ بليغ لحكام المسلمين إن كانوا يعقلون.
ثقته بالله
إنَّ الثقةَ بالله تعني للمؤمن الداعي إلى الله كُلَّ شيء, وما كان للإمام الناصر أن يخرج إلى تلك البلاد الأعجمية ذات التضاريس الصعبة والجبال الوعرة مع ما هم عليه من الشرك بالله وعبادة النار والأشجار والأحجار والنجوم, ويعزم على نفسه أن لا يفارقَهم إلا بعد أن يهديهم إلى الله، ويخرجَهم مما كانوا فيه من الضلال والجهل والانحراف إلا وهو متينُ العلاقة بالله وشديد الثِّقة بربِّه, ولقد حدثت في مسيرته الدعوية, وحياته الجهادية شواهد حية على تلك الثقة المتينة بخالقه, ومنها: أنَّه بعد انتصاره في معركة "نورود" تناهى إلى مسامعه أن أحمد بن إسماعيل الساماني والي خراسان قد خرج من بخارى بجيش عظيم، وقد استنفر كلَّ إمكانياته وجاء بقضّه وقضيضه قاصداً طبرستان؛ لطلب الانتقام عن الهزيمة التي مني بها جيشه من الإمام الناصر، وقد أشاع الساماني أنَّه عازم على خراب طبرستان، وطرد الناصر منها, وأنه عقد الأيمان المغلظة على أن لا يُبقي في الديلم شجرة إلا قلعها، ولا حجرا إلا هدمها، فنزل ذلك الخبر على قلب الإمام الناصر وقلوب أوليائه واشتغلوا به اشتغالاً عظيما, فخرج الإمام الناصر إليهم في يوم من الأيام وهم في مجلسه، وقال: "قد كفيتم أمر هذا الرجل، فقد وجهتُ إليه جيشاً يُكتفى بهم في دفعه"، فقالوا له: أيها الإمام ومن أين هذا الجيش، ومتى انفذتهم؟! فقال: "صليت البارحة ركعتين ودعوت الله عليه!" فما هي إلا أيامٌ قليلة حتى ورد الخبر بأن غلمان الساماني قتلوه، وكُفِيَ رضي الله عنه أمره, قال في الإفادة: "هذه حكاية معروفة مشهورة، قد حدثني بها غير واحد من الثقات".
عفوه
يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه"[17], ولقد تمثل الإمام الناصر عليه السلام صفة العفو ولازمها حتى سار عفوه مضرب الأمثال, فبعد معركة "نورود" والتي تعتبر معركة فاصلة بين الإمام والعباسيين, كان قد تمالأ قبل المعركة عددٌ من أهل طبرستان على التمرد على الإمام والتعاون مع أعدائه، فظنوا حين انتصر الإمام الناصر ودخل طبرستان أن يكون له معهم حسابٌ آخر، وبتعبيرنا أن يصفي حساباته معهم, لكن ذلك لم يحدث، وإنما تعامل الناصر معهم على وفق خلق العفو الذي استقاه من جده رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأعاد إلى الأذهان بذلك الخلق النبوي معهم, قصةَ النبي الأكرم مع مشركي قريش, فحين دخل طبرستان منتصراً امتد إلى جامع مدينة آمل وصعد منبره وخطب في الناس خطبة بليغة، ثمَّ عنفهم على ما كان منهم من مطابقتهم لأعدائه ومعاونتهم وخروجهم عليه، وكان عتاب الناصح الشفيق, ثم عرًّفهم أنَّه قد عفا عنهم وأمَّن كبيرهم وصغيرهم.
ومن القصص الظاهرة على قيمة العفو في حياة الإمام الناصر الأطروش تعامله مع أحد أبرز قادته, وهو الداعي الحسن بن القاسم في قصة ذكرت في كتب التاريخ نقِف مع خلاصتها: فبعد أن خرج الإمام الناصر من السجن الذي فرضه عليه الحسن بن القاسم, وعلى فداحة الجرم المرتكب ظن الجميع أن الإمام الناصر سينزل على ذلك القائد أقسى عقوبات الخيانة التي أهونها القتل, فما كان من الإمام الناصر إلا أن عفى عنه ولم يمنعه ذلك من أن يضفي عليه لقب الداعي إلى الله وأن يوصي أن يكون صاحب الأمر بعده لما علم صدق توبته وإنابته.
القدوة الحسنة
كانت نظرة الإمام الناصر للنسب النبوي وكونه من سلالة خاتم المرسلين دافعاً للعمل, مستشعراً حديث جدِّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم, فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً)), وهذا المعنى هو ما عبر عنه الإمام عليه السلام يوماً ﻷﺻﺤﺎﺑﻪ: "إنِّي لا أُغرَّ نفسي، ولا أخدعها بالأماني، ولا أطمع أن أنال الجنة بغير عمل، ولا أشك في أن من أساء وظلم منا ضوعف له العذاب، وأنا ولد الرجل الذي دلّ على الهدى، وأشار إلى أبواب الخير، وشرع هذه الشرائع، وسنَّ هذه السنن والأحكام، فنحن أولى الخلق باتباعه واقتفاء أثره واحتذاء أمثاله والاقتداء به".
عدالته
لقد شهد على عدالة الإمام الناصر القاصي والداني والموالف والمخالف, ومن تلك الشهادات التاريخية شهادة المؤرخ محمد بن جرير الطبري, ولشهادته قيمة علمية؛ لأن الطبري من أبناء طبرستان وهي المنطقة التي دخلها الناصر عليها السلام بجيشه, أضف إلى ذلك أن الطبري كان سني المذهب، بالإضافة إلى أن الطبري توفي في سنة (310 هـ) أي بعد وفاة الناصر بـ 6 سنين فهو قريب العهد به, يقول الطبري في تاريخه: "ولم يرَ الناس مثل عدل الأطروش، وحسن سيرته، وإقامته الحق"[18]
وقال المؤرخ ابن الأثير: "كان الحسن بن عليّ حسن السيرة، عادلاً، ولم يرَ الناس مثله في عدله, وحُسن سيرته، وإقامته الحقّ"[19]
يقول ابن خلدون: "وكان هذا الأطروش عادلاً حسن السيرة لم يرَ مثله في أيامه"[20]
قال ابن حزم: "وكان هذا الأطروش فاضلاً، حسن المذهب، عدلاً في أحكامه"[21]
من مظاهر عدالته:
امتنع عليه السلام من تولية أحد أبنائه؛ لأنه لم يكن يرى فيهم مؤهلات قيادة الأمة وتحقيق العدالة, فيسأله أحد قادته ـ وهو وهري بن شهريارـ أن يعهد إلى بعض أولاده، فقال عليه السلام: "وددّت أن يكون فيهم من يصلح لذلك، ولكن لا أستحل فيما بيني وبين الله عزَّ وجل أن أولِّيَ أحداً منهم أمر المسلمين!!"، ثم أشار إلى الحسن بن القاسم وقال: "الحسن بن القاسم أحقُّ بالقيام بهذا الأمر من أولادي وأصلح له منهم فَرُدُّوه!!" ولم يمنعه ما كان أسلفه عنده من إيثار الحق في المشورة به.
وروي عن حسين الحجام قال: كنت جمعت بالجيل والديلم سبعة آلاف درهم بأجرة الإحتنان, حملت من ذلك إلى الناصر ثلاثة آلاف درهم صحاح هدية له، فلم يقبل، وقال: "أنا أحتاج أن أعطيك يا حسين، فكيف آخذ منك؟!".
وروي عن أبي داوود، قال: جاء رجل جيلي شكسكوهي بزقٍ فيه رُبٌّ إلى الناصر هدية، فقبلها الناصر، وأمر بأن يسلمه إلى خادم له يقال له (لهو)، ثم جاء صاحب الرُبِّ بعد ثلاثة أيام بخصومة ودعوى له على رجل، فلما قدم صاحب الرُبِّ خصمه إلى الدعوى، أمرنا الناصر أن ندعو خادمه، ونأمره برد رُبِّه، فجاء خادمه به فأبى الرجل أخذه، فامتنع أن يأخذه، فلم يتركه الناصر دون قبضه وأخذه.
وروي عن أبي العباس المعروف "بنير" قال: جاء رجلٌ ودفع إلى النَّاصر سفرجلة، فأخذها النَّاصر، وشمَّها، ووضعها بين يديه، فلمَّا كان بعد ساعة، جاء صاحب السفرجلة بخصم له مُدَّعىً عليه، فلما بَصُرَ به النَّاصر كذلك ردَّ إليه سفرجلته من ساعته.
وروي عن أبي موسى الشيخ سلوس قال: هيأ أخي بالجيل للنَّاصر مائدة من الطعام وحملاً وسموكاً وغيرها، فذهب بها إليه، فقال له النَّاصر: ألك مع أحد دعوى وطلبة؟ فقال: لا، فلمَّا علم ذلك قبلها.
وروي عن عبد الله بن الحسن الإيواري قال: كنت حملت إلى النَّاصر شيئاً من الفواكه إلى (شالوس)، فامتنع من قبوله، فدنوت منه، وقلت: إن فاطمة عليها السلام قبلت من سلمان هدِّيته وأنت تمتنع ممَّا عملت فاطمة وأخذت واحداً منها، وأدخلته في يده حتى قبض واحداً[22].
ومن مظاهر عدالته أنَّ أحد عُمَّاله اقترح عليه أن يفرض ما كان يفرضه الولاة قبله من آل طاهر من ضرائب على الأموال المستخرجة من كل وادٍ، فامتنع النَّاصر، قال في الحدائق: "وروي أن بعض عماله ممن رضيه من عمال آل طاهر: ذكر أقاليم الأموال المستخرجة من كل واد، فامتنع النَّاصر من أخذها، فقال الرافع: كان آل طاهر عدولاً، والناس بذلك راضون.
قالوا: وكان مبلغها ستمائة ألف درهم، فقال: أنا ابن رسول الله لا ابن طاهر"[23]
تسامحه المذهبي
لقد استطاع الإمام النَّاصر أن يُدِير بلاداً مختلفة المذاهب والمشارب والاتجاهات من دون أن يّفْرض على أحد مذهباً أو يضيق عليهم في مذاهبهم, فقد حكم مجتمعات بعضُها سنية وبعضُها جعفرية وبعضُها زيدية, فلم يفرضْ على الجميع المذهب الزيدي, وإنما ساس الجميع بالعدل والانصاف, وبذلك استطاع أن يجعل الجميع يشعرون بالرضا تجاه الإمام الناصر وعدله, ولعلَّ أكبر شاهد على ذلك ما شهد له المؤرخ الشهير محمد بن جرير الطبري مع أنه كان سنياً إلا أنه قال أنه لم يرّ الناس مثل عدل الناصر, ومن صور تسامح الإمام الناصر الأطروش المذهبي ما كتبه الإمام الناصر إلى أحد علماء طبرستان أثناء الحرب, قال في تيسير المطالب[24]: روى أصحابنا عن المعروف بأبي بكرٍ محمد بن موسى البخاري، قال: دخلت على الحسين بن علي الآملي المحدث وكان في الوقت الذي كان الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام في بلاد الديلم بعد، وقد احتشد لفتح آملٍ ووردها، والحسين بن علي هذا يفتي العوام بأنهم يلزمهم قتال الناصر للحق عليه السلام ويستنفرهم لحربه ومعونة الخراسانية على قصده، وزعم أنه جهادٌ ويأمرهم بالتجهيز وعقد المراكب كما يفعل الغزاة، قال: فوجدته مغتماً فقلت له: أيها الأستاذ مالي أراك مغتماً حزيناً فألقى إلي كتاباً وَرَدَ عليه، وقال: اقرأْه، فإذا هو كتاب النَّاصر للحق عليه السلام وفيه: يا أبا علي نحن وإياكم خلفٌ لسلفٍ ومن سبيل الخلف إتباع السلف والاقتداء بهم، ومن سلفكم الذين تقتدون بهم من الصحابة عبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيدٍ وهؤلاء لم يقاتلوا معاوية مع علي بن أبي طالبٍ عليه السلام مع تفضيلهم عليا عليه السلام تأولاً منهم أنهم لا يقاتلون أهل الشهادتين، فأنت يا أبا علي سبيلك أن تقتدي بهم ولا تخالفهم وتنزلني منزلة معاوية على رأيك وتنزل عدوي هذا ابن نوحٍ منزلة علي بن أبي طالبٍ عليه السلام فلا تقاتلني كما لم يقاتل سلفك معاوية، وتخل بيني وبينه كما خلى سلفك بينهما، فتكف عن قتال أهل الشهادتين كما كف سلفك، وتجنب مخالفة أئمتك الذين تقتدي بهم ولا سيما فيما يتعلق بإراقة الدماء، فافهم يا أبا علي ما ذكرت لك فإنه محض الإنصاف.
قال: فقلت له: لقد أنصفك الرجل -أيها الأستاذ- فلم تكرهه؟ فقال: نكرهه لأنه يحسن أن يورد مثل هذه الحجة، ولأنه يرد متقلداً مصحفه وسيفه، ويقول: قال أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) فهذا هو كتاب الله أكبر الثقلين وأنا عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد الثقلين، ثم يفتي ويناظر ولا يحتاج إلى أحدٍ أما سمعت ما قاله في قصيدةٍ له، قال: وأنشد هذا البيت:
تداعا لقتل بني المصطفى .... ذوو الحشو منها ومراقها
صاحب دعوة مستجابة
عرف عن الإمام الناصر أن كان سريع الإجابة ممَّن لو أقسم على الله لأبره، ولقد حكي في سيرته قصصاً وشواهد على ذلك, ومن ذلك ما حكاه في الحدائق: "ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﻣﻦ ﺃﺛﻖ ﺑﻪ ﺃﻳﻀﺎ ﻭﻫﻮ اﻟﻔﻘﻴﻪ اﻟﻔﺎﺿﻞ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ اﻟﺪﻳﻠﻤﻲ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ ﺭﺣﻤﻪ اﻟﻠﻪ، ﺃﻥ ﺭﺟﻼ ﻛﺎﻥ ﻳﺤﺘﺮﺏ ﻓﻲ اﻟﻄﺮﻗﺎﺕ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻌﻪ ﻛﻠﺐ ﻗﺪ ﻋﻮﺩﻩ ﺃﻧﻪ ﺇﺫا ﺷﺎﻫﺪ ﻣﻦ ﻳﻄﻤﻊ ﻓﻴﻪ ﺃﺭﺳﻠﻪ ﻓﻴﻌﻤﺪ اﻟﻜﻠﺐ ﺇﻟﻰ ﻣﻮﺿﻊ اﻟﻌﻮﺭﺓ ﻣﻦ اﻟﺮﺟﻞ، ﺛﻢ ﻳﺄﺗﻲ ﺻﺎﺣﺒﻪ ﻭﻗﺪ ﻛﻔﺎﻩ اﻟﻤﺆﻧﺔ ﻓﻴﺄﺧﺬ ﻣﺎﻟﻪ، ﻓﺄﻗﺒﻞ اﻟﻨﺎﺻﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺫاﺕ ﻳﻮﻡ ﻣﻨﻔﺮﺩا، ﻭﻗﻌﺪ ﻋﻠﻰ ﻏﻴﻀﻪ ﻳﺄﻛﻞ ﺷﻴﺌﺎ ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎﻡ، ﻓﺄﺭﺳﻞ اﻟﺮﺟﻞ ﻛﻠﺒﻪ ﻋﻠﻴﻪ - ﻋﻠﻰ ﺟﺎﺭﻱ اﻟﻌﺎﺩﺓ ﻓﻠﻤﺎ ﻭﺻﻞ اﻟﻨﺎﺻﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻗﻌﺪ ﺑﺎﻟﻘﺮﺏ ﻣﻨﻪ ﻭﻟﻢ ﻳﺘﻌﺮﺽ ﻟﻪ، ﻭﺭﻣﻰ ﻟﻪ ﺑﺸﻲء ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎﻡ، ﻭﺃﻗﺒﻞ اﻟﺮﺟﻞ ﻓﺪﻋﺎ اﻟﻨﺎﺻﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﺃﻥ ﻳﺴﻠﻂ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻜﻠﺐ، ﻓﺴﻠﻂ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻘﺘﻠﻪ ﺑﻤﺎ ﺟﺮﺕ اﻟﻌﺎﺩﺓ ﺑﺄﻥ ﻳﻘﺘﻞ ﺑﻪ اﻟﻨﺎﺱ، ﻭاﻧﺼﺮﻑ اﻟﻜﻠﺐ ﻣﻊ اﻟﻨﺎﺻﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻭﺃﻗﺎﻡ ﻣﺪﺓ.
ﻭﻛﺎﻥ ﺭﺑﻤﺎ ﻳﺤﻀﺮ ﻓﻲ ﺷﻲء ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻭﺏ ﻓﻴﺆﺛﺮ ﻓﻲ ﺃﻋﺪاﺋﻪ، ﺣﺘﻰ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ اﻷﻳﺎﻡ، ﻭﻋﻤﻞ ﺭﺟﻞ ﻣﺄﺩﺑﺔ ﻟﻠﻨﺎﺻﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، ﻓﺘﻘﺪﻡ ﻭاﻟﻜﻠﺐ ﺧﻠﻔﻪ، ﻓﻠﻤﺎ اﺳﺘﻘﺮ اﻟﻄﻌﺎﻡ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ اﻟﻨﺎﺻﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻧﺒﺢ اﻟﻜﻠﺐ ﻧﺒﺎﺣﺎ ﻋﻈﻴﻤﺎ ﺑﺨﻼﻑ اﻟﻌﺎﺩﺓ ﻭﻫﻢ ﺑﺎﻟﻄﻠﻮﻉ ﻓﻤﻨﻌﻮﻩ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ، ﻭﻛﺎﻧﻮا ﻗﺪ ﻃﻠﻌﻮا ﺇﻟﻰ اﻟﻤﻮﺿﻊ ﺑﺴﻠﻢ، ﻓﺄﻣﺮﻫﻢ اﻟﻨﺎﺻﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺑﺄﻥ ﻳﺨﻠﻮا ﺑﻴﻦ اﻟﻜﻠﺐ ﻭﺑﻴﻦ اﻟﻄﻠﻮﻉ، ﻓﻄﻠﻊ ﻭﻭﻗﻒ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ اﻟﻨﺎﺻﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻭﺃﻛﻞ ﺷﻴﺌﺎ ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎﻡ ﻗﺒﻞ ﺃﻛﻞ اﻟﻨﺎﺻﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻓﻤﺎﺕ ﻣﻦ ﺣﻴﻨﻪ، ﻭﻛﺎﻥ اﻟﻄﻌﺎﻡ ﻣﺴﻤﻮﻣﺎ ﻓﺴﻠﻢ اﻟﻨﺎﺻﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻭﺃﺻﺤﺎﺑﻪ"[25]
ومن القصص على ذلك ما أورده في الإفادة: " واتصل به رضي الله عنه ما عزم عليه أحمد بن إسماعيل والي خراسان من بروزه من بخارى بجيشه وقضّه وقضيضه قاصداً طبرستان، ومتوجها إلى حربه وإظهاره أنَّه يخربها ولا يبقي بالديلم شجرة إلا قلعها لما جرى على عسكره، واشتغل قلبه [أي الناصر] وقلوب أوليائه بذلك اشتغالاً عظيماً.
فلما كان يوم من الأيام خرج إلى مجلسه، وقال: قد كفيتم أمر هذا الرجل، فقد وجهتُ إليه جيشا يُكتفى بهم في دفعه، فقالوا له: أيها الإمام ومن أين هذا الجيش، ومتى انفذتهم؟! فقال صليت البارحة ركعتين ودعوت اللّه عليه! فلما كان بعد أيام ورد الخبر بأن غلمانه قتلوه، وكُفِيَ رضي اللّه عنه أمره. هذه حكاية معروفة مشهورة، قد حدثني بها غير واحد من الثقات"[26].
ترتيب الحياة
تتسم حياة الإمام النَّاصر اليومية بالبساطة والتنظيم، فلم يعيش عيشة الملوك ولم يترك حياتَه من دون تنظيم، وفي تفاصيل حياته دروس لكيفية إدارة الذات وترتيب الحياة، فكان عليه السلام يركب إلى أطراف البلاد, ويمارس الرياضة اليومية فيضرب بالصولجان, وكان يحضر جنائز الأشراف وكبار الفقهاء ولا يفوته أن يلقي عليهم الدروس والمواعظ, فيروى أنَّه عليه السلام حضر عزاء بعض الأشراف فلمَّا سمع البكاء من داره، قال: "من هذا الميت الذي يُبْكى عليه؟ مات حَتْفَ أنفه وعلى فراشه وبين أهله وعشيرته، وإنَّما الأسف على أولئك النفوس الطاهرة التي قُتِلَت تحت أديم السماء، وفُرِّق بين الأجساد والرؤوس، وعلى الذين قتلوا في الحبوس وفي القيود والكبول"، وخطب في هذا المعنى خطبة حسنة، ثمَّ قال: "آه آه في النفس حزازات لم يشفها قتلى بورود".
ولقد كان عليه السلام يخرج إلى الأسواق ويخالط الناس بتواضع جمٍّ وخُلُق قويم, فلم يمنعه منصب الإمامة والخلافة العامة أن يقعد مع الرعية ويلاطفهم ويتفقد أحوالهم وطرق معايشهم, ولم يكنْ يضع بينه وبين العامَّة من النَّاس حجاب ولا بوَّاب ويذكرهم بذلك: "وأنتم معاشر الرعية فليس عليكم دوني حجاب, ولا على بابي بوَّاب, ولا علي رأسي خلق من الزبانية, ولا على أحد من أعوان الظلمة, كبيركم أخي وشابكم ولدي"
قربه من الناس
كان الإمام الناصر عليه السلام مع هيبته في القلوب ومكانته في النفوس يرسم البسمة في وجوه أصحابه، ومن ملح نوادره ما رواه محمد بن علي العبدكي قال: سمعت أبا القاسم عبد الله بن أحمد البلْخي يقول: كنت في مجلس الداعي محمد بن زيد بجرجان، وأبو مسلم محمد بن بحر حاضر، وكُنَّا جميعاً ممَّن يذُبُّ عن الناصر الحسن بن علي في تكذيب من ينسب إليه طلبه الأمر، فدخل [الناصر] والتفت إلى أبي مسلم. وقال: يا أبا مسلم من القائل:
وفتيان صدق كالأسنَّةِ عَرَّسوا .... على مثلها والليل تَرمي غَيَاهبُهْ
لأمرٍ عليهم أن يتم صُدُوره .... وليس عليهم أن تَتِمَّ عواقبُهْ
قال: فعلم أبو مسلم أنَّه قد أخطأ في إنشاد ذلك، لأنه يُستدل به على أنَّه معتقد للخروج وإظهار الدعوة، فأطرق كالخَجِل، وعلمت أنا مثل ما علمه فأطرقت، وفَطِنَ الناصر أيضا بخطئه فخجل وأطرق ساعة وانصرف، فلمَّا انصرف التفت الداعي محمد بن زيد إلى أبي مسلم. فقال: يا أبا مسلم ما الذي أنشده أبو محمد، فقال أبو مسلم: أنشد أيها الداعي.
إذا نحن أُبْنا سالمين بأنفُسِ .... كرامٍ رجَتْ أمراً فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنيمة أنها .... تؤبُ وفيها ماؤها وحياؤها
فقال الداعي محمد بن زيد: أو غير ذلك، إنَّه تتنسم رائحة الخلافة من جبينه.
وكان الجحستاني حين ضربه حبسه في بيت الشراب، وفيه زقاق فيها خمر، لأنه علم أنَّه يشتد عليه مقاربة موضع فيه خمر، فكان الناصر عليه السلام يقول: قويت برائحة الخمور. فقيل له: أيها الإمام لو أكرهت على شربها ما لذي كنت تصنع؟ فقال: كنت أنتفع بذلك، ويكون الوِزْرُ على المُكْرِه! وهذا من مليح نوادره ومزحه الذي لا يجاوز الحق.
قال في الإفادة: "ومن مَلِيْح نوادره فيما يتصل بهذا الباب: ما حدثني أبي رحمه الله، قال: كان رضي الله عنه محروراً شديد الحرارة تستولي عليه الحُمَّى إذا تكلم، فكان يوضع بين يديه كوز فيه ماء مُبَرَّد يتجرع منه في الوقت بعد الوقت إذا تكلم كثيراً وناظر في خلال مناظرته، وكان بـ(آمل) شيخ هِمٌّ من العراقيين يعرف بأبي عبد اللّه محمد بن عمرو، وكان يكلمه عليه السلام في مسألة فكان يترشش من فِيْهِ لعاب يصيب الكوز منه، كما يتفق مثله من المشائخ، فأخذ الناصر دفتراً كان بين يديه ووضعه على رأس الكوز، فاتفق أن هذا الشيخ وهو في هداره وحِدَّةِ مناظرته وَلِع بأخذ ذلك الدَّفتر عن رأس الكوز من غير قصد، ولكن كما يتفق من الإنسان أن يولع بشيء من ضجره واحتداده، وفعل ذلك مرتين، وكان الناصر يكلمه وكلما رفعه عن رأس الكوز أعاده إليه، فلما رفعه الرفعة الثالثة أعاده الناصر، ثم التفت إليه فقال: يا هذا ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِيْ العُقَدِ﴾ [الفلق: 4].
ومن مليح نوادره ما حكاه في الإفادة من أن الداعي قائد عسكر الإمام الناصر كان قد وقع بينه وبين الإمام الناصر منافرة, فخرج الداعي إلى الديلم، ثم توسط المشائخ والأشراف والفقهاء بينهما وعقدوا الصلح وردوه إليه, يقول الإمام أبو طالب في الإفادة: "فسمعت أبي رحمه اللّه يحكي عن عبد اللّه بن أحمد بن سلام رحمه اللّه، أنَّه قال: أردنا عقيب هذا الصلح أن نتوصل إلى تلقيب الداعي رضي الله عنه، فقلنا للناصر: إن أبا محمد قد شاع في النَّاس استيحاش الناصر منه، فينبغي أن تنعته بنعت وترسم له لقبا يرفع به عنه، قال: ففطن لما نريده ولم يكن ممن يذهب عليه مثل هذه الأغراض وتتمكن من مخادعته، فقال: لقبوه بالتائب إلى الله، فقلنا أيها الناصر نريد غير هذا، فقال: فالراجع إلى الحق، فقلنا: لا. فلم نزل به حتى تنجَّزنا منه تلقيبه بالداعي إلى الله.
أدبه وأشعاره
رويت عن الإمام الناصر أشعارٌ كثيرة, لكن المتتبع لها يجد أنه عليه السلام ـ مع امتلاكه شاعرية مرهفة وقدرة فائقة في قول الشعر ونظمه ـ لم يكن الشعر غاية له، ولا اتخذ الأدب حرفة ولا هدفاً، كما هو حال الشعراء، بل وظَّف أشعاره في خدمة غايته التي عاش من أجلها، ومشروعه الذي ناضل في سبيله، وهنا سنورد لكم نماذج من أشعاره التي تدل على ذلك، ففي بيتين يزهد الناس في الدنيا ويقصر هممهم في خدمتها يقول عليه السلام:
فلا تكن الدنيا لهمك غاية تناول منها كل ما هو داني
ويكفيك قول الناس فيما ملكته لقد كان هذا مرةً لفلان
ويأخذ الإمام الناصر عليه السلام نفساً عميقاً بعد جهد متعب وصراع شديد في سبيل غايته وأُمنيته التي هي هداية الناس وتحقيق الحق والعدل لهم، فيقول:
لَهفان جَمُّ وساوس الفِكْرِ .... بين الغِيَاضِ فساحل البحر
يدعو العبادَ لِرشدهم وكأن .... ضُربوا على الآذانِ بالوَقْرِ
مترادف الأحزان ذو جُزَع .... مُرٍ مذاقتهن كالصبر
متنفس كالكير ألهبَه .... نفخ القَيُون وواقد الجَمْرِ
أضحى العدوُّ عليه مجتهدا .... ووليُّه متخاذل النصر
متَبَرِّم بحياته قَلِق .... قد مل صحبة أهلِ ذا الدهر
وقد تتطلب بعض المواقف التعبير عن الذات تشجيعاً وتحريضاً لاختيار القدوة فيتحدث عن نفسه راسماً أهم ملامحها في مقطوعة تظهر مدى تأثره بالقرآن الكريم والتجارة الربانية التي حث عليها المولى جل وعلا في سورة الصف:
شيخ شرى مهجته بالجنة .... واستن ما كان أبوه سنه
ولم يزل علم الكتاب فَنَّه .... يجاهد الكفار والأظنَّه
بالمشرفيات والأسنه
وفي السياق ذاته ولذات الغرض يقول عليه السلام[27]:
واهاً لنفسي من حياتي واها.... كلفتها الصبر على بلواها
وسوغ مر الحق مذ صباها.... ولا أرى إعطائها هواها
أريد تبليغاً بها علياها.... في هذه الدنيا وفي أخراها
بكل ما أعلم يرضي اللهَ
ولا تغيب عن باله مصائب أهل بيته ومعاناتهم، وما ذاقوه من هذه الأمة فيزفر زفرة كاشفاً عن ما يفعله ذلك الواقع في نفسه وما يتركه من وجع وألم:
ﻭﺑﻲ ﻷﺣﻮاﻝ ﺑﻨﻲ اﻟﻤﺼﻄﻔﻰ ﻫﻢ ﻟﻪ ﺷﻒ ﻭﺗﺒﺮﻳﺢ
ﻋﺎﺩاﻫﻢ اﻟﺨﻠﻖ ﻓﺬﻭا ﻧﺴﻜﻬﻢ ﺑﺎﻟﻬﻢ ﻣﻐﺒﻮﻕ ﻭﻣﺼﺒﻮﺡ
ﻓﻲ ﻛﻞ ﺃﺭﺽ ﻣﻨﻬﻢ ﻃﺎﻫﺮ ﻟﻪ ﺩﻡ ﻓﻲ اﻟﻨﺎﺱ ﻣﺴﻔﻮﺡ
ﻭﻣﻴﺖ ﻓﻲ اﻟﺤﺒﺲ ﺫﻭ ﺣﺴﺮﺓ ﻭﻣﻮﺛﻖ ﺑﺎﻟﻘﻴﺪ ﻣﺬﺑﻮﺡ
ﻭﻫﺎﻟﻚ ﻳﻨﺪﺏ ﻓﻲ ﺃﻫﻠﻪ ﺃﻓﻠﺖ ﻣﻨﻪ ﻭﻫﻮ ﻣﺠﺮﻭﺡ
ﻟﻢ ﻳﻨﻘﻤﻮا ﻣﻨﻬﻢ ﺳﻮﻯ ﺃﻧﻬﻢ الساﺩﺓ اﻟﻄﻬﺮ اﻟﻤﺮاﺟﻴﺢ
ﺩﻋﻮا ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﻓﻨﺠﻮاﻫﻢ ﻓﻲ اﻟﻠﻴﻞ ﺗﻘﺪﻳﺲ ﻭﺗﺴﺒﻴﺢ
وفي بيتين قيل أنهم آخر ما جادت بهما قريحته يشرح فيها حالته وقد أصبح شيخاً كبيراً يتكئ على عصا ولا يخفى ما فيهما من جمال التشبيه وبراعة النظم:
ﺃﻧﺎﻑ ﻋﻠﻰ اﻟﺴﺒﻌﻴﻦ ﺫا اﻟﺤﻮﻝ ﺭاﺑﻊ * ﻭﻻ ﺑﺪ ﻟﻲ ﺃﻧﻲ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﺭاﺟﻊ
ﻭﺻﺮﺕ ﺇﻟﻰ ﺣﺪ ﺗﻘﻮﻣﻨﻰ اﻟﻌﺼﺎ * ﺃﺩﺏ ﻛﺄﻧﻲ ﻛﻠﻤﺎ ﻗﻤﺖ ﺭاﻛﻊ
محطات من حياة الإمام
نشأته العلمية ورحلته إلى العراق[28]
ولد الإمام النَّاصر الأطروش عليه السلام في المدينة المنوَّرة، وفيها ترعرع ونشأ في طلب العلم على يد علماء أهل البيت عليهم السلام، لكن إقامة في العراق لم تدم طويلاً فسرعان ما انتقل إلى العراق، وعلى الرغم من أنَّ المراجع التاريخية التي اطلعنا عليها لم تحدد تاريخ انتقال الإمام النَّاصر الأطروش، لكن من المحتمل أنه أُخِذَ مع أبيه[29], وهناك واصل الإمام الناصر تلقيه للعلوم الشرعية على كبار علماء أهل البيت وشيعتهم, فكان يتنقل بين بغداد والكوفة, فكان أبرز مشائخه شيخ الإسلام محمد بن منصور المرادي, والحسن بن يحيى العلوي, وأخيه الحسين وغيرهم من علماء الزيدية وجمع علوم القرآن والحديث والعقيدة والفقه والأخبار واللغة وسائر العلوم حتى صار من كبار أئمة العلم والدين وواحداً من أبرز علماء المسلمين.
عاش الإمام الناصر سنينه الأولى في ظل خلافة المتوكل العباسي الذي أشتهر عنه تشدده وإخلاصه في ظلم أهل البيت وتضييق الخناق عليهم، فعاين الإمام الناصر ما نال أهله من الظلم والاضطهاد وفي مقدمتهم والده الذي وضع تحت الإقامة الجبرية في سامراء، وهو ما غرس في نفسية الإمام معاني التضحية والفداء وصدق الانتماء وحب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
دخوله طبرستان[30]
بعد أن بلغ الإمام الناصر في العلم مبلغاً عظيماً هاجر من بغداد إلى طبرستان؛ بعد أن تنامى إلى سمعه قيام الإمام الداعي الحسن بن زيد[31] سنة 250هـ ونجاحه في إقامة دولة عادلة على أرض طبرستان؛ وهو ما دفع كثيراً من أهل البيت في الحجاز والعراق وأطراف الشام للهجرة إلى طبرستان بما فيهم الإمام الناصر.
يقول ابن اسفندار مؤرخ طبرستان (من أعلام القرن السابع الهجري): "وحينئذ وصل من السادة العلويون وبنو هاشم بما يزيد على أوراق الشجر من الحجاز وأطراف الشام والعراق وذلك للالتحاق بخدمة الحسن بن زيد فقدم في حقهم كل ألوان المبرات والتكريم وبلغ الأمر أنه كلما أراد أن يضع قدمه في الركاب كان يلتف من حوله ثلاثمائة علوي بسيوفهم المشهرة, ويقول السيد الإمام الناصر الكبير الحسن بن علي (الأطروش) في ذلك الوقت:
كـم ابن زيد حين يغدو بقومه بدور سماء حوله أنجم زهر
فيا بؤس قوم صبحتهم خيوله ويا نعم قوم نالهم جوده الغمر[32]
فيكون الإمام الناصر من تلك الكوكبة من أهل البيت الذين التحقوا بالإمام الداعي, وقد لازم الإمام الناصر مقام الإمام الداعي حتى توفي[33], فقام بالأمر بعده أخوه الإمام محمد بن زيد[34] فاستمر عنده.
ولمكانة الإمام الناصر الجليلة ومنزلته الرفيعة للإمام كان الداعيان الحسن بن زيد وأخوه محمد يعظمانه ويُجِلانه ويعرفان فضله ويقران بعلمه, وقد حاولا معه مراراً أن يلي لهما شيئاً من الأعمال لكنه امتنع.
ولقد لازم الناصر الإمامين الداعيين بالنصيحة الخالصة والصراحة الصارمة، وعلى الرغم ما أشتهر عنهما من العدالة حتى صارت عدالتهما مضرب الأمثال إلا أن الناصر كان جريئاً في بذل النصح لهما؛ دقيقاً في ملاحظة تحقيق العدالة منهما وقد حُكيَ الإمام محمد بن زيد طلب منه أن يتقلد القضاء, فأبى فأكرهه عليه فتقلده، فلما جلس أول يومه أتاه محمد بن زيد إجلالاً له وتعظيماً لشأنه فأمر القائم على رأسه وهو في مجلس الحكم بأن يأخذ الإمام محمداً فيقعده بين يديه.
فقال محمد: لم آتك مخاصماً ولا لأحد قبلي دعوى، فما هذا؟
قال له: بلى عليك دعاوي كثيرة، فإن كنت قلدتني القضاء فإني أبدأ بإنصاف الناس منك، ثم أقضي بين الناس.
خروجه إلى نيسابور[35]
في أثناء إقامة الإمام الناصر في طبرستان خرج إلى نيسابور وكانت تحت سيطرة محمد بن عبدالله الحجستاني[36], وفي نيسابور ألتف حوله القادة والعامة من الناس لما رأوا فيه من مخائل الصلاح والتقوى، فشرع في الدعوة للثورة وإزالة الظلم، وقد شجع الإمام على ذلك طمع الناس في التخلص من ظلم الجحستاني، لكن المنافقين سعوا به لدى حاكم نيسابور وأخبروه بما عزم عليه الإمام الأطروش، فأخذه وأودعه السجن وضربه بالسياط ضرباً عظيماً, حتى قيل أنه وقع سوط على أذن الإمام الناصر فأصابه منه طَرَشٌ[37].
عودة الإمام الناصر إلى طبرستان
جاء في كتب التاريخ كالإفادة والمصابيح أن الإمام الناصر لم يطل بقاؤه في سجن الجحستاني, فحين بلغ الإمام[38] محمد بن زيد محنة الإمام الناصر, وإيداعه السجن كتب رسالة إلى الحاكم الجحستاني في إطلاق سراح الإمام الناصر, فأطلق سراحه وعاد الناصر إلى طبرستان.
رحلته إلى الديلم[39]
استمر الإمام الناصر في طبرستان وبالتحديد في مدينة جرجان في ظل دولة الإمام محمد بن زيد، إلى أن وقعت المعركة الذي استشهد فيها الإمام محمد بن زيد وذلك سنة 276هـ[40], وأستولى العباسيون على طبرستان، وهو ما اضطر الإمام الناصر إلى الخروج منها؛ فخرج إلى الري[41] ونزل بدار محمد بن الحسن بن محمد بن جعفر الحسني, وفي أثناء إقامته بالري كاتبه ملك الديلم جستان[42] يطلب منه القدوم عليه، وأنه يريد التوبة والعودة إلى الله, كان الإمام الناصر يدرك أن جستان رجل فاجر ومراوغ وأنه يبطن بذلك أمراً أخر غير التوبة؛ ولذلك لم يستجب له في بادئ الأمر، وكتب إليه بأنه لا يثق بوعوده, وليس يأمن أن لا يفي بما يعده به, لكن جستان لم ييأس من استمالة الإمام الناصر، فعزز كتابه بكتب أخرى، وذكر في مكاتبته في المرة الثالثة: "فإنك إن نهضت فهو كما قلت، وإن أبيت فقد ألزمتك الحجة في ذلك، وأنا أشهد الله على ذلك وكفى بالله شهيداً"، وأكدَّ على وفائه بأيمان مغلظة بذلها.
حينها لم يجد الإمام الناصر بُدًّى بينه وبين الله إلا الخروج إليه؛ لإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فخرج إليه ومعه أولاده.
وصل الإمام الناصر إلى جستان فبدأ في إظهار التوبة والاقلاع عن معاصيه، ولقد كان لجستان ستون امرأة فطلقهن ولم يبق معه إلا أربع نسوة.
لم تدم توبة جستان طويلاً, فقد تبين أخيراً أن استقدام جستان للإمام الناصر لم يكن لغرض التوبة كما أظهر وإنما أراد الاستعانة بالإمام على حربه لصاحب طبرستان، قال في الإفادة، ص115: "وقد كان قبل مفارقته له أحوج إلى مساعدته على ورود باب آمل لحرب الخراسانية، وقد كان جستان أظهر أن الأمر له، وسار تحت رايته فزعا من الخرسانية وقَصْدِهم إياه، ولم يكن الناصر رضي الله عنه يثق بوفائه ويعلم أنَّه إن ظفر عاد إلى عادته، فلم يتشدد في الحرب ولم يثبت ثبات مثله، فصارت الغلبة للخراسانية وانهزم الناصر وجستان".
بعد هزيمة جستان أمام والي طبرستان، اضطر إلى عقد صلح معه، وحاول أن يغريه بالأموال حتى يكف عنه خطره فارسل إليه بالأموال والهدايا، وعندها عاد جستان لحالته الأولى من الفجور والفساد، وهو ما حمل الإمام الناصر على مفارقته والخروج إلى سهل الديلم، وعرض الإسلام على من بقي من أهلها على الكفر، قال في الإفادة: " وطال مقامه إلى أن تهيأ له الخروج من عنده، فخرج إلى سهل الديلم وعرض الإسلام على من بقي منهم على الكفر".
ثم خرج من سهل الديلم إلى جيلان في سنة 287هـ, وبدأ في عرض الإسلام على أهل الجيل فأسلموا كلهم على يديه.
كان الإمام الناصر يتنقل بين الجيل والديلم فكان يقيم في مدينة هوسم للاهتمام بأمر الجيل, وتارة في كيلاكجان فيراعي أمر الديلم.
وأقام الإمام (14) سنة في بلاد الجيل والديلم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، "وأزال الرسوم الجائرة التي وضعها آل وهشوذان على الديلم، واستنقذهم مما كانوا فيه من الضيم في الأنفس والأولاد والأموال"[43]، وجن جنون جستان حين رأى البلاد تستجيب للإمام الناصر وبدأت تتلاشى حكومته، فقاد معارك وحروباً ضد أنصار الإمام الناصر، "فكانت الدائرة على جستان، وزال سلطان جستان عن سهل الديلم جملة، وانحسم طمعه عنها، وتخلصوا من قبيح ظلمه لهم، وحكمه في أهاليهم وأولادهم واسترقاقه لهم"[44], وحين انحسر ملك جستان ولمع نجم الإمام الناصر, "اضطر جستان في الأخير إلى مبايعته وحلف له بالأيمان المغلظة أنه لا يخالفه ووفي بذلك وصار من اتباعه"[45].
أثمرت جهود الإمام الناصر ودعوته إلى الإسلام في تلك البلدان النائية في دخول الناس في الدين أفواجاً، حتى قيل أنه أسلم على يديه مليون نسمة, ولقد بايعه ألف ألف رجل بالغ مدرك ملتح، سوى النساء والمراهقين، وتحول أهالي الجيل والديلم من دين المجوسية ودخلوا في دين الله أفواجاً وبنوا المساجد، وتعلموا القرآن وتبصروا في الدين، وتسموا بأسامي المسلمين.
قال مؤلف أخباره: "رأيت في يوم واحد وقد وفد عليه أربعة عشر ألف رجل شبان كلهم قد أسلموا وأخذت عليهم البيعة"[46].
فتح طبرستان
لما توطد أمر الإمام الناصر في الجيل والديلم بدأت الخلافة العباسية تخاف من قوة نفوذه واتساع ملكه فكتبت إلى واليها على خرسان وما وراء النهر أحمد بن إسماعيل بن أحمد الساماني بمحاربة الإمام الناصر, فتحرك الوالي العباسي فجمع من نواحي خرسان جيشاً قوامه 30)) ألفاً لحرب الناصر، وكتب إلى نائبه بطبرستان محمد بن علي المعروف بصعلوك بالتوجه إلى آمل ليكون على قيادة ذلك الجيش, فخرج الجيش الخرساني إلى منطقة تدعي (شالوس).
حين علم الإمام الناصر بتحركات العباسيين، خرج من الجيل والديلم في جيش يتراوح ما بين سبعة آلاف إلى عشرة آلاف مقاتل ليس معه من السلاح وآلات الحرب ما كان للخرسانية, وكان قائد جيش الناصر الحسن بن القاسم, والتقى الجيشان بموضع يقع بين شالوس وارفوا على ساحل بحر قزوين يقال له "بورود"[47].
وقعة نورود
وقعت بين الجيشين وقعة عظيمة اشتهرت بوقعة نورود، وكان ذلك في يوم الأحد في شهر جمادى الأولى سنة 301 هـ، وقد انتهت الوقعة بانتصار الإمام الناصر على الجيوش العباسية التي كان قوامها من أهل خرسان، "ومنح الله الإمام الناصر أكتافهم ونصره عليهم فانهزموا أقبح هزيمة، وقُتِلُوا شر قتلة، وبلغ عدد المقتولين نحو عشرين ألفاً، بين مقتول بالسلاح وغريق في البحر، كانوا إذا أقبلوا إلى الظهر اخذتهم الرايات، وإذا ولَّوا واقتحموا البحر غرقوا"[48].
وبهذا الانتصار الذي حققه الإمام الناصر انتهت شوكة العباسيين عن طبرستان وجيلان, وبدأت دولة عادلة يقودها الإمام النَّاصر الأطروش, والذي أعاد للدين الإسلامي الحنيف رونقه ولمعانه, فبعد أن هدى الخلق إلى الله وفتح قلوبهم إلى الإسلام, توجه ليطبق لهم أسس الإسلام ويقيم فيهم منهج القرآن والسنة النبوية.
محاولات بائسة لاستعادة طبرستان
بعد الهزيمة التي تعرض لها العباسيون في معركة نورود, حاول أحمد بن إسماعيل الساماني أن يسترد طبرستان، فجمع الجيوش وجند الجنود، لكن الله تعالى أبطل مكره وأزهق باطله, بأن سلط الله عليه غلمانه فقتلوه، وقد أورد ذلك ابن الأثير فقال في أحداث سنة 301 هـ: "وفي هذه السنة قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل بن أحمد السامانيُّ صاحب خراسان وما وراء النهر، وكان مولعاً بالصيد، فخرج إلى فربر متصيّداً، فلمّا انصرف أمر بإحراق ما اشتمل عليه عسكره، وانصرف، فورد عليه كتاب نائبه بطبرستان، وهو أبو العبّاس صعلوك، وكان يليها بعد وفاة ابن نوح بها، يخبره بظهور الحسن بن عليّ العلويّ الأطروش بها، وتغلّبه عليها، وأنّه أخرجه عنها، فغمّ ذلك أحمد، وعاد إلى معسكره الذي أحرقه فنزل عليه فتطيّر الناس من ذلك.
وكان له أسدٌ يربطه كلّ ليلة على باب مبيته، فلا يجسر أحد أن يقربه، فأغفلوا إحضار الأسد تلك الليلة، فدخل إليه جماعة من غلمانه، فذبحوه على سريره وهربوا، وكان قَتْله ليلة الخميس لسبع بقين من جُمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثمائة[49]".
هكذا أورد ابن الأثير القصة ولم يشير إلى أن الساماني جهز جيشاً للانتقام من الناصر واستعادة طبرستان منه, وما أغفله ابن الأثير ذكره الإمام أبو طالب الهاروني في الإفادة: "واتصل به رضي الله عنه ما عزم عليه أحمد بن إسماعيل والي خراسان من بروزه من بخارى بجيشه وقضّه وقضيضه قاصداً طبرستان، ومتوجها إلى حربه وإظهاره أنَّه يخربها ولا يبقي بالديلم شجرة إلا قلعها لما جرى على عسكره، واشتغل قلبه [أي الناصر] وقلوب أوليائه بذلك اشتغالا عظيما.
فلما كان يوم من الأيام خرج إلى مجلسه، وقال: قد كفيتم أمر هذا الرجل، فقد وجهتُ إليه جيشا يُكتفى بهم في دفعه، فقالوا له: أيها الإمام ومن أين هذا الجيش، ومتى انفذتهم؟! فقال صليت البارحة ركعتين ودعوت اللّه عليه! فلما كان بعد أيام ورد الخبر بأن غلمانه قتلوه، وكُفِيَ رضي الله عنه أمره", ثم يقول الإمام أبو طالب: "هذه حكاية معروفة مشهورة، قد حدثني بها غير واحد من الثقات"[50].
دخول الإمام الناصر آمل
بعد الانتصار توجه الإمام الناصر إلى آمل، وكان ذلك في جمادى الآخرة، فاستقبله مشائخها وفقهاؤها فاعتذروا إليه عن فعلهم ومعاونتهم للعباسيين في قتاله فعفا عنهم، كما عفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أهل مكة يوم الفتح المبين.
وامتدَّ الإمام الناصر إلى جامع مدينة آمل وصعد منبره، وخطب في الناس خطبة بليغة اشتملت على المواعظ البالغة والحكم الجليلة، ثم عنفهم على ما كان منهم من مطابقتهم ومعاونتهم لأعدائه وخروجهم عليه، ثم عرًّفهم أنَّه قد عفا عنهم وأمَّن كبيرهم وصغيرهم.
في الحدائق الوردية وأمالي أبي طالب عن أبي الحسين الزاهد صاحب أخبار الناصر للحق عليه السلام، أن الإمام الناصر حين دخل آمل خطبة فيهم وقد ازدحم عليه طبقات الرعية، جاء فيها: "أيها النَّاس إني دخلت بلاد الديلم وهم مشركون، يعبدون الشجر والحجر، ولا يعرفون خالقاً، ولا يدينون ديناً، فلم أزل أدعوهم إلى الإسلام، وأتلطف في العطف بهم حتى دخلوا فيه أرْسالاً، وأقبلوا إليَّ إقبالاً، وظهر لهم الحق، وعرفوا التوحيد والعدل، فهدى اللّه بي منهم زهاء مائتي ألف من رجل وامرأة، فهم الآن يتكلمون في التوحيد والعدل مستبصرين، ويناظرون عليهما مجتهدين، ويدعون إليهما محتسبين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون حدود الصلوات المكتوبة، والفرائض المفروضات، وفيهم من لو وجد ألف دينار ملقى على الطريق لم يأخذ ذلك لنفسه، وينصبه على رأس مزراقة، ينشده ويُعَرِّفه، ثم قاموا بنصرتي، وناصبوا آباءهم وابناءهم، وأكابرهم للحرب في هواي، واتباع أمري في نصرة الحق وأهله، لا يوليِّ أحد منهم عن عدوه، ولا يعرف غير الإقدام، فلوا لقيت منهم ألف جريح لم تر مجروحاً في قفاه وظهره، وإنما جراحتهم في وجوههم، وأقدامهم يرون الفرار من الزحف ـ إذا كانوا معي ـ كفراً، والقتل شهادةً وغُنْماً.
وأنتم ـ أيضاً ـ معاشر الرعية، فليس عليكم دوني حجاب، ولا على بابي بواب، ولا على رأسي خلق من الزبانية، ولا أحد من أعوان الظلمة، كبيركم أخي، وشبابكم ولدي، لا آنس إلا بأهل العِلْم منكم، ولا أستريح إلا إلى مفاوضتكم، فسلوني عن جميع أمر دينكم، وما يغنيكم من العِلْم، وتفسير القرآن، فإنا نحن تراجمته وأولى الخلق به، وهو الذي قُرِن بنا، وقرنا به. فقال أبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي )). واللّه ولي توفيقكم لرشدكم، وحسبي اللّه وحده، وعليه توكلت وإليه أنيب[51].
بعد أن أنهى الإمام الناصر خطبته بايعه فقهاؤها ومشائخها ومنهم من بايعه في مدينة شالوس.
الأثار الطيبة لفتح الناصر لطبرستان
قلنا سابقاً ونعيدها هنا أن الإمام الناصر كان غوثاً وملاذاً لأهل تلك البقاع, ولقد كسر بدولته رتابة العصور, وأبطل نظريات الدهور حول الملوك والفاتحين, ففي كل الدنيا حين يدخل ملك بلاداً فاتحاً يتبرم عليه أهلها ويعتبرونه غازياً وعدواً لما يمارسه الملوك من فساد "إن الملوك إذا دخلوا قريتنا أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة"، لكن الإمام الناصر بعدالته وهديه النبوي غيَّرَ تلك النظرة, وهيأ ظروفاً جعلت أهل طبرستان ينظرون إليه كغوث لهم مما هم فيه من الظلم, وأبدوا ارتياحهم البالغ وعدوه فتحاً وغوث من أول يوم لدخوله، ويرجع هذا الارتياح المبكر لعدة أسباب، منها:
ـ أولاً أن الإمام الناصر كان قد سكن طبرستان من قبل وعاش بينهم أكثر من 20 سنة، وعرفوه عن قرب وكانوا يعظمونه ويجلونه مع اختلاف مذاهبهم حتى روي أن من هيبة الناس له ومحبتهم إياه خاف منه الإمامان الحسن بن زيد وبعد أخوه الإمام محمد بن زيد، فهو شخصية لها وزنها ولها اعتبارها في قلوب أهل طبرستان.
ـ ثانياً لا شك أن أخبار الإمام الناصر وإسلام أهل الجيل والديلم المجاورين لطبرستان قد تناهت إلى أسماع أهلها، وهذه الأخبار قد لاقت القبول والرضا؛ لأن إسلام تلك الأعداد الكبيرة مدعاة للمسرة واحترام من حقق هذا النجاح في نفس كل مسلم، وهو ما عاظم مكانة الإمام الناصر عند أهل طبرستان.
ـ ثالثاً كان أهل طبرستان يعانون من ظلم الولاة العباسيين، وكانوا في نفس الوقت متعطشين للعدالة دولة أهل البيت، فما زالت ماثلة في عقولهم دولة الإمامين الحسن بن زيد وأخيه محمد الذي أجمع المؤرخون على اشتهارهما بالعدل، إذن خير من تحقق لهم تلك العدالة شخصية من أهل البيت عليهم السلام، ومن كالإمام الناصر الذي عرفوا فضله وطهارته.
ويدل على ذلك أن أهل طبرستان كانوا يقولون: "دفع الله عنا بدخول الناصر أربعين لوناً من الظلم والجور المكشوف سوى ما يدق منه[52]"
عمل الإمام الناصر منذ توليه الأمر على تأمين حقوق الناس وبسط العدل بينهم ورفع الظلم وما كانوا يعانون منه من الولاة العباسيين، وكان أول عمل قام به أن رفع عنهم الضرائب التي كان الولاة يفرضونها عليهم وخيرهم بين الخراج والعشر فاختار أوساطهم العشر وكبارهم الخراج.
شواهد ودلائل العدالة في دولة الناصر
كل الشواهد التاريخية المتعددة المصادر دالة على أن دولة الإمام الناصر كانت مثالاً للعدالة وأن الناس في ظله كانوا ينعمون بالخير والعدل والرفاه، وفي هذه النقاط السريعة نلقي نظرة على ذلك:
ـ شهادة المؤرخ الطبري وثناؤه على الإمام الناصر ووصفه كما تقدم بأن الناس لم يشاهدوا كعدل الناصر وأنه كان حسن السيرة، والطبري من أهل طبرستان وممن عايش تلك الحقبة فقد توفي عام 307هـ، أي بعد دخول الإمام الناصر طبرستان بست سنوات.
ـ تفاني وإخلاص الناس للإمام الناصر وكشاهد على هذه الحقيقة يحكي التاريخ ما تعرض له الإمام الناصر من الحسن بن القاسم أحد قادة الإمام، فقد قام باعتقال الإمام ووضعه في قلعة اللارز، وهو ما أثار الناس على ذلك القائد، وقد عبر عن ذلك أحد الفرسان والقادة وهو ليلى بن النعمان، والذي كان غائباً عن الإمام في مهمة عسكرية في ناحية الجرجان في موضع يقال له سارية وما إن بلغه الخبر حتى أسرع راجعاً ودخل على الحسن بن القاسم وخاطبه بلهجة شديدة الحدة: ماذا صنعت بأبينا؟ ـ يعني الناصر ـ، أهذا حقه عليك وعلى الجماعة؟ فقال: إنَّه لم يُفْرِج عن المال، ولم يطعم العساكر ما لابد لهم منه من الخبز. فقال له: والأب إذا لم يطعم الخبز يُحبَس؟! ثم ركب وعدل برايته إلى جانب وصاح: من كان متبعا للحق ومريداً له فليعدل إلى هذه الراية, فالتف أغلبية أنصار الحسن بن القاسم تحت تلك الناصر وكانوا كما قال في الإفادة: قد ندموا على ما بدر منهم، إلا عدداً يسيراً, عندها أحس ذلك ابن القاسم بخطئه أعطى خاتمه وأنفذ ليل بن النعمان من يخرج الناصر من القلعة.
وحين خرج الإمام الناصر من القلعة ودخل أمل كان استقبال أهلها له استقبالاً استثنائيا فيروي والد الإمام أبي طالب الهاروني وكان شاهداً على ذلك اليوم فيقول: "وقد استقبله أكثر أهل البلد صغيرهم وكبيرهم، وكان على بغلة، فكاد النَّاس يقلعون بغلته من الأرض لازدحامهم عليه وخدمتهم له. ورأيته وهو يدفع النَّاس عن نفسه بطرف مقرعته إذا تكابسوا عليه تمسحا به وتقبيلا لرجله حتى كادوا يزيلونه عن المركوب، يشير بها وينحِّيهم عنه"[53].
هذا الاستقبال المهيب وذلك التحول إلى راية ليلى بن النعمان يدل دلالة على المحبة التي غرسها بعدله في قلوب الناس وإلا لو كان الإمام الناصر فرض حكومته بالقوة والسلطان لما تمكن من العودة إليها ولاستغل أهلها حبسه على نزع ولايته وتولية غيره لكنهم لم يفعلوا ذلك بل كان منهم العكس.
إقامة الإمام الناصر بآمل ودولته العادلة
إن الدول العادلة في التاريخ الإسلامي عزيزة الوجود، ولن يجد الباحث فيما مضى من تاريخ هذه الأمة إلا تلك النماذج الطاغوتية التي جثمت على صدرها وأذاقتها ويلات الظلم والاضطهاد، وعلى الرغم من تلك الحالة السوداوية إلا أن هناك حالات ناصعة لدول عادلة كانت حاضرة في تاريخ المسلمين، ومن تلك الدول دولة الإمام الناصر الأطروش.
لقد استطاع الإمام الناصر أن يقيم دولة عادلة ذائعة الصيت, بلغت شهرتها الآفاق وشهد لها القريب والبعيد، لقد دخل الإمام الناصر إلى طبرستان وقد أرهق أهلها الظلم وعانوا من الجور والاستبداد من قبل الولاة، وكانت الحالة الاجتماعية السائدة سيئة للغاية، وأفراد الشعب مرهقون بدفع الأموال الطائلة إلى الحكام، فوجدوا في الإمام الناصر المنقذ والفرج.
لقد أقام الإمام الناصر دولة مترامية الأطراف يحكي في الإفادة: "وتمكن من (طبرستان) كلها، من (شالوس) إلى (سارية)، وأعمالها، ومن الرويان وَ(كَلاّر) وما يتصل بها، ورتب العمال في هذه البلدان والنواحي، وولى القضاء زيد بن صالح الحسني.
وكان ينظر في الأمور بنفسه، وبَسَطَ العدل، ورفع رُسُوْمَ الجور، وعقد مجالس النظر، وكان الفقهاء يحضرونه ويكلمونه في المسائل ويكلمهم ويناظرهم"[54].
اختار الإمام الناصر أن تكون مدينة آمل عاصمة لدولته الفتية ومنها نشر العدل ووزع الولاة وأقام رسوم العدالة وأزال عن كاهل الرعاة الأتاوات والضرائب المفروضة من قبل من حكم تلك البقاع قبله كما تقدمت الإشارة إليه واستمرت دولة الإمام الناصر "ثلاث سنين وأشهراً[55]"
وفاته
توفي عليه السلام في مدينة آمل في شهر شعبان سنة 304هـ، وعمره 74 سنة.
ولقد كان من آخر أشعاره قصيدة أولها:
أناف على السبعين ذَا الحولَ رابعُ .... ولا بُدَّ لي أني إلى الله راجع
ويقول فيها:
وصرت أبا جدٍ تقومني العصا .... أدُبُّ كأني كلما قمت راكع
وكان عليه السلام في مرضه الذي توفي فيه لا تفوته صلاة بوضوء إلى أن أثقل فكان يومي إلى الوضوء بيده فيوضؤونه ويأخذ في الصلاة حتى فاضت روحه إلى بارئها وهو ساجد.
دفن عليه السلام بمدينة آمل، وعمر له مشهد فيها وفي مشهده، ومشهد الإمام الهادي إلى الحق يقول الشاعر:
عرج على قبر بصعـ ـدة وابك مرموساً بآملْ
واعلم بأن المقتدي بهما سيبلغ حيث ياملْ
نعم توفي الإمام الناصر وغيب جسده الثرى وغادرت روحه إلى بارئها في جوار النبيين والصديقين لكنه بقي مثلاً أعلا للمستبصرين, وقدوة حسنة للدعاة إلى الله في شتى أرجاء العالم، فحياته الحافلة بالخير والعطاء, والسعي لإنقاذ الناس من الجهل والكفر والظلم ما زالت خالدة في أنصح صفحاته, وكأنها دورة من دورات الحياة التي لم تتكرر كثيراً على وجه الأرض..
[1] عمر الأشرف هو ابن زين العابدين وأخو الإمام زيد لأمه وأبيه، وهو أسن من الإمام زيد وكان محدثاً فاضلاً ولي صدقات الإمام علي عليه السلام عاش خمساً وستين سنة ويكنى أبا حفص وقيل أبا علي. كل هذا نقلاً من كتاب المجدي في الأنساب.
[2] لم تحدد المصادر التاريخية التي بأيدينا سنة ولادته ولا سنة وفاته, لكنه من طبقة الإمام القاسم الرسي عليه السلام وقد كان مولد القاسم الرسي سنة (169هـ), فإذا فرضنا أن والد الناصر ولد في سنة ولادة الإمام القاسم الرسي فيكون وفاته سنة (246هـ) لأنه كما ذكر العمري في كتابه المجدي أنه تعمر(77) سنة, فيكون عمر ولده الإمام الناصر عند وفاته (16) سنة لكن هذا يستبعده أننا بعد التتبع لما بين يدينا من المصادر لروايات الإمام الناصر لم نجد أن الإمام الناصر روى عن والده, وعليه فيكون ولادة والد الإمام الناصر متقدمة عن ولادة الإمام القاسم الرسي, وإذا افترضنا عدم رواية الإمام الناصر عن والده لوفاة والده وهو ما زال في سن الرابعة لأن من يكون في هذا السن يضعف عن الرواية فيكون ولادة والد الإمام الناصر في سنة (157هـ) ووفاته (234هـ) . استفيد هذا التحقيق من جواب للباحث العلامة الكاظم الزيدي
[3] في كتاب لب اللباب في تحرير الأنساب ص57: العسكري: بفتح أوله والكاف وراء إلى عسكر مكرم مدينة بالأهواز وإلى عسكر مصر قلت: هي خطة بها انتهى وعسكر سر من رأى وعسكر المهدي, وقال في الأنساب المتفقة ص34: الثالث منسوب إلى عسكر سامرّا التي بناها المعتصم لمّا كثر عسكرُه وضاقت عليه بغداد وتأذّى به الناس وانتقل إليها بعسكره وسّميت العسكر وذلك في سنة 331 [ هكذا في الكتاب كما في المكتبة الشاملة وهذا خطأ واضح لأن المعتصم ولي الخلافة 218هـ توفي 227هـ/ فلعل التاريخ الصحيح أنه كان في سنة 221]فمن نُسب إلى العسكر بالعراق فلأجل سكناه سامرّا ومنهم من ينسب إلى سامرّا ولا يقال له العسكري وفيهم كثرة ويتميزون برواياتهم الرابع منسوب إلى قضاء عسكر المهدي وهو محمد بن عبد الله أبو بكر أحد أصحاب الرأي كان يتولّى القضاء بعسكر المهدي وهو ممّن أشتهر بالاعتزال وكان يُعدّ من عقلاء الرجال"، أما في الأنساب للسمعاني ج4/ ص194: وجماعة ينسبون إلى عسكر سر من رأى الذي بناه المعتصم، لما كثر عسكره وضاقت عليه بغداد وتأذى به الناس، فانتقل إلى هذا الموضع بعسكره، وبنى بها البنيان المليح، وسمي: سر من رأى ويقال لها: سامرة وسامراء.
وسميت " العسكر " لان عسكر المعتصم نزل بها، وذلك في سنة إحدى وعشرين ومائتين.
[4] عمر بن الفرج الرخجي: أحد جلاوزة بني العباس ولاه المتوكل العباسي على المدينة ومكة, فشد وطأته وظلمه على ذرية علي بن أبي طالب, وقد ذكر في كتاب الطبري ص306: "أنه ضرب الإمام يحيى بن عمر بن حسين بن الإمام زيد", وعمر بن فرج هو من أشخص القاسم بن عبدالله بن الحسين بن زين العابدين, كما في المقاتل ص158, وفي تاريخ بغداد ج5/ ص422, وقد اسرع الله له العقوبة فقد سخط عليه الخليفة العباسي المتوكل كما في تاريخ الإسلام للذهبي ج4/ ص318, فأخذ منه ما قيمته مائة وعشرون ألف دينار. ثم صالحه على أن يرد إليه ضياعه على ماله. ثم غضب عليه وصفع ستة آلاف صفعة في أيام، وألبس عباءة. ثم رضي عنه، ثم سخط عليه ونفاه. توفي ببغداد.
[5] في كتب التاريخ ذكر عدة وقائع لتعرض الطالبين للحبس في سامراء, ففي المقاتل ص154: أن أبا الساج(أحد قادة المتوكل العباس) قيد الإمام محمد بن صالح بن عبدالله بن موسى الجون وحمله إلى سامراء هو وجماعة من أهله, وفيه وغيره كما سبق في بعض الحواشي تعرض بعض الطالبين للجلب من المدينة. إلى سامراء على يد القائد العباسي عمر بن فرج الرخجي.
[6] كانت أم فاضلة وذكر في المقاتل أن الإمام محمد بن القاسم الطالقاني نزل في دارها حين طارده بنو العباس فقال في ص392: قال علي بن محمد الازدي: فحدثني ابنه علي بن محمد بن القاسم الصوفي: انه لما صار إلى واسط عبر بها دجلة إلى الجانب الغربي، فنزل إلى ام ابن عمه علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين، وكانت عجوزا مقعدة، فلما نظرت إليه وثبت فرحا به وقالت: محمد والله، فدتك نفسي واهلي، الحمد لله على سلامتك، فقامت على رجلها، وما قامت قبل ذلك بسنين، فأقام عندها مديدة، ومرضته من الوهن الذي اصاب ظهره حتى مات بواسط.
[7] ابن أبي الرجال, مطلع البدور ج3/ ص140
[8] مطلع البدور ج2/ ص190.
[9] أن تكون الواقعة حصلت في نيسابور استشكل بالآتي: أن من ذكر أنها في نيسابور ذكر أنها في زمن الإمام محمد بن زيد وهو الذي توسط في اخراجه من السجن بينما في كتاب الكامل أن الخحستاني قتل في سنة268هـ بينما تولى الإمام محمد بن زيد الإمام في سنة 270هـ, وتحكي كتب التاريخ أن الخحستاني دخل جرجان في زمن الإمام الحسن بن زيد واستولى عليها فيكون سجن الإمام الناصر في تلك المعركة التي طرد الخحستاني الإمام الحسن بن زيد من جرجان وفيها ناله الطرش.
[10] الإمام أبو طالب, الإفادة, ص112
[11] الإمام مجدالدين المؤيدي, التحف شرح الزلف, ص206
[12] جمهرة أنساب العرب, ص1 بحسب صفحات المكتبة الألكترونية.
[13] وفي الكامل في التاريخ, ج3/ ص394 ما لفظه: وكان الحسن بن عليّ الأطروش قد دخل الديلم بعد قتل محمّد بن زيد، وأقام بينهم نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام، ويقتصر منهم على العشر، ويدافع عنهم ابن حسّان ملكهم، فأسلم منهم خلق كثير، واجتمعوا عليه، وبنى في بلادهم مساجد ومثله في تاريخ ابن خلدون ج3/ ص367, وفي تأريخ الخلفاء ص157: وفيه أسلم الديلم على يد الحسن بن علي العلوي الأطروش وكان مجوسياً. وفي تاريخ ابن خلدون ج1/ ص200 : ثم قام بهذه الدعوة في الديلم الناصر الاطروش منهم وأسلموا على يده
[14] الإمام أبو العباس الحسني, المصابيح, ص545
[15] أحمد صبحي, اﻟﺰﻳﺪﻳﺔ 192
[16] مآثر الأبرار، ج2/ ص29
[17] نهج البلاغة، ص770.
[18] تاريخ الطبري, ج5/ ص679
[19] الكامل في التاريخ, ج3/ ص396
[20] تاريخ ابن خلدون، ج3/ ص367
[21] جمهرة أنساب العرب, ص22
[22] ابن أبي الرجال, مطلع البدور, ج3/ ص136
[23] المحلي، الحدائق الوردية، ج2/ ص57.
[24] الإمام أبو طالب, تيسير المطالب, ص134.
[25] المحلي، الحدائق الوردية، ج2/ ص61.
[26] الإمام أبو طالب, الإفادة, ص123
[27] الزحيف، مآثر الأبرارج2/ ص30
[28] ذكر في مطلع البدور أن من طلبة الناصر وملازميه شيخ العراق المسند عبدالله بن الحسن الأيواري وقرأ عليه النصوص فلينظر هل كان ذلك في العراق أم في آمل لكنه حكى في آخر ترجمة الأيواري أنه حمل إلى الناصر شيئاً من الفواكه إلى شالوس
[29] وقد رجح الباحث العلامة الكاظم الزيدي في جوابه عن انتقال الناصر إلى العراق: " أن ذلك تقديراً وتتبعاً في سنة (233هـ), وعمر الإمام الناصر (ع) ثلاث سنوات تقديراً, حيث كانت ولادة الإمام الناصر (ع) في المدينة النبوية, وهذا هو أول عهد المتوكل العباسي"
[30] إقليم يقع في شمال إيران ممتد على الساحل الجنوبي لبحر قزوين عبر سلسلة جبلية تعرف اليوم بسلسلة جبال ألبروز وكان يضم قديماً مدناً كآمل وجرجان وشالوس
[31] الإمام الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام, (219هـ /270هـ) وهو الداعي في بلاد الري وطبرستان وقزوين وجرجان ونيسابور, وموطد دعائم الزيدية في تلك البلاد.
[32] ابن اسفندار, تاريخ طبرستان, ص104.
[33] توفي الإمام الداعي الحسن بن زيد في 3/ رجب/ 270هـ
[34] محمد بن زيد أخو الإمام الداعي الحسن بن زيد دعا إلى الله بعد وفاة أخيه الحسن
[35] مدينة في مقاطعة خرسان شمال شرق إيران قرب العاصمة الإقليمية مشهد.
[36] في الكامل لابن الأثير أحمد بن عبدالله الخجستاني وأنه استولى على نيسابور في 262 وذكر في مقتله ما يأتي: ذكر قتل الخجستاني
لما كان الخجستاني بطخارستان وافاه خبر أخذ والدته من نيسابور، وسار مجدأن فلما قارب هراة أتاه غلام لأبي طلحة، يعرف بينال ده هزار، مستأمناً فأتاه خبره قبل وصوله، وكان للخجستاني غلام اسمه رامجور على خزائنه، فقال له كالممازح له: إن سيدك ينال ده هزار قد استأمن إلي، كما علمت، فانظر كيف يكون برك به. فحقدها عليه رامجور، وخاف أن يقدم ذلك الغلام عليه، ويطلب الفرصة ليقتله.
وكان لأحمد غلام يدعى قتلغ، وهوعلى شرابه، فسقاه يومأن فرأى في الكوز شيئأن فأمر به فقلعت إحدى عينيه، فتواطأ قتلغ ورامجور على قتله، فشرب يوماً بنيسابور عند وصوله من طايكان، فسكر ونام، فتفرق عنه أصحابه، فقتله رامجور وقتلغ، وكان قتله في شوال سنة ثمان وستين ومائتين، وأخذ رامجور خاتمه فأرسله إلى الإصطبل يأمرهم بإسراج عدة دواب، ففعلوأن فسير عليها جماعة إلى أبي طلحة وهو بجرجان يعلمه الحال، ويأمره بالقدوم، ثم أغلق رامجور الباب على أحمد واختفى.
وبكر القواد إلى باب أحمد، فوجدوا باب حجرته مغلقأن فانتظروه ساعة طويلة، فرابهم الأمر، ففتحوا الباب فرأوه مقتولأ فبحثوا عن الحال، وأخبرهم صاحب الاصطبل خبر رامجور في إنفاذ الخاتم، فطلبوه فلم يجدوه، ثم وجدوه بعد مدة.
وكان سبب إطلاعهم عليه أن صبياً من أهل تلك الدار التي هوبها طلب ناراً فقيل له: ما تعلمون بالنار في اليوم الحار؟ فقيل: نتخذ طعاماً للقائد؛ قيل: ومن القائد؟ قال: رامجور؛ فأنهوا خبره إلى بعض القواد، فأخذوه وقتلوه. ج3/ ص299.
[37] في رواية وهي الأقرب أن تعرض الإمام الناصر للسجن إنما كان في جرجان وهو في جيش الإمام الداعي, ويذكر في كتاب الكامل أن الوقعة بين الخجستاني والإمام الداعي كانت عام( 266هـ), وقد ذكر في الإفادة اختلاف الرواية في تعرض الإمام الناصر للسجن هل كان في نيسابور أم في جرجان, قال في الإفادة: وذكر بعض من صنف أخباره، أن ذلك في ناحية جُرْجَان لما وردها الجحستاني وانحاز عنها الحسن بن زيد، وأُحْوِج عليه السلام إلى الإقامة هناك، فسعى به بعض من كان وقف على أمره، فأخذه واعتقله وضربه بالسياط ضرباً عظيماً، ووقع سوط في أذنيه فأصابه منه طَرَشٌ، واستقصى عليه بأن يعترف بما كان منه، ويعرفه أسامي أصحابه، فثبت على الإنكار، ثم أفرج عنه، وقيل: إن محمد بن زيد كاتبه في معناه والتمس منه تخلية سبيله، فعاد إلى جرجان، وقيل: إنَّه تخلص بخروج الجحستاني من جرجان، وهذا قول من ذكر أن النكبة اتفقت عليه بناحية جرجان.
وإنما قلنا أن تكون في جرجان لأن من يروي أنها وقعت في نيسابور يقول أن ذلك كان في ولاية الإمام محمد بن زيد وإذا كانت ولاية الإمام محمد بن زيد بدأت من عام 270هـ فهذا يضعف ذلك لأن الخجستاني مات في عام 268هـ.
[38] ينظر في ذلك ما تقدم في الحاشية إلا أن يكون محمد بن زيد كتب إلى الخجستاني في عهد أخيه الحسن.
[39] يحد الديلم من الجنوب قزوين والصرم وشيء من آذربيجان وبعض الري ويتصل بها من الشرق بقية الري وطبرستان ومن الشمال بحر الجزر ومن المغرب شيء من بلاد آذريبيجان
[40] هكذا في التحف والتاريخ لأحمد الهادي أما في كثير من المصادر التأريخية أن الوقعة كانت في 287هـ / وكانت المعركة بين الإمام الداعي محمد بن زيد وأحد قادة إسماعيل الساماني والي العباسيين / ويظهر أنه بعد خرجت طبرستان من سلطة أهل البيت واستولى عليها العباسيين إلى أن دخلها الإمام الناصر ثانية سنة 301هـ كما سيأتي.
[41] في المصابيح أنه كان بآمل فلينظر
[42] في الحدائق أن جستان كان متزوج بجدته ج2 / ص55
[43] الامام أبو طالب: الإفادة ص114.
[44] الامام أبو طالب: الإفادة، ص114.
[45] الإمام أبو طالب: الإفادة, ص115
[46] علي بن بلال: تتمة المصابيح، ص545.
[47] الإمام أبو طالب: الإفادة، ص115.
[48] الإمام أبو طالب: الإفادة، ص115.
[49] ابن الأثير, الكامل في التاريخ, ج3/ ص393
[50] الإمام أبو طالب: الإفادة, ص123
[51] الإمام أبو طالب, الأمالي,ج1/ ص239
[52] علي بن بلال: تممة المصابيح،
[53] الإمام أبو طالب, الإفادة, ص121>
[54] الإمام أبو طالب, الإفادة ص118
[55] هكذا في الإفادة, وفي المصابيح وثلاثة أشهر ص544
نسبه الشريف
هو هيبة رسول الله وسؤدده الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام؛ يكنى بأبي محمد، وأمه فاطمة الزهراء عليها السلام، فهو ريحانة المصطفى، وسيد شباب أهل الجنة.
مولده عليه السلام
تأتي السنة الثالثة للهجرة، ويأتي النصف من رمضان؛ ليهل بدرٌ هاشميٌّ علويٌّ، فيملأ الأرض نوراً، والوجود سروراً، فلا تجد القلوبُ إلا أن تُشغف به، والعيون إلا أن تَقَرَّ له، ذلك هو الحسن السبط ذو الحسن والبهاء، يُقبل على نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم، ويتنقل بين يدي أبيه علي المرتضى، وأمه فاطمة الزهراء؛ ليتربى تربية الطاهرين، وينمو نمو أئمة الهدى والدين؛ عليهم جميعاً من الله أزكى الصلاة وأتم التسليم.
كانت ولادته عليه السلام بالمدينة، عام أُحُد بعد الوقعة، فعَقَّ عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كبشاً في اليوم السابع، ورُوِيَ كبشين، وأمر بحلق شعره وتصدق بوزنه فِضَّة على المساكين؛ وقد ذكر آل الحسن عليه السلام أنَّه ولد لسبعة أشهر.
وقد ﺭﻭﻱ ﺃﻧﻬﺎ ﻟﻤﺎ ﻃﻠﻘﺖ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﺑﺎﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ عليهم اﻟﺴﻼﻡ ﺃُﺧﺒﺮ ﺑﺬﻟﻚ ﺭﺳﻮﻝ الله ﺻﻠﻰ الله ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻓﺄﺭﺳﻞ ﺇﻟﻰ ﺃﺳﻤﺎء ﺑﻨﺖ ﻋﻤﻴﺲ ﻭﺇﻟﻰ ﻋﺎﺋﺸﺔ، ﻭﻗﺎﻝ: اﻧﻄﻠﻘﺎ ﺇﻟﻰ ﻓﺎﻃﻤﺔ، ﻓﺈﺫا ﻭﺿﻌﺖ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺑﻄﻨﻬﺎ ﻓﺎﻗﺮءا ﺑﻔﺎﺗﺤﺔ اﻟﻜﺘﺎﺏ، ﻭﺁﻳﺔ اﻟﻜﺮﺳﻲ، ﻭﺁﺧﺮ ﺳﻮﺭﺓ اﻟﺤﺸﺮ، ﻭﻗﻞ ﻫﻮ الله ﺃﺣﺪ، ﻭاﻟﻤﻌﻮﺫﺗﻴﻦ، ﻭأﻋﻠﻤﺎﻧﻲ ﺑﻤﺎ ﻭﺿﻌﺖ، ﻓﻔﻌﻠﺘﺎ ﺫﻟﻚ ﻭﺑﻌﺜﺘﺎ ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﺄﺫﻥ ﻓﻲ ﺃﺫﻧﻪ اﻟﻴﻤﻨﻰ، ﻭﺃﻗﺎﻡ ﻓﻲ ﺃﺫﻧﻪ اﻟﻴﺴﺮﻯ، ﻭﻟﺒﺎﻩ ﺑﺮﻳﻘﻪ ﻓﺤﻨﻜﻪ، ﻭﻗﺎﻝ: اﻟﻠﻬﻢ ﺇﻧﻲ ﺃﻋﻴﺬﻩ ﺑﻚ ﻭﺫﺭﻳﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﺸﻴﻄﺎﻥ اﻟﺮﺟﻴﻢ.]الحدائق الوردية ج1/ ص117]
ويكفي الحسن بن علي عليهما السلام فخراً أن يُشْرِف الله سبحانه وتعالى على تسميته، كما أشرف من قبل على تسمية نبيئه يحيى بن زكريا صلى الله عليهما، فلم يجعل له من قبل سميا؛ فإنه لما ولدت فاطمة الزهراء عليها السلام الحسن، قالت لعلي عليه السلام: سمه؛ فقال: وكنت رجلاً أحب الحرب، فأحببت أن أسميه حرباً، ثم قلت: ما كنت لأسبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باسمه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: سمه، فقال: ((ما كنت لأسبق ربي عزَّ وجلَّ)) فأوحى الله إلى جبريل أنه ولد لمحمد ابنٌ فاهبط وأقرئه السلام، وهنئه، وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون، فهبط جبريل عليه السلام فهنَّأه من الله تعالى، ثم قال: إن الله يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون، فقال: وما كان اسمه؟ قال: شبر، قال: لساني عربي. قال: فسمه الحسن؛ فسماه الحسن.
صفته عليه السلام
كان الحسن بن علي عليهما السلام يُشبَّه بجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أعلاه من عند رأسه إلى سرته، وكان أبيض اللون، ﺣﺴﻦ اﻟﻮﺟﻪ، ﻋﻠﻰ ﺭﺗﺔ ﻓﻲ ﻟﺴﺎﻧﻪ، ﻗﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ((ﺃﺗﺘﻪ ﻣﻦ ﻗِﺒَﻞ ﺟﺪﻩ ﻣﻮﺳﻰﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ)).
أما صفته الخُلُقية فكان سيداً حليماً ذا سكينة ووقار، جواداً، كريماً، من أعبد أهل زمانه، وأزهدهم وأكثرهم علماً، روي أنه - عليه السلام - حجَّ 25 مرة ماشياً على قدميه، ﻭﻗﺎﺳﻢ ﻣﺎﻟﻪ ﺭﺑﻪ ﻣﺮﺗﻴﻦ، وأنه كان إذا توضأ ارتعدت مفاصله واصفر لونه، فقيل له في ذلك، فقال: "حقٌّ على كل مؤمن وقف بين يدي رب العرش أن يصفر لونه وترتعد مفاصله".
ومما اشتهر به الحسن عليه السلام شجاعته التي لا يخالطها وهن، وهيبته التي لا يقف أمامها عدو، فهو كما قال فيه جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: ((له هيبتي وسؤددي))؛ كما اشتهر عليه السلام بفصاحة لسانه، وقوة حجته وبيانه، ومما يشهد له - عليه السلام - بذلك ما كان بينه وبين معاوية ـ كافأه الله ـ من المكاتبات، من ذلك أن معاوية دسَّ إلى الحسن عليه السلام رجلين ليأتياه بأخباره، فلما علم الإمام الحسن عليه السلام بذلك، أرسل إلى معاوية كتاباً جاء فيه "ﺃﻣﺎ ﺑﻌﺪ: ﻓﺈﻧﻚ ﺩﺳﺴﺖ ﺇليَّ اﻟﺮﺟﺎﻝ ﻛﺄﻧﻚ ﺗﺤﺐ اللقاء، ﻭﻣﺎ ﺃﺷﻚ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻓﺘﻮﻗﻌﻪ ﺇﻥ ﺷﺎء اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻭﻗﺪ ﺑﻠﻐﻨﻲ ﺃﻧﻚ ﺷﻤﺖَّ ﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﺸﻤﺖ ﺑﻪ ﺫﻭﻭ اﻟﺤﺠﻰ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻣﺜﻠﻚ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ اﻷﻭﻝ:
ﻗﻞ ﻟﻠﺬﻱ ﻳﺒﻐﻲ ﺧﻼﻑ اﻟﺬﻱ ﻣﻀﻰ ... ﺗﺠﻬﺰ ﻷﺧﺮﻯ ﻣﺜﻠﻬﺎ ﻓﻜﺄﻥ ﻗﺪ
ﻭﺇﻧﺎ ﻭﻣﻦ ﻗﺪ ﻣﺎﺕ ﻣﻨﺎ لكالذي ... ﻳﺮﻭﺡ ﻓﻴﻤﺴﻲ ﻓﻲ اﻟﻤﺒﻴﺖ ﻟﻴﻐﺘﺪﻱ"
ومما جاء في بعض مكاتباته عليه السلام: " ﻓﻠﻴﺘﻌﺠﺐ اﻟﻤﺘﻌﺠﺐ ﻣﻦ ﺗﻮﺛﺒﻚ ﻳﺎ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺮ ﻟﺴﺖ ﻣﻦ ﺃﻫﻠﻪ، ﻻ ﺑﻔﻀﻞ ﻓﻲ اﻟﺪﻳﻦ ﻣﻌﺮﻭﻑ، ﻭﻻ ﺃﺛﺮ ﻓﻲ اﻹﺳﻼﻡ ﻣﺤﻤﻮﺩ، ﻓﺄﻧﺖ اﺑﻦ ﺣﺮﺏ ﻣﻦ اﻷﺣﺰاﺏ، ﻭاﺑﻦ ﺃﻋﺪﻯ ﻗﺮﻳﺶ ﻟﺮﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﻟﻜﺘﺎﺑﻪ، ﻭاﻟﻠﻪ ﺣﺴﻴﺒﻚ، ﻭﺳﺘﺮﺩ ﻓﺘﻌﻠﻢ ﻟﻤﻦ ﻋﻘﺒﻰ اﻟﺪاﺭ، ﻭﺑﺎﻟﻠﻪ ﻟﺘﻠﻘﻴﻦ ﻋﻦ ﻗﻠﻴﻞ ﺭﺑﻚ، ﺛﻢ ﻟﻴﺠﺰﻳﻨﻚ ﺑﻤﺎ ﻗﺪﻣﺖ ﻳﺪاﻙ، ﻭﻣﺎ اﻟﻠﻪ ﺑﻈﻼﻡ ﻟﻠﻌﺒﻴﺪ".
ومما كتبه إليه أيضاً قوله عليه السلام: "ﻓﺪﻉ اﻟﺘﻤﺎﺩﻱ ﻓﻲ اﻟﺒﺎﻃﻞ، ﻭاﺩﺧﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﺩﺧﻞ ﻓﻴﻪ اﻟﻨﺎﺱ ﻣﻦ ﺑﻴﻌﺘﻲ ﻓﺈﻧﻚ ﺗﻌﻠﻢ ﺃﻧﻲ ﺃﺣﻖ ﺑﻬﺬا اﻷﻣﺮ ﻣﻨﻚ ﻋﻨﺪ اﻟﻠﻪ، ﻭﻋﻨﺪ ﻛﻞ ﺃﻭاﺏ ﺣﻔﻴﻆ، ﻭﻣﻦ ﻟﻪ ﻗﻠﺐ ﻣﻨﻴﺐ، ﻭاﺗﻖ اﻟﻠﻪ ﻭﺩﻉ اﻟﺒﻐﻲ، ﻭاﺣﻘﻦ ﺩماء اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻓﻮاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻟﻚ ﻣﻦ ﺧﻴﺮ ﻓﻲ ﺃﻥ ﺗﻠﻘﻰ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ دماﺋﻬﻢ ﺑﺄﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﺃﻧﺖ ﻻﻗﻴﻪ ﺑﻪ، ﻭاﺩﺧﻞ ﻓﻲ اﻟﺴﻠﻢ ﻭاﻟﻄﺎﻋﺔ، ﻭﻻ ﺗﻨﺎﺯﻉ اﻷﻣﺮ ﺃﻫﻠﻪ، ﻭﻣﻦ ﻫﻮ ﺃﺣﻖ ﺑﻪ ﻣﻨﻚ؛ ﻟﻴﻄﻔﺊ اﻟﻠﻪ اﻟﺜﺎﺋﺮﺓ ﺑﺬﻟﻚ، ﻭﻳﺠﻤﻊ اﻟﻜﻠﻤﺔ، ﻭﻳﺼﻠﺢ ﺫاﺕ اﻟﺒﻴﻦ، ﻓﺈﻥ ﺃﻧﺖ ﺃﺑﻴﺖ ﺇﻻ اﻟﺘﻤﺎﺩﻱ ﻓﻲ ﻏﻴﻚ ﻧﻬﺪﺕ ﺇﻟﻴﻚ ﺑﺎﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻓﺤﺎﻛﻤﺖ ﺣﺘﻰ ﻳﺤﻜﻢ اﻟﻠﻪ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻭﻫﻮ ﺧﻴﺮ اﻟﺤﺎﻛﻤﻴﻦ".
ﻭقد ﺭﻭﻱ ﺃﻥ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻛﺎﻥ ﻋﻨﺪ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻓﻲ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺶ، ﻓﺬﻛﺮ ﻛﻞ ﻭاﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻗﻮﻣﻪ ﻭﻗﺪﻳﻤﻪ ﻭﺣﺪﻳﺜﻪ، ﻭاﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺳﺎﻛﺖ، ﻓﻘﺎﻝ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻣﺤﻤﺪ، ﻣﺎﻟﻲ ﺃﺭاﻙ ﺳﺎﻛﺘﺎ، ﻓﻮاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﺑﻜﻠﻴﻞ اﻟﻠﺴﺎﻥ، ﻭﻻ ﻣﺄﺷﻮﺏ اﻟﺤﺴﺐ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: "ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺫﻛﺮﻭا ﻣﻜﺮﻣﺔ ﻣﻮﻧﻘﺔ، ﻭﻻ ﻓﻀﻴﻠﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ ﺇﻻ ﻭﻟﻲ ﻣﺤﻀﻬﺎ ﻭﺟﻮﻫﺮﻫﺎ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ:
ﻓﻴﻢ اﻟﻤﺮﺁء ﻭﻗﺪ ﺳﺒﻘﺖ ﻣﺒﺮﺯا؟ ... ﺳﺒﻖ اﻟﺠﻮاﺩ ﻣﻦ اﻟﻤﺪﻯ اﻟﻤﺘﺒﺎﻋﺪ
ﻧﺤﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﺇﺫا اﻟﻘﺮﻭﻡ ﺗﺨﺎﻃﺮﻭا ... ﻓﺰﻧﺎ ﻋﻠﻰ ﺭﻏﻢ اﻟﻌـﺪﻭ اﻟﺤﺎﺳﺪ
ﺩاﻧﺖ ﻟﻨـﺎ ﺭﻏﻤﺎ ﺑﻔﻀﻞ ﻗﺪﻳﻤﻨـﺎ ... ﻣﻀـﺮ ﻭﻗﻮﻣﻨـﺎ ﻃـﺮﻳـﻖ اﻟﺤﺎﻳـﺪ"
ولا عجب أن يتمتع الإمام الحسن عليه السلام بكل هذه الصفات الكريمة، وهو سليل الرسالة، وابن بيت النبوة، فسلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
أولاده عليه السلام
البنون:
الحسن بن الحسن وهو الحسن المثنى، وأمه خولة بنت مَنْضُور بن زَبَّان الفزاري، وكان وصي أبيه ووالي صدقته.
وزيد بن الحسن وأمه أم بشير بنت أبي مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة من ولد الحارث بن الخزرج.
وعمر، والقاسم، وأبو بكر، وعبد اللّه، استشهدوا مع عمهم.
وعبد الرحمن، والحسين الأثرم.
وطلحة وهو طلحة الجود، ذكره محمد بن حبيب في الطلحات المعدودين في الأجواد، وأمه أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد اللّه التيمي.
وإسماعيل، ويعقوب، ومحمد، وجعفر، وحمزة، لأمهات أولاد.
فهؤلاء أربعة عشر ابناً، العقب منهم لاثنين، وهما: الحسن بن الحسن، وزيد بن الحسن، وانقرض اثنان منهم، وهما: عمر بن الحسن، والحسين الأثرم بن الحسن، وقد كان اتصل عقبهما إلى أوائل أيام بني العباس ثم انقرض، والباقون دَرَجُوا.
والبنات ثمان:
فاطمة
وأم عبداللّه
وزينب
وأم الحسن
وأم الحسين
وأم سلمة
ورقية
وفاطمة الصغرى
أعقبت منهن أم عبد اللّه، وكانت على علي بن الحسين عليه السلام، فولدت له: حسناً وحسيناً الأكبر ودَرَجا، ومحمداً الباقر، وعبداللّه.
بعض الآثار الواردة فيه
كان للإمام الحسن عليه السلام من كلام جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الحض الوفير، والمكان الرفيع، فكثيرة هي تلك الأحاديث التي رويت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في ولده الحسن عليه السلام، في كتب المسلمين عامة، نذكر منها على سبيل الاختصار قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
((اﻟﻠﻬﻢ ﺇﻧﻲ ﺃﺣﺒﻪ ﻓﺄﺣﺒﻪ ﻭﺃﺣﺐ ﻣﻦ ﻳﺤﺒﻪ)).
((الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا)).
((ﺇﻥ اﺑﻨﻲ ﻫﺬا ﺳﻴﺪ، ﻭﻣﻦ ﺃﺣﺒﻨﻲ ﻓﻠﻴﺤﺐ ﻫﺬا ﻓﻲ ﺣﺠﺮﻱ)).
((اﻟﺤﺴﻦ ﻭاﻟﺤﺴﻴﻦ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﻬﻤﺎ ﺃﺣﺒﺒﺘﻪ، ﻭﻣﻦ ﺃﺣﺒﺒﺘﻪ ﺃﺣﺒﻪ اﻟﻠﻪ، ﻭﻣﻦ ﺃﺣﺒﻪ اﻟﻠﻪ ﺃﺩﺧﻠﻪ اﻟﺠﻨﺔ ﺟﻨﺔ اﻟﻨﻌﻴﻢ، ﻭﻣﻦ ﺃﺑﻐﻀﻬﻤﺎ ﻭﺑﻐﻰ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﺃﺑﻐﻀﺘﻪ، ﻭﻣﻦ ﺃﺑﻐﻀﺘﻪ ﺃﺑﻐﻀﻪ اﻟﻠﻪ، ﻭﻣﻦ ﺃﺑﻐﻀﻪ اﻟﻠﻪ ﺃﺩﺧﻠﻪ ﻧﺎﺭ ﺟﻬﻨﻢ ﺧﺎﻟﺪاً ﻓﻴﻬﺎ ﻭﻟﻪ ﻋﺬاﺏ ﻣﻘﻴﻢ)).
((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)).
((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير من هما)).
وغيرها الكثير من الأحاديث والآثار.
نشأته عليه السلام
نشأ الإمام الحسن عليه السلام وترعرع في أطهر بيوت عرفها التأريخ، وأطيب حجور أقلَّتها البسيطة، في }بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه{، فعاش طفولته بين أعظم خلق الله وأنقاهم، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة، وكذا الحسين عليهم السلام، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
فكانت طفولته طفولة فريدة تنامت في أجواء الدين وعبق الرسالة في السنوات الأخيرة من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعاش الحسن عليه السلام طفولته، يغمره جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بحبه، ويفيض عليه بعطفه وحنانه، فكان يحمله على عاتقه، وهو يقول:(اللهم إني أحبه فأحبه)، ورآه رجل وهو يحمله هو وأخوه الحسين على رقبته، فقال:)نعم الفرس تحتكما)، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:(ونعم الفارسان هما).
وقد روي أن الحسن عليه السلام كان يأتي جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ساجد، فيصعد على ظهره، فيطيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سجوده حتى ينزل الحسن، فإذا فرغ من الصلاة قال للمصلين: لقد رحلني الحسن فكرهت أن أعجله.
وما أكثر وأعظم كلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي رسخت حب الحسن عليه السلام في وجدان المسلمين، وعززت مكانته في قلوبهم، رغم قصر المدة التي حضي بها الحسن عليه السلام من حياته صلى الله عليه وآله وسلم؛ من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((هما ريحانتاي من الدنيا))، ((وسيدا شباب أهل الجنة))، ((ومن أحبني فليحبهما..))، وغيرها.
فلم تدم هذه الرعاية النبوية الحانية طويلاً، فلم تمضِ سوى سبع سنوات حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ سبع سنوات مرت كطرفة عين؛ لتأتي بعدها سنوات ملئت بالمصائب والإبتلاءات التي صبت على أهل البيت عليهم السلام.
توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولما يبلغ الحسن عليه السلام الثامنة، وسرعان ما لحقت به أمه فاطمة الزهراء عليها السلام؛ ليصير يتيم الأم والجد إن صح التعبير.
وبعد ذلك عاش الحسن مع أخيه الحسين عليهما السلام في كنف والدهما علي عليه السلام، فكانا له خير عون وسند، حتى استشهد صلوات الله عليه، ليكون الحسن عليه السلام هو الإمام والخليفة من بعده، وليقوم بأمر هذه الأمة أتم قيام، ولا يألو جهداً في رفع راية الإسلام.
أخلاقه وشمائله
ما أصعب أن تحصيَ لرجل - كالحسن بن علي عليهما السلام - فضائله، وما أبين عجزك، وأقل حيلتك تجاه ذلك، أويُبغى لنجوم السماء من إحصاء، أو لماء البحر من نزح؟!
ما أكثر تلك المقامات، وتلك المواقف التي شعَّ منها بريق شمائل الإمام الحسن عليه السلام وأخلاقه، وما أبلغ مضمونها، وأنفع دروسها؛ نذكر هنا بعضاً مما ذاع واشتهر عنه من ذلك؛ قصداً للتأسي والتبرك لا للاحاطة والاستقصاء.
ﺭﻭي ﻋﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺰﺑﻴﺮ ﻗﺎﻝ: ﻟﻘﺪ ﺭﺃﻳﺖ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ؛ ﻳﺄﺗﻲ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﻫﻮ ﺳﺎﺟﺪ ﻓﻴﺮﻛﺐ ﻋﻠﻰ ﻇﻬﺮﻩ، ﻭﻣﺎ ﻳﻨﺰﻟﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﻜﻮﻥ ﻫﻮ اﻟﺬﻱ ﻳﻨﺰﻝ، ﻭﻳﺄﺗﻲ ﻭﻫﻮ ﺭاﻛﻊ ﻓﻴﻔﺮﺝ ﻟﻪ ﺑﻴﻦ ﺭﺟﻠﻴﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﺄﺗﻲ ﻣﻦ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻵﺧﺮ.
ﻭﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻳﻘﻮﻝ اﻹﻣﺎﻡ اﻟﻤﻨﺼﻮﺭ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻟﻪ:
ﺃﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻭاﻟﺪﻱ ﻫﺒﻠﺖ ﺇﺫا ﺻـ ... ـﻟﻰ ﻟﺪﻳﻪ اﻣﺘﻄﻰ ﻋﻠﻰ ﺻﻠﺒﻪ
ﺛـﻢ ﻳﺸﻴـﺮ اﺗـﺮﻛـﻮﻩ ﻻ ﺗـﺮﻛﺖ ... ﻟـﻚ اﻟـﺮﺯاﻳـﺎ ﻣـﺎﻻً ﻟﻤﻨﺘﻬﺒﻪ
وقد جاء في كتب التأريخ من أخلاق الإمام الحسن عليه السلام وشمائله ومناقبه ما تخر له العظمة إجلالاً، وتقف له الكبرياء تواضعاً، من ذلك ما روي في الحدائق الوردية ﺃﻥ ﺭﺟﻼً ﻗﺎﻝ للحسن اﻟﺒﺼﺮﻱ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﺳﻌﻴﺪ، ﺃﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻛﺎﻥ ﺃﺣﻠﻢ ﺃﻡ اﻟﺤﺴﻦ؟ ﻗﺎﻝ: ﺑﻞ اﻟﺤﺴﻦ، ﻗﺎﻝ ﺇﻧﻤﺎ ﺃﻋﻨﻲ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺳﻔﻴﺎﻥ اﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﺃﻣﻴﺮ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ، فقال اﻟﺤﺴﻦ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ: ﻭﻫﻞ ﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﺇﻻ ﺣﻤﺎﺭاً ﻧﻬﺎﻗﺎ.
ﻭمن القصص التي تظهر علوَّ أخلاق الإمام الحسن عليه السلام، وكريم شمائله، ﺃنه كان مع أخيه اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ في طريقهما إلى الحج، ماشيين على أقدامهما، ﻓﻠﻢ ﻳﻤﺮا ﺑﺮاﻛﺐ ﺇﻻ ﻧﺰﻝ ﻳﻤﺸﻲ، ﻓﺜﻘﻞ ﺫﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻓﻘﺎﻟﻮا ﻟﺴﻌﺪ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻭﻗﺎﺹ: ﻗﺪ ﺛﻘﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ اﻟﻤﺸﻲ ﻭﻻ ﻧﺴﺘﺤﺴﻦ ﺃﻥ ﻧﺮﻛﺐ ﻭﻫﺬاﻥ اﻟﻔﺘﻴﺎﻥ ﻳﻤﺸﻴﺎﻥ، ﻓﻘﺎﻝ ﺳﻌﺪ ﻟﻠﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻣﺤﻤﺪ، ﺇﻥ اﻟﻤﺸﻲ ﻗﺪ ﺛﻘﻞ ﻋﻠﻰ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻤﻦ ﻣﻌﻚ، ﻭاﻟﻨﺎﺱ ﺇﺫا ﺭﺃﻭﻛﻤﺎ ﻟﻢ ﺗﻄﺐ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﺑﺄﻥ ﻳﺮﻛﺒﻮا، ﻓﻠﻮ ﺭﻛﺒﺘﻤﺎ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﻻ ﻧﺮﻛﺐ ﻗﺪ ﺟﻌﻠﺖ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻲ ﺃﻥ ﺃﻣﺸﻲ، ﻭﻟﻜﻦ ﺃﺗﻨﻜﺐ اﻟﻄﺮﻳﻖ، ﻓﺄﺧﺬ ﺟﺎﻧﺒﺎ.
ﻭﺭﻭي ﻋﻦ ﻣﺪﺭﻙ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺭاﺷﺪ ﻗﺎﻝ: ﻛﻨﺎ ﻓﻲ ﺣﻴﻄﺎﻥ ﻻﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﻓﺠﺎء اﻟﺤﺴﻦ ﻭاﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ، ﻓﻄﺎﻓﺎ ﺑﺎﻟﺒﺴﺘﺎﻥ ﻗﺎﻝ: ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﻋﻨﺪﻙ ﻏﺪاء ﻳﺎ ﻣﺪﺭﻙ؟ ﻗﺎﻝ: ﻗﻠﺖ: ﻃﻌﺎﻡ اﻟﻐﻠﻤﺎﻥ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺠﺌﺘﻪ ﺑﺨﺒﺰ ﻭﻣﻠﺢ ﺟﺮﻳﺶ ﻭﻃﺎﻗﺎﺕ ﺑﻘﻞ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺄﻛﻞ ﺛﻢ ﺟﻲء ﺑﻄﻌﺎﻣﻪ ﻭﻛﺎﻥ ﻛﺜﻴﺮ اﻟﻄﻌﺎﻡ ﻃﻴﺒﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﻣﺪﺭﻙ، اﺟﻤﻊ ﻏﻠﻤﺎﻥ اﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﻓﺠﻤﻌﻬﻢ ﻓﺄﻛﻠﻮا ﻭﻟﻢ ﻳﺄﻛﻞ، ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻓﻘﺎﻝ: ﺫاﻙ ﻛﺎﻥ ﻋﻨﺪﻱ ﺃﺷﻬﻰ ﻣﻦ ﻫﺬا، ﻗﺎﻝ: ﺛﻢ ﺗﻮﺿﺄ ﺛﻢ ﺟﻲء ﺑﺪاﺑﺘﻪ، ﻓﺄﻣﺴﻚ ﻟﻪ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﺑﺎﻟﺮﻛﺎﺏ ﻭﺳﻮﻯ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛﻢ ﻣﻀﻰ ﺑﺪاﺑﺔ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻓﺄﻣﺴﻚ ﻟﻪ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﺑﺎﻟﺮﻛﺎﺏ ﻓﺴﻮﻯ ﻋﻠﻴﻪ ﺛﻢ ﻣﻀﻰ، ﻗﺎﻝ: ﻗﻠﺖ ﻟﻪ: ﺃﻧﺖ ﺃﺳﻦ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺗﻤﺴﻚ ﻟﻬﻤﺎ؟ ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﻟﻜﻊ ﺃﻭ ﻣﺎ ﺗﺪﺭﻱ ﻣﻦ ﻫﺬاﻥ؟ ﻫﺬاﻥ اﺑﻨﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﺃﻭﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﻣﻤﺎ ﺃﻧﻌﻢ اﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﻋﻠﻲ ﺃﻥ ﺃﻣﺴﻚ ﻟﻬﻤﺎ ﻭﺃﺳﻮﻱ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ!
ﻭﺳﻤﻊ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺭﺟﻼً ﻳﺴﺄﻝ اﻟﻠﻪ ﻋﺸﺮﺓ ﺁﻻﻑ ﻓﺎﻧﺼﺮﻑ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺇﻟﻰ ﻣﻨﺰﻟﻪ ﻓﺒﻌﺚ ﺑﻬﺎ ﺇﻟﻴﻪ.
وما أصدقه عليه السلام، وأعظم شأنه حين يحكي عن نفسه؛ إذ افتخر عليه ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﻧﺎ اﺑﻦ ﺑﻄﺤﺎء ﻣﻜﺔ، ﺃﻧﺎ اﺑﻦ ﺃﻏﺰﺭﻫﺎ ﺟﻮﺩاً، ﻭﺃﻛﺮﻣﻬﺎ ﺟﺪﻭﺩاً، ﺃﻧﺎ اﺑﻦ ﻣﻦ ﺳﺎﺩ ﻗﺮﻳﺸﺎً ﻓﻀﻼً ﻧﺎﺷﺌﺎً ﻭﻛﻬﻼ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﺃعليَّ ﺗﻔﺘﺨﺮ ﻳﺎ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ؟! ﺃﻧﺎ اﺑﻦ ﻋﺮﻭﻕ اﻟﺜﺮﻯ، ﺃﻧﺎ اﺑﻦ ﻣﺄﻭﻯ اﻟﺘﻘﻰ، ﺃﻧﺎ اﺑﻦ ﻣﻦ جاء ﺑﺎﻟﻬﺪﻯ، ﺃﻧﺎ اﺑﻦ ﻣﻦ ﺳﺎﺩ ﺃﻫﻞ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺎﻟﻔﻀﻞ اﻟﺴﺎﺑﻖ، ﻭاﻟﺠﻮﺩ اللاﺋﻖ، ﻭاﻟﺤﺴﺐ اﻟﻔﺎﺋﻖ، ﺃﻧﺎ اﺑﻦ ﻣﻦ ﻃﺎﻋﺘﻪ ﻃﺎﻋﺔ اﻟﻠﻪ، ﻭﻣﻌﺼﻴﺘﻪ ﻣﻌﺼﻴﺔ اﻟﻠﻪ، ﻓﻬﻞ ﻟﻚ ﺃﺏ ﻛﺄﺑﻲ ﺗﺒﺎﻫﻴﻨﻲ ﺑﻪ؟ ﻭﻗﺪﻳﻢ ﻛﻘﺪﻳﻤﻲ ﺗﺴﺎﻣﻴﻨﻲ ﺑﻪ؟ ﻗﻞ ﻧﻌﻢ ﺃﻭ ﻻ، ﻗﺎﻝ: ﺑﻞ ﺃﻗﻮﻝ ﻻ، ﻭﻫﻲ ﻟﻚ ﺗﺼﺪﻳﻖ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ:
اﻟﺤﻖ ﺃﺑﻠﺞ ﻣﺎ ﻳﺨﻴﻞ ﺳﺒﻴﻠﻪ ... ﻭاﻟﺤﻖ ﻳﻌﺮﻓﻪ ﺫﻭﻭا اﻷﻟﺒﺎﺏ
وأيضاً فقد كان الإمام الحسن عليه السلام جواداً بمعروفه، سخياً بما ملكت يمينه، من ذلك أن رجلاً جاءه يسأله، ويشكو إليه حاله وقلة ذات يده بعد أن كان ثرياً، فقال له الإمام الحسن عليه السلام: يا هذا حق سؤالك يعظم علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله قليل، فإن قبلت الميسور رفعت عني مؤنة الاحتفال والاهتمام بما أتكلفه من واجبك؛ فقال له الرجل : يا بن رسول الله، أقبل القليل وأشكر العطية وأعذر على المنع.
فما كان من الإمام الحسن عليه السلام إلا أن دعا وكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقضاها؛ فقال له: هاتِ الفاضل، فأحضر خمسين ألف درهم؛ ثم قال الإمام الحسن: ما فَعَلَتْ الخمسمائة دينار التي معك؟
قال: هي عندي.
قال الإمام: فأحضرها؛ فلما أحضرها، دفعها الإمام الحسن هي والدراهم إلى الرجل واعتذر منه.
وروي أن الإمام الحسن عليه السلام خرج هو والحسين وعبدالله بن جعفر حجاجاً، فلما كانوا ببعض الطريق جاعوا وعطشوا وقد فاتتهم أثقالهم، فتوجهوا إلى عجوز في خباء لها عندها شويهة؛ فقالت لهم: احتلبوها وامتذقوا لبنها، ففعلوا وقالوا: هل من طعام؟
قالت: ما عندي غير هذه الشويهة، وأقسم بالله إلا ما ذبحها أحدكم بينما أهيئ الحطب، فاشتووها وأقاموا حتى أبردوا، فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا فألِمِّي بنا نصنع إليك خيراً، ثم ارتحلواز
فأقبل زوجها فأخبرته فغضب وقال: تذبحين شاتنا لقوم لا تعرفينهم؛ وبعد دهر طويل أصابتهم السنة فدخلا المدينة يلتقطان البعر، فمرت العجوز ومكيلها معها تلقط فيه البعر، والحسن عليه السلام جالس على باب داره فعرفها وقال: يا أمة الله أنا أحد ضيوفك يوم كذا؛ فقالت: بأبي أنت وأمي لست أعرفك، فأمر غلامه فاشترى لها من غنم الصدقة ألف شاة، وأعطاها ألف دينار وبعث معها غلامه إلى أخيه الحسين عليه السلام فأمر لها بمثل ذلك، ثم بعث بها إلى عبد الله بن جعفر فأمر لها بألفي شاة وألفي دينار، فرجعت وهي من أغنى الناس.
وهكذا ظلت شمائل الإمام الحسن عليه السلام لامعة، ﻭشموس أخلاقه بيِّنة ساطعة.
قصته مع ابن الأزرق
كان الإمام الحسن عليه السلام من أعلم أهل زمانه، وأقواهم منطقاً، وأبلغهم للحجة، ولا عجب في ذلك؛ إذ أخذ العلم عن باب مدينة علم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وتشرب المعرفة منه، حتى صار علماً يشار إليه، ونجماً يهتدى به، ومما يُظهر ذلك العلم، وينبي عنه قصته عليه السلام مع نافع بن الأزرق.
فقد روي أنه بينما كان اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﻳﺤﺪﺙ اﻟﻨﺎﺱ، ﺇﺫ ﻗﺎﻡ ﺇﻟﻴﻪ ﻧﺎﻓﻊ ﺑﻦ اﻷﺯﺭﻕ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ، ﺗﻔﺘﻲ ﻓﻲ اﻟﻨﻤﻠﺔ ﻭاﻟﻘﻤﻠﺔ، ﺻﻒ ﻟﻲ ﺇﻟﻬﻚ اﻟﺬﻱ ﺗﻌﺒﺪﻩ؟ ﻓﺄﻃﺮﻕ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﺇﻋﻈﺎﻣﺎً ﻟﻘﻮﻟﻪ، ﻭﻛﺎﻥ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺟﺎﻟﺴﺎً ﻓﻲ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻓﻘﺎﻝ: ﺇﻟﻲَّ ﻳﺎ اﺑﻦ اﻷﺯﺭﻕ، ﻗﺎﻝ: ﻟﺴﺖ ﺇﻳﺎﻙ ﺃﺳﺎﻝ، ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ: ﻳﺎ اﺑﻦ اﻷﺯﺭﻕ، ﺇﻧﻪ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﻨﺒﻮﺓ، ﻭﻫﻢ ﻭﺭﺛﺔ اﻟﻌﻠﻢ، ﻓﺄﻗﺒﻞ ﻧﺎﻓﻊ ﻧﺤﻮ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ اﻟﺤﺴﻦ: ﻳﺎ ﻧﺎﻓﻊ، ﺇﻧﻪ ﻣﻦ ﻭﺿﻊ ﺩﻳﻨﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻘﻴﺎﺱ ﻟﻢ ﻳﺰﻝ ﺩﻫﺮﻩ ﻓﻲ اﻟﺘﺒﺎﺱ، ﻗﺎﺑﻼً ﻏﻴﺮ اﻟﻤﻨﻬﺎﺝ، ﻇﺎﻋﻨﺎً ﻓﻲ اﻻﻋﻮﺟﺎﺝ، ﺿﺎﻻً ﻋﻦ اﻟﺴﺒﻴﻞ، ﻗﺎﺋﻼً ﻏﻴﺮ اﻟﺠﻤﻴﻞ.
ﻳﺎ اﺑﻦ اﻷﺯﺭﻕ، ﺃﺻﻒ إﻟﻬﻲ ﺑﻤﺎ ﻭﺻﻒ ﺑﻪ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﺃعرِّﻓﻪ ﺑﻤﺎ ﻋﺮﻑ ﺑﻪ ﻧﻔﺴﻪ: ﻻ ﻳﺪﺭﻙ ﺑﺎﻟﺤﻮاﺱ، ﻭﻻ ﻳﻘﺎﺱ ﺑﺎﻟﻨﺎﺱ، ﻓﻬﻮ ﻗﺮﻳﺐ ﻏﻴﺮ ﻣﻠﺘﺼﻖ، ﻭﺑﻌﻴﺪ ﻏﻴﺮ ﻣﺘﻘﺺ، ﻳﻮﺣﺪ ﻭﻻ ﻳﺒﻌﺾ، ﻣﻌﺮﻭﻑ ﺑﺎﻵﻳﺎﺕ، ﻣﻮﺻﻮﻑ ﺑﺎﻟﻌﻼﻣﺎﺕ، ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ ﻫﻮ اﻟﻜﺒﻴﺮ اﻟﻤﺘﻌﺎﻝ.
ﻗﺎﻝ: ﻓﺒﻜﻰ اﺑﻦ اﻷﺯﺭﻕ، ﻭﻗﺎﻝ ﻳﺎ ﺣﺴﻦ: ﻣﺎ ﺃﺣﺴﻦ ﻛﻼﻣﻚ! ﺃﻣﺎ ﻭاﻟﻠﻪ ﻳﺎ ﺣﺴﻦ ﻟﺌﻦ ﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﻟﻘﺪ ﻛﻨﺘﻢ ﻣﻨﺎﺭ اﻹﺳﻼﻡ، ﻭﻧﺠﻮﻡ اﻷﺣﻜﺎﻡ، ﺣﺘﻰ ﺑﺪﻟﺘﻢ ﻓﺎﺳﺘﺒﺪﻟﻨﺎ ﺑﻜﻢ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺤﺴﻦ: ﺇﻧﻲ ﺃﺳﺎﻟﻚ ﻋﻦ ﻣﺴﺄﻟﺔ، ﻗﺎﻝ: ﺳﻞ، ﻗﺎﻝ: ﻫﺬﻩ اﻵﻳﺔ: {ﻭﺃﻣﺎ اﻟﺠﺪاﺭ ﻓﻜﺎﻥ ﻟﻐﻼﻣﻴﻦ ﻳﺘﻴﻤﻴﻦ ﻓﻲ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ} [ اﻟﻜﻬﻒ: 82] ﻳﺎ اﺑﻦ اﻷﺯﺭﻕ، ﻣﻦ ﺣﻔﻆ ﻓﻲ اﻟﻐﻼﻣﻴﻦ؟ ﻗﺎﻝ: ﺃﺑﻮﻫﻤﺎ، ﻗﺎﻝ اﻟﺤﺴﻦ: ﻓﺄﺑﻮﻫﻤﺎ ﺧﻴﺮ ﺃﻡ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ؟ ﻗﺎﻝ اﺑﻦ اﻷﺯﺭﻕ: ﻗﺪ ﺃﻧﺒﺎﻧﺎ اﻟﻠﻪ ﺑﺄﻧﻜﻢ ﻗﻮﻡ ﺧﺼﻤﻮﻥ.
ﻣﻦ ﻣﻘﺎﻣﺎﺗﻪ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ
ومن مقامات الإمام الحسن عليه السلام التي تُظهر مدى شجاعته، وطلاقة لسانه، وقوة بيانه، ﺃﻧﻪ اﺟﺘﻤﻊ ﻋﻨﺪ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ اﻟﻌﺎﺹ، ﻭﻋﺘﺒﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺳﻔﻴﺎﻥ، ﻭاﻟﻮﻟﻴﺪ ﺑﻦ ﻋﻘﺒﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻣﻌﻴﻂ، ﻭاﻟﻤﻐﻴﺮﺓ ﺑﻦ ﺷﻌﺒﺔ ﻓﻘﺎﻟﻮا: ﻳﺎ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ، ﺃﺭﺳﻞ ﻟﻨﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ؛ ﻟﻨﺴﺐ ﺃﺑﺎﻩ ﻭﻧﻮﺑﺨﻪ ﻭﻧﺼﻐﺮﻩ، ﻭﻛﺎﻧﻮا ﻗﺪ ﺗﻮاﻃﺌﻮا ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺮ ﻭاﺣﺪ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ ﻋﻤﺮﻭ: ﺇﻥ اﻟﺤﺴﻦ ﻗﺪ ﺃﺣﻴﺎ ﺃﺑﺎﻩ، ﻭﺧﻔﻘﺖ اﻟﻨﻌﺎﻝ ﺧﻠﻔﻪ، ﻭﺃﻣﺮ ﻓﺄﻃﻴﻊ، ﻭﻗﺎﻝ ﻓﺼﺪﻕ، ﻭﻫﺬا ﺭاﻓﻌﻪ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺃﻋﻈﻢ ﻣﻨﻪ، ﻓﻠﻮ ﺑﻌﺜﺖ ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﺄﺧﺬﻧﺎ ﻣﻨﻪ اﻟﻨﺼﻔﺔ ﻛﺎﻥ ﺭﺃﻳﺎً، ﻓﻘﺎﻝ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ: ﺇﻧﻲ ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﻳﻘﻠﺪﻛﻢ قلاﺋﺪ ﺗﺒﻘﻰ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻓﻲ ﻗﺒﻮﺭﻛﻢ، ﻓﻮاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺭﺃﻳﺘﻪ ﻗﻂ ﺇﻻ ﺧﻔﺖ ﺟﻨﺎﺑﻪ، ﻭﻫﺒﺖ ﻋﺘﺎﺑﻪ، ﻭﺇﻥ ﺑﻌﺜﺖ ﺇﻟﻴﻪ ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻧﺼﻔﺘﻪ ﻣﻨﻜﻢ، ﻓﻘﺎﻝ ﻋﻤﺮﻭ: ﺃﺗﺨﺎﻑ ﺃﻥ ﻳﺄﺗﻲ ﺑﺎﻃﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺣﻘﻨﺎ، ﺃﻭ ﻣﺮﺿﻪ ﻋﻠﻰ ﺻﺤﺘﻨﺎ؟ ﻗﺎﻝ: ﻻ ﻓﺎﺑﻌﺜﻮا ﺇﻟﻴﻪ ﺇﺫاً ﻓﺎﻟﻘﻮﻩ ﺑﻤﺎ ﻓﻲ ﺃﻧﻔﺴﻜﻢ، ﻭﻻ ﺗﻜﻨﻮا ﻭﻻ ﺗﻠﺠﻠﺠﻮا، ﻭﺻﺮﺣﻮا ﻭﻻ ﺗﻌﺮﺿﻮا، ﻓﻠﻦ ﻳﻨﻔﻌﻜﻢ ﻏﻴﺮ اﻟﺘﺼﺮﻳﺢ.
ﻗﺎﻝ: ﻓﺒﻌﺜﻮا ﺇﻟﻰ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺮﺳﻮﻝ: ﺃﺟﺐ ﺃﻣﻴﺮ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ، ﻓﻘﺎﻝ ﻣﻦ ﻋﻨﺪﻩ؟ ﻓﺴﻤﺎﻫﻢ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻣﺎ ﻟﻬﻢ ﺧﺮ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻘﻒ ﻣﻦ ﻓﻮﻗﻬﻢ، ﻭﺃﺗﺎﻫﻢ اﻟﻌﺬاﺏ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﺸﻌﺮﻭﻥ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﺟﺎﺭﻳﺔ، ﺃﺑﻠﻐﻴﻨﻲ ﺛﻴﺎﺑﻲ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: اﻟﻠﻬﻢ ﺇﻧﻲ ﺃﺩﺭأ ﺑﻚ ﻓﻲ ﻧﺤﻮﺭﻫﻢ، ﻭﺃﻋﻮﺫ ﺑﻚ ﻣﻦ ﺷﺮﻭﺭﻫﻢ، ﻭﺃﺳﺘﻌﻴﻦ ﺑﻚ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﻓﺄﻛﻔﻨﻴﻬﻢ ﺑﻤﺎ ﺷﺌﺖ، ﻭﻛﻴﻒ ﺷﺌﺖ، ﻭﺃﻧﻰ ﺷﺌﺖ ﺑﺤﻮﻟﻚ ﻭﻗﻮﺗﻚ ﻳﺎ ﺭﺣﻤﺎﻥ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ ﻟﻠﺮﺳﻮﻝ: ﻫﺬﻩ ﻛﻠﻤﺎﺕ اﻟﻔﺮﺝ، ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺗﻰ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺭﺣﺐ ﺑﻪ ﻭﻧﺎﻭﻟﻪ ﻳﺪﻩ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺤﺴﻦ: ﺇﻥ اﻟﺘﺮﺣﻴﺐ ﺳﻼﻣﺔ، ﻭاﻟﻤﺼﺎﻓﺤﺔ ﺃﻣﺎﻧﺔ، ﻗﺎﻝ: ﺃﺟﻞ، ﻓﻠﻤﺎ ﻗﻌﺪ ﻗﺎﻝ ﻟﻪ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ: ﻣﺎ ﺃﻧﺎ ﺩﻋﻮﺗﻚ ﻭﻟﻜﻦ ﻫﺆلاء ﺃﺣﺮﺟﻮﻧﻲ ﻓﻴﻚ ﺣﺘﻰ ﺃﺭﺳﻠﺖ ﺇﻟﻴﻚ ﻓﺪﻋﻮﺗﻚ ﻟﻬﻢ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺩﻋﻮﻙ ﻟﻴﻘﺮﺭﻭﻙ ﺃﻥ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﻗُﺘﻞ ﻣﻈﻠﻮﻣﺎ، ﻭﺃﻥ ﺃﺑﺎﻙ ﻗﺘﻠﻪ، ﻓﺎﺳﻤﻊ ﻣﻨﻬﻢ ﻭﺃﺟﺒﻬﻢ، ﻭﻻ ﻳﻤﻨﻌﻨﻚ ﻫﻴﺒﺘﻲ ﻭﻻ ﻫﻴﺒﺘﻬﻢ ﺃﻥ ﺗﺘﻜﻠﻢ ﺑﺼﻠﻴﺐ ﻟﺴﺎﻧﻚ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﺳﺒﺤﺎﻥ اﻟﻠﻪ! اﻟﺒﻴﺖ ﺑﻴﺘﻚ، ﻭاﻹﺫﻥ ﻓﻴﻪ ﺇﻟﻴﻚ، ﻭاﻟﻠﻪ ﻟﺌﻦ ﻛﻨﺖ ﺃﺟﺒﺘﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻮا ﺇﻧﻪ اﺳﺘﺤﻴﺎء ﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻔﺤﺶ، ﻭﻟﺌﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻏﻠﺒﻮﻙ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺗﺮﻳﺪ ﺇﻧﻪ اﺳﺘﺤﻴﺎء ﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻀﻌﻒ، ﻓﺒﺄﻳﻬﻤﺎ ﺗﻘﺮ؟ ﻭﻣﻦ ﺃﻳﻬﻤﺎ ﺗﻔﺮ؟ ﻓﻬﻼ ﺇﺫ ﺃﺭﺳﻠﺖ ﺇﻟﻲ ﺃﻧﺒﺄﺗﻨﻲ ﻓﺄﺟﻲء ﺑﻤﺜﻠﻬﻢ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﻫﺎﺷﻢ، ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻬﻢ ﻣﻊ ﻭﺣﺪﺗﻲ ﺃﻭﺣﺶ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻌﻬﻢ، ﻭﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻟﻮﻟﻴﻲ ﻓﻠﻴﻘﻮﻟﻮا ﻓﺄﺳﻤﻊ.
ﻓﺒﺪﺃ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ اﻟﻌﺎﺹ ﻓﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﺛﻨﻰ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛﻢ ﺫﻛﺮ ﻋﻠﻴﺎً ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻓﻠﻢ ﻳﺘﺮﻙ ﺷﻴﺌﺎً ﻣﻦ اﻟﻮﻗﻮﻉ ﻓﻴﻪ ﺣﺘﻰ ﻋﻴﺮﻩ ﺑﺄﻧﻪ ﺷﺘﻢ ﺃﺑﺎ ﺑﻜﺮ، ﻭاﺷﺘﺮﻙ ﻓﻲ ﺩﻡ ﻋﻤﺮ، ﻭﻗﺘﻞ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﻣﻈﻠﻮﻣﺎ، ﻭاﺩﻋﻰ ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﺑﺤﻖ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﺇﻧﻜﻢ ﻣﻌﺸﺮ ﺑﻨﻲ ﻫﺎﺷﻢ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﻠﻪ ﻟﻴﻌﻄﻴﻜﻢ اﻟﻤﻠﻚ ﻋﻠﻰ ﻗﺘﻠﻜﻢ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ، ﻭاﺳﺘﺤﻼﻟﻜﻢ ﻣﺎ ﺣﺮﻡ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻜﻢ، ﻭﺣﺮﺻﻜﻢ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻠﻚ، ﻭﺇﺗﻴﺎﻧﻜﻢ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺤﻞ ﻟﻜﻢ، ﺛﻢ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﺣﺴﻦ: ﻛﻴﻒ ﺗﺤﺪﺙ ﻧﻔﺴﻚ ﺃﻧﻚ ﻛﺎﺋﻦ ﺧﻠﻴﻔﺔ؟ ﻭﻟﻴﺲ ﻋﻨﺪﻙ ﻋﻘﻞ ﺫﻟﻚ ﻭﻻ ﺭﺃﻳﻪ، ﻓﻜﻴﻒ ﺗﺮاﻙ ﺗﺄﺗﻴﻪ، ﻭﺃﻧﺖ ﺃﺣﻤﻖ ﻗﺮﻳﺶ! ﻭﻓﻴﻚ ﺳﻮء ﻋﻘﻞ ﺃﺑﻴﻚ، ﻭﺇﻧﻲ ﺩﻋﻮﺗﻚ ﻷﺳﺒﻚ ﻭﺃﺑﺎﻙ، ﺛﻢ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﺗﻐﻴﺮﻩ، ﻭﻻ ﺃﻥ ﺗﻜﺬﺑﻪ، ﻓﺄﻣﺎ ﺃﺑﻮﻙ ﻓﻘﺪ ﻛﻔﺎﻧﺎ اﻟﻠﻪ ﺷﺮﻩ، ﻭﺃﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﻓﻔﻲ ﺃﻳﺪﻳﻨﺎ ﻧﺘﺨﻴﺮ ﻓﻴﻚ، ﻭاﻟﻠﻪ ﻟﻮ ﻗﺘﻠﻨﺎﻙ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﻗﺘﻠﻚ ﺇﺛﻢ ﻣﻦ اﻟﻠﻪ، ﻭﻻ ﻋﺘﺐ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ، ﻓﺘﻜﻠﻢ، ﻭﺇﻻ فاﻋﻠﻢ ﺃﻧﻚ ﻭﺃﺑﺎﻙ ﻣﻦ ﺷﺮ ﺧﻠﻖ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ.
ﺛﻢ ﺗﻜﻠﻢ ﻋﺘﺒﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﻓﻘﺎﻝ: ﺇﻧﻜﻢ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ ﻫﺎﺷﻢ ﻗﺘﻠﺘﻢ ﻋﺜﻤﺎﻥ، ﺛﻢ ﻟﻢ ﺗﺪﻭﻩ، ﻭﻟﻢ ﺗﻘﻴﺪﻭﻧﺎ ﺑﻪ، ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻟﻮ ﻗﺘﻠﻨﺎﻙ ﺑﻌﺜﻤﺎﻥ ﺇﺛﻢ ﻣﻦ اﻟﻠﻪ، ﻭﻻ ﻟﻮﻡ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻦ اﻟﺤﻖ ﺃﻥ ﻧﻘﺘﻠﻚ ﻭﺃﺑﺎﻙ، ﻓﺄﻣﺎ ﺃﺑﻮﻙ ﻓﻘﺪ ﺗﻔﺮﺩ اﻟﻠﻪ ﺑﻘﺘﻠﻪ ﻭﻛﻔﺎﻧﺎﻩ، ﻭﺃﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﻓﻘﺪ ﺃﻗﺎﺩﻙ اﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﺇﺫ ﻛﺎﻥ ﺃﺑﻮﻙ ﺷﺮ ﻗﺮﻳﺶ ﻟﻘﺮﻳﺶ، ﺃﻗﻄﻌﻬﻢ ﻷﺭﺣﺎﻣﻬﺎ، ﻭﺃﺳﻔﻜﻬﻢ ﻟﺪﻣﺎﺋﻬﺎ، ﻭﻋﻠﻴﻚ اﻟﻘﻮﺩ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﻓﻨﺤﻦ ﻗﺎﺗﻠﻮﻙ ﺑﻪ، ﻭﺃﻣﺎ ﺭجاﺅﻙ اﻟﺨﻼﻓﺔ ﻓﻠﻴﺴﺖ ﻗﺪﺣﺔ ﺭﺃﻳﻚ، ﻭﻻ ﺭﺟﺢ ﻣﻴﺰاﻧﻚ.
ﺛﻢ ﺗﻜﻠﻢ اﻟﻮﻟﻴﺪ ﺑﻦ ﻋﻘﺒﺔ ﻓﻘﺎﻝ: ﺇﻧﻜﻢ ﺑﻨﻲ ﻫﺎﺷﻢ ﻛﻨﺘﻢ ﺃﺧﻮاﻝ ﻋﺜﻤﺎﻥ، ﻭﻟﻨﻌﻢ اﻟﻮﻟﺪ ﻛﺎﻥ ﻟﻜﻢ ﺇﺫ ﻛﻨﺘﻢ ﺃﺻﻬﺎﺭﻩ، ﻭﻟﻨﻌﻢ اﻟﺼﻬﺮ ﻛﺎﻥ ﻟﻜﻢ، ﻳﻌﺮﻑ ﺣﻘﻜﻢ، ﻭﻳﻜﺮﻣﻜﻢ، ﻭﺇﻧﻜﻢ ﻛﻨﺘﻢ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﺣﺴﺪﻩ ﻭﺩﺏ ﻓﻲ ﻗﺘﻠﻪ ﻭﻓﺘﻚ ﺑﻪ، ﻭﻛﻨﺘﻢ ﺃﻧﺘﻢ ﻗﺘﻠﺘﻤﻮﻩ، ﻭﺃﻃﻌﺘﻢ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﻲ ﻗﺘﻠﻪ؛ ﺣﺮﺻﺎً ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻠﻚ، ﻭﻗﻄﻴﻌﺔ ﻟﻠﺮﺣﻢ، ﻓﻜﻴﻒ ﺗﺮﻭﻥ اﻟﻠﻪ ﻃﻠﺐ ﺑﺪﻣﻪ؟ ﻭﻛﻴﻒ ﺗﺮﻭﻥ ﻣﻨﺰﻟﻜﻢ ﻣﻨﺎﺯﻟﻜﻢ؟ ﺃﻣﺎ ﺃﺑﻮﻙ ﻓﻘﺘﻠﻪ اﻟﻠﻪ، ﻭﺃﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﻓﺼﺮﺕ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻛﺮﻫﺖ.
ﺛﻢ ﺗﻜﻠﻢ اﻟﻤﻐﻴﺮﺓ ﺑﻦ ﺷﻌﺒﺔ، ﻓﻘﺎﻝ ﻳﺎ ﺣﺴﻦ: ﺇﻥ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﻗﺘﻞ ﻣﻈﻠﻮﻣﺎً، ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻷﺑﻴﻚ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻋﺬﺭ ﺑﺮﻱء، ﻭﻻ اﻋﺘﺬاﺭ ﻣﺬﻧﺐ، ﻏﻴﺮ ﺃﻧﺎ ﻇﻨﻨﺎ ﺃﻧﻪ ﺭاﺽ ﺑﻘﺘﻠﻪ ﻟﻀﻤﻪ ﻗﺘﻠﺘﻪ، ﻭﻣﻜﺎﻧﻬﻢ ﻣﻨﻪ، ﻭﻛﺎﻥ ﻭاﻟﻠﻪ ﻃﻮﻳﻞ اﻟﻠﺴﺎﻥ ﻭاﻟﺴﻴﻒ، ﻳﻘﺘﻞ اﻟﺤﻲ ﻭﻳﻌﻴﺐ اﻟﻤﻴﺖ، ﻭﺑﻨﻮ ﺃﻣﻴﺔ ﻟﺒﻨﻲ ﻫﺎﺷﻢ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﻫﺎﺷﻢ ﻟﺒﻨﻲ ﺃﻣﻴﺔ، ﻭﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺧﻴﺮ ﻟﻚ ﻣﻨﻚ ﻟﻪ.
ﺛﻢ ﺗﻜﻠﻢ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﻓﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﺛﻨﻰ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ، ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺷﺘﻤﻨﻲ ﻏﻴﺮﻙ ﻓﺤﺸﺎً ﻣﻨﻚ، ﻭﺧﻠﻘﺎً ﺳﻴﺌﺎً، ﻭﺑﻐﻴﺎً ﻋﻠﻲَّ، ﻭﻋﺪاﻭﺓ ﻟﺮﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺪﻳﻤﺎً ﻭﺣﺪﻳﺜﺎ، ﻭﻻ ﺃﺑﺪﺃ ﺇﻻ ﺑﻚ، ﻭﻻ ﺃﻗﻮﻝ ﺇﻻ ﺩﻭﻥ ﻣﺎ ﻓﻴﻚ، ﻭاﻟﻠﻪ ﻟﻮ ﻛﻨﺖ ﺃﻧﺎ ﻭﻫﺆلاء ﻓﻲ ﻣﺴﺠﺪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻭﺣﻮﻟﻨﺎ ﺃﻫﻞ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻟﻤﺎ اﺳﺘﻄﺎﻋﻮا ﺃﻥ ﻳﺘﻜﻠﻤﻮا ﺑﺎﻟﺬﻱ ﺗﻜﻠﻤﻮا ﺑﻪ، ﻭﻟﻜﻦ اﺳﻤﻌﻮا ﺃﻳﻬﺎ اﻟﻤﻸ، ﻭﻻ ﺗﻜﺘﻤﻮا ﺣﻘﺎً ﻋﻠﻤﺘﻤﻮﻩ، ﻭﻻ ﺗﺼﺪﻗﻮا ﺑﺎﻃﻼً ﺇﻥ ﺗﻜﻠﻤﺖ ﺑﻪ: ﺃﻧﺸﺪﻛﻢ اﻟﻠﻪ، ﺃﺗﻌﻠﻤﻮﻥ ﺃﻥ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬﻱ ﺷﺘﻤﺘﻢ ﻭﺗﻨﺎﻭﻟﺘﻢ ﻣﻨﻪ اﻟﻴﻮﻡ ﻗﺪ ﺻﻠﻰ اﻟﻘﺒﻠﺘﻴﻦ ﻛﻠﺘﻴﻬﻤﺎ، ﻭﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻛﺎﻓﺮ ﺑﻬﻤﺎ ﺗﺮاﻫﻤﺎ ﺿﻼﻟﺔ ﻭﺗﻌﺒﺪ اللاﺕ ﻭاﻟﻌﺰﻯ، ﻭﺑﺎﻳﻊ اﻟﺒﻴﻌﺘﻴﻦ ﺑﻴﻌﺔ اﻟﺮﺿﻮاﻥ ﻭﺑﻴﻌﺔ اﻟﻔﺘﺢ ﻭﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﺎﻷﻭﻟﻰ ﻛﺎﻓﺮ ﻭﺑﺎﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻧﺎﻛﺚ.
ﻭﺃﻧﺸﺪﻛﻢ اﻟﻠﻪ، ﺃﺗﻌﻠﻤﻮﻥ ﺃﻥ ﻋﻠﻴﺎً ﻟﻘﻴﻜﻢ ﻳﻮﻡ اﻷﺣﺰاﺏ ﻭﻳﻮﻡ ﺑﺪﺭ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻭﻣﻌﻪ ﺭاﻳﺔ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭاﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ، ﻭﻣﻌﻚ ﻳﺎ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻟﻮاء اﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺶ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﻳﻔﻠﺞ اﻟﻠﻪ ﺣﺠﺘﻪ، ﻭﻳﺤﻖ ﺩﻋﻮﺗﻪ، ﻭﻳﺼﺪﻕ ﺃﺣﺪﻭﺛﺘﻪ، ﻭﻳﻨﺼﺮ ﺭاﻳﺘﻪ، ﻭﻓﻲ ﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺭاﺽ ﻋﻨﻪ ﻓﻲ اﻟﻤﻮاﻃﻦ ﻛﻠﻬﺎ.
ﻭﺃﻧﺸﺪﻛﻢ اﻟﻠﻪ ﺃﺗﻌﻠﻤﻮﻥ ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺣﺎﺻﺮ ﻗﺮﻳﻈﺔ ﻭاﻟﻨﻀﻴﺮ، ﻓﺒﻌﺚ ﻋﻤﺮ ﺑﺮاﻳﺔ اﻟﻤﻬﺎﺟﺮﻳﻦ، ﻭﺳﻌﺪ ﺑﻦ ﻣﻌﺎﺫ ﺑﺮاﻳﺔ اﻷﻧﺼﺎﺭ، ﻓﺄﻣﺎ ﺳﻌﺪ ﻓﺠﻲء ﺑﻪ ﺟﺮﻳﺤﺎً، ﻭﺃﻣﺎ ﻋﻤﺮ ﻓﺮﺟﻊ ﺑﺄﺻﺤﺎﺑﻪ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ((ﻷﻋﻄﻴﻦ اﻟﺮاﻳﺔ ﻏﺪاً ﺭﺟﻼً ﻳﺤﺐ اﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ، ﻭﻳﺤﺒﻪ اﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﻳﻔﺘﺢ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻳﻪ)).
ﻓﺘﻌﺮﺽ ﻟﻬﺎ ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﻭﻋﻤﺮ، ﻭﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻳﻮﻣﺌﺬ ﺃﺭﻣﺪ، ﻓﺪﻋﺎﻩ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﺃﻋﻄﺎﻩ ﺇﻳﺎﻫﺎ، ﻓﻠﻢ ﻳﻠﺒﺚ ﺣﺘﻰ ﻓﺘﺢ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﺎﺳﺘﻨﺰﻟﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺣﻜﻢ اﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ، ﻭﺃﻧﺖ ﻳﻮﻣﺌﺬ ﻣﺸﺮﻙ ﺑﻤﻜﺔ ﻋﺪﻭ ﻟﻠﻪ.
ﺑﺎﻟﻠﻪ ﺃﺗﻌﻠﻤﻮﻥ ﺃﻥ ﻋﻠﻴﺎً ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﻣﺤﻤﺪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻣﻤﻦ ﺣﺮﻡ اﻟﺸﻬﻮاﺕ، ﻣﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﺃﻧﺰﻝ اﻟﻠﻪ ﻓﻴﻬﻢ {ﻳﺎ ﺃﻳﻬﺎ اﻟﺬﻳﻦ ﺁﻣﻨﻮا ﻻ ﺗﺤﺮﻣﻮا ﻃﻴﺒﺎﺕ ﻣﺎ ﺃﺣﻞ اﻟﻠﻪ ﻟﻜﻢ} [ اﻟﻤﺎﺋﺪﺓ: 87] ﻭﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺭﻫﻂ ﻫﻮ ﻋﺎﺷﺮﻫﻢ، ﻓﺄﻧﺒﺄﻫﻢ اﻟﻠﻪ ﺃﻧﻬﻢ ﻣﺆﻣﻨﻮﻥ، ﻭﺃﻧﺖ ﻓﻲ ﺭﻫﻂ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﻟﻌﻨﻚ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ.
ﻭﻧﺸﺪﺗﻚ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﺃﺗﻌﻠﻢ ﺃﻧﻚ ﻛﻨﺖ ﺗﺴﻮﻕ ﺃﺑﺎﻙ ﻳﻮﻡ اﻷﺣﺰاﺏ، ﻭﻳﻘﻮﺩ ﺑﻪ ﺃﺧﻮﻙ ﻫﺬا اﻟﻘﺎﻋﺪ: ﻋﺘﺒﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻞ ﺃﺣﻤﺮ ﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﻋﻤﻲ ﺃﺑﻮ ﺳﻔﻴﺎﻥ، ﻓﻠﻌﻦ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ اﻟﺠﻤﻞ ﻭاﻟﻘﺎﺋﺪ ﻭاﻟﺮاﻛﺐ ﻭاﻟﺴﺎﺋﻖ.
ﻭﻧﺸﺪﺗﻚ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﺃﺗﻌﻠﻢ ﺃﻧﻚ ﻛﻨﺖ ﺗﻜﺘﺐ ﻟﺮﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻌﺠﺒﻪ ﺣﺴﻦ ﺧﻄﻚ، ﻓﺄﺭﺳﻞ ﺇﻟﻴﻚ ﻳﻮﻣﺎً، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺮﺳﻮﻝ: ﻫﻮ ﻳﺄﻛﻞ، ﻓﺄﻋﺎﺩ ﺫﻟﻚ ﻣﺮاﺭاً، ﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﻳﻘﻮﻝ اﻟﺮﺳﻮﻝ: ﻫﻮ ﻳﺄﻛﻞ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ((اﻟﻠﻬﻢ ﻻ ﺗﺸﺒﻊ ﺑﻄﻨﻪ)) ﻓﻨﺸﺪﺗﻚ اﻟﻠﻪ، ﺃﻟﺴﺖ ﺗﻌﺮﻑ ﺗﻠﻚ اﻟﺪﻋﻮﺓ ﻓﻲ ﻧﻬﻤﺘﻚ ﻭﺃﻛﻠﻚ ﻭﺭﻏﺒﺔ ﺑﻄﻨﻚ؟
ﻭﻧﺸﺪﺗﻚ ﺑﺎﻟﻠﻪ! ﺃﺗﻌﻠﻢ ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻟﻌﻦ ﺃﺑﺎ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﻓﻲ ﺳﺒﻌﺔ ﻣﻮاﻃﻦ: ﻟﻌﻨﻪ ﻳﻮﻡ ﻟﻘﻴﻪ ﺧﺎﺭﺟﺎً ﻣﻦ ﻣﻜﺔ ﻣﻬﺎﺟﺮاً ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺪﻧﻴﺔ، ﻭﺃﺑﻮ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﺟﺎء ﻣﻦ اﻟﺸﺎﻡ، ﻓﻮﻗﻊ ﻓﻴﻪ ﻭﺳﺒﻪ ﻭﻛﺬﺑﻪ ﻭﺃﻭﻋﺪﻩ ﻭﻫﻢ ﺃﻥ ﻳﺒﻄﺶ ﺑﻪ، ﻓﺼﺪﻩ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻭﻟﻌﻨﻪ ﻳﻮﻡ ﺃﺣﺪ، ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺳﻔﻴﺎﻥ: ﺃﻋﻞ ﻫﺒﻞ، ﻓﻘﺎﻝ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: اﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻰ ﻭﺃﺟﻞ، ﻓﻘﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺳﻔﻴﺎﻥ: ﻟﻨﺎ اﻟﻌﺰﻯ ﻭﻻ ﻋﺰﻯ ﻟﻜﻢ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: اﻟﻠﻪ ﻣﻮﻻﻧﺎ ﻭﻻ ﻣﻮﻟﻰ ﻟﻜﻢ. ﻭﻟﻌﻨﺔ اﻟﻠﻪ ﻭﻣﻼﺋﻜﺘﻪ ﻭﺭﺳﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻟﻌﻨﻪ ﻳﻮﻡ ﺑﺪﺭ ﺇﺫ ﺟﺎء ﺃﺑﻮ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﻗﺮﻳﺶ، ﻓﺮﺩﻫﻢ ﺑﻐﻴﻈﻬﻢ، ﻓﺄﻧﺰﻝ اﻟﻠﻪ ﻓﻴﻬﻢ ﺁﻳﺘﻴﻦ: ﺳﻤﻰ ﺃﺑﺎﻙ ﻓﻲ ﻛﻠﺘﻴﻬﻤﺎ ﻭﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﻛﺎﻓﺮاً، ﻭﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻳﻮﻣﺌﺬ ﻣﻊ ﺃﺑﻴﻚ، ﻭﻟﻌﻨﻪ ﻳﻮﻡ اﻟﻬﺪﻱ ﻣﻌﻜﻮﻓﺎً ﺃﻥ ﻳﺒﻠﻎ ﻣﺤﻠﻪ، ﻓﺮﺟﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻭﻟﻢ ﻳﻄﻒ ﺑﺎﻟﺒﻴﺖ، ﻭﻟﻢ ﻳﻘﺾ ﻧﺴﻜﻪ، ﻭﻟﻌﻨﻪ ﻳﻮﻡ اﻷﺣﺰاﺏ: ﺟﺎء ﺃﺑﻮ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﺑﺠﻤﻊ ﻗﺮﻳﺶ، ﻭﺟﺎء ﻋﻴﻴﻨﺔ ﺑﻦ ﺣﺼﻦ ﺑﻦ ﺑﺪﺭ ﺑﻐﻄﻔﺎﻥ، ﻭﻭاﻋﺪﻛﻢ ﻗﺮﻳﻈﺔ ﻭاﻟﻨﻀﻴﺮ، ﻓﻠﻌﻦ اﻟﻠﻪ اﻟﻘﺎﺩﺓ ﻭالأﺗﺒﺎﻉ، ﻓﺄﻣﺎ اﻷﺗﺒﺎﻉ ﻓﻼ ﺗﺼﻴﺐ اﻟﻠﻌﻨﺔ ﻣﺆﻣﻨﺎً، ﻭﺃﻣﺎ اﻟﻘﺎﺩﺓ ﻓﻠﻴﺲ ﻓﻴﻬﻢ ﻣﺆﻣﻦ ﻭﻻ ﻣﺠﻴﺐ ﻭﻻ ﻧﺎﺝ، ﻭﻟﻌﻨﻪ ﻳﻮﻡ ﺣﻤﻠﻮا ﻋﻠﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﻲ اﻟﻌﻘﺒﺔ، ﻭﻫﻢ اﺛﻨﺎ ﻋﺸﺮ ﺭﺟﻼً: ﺳﺒﻌﺔ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻴﺔ، ﻭﺃﺑﻮ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﻓﻴﻬﻢ، ﻭﺧﻤﺴﺔ ﻣﻦ ساﺋﺮ ﻗﺮﻳﺶ، ﻟﻌﻦ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﺜﻨﻴﺔ ﻏﻴﺮ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﻧﺎﻗﺘﻪ ﻭﺳﺎﺋﻘﻬﺎ ﻭقاﺋﺪﻫﺎ، ﻓﻬﻞ ﺗﺮﺩﻭن ﻋﻠﻲَّ ﻣﻤﺎ ﻗﻠﺖ ﺷﻴﺌﺎ؟
ﻭﻣﻨﻬﺎ: ﻟﻌْﻨُﻚ ﻳﻮﻡ ﺃﺑﻮﻙ ﻫﻢَّ ﺃﻥ ﻳﺴﻠﻢ، ﻓﺒﻌﺜْﺖَ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺸﻌﺮ ﻣﻌﺮﻭﻑ ﺗﻨﻬﺎﻩ ﻋﻦ اﻹﺳﻼﻡ، ﻓﻬﺬﻩ ﻣﻮاﻃﻦ ﻟَﻌﻨْﺖَ ﻓﻴﻬﺎ ﺃﻧﺖ ﻭﺃﺑﻮﻙ.
"ﻭﺷﻌﺮ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻴﻪ ﻳﺮﺩﻩ ﻋﻦ اﻹﺳﻼﻡ:
ﻳﺎ ﺻﺨﺮ ﻻ ﺗﺴﻠﻤﻦ ﻃﻮﻋﺎً ﻓﺘﻔﻀﺤﻨﺎ ... ﺑﻌﺪ اﻟﺬﻳﻦ ﺑﺒﺪﺭ ﺃﺻﺒﺤﻮا ﻣﺰﻗﺎ
ﺟﺪﻱ ﻭﺧﺎﻟﻲ ﻭﻋﻢ اﻷﻡ ﻳﺎ ﻟﻬﻢ ... ﻗﻮﻣﺎً ﻭﺣﻨﻈﻠﺔ اﻟﻤُﻬﺪﻱ ﻟﻨﺎ اﻷﺭﻗﺎ
ﻻ ﺗﺮﻛﻨﻦَّ ﺇﻟﻰ ﺃﻣﺮ ﻳﻘﻠﺪﻧﺎ ... ﻭاﻟﺮاﻗﺼﺎﺕ ﺑﻪ ﻓﻲ ﻣﻜﺔ اﻟﺤﺮﻗﺎ
ﻭاﻟﻤﻮﺕ ﺃﻫﻮﻥ ﻣﻦ ﻗﻮﻝ اﻟﺴﻔﺎﻩ ﻟﻘﺪ ... ﺧﻠﻰ اﺑﻦ ﺣﺮﺏ ﻟﻨﺎ اﻟﻌﺰﻯ ﻟﻨﺎ ﻓﺮﻗﺎ
ﻓﺈﻥ ﺃﺗﻴﺖ ﺃﺑﻴﻨﺎ ﻣﺎ ﺗﺮﻳﺪ ﻓﻼ ... ﻧﺜﻨﻲ ﻋﻦ اللاﺕ ﻭاﻟﻌﺰﻯ ﻟﻨﺎ ﻋﻨﻘﺎ"
ﻭﻣﻨﻬﺎ: ﻭﻻﻙ ﻋﻤﺮ اﻟﺸﺎﻡ ﻓﺨﻨﺘﻪ، ﻭﻭﻻﻙ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﻓﺘﺮﺑﺼﺖ ﺑﻪ، ﻭﻗﺎﺗﻠﺖ ﻋﻠﻴﺎً ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺮ ﻛﺎﻥ ﺃﻭﻟﻰ ﺑﻪ ﻣﻨﻚ ﻋﻨﺪ اﻟﻠﻪ، ﻓﻠﻤﺎ ﺑﻠﻎ اﻟﻜﺘﺎﺏ ﺃﺟﻠﻪ، ﻭﺻﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﺧﻴﺮ ﻣﻨﻘﻠﺐ، ﻭﺻﺮﺕ ﺇﻟﻰ ﺷﺮ ﻣﺜﻮﻯ، ﻭﻗﺪ ﺧﻔﻔﺖ ﻋﻨﻚ ﻣﻦ ﻋﻴﻮﺑﻚ.
ﻭﺃﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﻋﻤﺮﻭ: ﻓﺈﻥ ﺃﻭﻝ ﻟﺆﻣﻚ ﺃﻧﻚ ﻭﻟﺪﺕ ﻋﻠﻰ ﻓﺮاﺵ ﻣﺸﺘﺮﻙ، ﻭﻗﺪ اﺣﺘﺞ ﻓﻴﻚ ﺧﻤﺴﺔ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺶ: ﺃﺑﻮ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﺑﻦ ﺣﺮﺏ، ﻭاﻟﻮﻟﻴﺪ ﺑﻦ اﻟﻤﻐﻴﺮﺓ، ﻭﻋﺜﻤﺎﻥ اﺑﻦ اﻟﺤﻮﻳﺮﺙ، ﻭاﻟﻨﻀﺮ ﺑﻦ ﺣﺎﺭﺛﺔ، ﻭاﻟﻌﺎﺹ ﺑﻦ ﻭاﺋﻞ، ﻛﻞ ﻭاﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻳﺪﻋﻲ ﺃﻧﻚ اﺑﻨﻪ، ﻓﻐﻠﺐ ﻋﻠﻴﻚ ﺟﺰاﺭ ﻗﺮﻳﺶ ﺃﻷﻣﻬﺎ ﺣﺴﺒﺎً، ﻭﺃﺧﺒﺜﻬﺎ ﻣﻨﺼﺒﺎً، ﻭﺃﻋﻈﻤﻬﺎ ﻟﻌﻨﺔ، ﺛﻢ ﻗﻤﺖ ﺧﻄﻴﺒﺎً ﻓﻲ ﻗﺮﻳﺶ، ﻓﻘﻠﺖ: ﺇﻧﻲ ﺷﺎﻧﺊ ﻣﺤﻤﺪاً، ﻓﺄﻧﺰﻝ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻓﻴﻚ: {ﺇﻥ ﺷﺎﻧﺌﻚ ﻫﻮ اﻷﺑﺘﺮ (3)} [ اﻟﻜﻮﺛﺮ: 3]
ﺛﻢ ﻛﻨﺖ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﻗﺎﺗﻞ ﻓﻴﻪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺃﺷﺪﻫﻢ ﻟﻪ ﻋﺪاﻭﺓ ﻭﺗﻜﺬﻳﺒﺎ، ﺛﻢ ﻛﻨﺖ ﻣﻦ اﻟﻔﺴﻘﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﺭﻛﺒﻮا ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺠﺎﺷﻲ ﻓﻲ ﺟﻌﻔﺮ، ﻓﻜﺬﺑﻚ اﻟﻠﻪ ﻭﺭﺩﻙ ﺑﻐﻴﻈﻚ، ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺧﻄﺄﻙ ﻣﺎ ﺭﺟﻮﺕ ﺃﺟﻠﺒﺖ ﻋﻠﻰ ﺻﺎﺣﺒﻚ ﻋﻤﺎﺭﺓ ﺑﻦ اﻟﻮﻟﻴﺪ ﻓﻘﺘﻠﺘﻪ.
ﻭﺃﻧﺖ ﻋﺪﻭ ﺑﻨﻲ ﻫﺎﺷﻢ ﻓﻲ اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ ﻭاﻹﺳﻼﻡ، ﻭﻟﺴﻨﺎ ﻧﻠﻮﻣﻚ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺒﻚ، ﻭﻻ ﻧﺴﺘﻌﺘﺒﻚ ﻋﻠﻰ ﺣﺐ، ﻭﻗﺪ ﻫﺠﻮﺕ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺑﺴﺒﻌﻴﻦ ﺑﻴﺘﺎً، ﻓﻘﺎﻝ ﻧﺒﻲ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: اﻟﻠﻬﻢ ﺇﻧﻲ ﻻ ﺃﺣﺴﻦ اﻟﺸﻌﺮ، ﻭﻟﻜﻦ اﻟﻌﻨﻪ ﺑﻜﻞ ﺑﻴﺖ ﻟﻌﻨﺔ، ﻓﺄﻣﺎ ﻗﻮﻟﻚ ﻓﻲ ﻋﺜﻤﺎﻥ، ﻓﺈﻧﻚ ﺃﻟﻬﺒﺘﻬﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﺷﺎﻧﻴﺎً، ﺛﻢ ﻫﺮﺑﺖ ﺇﻟﻰ ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ، ﻓﻠﻤﺎ ﺑﻠﻐﻚ ﻗﺘﻠﻪ ﺣﺒﺴﺖ ﻧﻔﺴﻚ ﻋﻠﻰ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ، ﻓﺒﻌﺘﻪ ﺩﻳﻨﻚ ﺑﺪﻧﻴﺎﻩ، ﻭﻟﺴﻨﺎ ﻧﻠﻮﻣﻚ ﻋﻠﻰ ﺑﻐﻀﻨﺎً، ﻭﺃﻧﺖ اﻟﻘﺎﺋﻞ ﺣﻴﺚ ﻗﻠﺖ:
تقول ابنتي أين أين الرحيـ
ـل؟ وما السير مني بمستنكر
فقلت: دعيني فإني امرؤ
أريد النجاشي في جعفر
لأكويه عنده كية
أقيم بها صعر الأصعر
ولا أنثني عن بني هاشم
بما اسطعت في الغيب والمحضر
وعن عائب اللت في قله
ولولا رضى اللات لم نمطر
وإني لأشنى قريش له
وأقومهم فيه بالمنكر
وأجرا قريش على عيبه
وإن كان كالذهب الأحمر
فإن بزني الأمر تابعته
وإلا لويت له مشفري
ﻭﺃﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﻋﺘﺒﺔ: ﻓﻮاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﺑﺤﺼﻴﻒ ﻓﺄﺟﻴﺒﻚ، ﻭﻻ ﻋﺎﻗﻞ ﻓﺄﻋﻴﺒﻚ، ﻭﻻ ﻓﻴﻚ ﺧﻴﺮ ﻳﺮﺗﺠﻰ، ﻭﻻ ﺷﺮ ﻳﺘﻘﻰ، ﻭﺃﻣﺎ ﻭﻋﻴﺪﻙ ﺇﻳﺎﻱ ﺑﺎﻟﻘﺘﻞ، ﻓﻬﻼ ﻗﺘﻠﺖ اﻟﺬﻱ ﻭﺟﺪﺕ ﻋﻠﻰ ﻓﺮاﺷﻬﺎ ﻗﺪ ﻏﻠﺒﻚ ﻋﻠﻰ ﻓﺮﺟﻬﺎ، ﻭﺃﺷﺮﻛﻚ ﻓﻲ ﻭﻟﺪﻫﺎ؟ ﻭﻟﻮ ﻛﻨﺖ ﺗﺴﺘﺤﻴﻲ ﻣﻦ ﺷﻲء، ﺃﻭ ﺗﻘﺘﻞ ﺃﺣﺪاً ﻟﻤﺎ ﺃﻣﺴﻜﺘﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﺇﺫ ﺑﻐﺖ ﻋﻠﻴﻚ، ﻭﻟﻢ ﺗﻐﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻻ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻜﻴﻒ ﻳﺨﺎﻓﻚ ﺃﺣﺪ؟! ﺃﻡ ﻛﻴﻒ ﺗﻮﻋﺪ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﺎﻟﻘﺘﻞ ﻭﻗﺪ ﺗﺮﻛﺘﻪ! ﻭﻻ ﺃﻟﻮﻣﻚ ﻋﻠﻰ ﺳﺐ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، ﻭﻗﺪ ﻗﺘﻞ ﺧﺎﻟﻚ ﻣﺒﺎﺭﺯﺓ، ﻭاﺷﺘﺮﻙ ﻫﻮ ﻭﺣﻤﺰﺓ ﻓﻲ ﺟﺪﻙ ﻓﻘﺘﻼﻩ.
ﻭﺃﻣﺎ ﻗﻮﻟﻚ ﻓﻲ ﺭجاﺋﻲ اﻟﺨﻼﻓﺔ، ﻓﻠﻌﻤﺮﻱ ﺇﻥ ﻟﻲ ﻟﻤﻠﺒﺴﺎً، ﻭﻟﻜﻨﻚ ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺃﻧﺎ ﺑﻨﻈﻴﺮ ﺃﺧﻴﻚ، ﻭﻻ ﺧﻠﻴﻔﺔ ﺃﺑﻴﻚ، ﻭﻛﺎﻥ ﺣﻘﺎً ﻟﻚ ﺃﻥ ﺗﺴﺘﺤﻴﻲ ﻣﻦ ﻗﻮﻝ ﻧﺼﺮ ﺑﻦ اﻟﺤﺠﺎﺝ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮﻝ:
ﻳﺎ ﻟﺮﺟﺎﻝ ﻟﺤﺎﺭﺙ اﻷﺯﻣﺎﻥ ... ﻭﻟﺴﻮءﺓ ساءﺕ ﺃﺑﺎ ﺳﻔﻴﺎﻥ
ﻧﺒﺌﺖ ﻋﺘﺒﺔ ﻗﺬﺭﺗﻪ ﻋﺮﺳﻪ ... ﺑﺼﺪاﻗﺔ اﻟﻬﺬﻟﻲ ﻣﻦ ﻟﺤﻴﺎﻥ
ﺃﻟﻔﺎﻩ ﻣﻌﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﻔﺮاﺵ ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ... ﺣﺮاً ﻭﺃﻣﺴﻚ ﺷﺮﺓ اﻟﻨﺴﻮاﻥ
ﻟﻠﻪ ﺩﺭﻙ ﺧﻞ ﻋﻨﻬﺎ ﺇﻧﻬﺎ ... ﻟﻴﺴﺖ ﻭﻋﻨﺪﻙ ﻋﻠﻤﻬﺎ ﺑﺤﺼﺎﻥ
ﻭاﻃﻠﺐ ﺳﻮاﻫﺎ ﺣﺮﺓ ﻣﺄﻣﻮﻧﺔ ... ﺃﻟﻘﺖ ﻋﻠﻴﻚ ﺑﺜﻘﻠﺔ اﻟﺪﻳﺜﺎﻥ
ﻟﻠﻪ ﺩﺭﻙ ﺇﻧﻬﺎ ﻣﻜﺮﻭﻫﺔ ... ﻗﺎﻟﻮا اﻟﺰﻧﺎ ﻭﻧﻜﺎﺣﻬﺎ ﺳﻴﺎﻥ
ﻻ ﺗﻠﺰﻣﻦ ﻳﺎ ﻋﺘﺐ ﻧﻔﺴﻚ ﺣﺒﻬﺎ ... ﺇﻥ النساء حباﺋﻞ اﻟﺸﻴﻄﺎﻥ
ﻭﺃﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﻭﻟﻴﺪ: ﻓﻼ ﺃﻟﻮﻣﻚ ﺃﻥ ﺗﺴﺐ ﻋﻠﻴﺎً ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻭﻗﺪ ﺟﻠﺪﻙ ﻓﻲ اﻟﺨﻤﺮ، ﻭﻗﺪ ﻗﺘﻞ ﺃﺑﺎﻙ ﺑﻴﺪﻩ ﺻﺒﺮاً ﻋﻦ ﺃﻣﺮ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻭﻛﻴﻒ ﺗﺴﺒﻪ ﻭﻗﺪ ﺳﻤﺎﻩ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﻋﺸﺮ ﺁﻳﺎﺕ ﻣﺆﻣﻨﺎ ﻭﺳﻤﺎﻙ ﻓﺎﺳﻘﺎ!، ﻭﻛﻴﻒ ﺗﺴﺒﻪ ﻭﺃﻧﺖ ﻋﻠﺞ ﺻﻔﻮﺭﻳﺔ!
ﻭﺃﻣﺎ ﺯﻋﻤﻚ ﺃﻧﺎ ﻗﺘﻠﻨﺎ ﻋﺜﻤﺎﻥ، ﻓﻮاﻟﻠﻪ ﻣﺎ اﺳﺘﻄﺎﻉ ﻃﻠﺤﺔ ﻭاﻟﺰﺑﻴﺮ ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻻ لعليٍّ ﺫﻟﻚ، ﻭﻟﻮ اﺳﺘﻄﺎﻋﺎ ﻟﻘﺎﻻ، ﻭﻛﺄﻧﻚ ﻗﺪ ﻧﺴﻴﺖ ﻗﻮﻝ ﺷﺎﻋﺮﻙ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮﻝ:
ﺃﻧﺰﻝ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ ﻋﺰﻳﺰ ... ﻓﻲ ﻋﻠﻲ ﻭﻓﻲ اﻟﻮﻟﻴﺪ ﻗﺮﺁﻧﺎ
اﻟﻘﺼﻴﺪﺓ.
ﻭﺃﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﻣﻐﻴﺮﺓ: ﻓﻮاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﺣﻘﻴﻘﺎً ﺃﻥ ﺗﻘﻊ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﻜﻼﻡ، ﺇﻧﻤﺎ ﻣﺜﻠﻚ ﻣﺜﻞ اﻟﺒﻌﻮﺿﺔ ﺣﻴﺚ ﻭﻗﻌﺖ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺨﻠﺔ، ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻟﻬﺎ: اﺳﺘﻤﺴﻜﻲ ﻓﺈﻧﻲ ﻧﺎﺯﻟﺔ ﻋﻨﻚ، ﻓﻘﺎﻟﺖ اﻟﻨﺨﻠﺔ: ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺷﻌﺮﺕ ﺑﻮﻗﻮﻋﻚ ﻓﻴﺸﻖ ﻋﻠﻲ ﻧﻬﻮﺿﻚ، ﻭﻧﺤﻦ ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺷﻌﺮﻧﺎ ﺑﻌﺪاﻭﺗﻚ ﻭﻻ ﻏﻤﺘﻨﺎ ﺇﺫ ﻋﺮﻓﻨﺎﻫﺎ، ﻭﻟﻜﻦ ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﺑﺄﻱ اﻟﺨﺼﺎﻝ ﺗﺴﺐ ﻋﻠﻴﺎً: اﻧﺘﻘﺎﺻﺎً ﻓﻲ ﻧﺴﺒﻪ؟ ﺃﻡ ﺑﻌﺪاً ﻣﻦ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ؟ ﺃﻡ ﺳﻮء بلاء ﻓﻲ اﻹﺳﻼﻡ؟ ﺃﻡ ﺟﻮﺭ ﺣﻜﻢ؟ ﺃﻡ ﺭﻏﺒﺔ ﻓﻲ اﻟﺪﻧﻴﺎ؟ ﻓﻠﺌﻦ ﻗﻠﺖ ﻭاﺣﺪﺓ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﻘﺪ ﻛﺬﺑﺖ، ﺃﻭ ﺟﺌﺖ ﺗﺰﻋﻢ ﺃﻥ ﻋﻠﻴﺎً ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻗﺘﻞ ﻋﺜﻤﺎﻥ، ﻭﻟﻌﻤﺮﻱ ﻟﻮ ﻗﺘﻠﻪ ﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﺷﻲء، ﻓﺄﻣﺎ ﻗﻴﻠﻜﻢ ﻓﻲ اﻷﻣﺮ ﻭاﻟﻤﻠﻚ اﻟﺬﻱ ﺃﻋﻄﻴﺘﻢ، ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻗﺎﻝ ﻟﻤﺤﻤﺪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: {ﻭﺇﻥ ﺃﺩﺭﻱ ﻟﻌﻠﻪ ﻓﺘﻨﺔ ﻟﻜﻢ ﻭﻣﺘﺎﻉ ﺇﻟﻰ ﺣﻴﻦ (111)} [ اﻷﻧﺒﻴﺎء: 111] {ﻭﺇﺫا ﺃﺭﺩﻧﺎ ﺃﻥ ﻧﻬﻠﻚ ﻗﺮﻳﺔ ﺃﻣﺮﻧﺎ ﻣﺘﺮﻓﻴﻬﺎ ﻓﻔﺴﻘﻮا ﻓﻴﻬﺎ ﻓﺤﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻘﻮﻝ ﻓﺪﻣﺮﻧﺎﻫﺎ ﺗﺪﻣﻴﺮا (16)} [ اﻹﺳﺮاء: 16]
ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻧﺼﺮﺕ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺣﻴﺎً، ﻭﻻ ﻏﻀﺒﺖ ﻟﻪ ﻣﻴﺘﺎً، ﻭﻣﺎ ﺯاﻟﺖ الطاﺋﻒ ﺩاﺭﻙ ﺣﺘﻰ ﻛﺎﻥ ﺃﻣﺲ، ﻭﺃﻣﺎ اﻋﺘﺮاﺿﻚ ﻓﻲ ﺑﻨﻲ ﻫﺎﺷﻢ ﺃﻭ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻴﺔ، ﻓﻬﻮ اﺩﻋﺎﺅﻙ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ.
ثم ﻧﻔﺾ الإمام الحسن بن علي عليه السلام ﺛﻴﺎﺑﻪ ﻭﺧﺮﺝ.
ﻓﻘﺎﻝ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ: ﺫﻭﻗﻮا، ﻗﺪ ﻧﺒﺄﺗﻜﻢ، ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻗﺎﻡ ﺣﺘﻰ ﺃﻇﻠﻢ ﻋﻠﻲَّ اﻟﺒﻴﺖ، ﻭﻗﺎﻝ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺷﻌﺮا:
ﺃﻣﺮﺗﻜﻢ ﺃﻣﺮاً ﻓﻠﻢ ﺗﺴﻤﻌﻮا ﻟﻪ ... ﻭﻗﻠﺖ ﻟﻜﻢ ﻻ ﺗﺒﻌﺜﻦ ﺇﻟﻰ اﻟﺤﺴﻦ
ﻓﺈﻧﻲ ﻭﺭﺏ اﻟﺮاﻗﺼﺎﺕ ﻋﺸﻴﺔ ... ﺑﺮﻛﺒﺎﻧﻬﺎ ﻳﻬﻮﻳﻦ ﻣﻦ ﺳﺮﺓ اﻟﻴﻤﻦ
ﺃﺧﺎﻑ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻣﻨﻪ ﻃﻮﻝ ﻟﺴﺎﻧﻪ ... ﻭﺑﻌﺪ ﻣﺪاﻩ ﻋﻨﺪ ﺗﺠﺮﻳﺮﻩ اﻟﺮﺳﻦ
ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺑﻴﺘﻢ ﻛﻨﺖ ﻓﻴﻪ ﻛﺒﻌﻀﻜﻢ ... ﻭﻛﺎﻥ ﺧﻄﺎﺑﻲ ﻓﻴﻪ ﻏﺒﻨﺎً ﻣﻦ اﻟﻐﺒﻦ
ﻓﺄﺟﻤﻌﺘﻢ ﺑﻐﻴﺎً ﻋﻠﻴﻪ ﻭﻏﺪﺭﺓ ... ﻭﻗﺪ ﻳﻌﺜﺮ اﻟﻌﻴﺮ اﻟﻤﺪﻝ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﻦ
ﻓﻜﻴﻒ ﺭﺃﻳﺘﻢ ﻏﺐ ﺭﺃﻳﻲ ﻭﺭﺃﻳﻜﻢ ... ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﺩاﺭ اﻟﺴﻼﺡ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺤﻦ
ﻓﺤﺴﺒﻜﻢ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﻧﻀﺞ ﻛﻴﻪ ... ﻭﺣﺴﺒﻲ ﻭﺣﺴﺐ اﻟﻤﺮء ﻓﻲ اﻟﻘﺒﺮ ﻭاﻟﻜﻔﻦ
ﻭﻗﺎﻝ في ذلك ﻗﺜﻢ ﺑﻦ اﻟﻌﺒﺎﺱ:
ﻭاﻟﻠﻪ ﻟﻮ ﺟﺌﻨﺎ ﻟﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﻗﺎﺋﻞ ... ﻣﻊ اﺑﻦ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺣﺮﻓﺎ ﻣﺪﻯ اﻟﺪﻫﺮ
ﻭاﻧﺼﺮﻩ ﻣﻨﻜﻢ ﻭﺃﻧﺘﻢ ﻋﺼﺎﺑﺔ ... ﺃﺫﻝ ﺑﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﻋﺎﺯﺏ اﻟﻮﺑﺮ
ﺩﻟﻔﺘﻢ ﺑﻌﻤﺮﻭ ﻭاﺛﻘﻴﻦ ﺑﻔﺤﺸﻪ ... ﺇﻟﻰ اﺑﻦ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺧﺮﻗﺎً ﻭﻻ ﻧﺪﺭﻱ
ﻭﻟﻴﺲ ﻳﺴﺎﻭﻱ ﻋﻤﺮﻛﻢ ﺷﺴﻊ ﻧﻌﻠﻪ ... ﺃﻻ ﻻ ﻭﺷﺴﻊ اﻟﻨﻌﻞ ﺃﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﻋﻤﺮﻭ
ﻭﻗﺪ ﻛﺎﻥ ﻟﻠﻤﺮء اﻟﻤﻌﻴﻄﻲ ﺷﺎﻏﻞ ... ﻋﻦ اﺑﻦ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ اﻟﻄﻬﺮ ﻭاﻟﺨﻤﺮ
ﻭﻗﻞ ﻷﺑﻲ ﺳﻔﻴﺎﻥ عتبة ﺯﻓﻬﺎ ... ﺇﻟﻴﻚ ﻋﺮﻭﺳﺎً ﻭاﺗﺮﻙ اﻟﻔﺨﺮ ﻓﻲ ﻓﻬﺮ
ﻭﻣﺎ اﻷﺣﻤﻖ اﻟﺰﻧﺎ ﺇﻻ ﺑﻌﻮﺿﺔ ... ﻫﻮﺕ ﻓﻲ ﺫﻧﺎﺏ اﻟﺮﻳﺢ ﻓﻲ ﻟﺠﺔ اﻟﺒﺤﺮ
ﻭﺭﺃﺱ ﺧﻄﺎﻳﺎﻫﻢ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ اﻟﺬﻱ ... ﻳﺮﺩ ﺑﻄﻴﺮ اﻟﻤﺎء ﻋﺎﺩﻳﺔ اﻟﺼﻘﺮ
ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺗﺎﻩ اﻟﺼﻘﺮ ﺃﺑﺼﺮ ﺻﻴﺪﻩ ... ﻓﻈﻠﺖ ﺩﻣﺎء اﻟﺼﻴﺪ ﻓﻲ ﻧﺤﺮﻩ ﺗﺠﺮﻱ
ﺃﺗﺆﺫﻱ ﻧﺒﻲ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻪ ... ﻭﺗﻮﺻﻞ ﺃﺭﻭاﺛﺎً ﺟﻤﻌﻦ ﻣﻦ اﻟﺤﻤﺮ
ﻋﻠﻰ ﻏﻴﺮ ﺫﻧﺐ ﻛﺎﻥ ﻣﻨﺎ ﻋﻠﻤﺘﻪ ... ﺳﻮﻯ ﻣﺎ ﻗﺘﻠﻨﺎ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺶ ﻋﻠﻰ اﻟﻜﻔﺮ
ﻣﻦ ﻗﺼﻴﺪﺓ ﻟﻪ ﻃﻮﻳﻠﺔ، ﻭﻛﺎﻧﻮا ﻳﻬﺎﺑﻮﻥ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﺣﺘﻰ ﻗﺒﺾ.
خطبة الحسن عند استشهاد أبيه
لما استشهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قام الحسن عليه السلام في الناس خطيباً، فقال:
الحمد لله الذي لم يزل للحمد أهلاً، الذي منّ علينا بالإسلام وجعل فينا النبوة والكتاب، واصطفانا على خلقه، فجعلنا شهداء على الناس، وجعل الرسول علينا شهيداً، أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالجَدُّ في كتاب الله أبٌ قال الله: }وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ{[يوسف:38]، فأنا ابن البشير النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله تعالى وأنا ابن السراج المنير، ونحن أهل البيت الذين كان جبريل فيهم ينزل، ومنهم يصعد، ونحن الذين افترض الله مودتنا وولايتنا، فقال: }قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى{[الشورى:23]
أيها الناس لقد فارقكم في هذه الليلة رجل ما سبقه الأولون ولا يدركه الآخرون، هيهات هيهات، لطالما قلبتم له الأمور في مواطن بدر وأحد وحنين وخيبر وأخواتها، جرعكم رنقاً، وسوّغكم علقماً، فلستم بملومين على بغضكم إياه.
أيها الناس لقد فقدتم رجلاً لم يكن بالملومة في أمر الله، ولا النؤومة عن حق الله، ولا السروفة من مال الله، أعطى الكتاب عزائمه، دعاه فأجابه، وقاده فاتبعه صلوات الله عليه وعلى آله ومغفرته، ونحتسب أمير المؤمنين عند الله وأستودع الله ديني وأمانتي وخواتيم عملي.
بيعة الإمام الحسن عليه السلام
وبعد أن أنهى الإمام الحسن عليه السلام خطبته قام قيس بن سعد بن عبادة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن الله تعالى بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فأدى عن الله رسالته، ونصح الله في عباده حتى توفاه، وقد رضي عمله وغفر ذنبه صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم ذكر الذين ولوا الأمر بعده، وذكر عثمان، وقال: إنه خالف سنة من كان قبله، وسَنَّ سنن ضلالة لم تكن قبله، واستأثر بالفيء وحابى به أقرباءه، ووضعه في غير مواضعه، فرأى أهل الفضل من هذه الأمة أن ينفوا ما رأوه من إحداثه فقتلوه، ثم نهضوا إلى خير خلق الله بعد رسول الله وأولاهم بالأمر من بعده، فبايعوه فأقام الكتاب، وحكم بالحق، وتخلى عن الدنيا، ورضي منها بالكفاف، وتزود منها زاد البلغة، ولم يؤثر نفسه ولا أقرباءه بفيء المسلمين، فتوفاه الله حسن السيرة تابعاً للسنة، ماحقاً للبدعة، وهذا ابنه وابن رسول الله وأولى عباد الله اليوم بهذا الأمر، فقوموا إليه رحمكم الله فبايعوه ترشدوا وتصيبوا.
ثم قال: ابسط يدك يا بن رسول الله أبايعك، فبسطها، فبايعه، وقام إليه المسيب بن نجبة الفزاري، وسليمان بن صرد الخزاعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي، وحجر بن عَدِي فبايعوه، فكان يقول للرجل: تبايع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم سلْم من سالمت، وحرب لمن حاربت، فعلموا أنه يريد الجد في الحرب، فكان أمير المؤمنين عليه السلام أوصاه بذلك عند وفاته، إذْ كان «لمَّا» انصرف من حرب النهروان جمع الناس وأمراء الأجناد، وأعلمهم أنه يريد الخروج إلى الشام وأنه لا يسعه غيره فدعا قيس بن سعد بن عبادة، وعقد له على خمسة آلاف رجل، ودعا الحسين بن علي وضم إليه ألفين من الأنصار وأبنائهم، ودفع إليه الراية، وصيّر قيس بن سعد تحت لوائه، فخرج الحسين بن علي عليه السلام وذلك في غرة شهر رمضان حتى نزل المدائن، وعزم أمير المؤمنين عليه السلام أن يخرج في غرة شوال، فقتل ليلة تسع عشرة من شهر رمضان.]المصابيح في السيرة, ج1/ص316]
ﻭقد روي أنه ﻟﻤﺎ ﻓﺮﻍ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻣﻦ ﻛﻼﻣﻪ اﻟﺬﻱ ﺗﻘﺪﻡ، ﻗﺎﻡ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﻌﺒﺎﺱ رضي الله عنهما ﻳﺪﻋﻮ اﻟﻨﺎﺱ ﺇﻟﻰ ﺑﻴﻌﺘﻪ ﻭﻳﺄﺧﺬﻫﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﻭﺃﺳﺮﻉ اﻟﻨﺎﺱ ﺇﻟﻰ ﺑﻴﻌﺘﻪ، ﻓﺒﺎﻳﻌﻪ: ﻗﻴﺲ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺎﺩﺓ، ﻭﺳﻠﻴﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﺻﺮﺩ اﻟﺨﺰاﻋﻲ، ﻭاﻟﻤﺴﻴﺐ ﺑﻦ ﻧﺠﺒﺔ اﻟﻔﺰاﺭﻱ، ﻭﺳﻌﻴﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ اﻟﺤﻨﻔﻲ، ﻭﺣﺠﺮ ﺑﻦ ﻋﺪﻱ، ﻭﻋﺪﻱ ﺑﻦ ﺣﺎﺗﻢ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﻟﻠﺮﺟﻞ: ﺗﺒﺎﻳﻊ ﻋﻠﻰ ﻛﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﻭﺳﻨﺔ ﻧﺒﻴﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺳﻠﻢ ﻣﻦ ﺳﺎﻟﻤﺖ، ﻭﺣﺮﺏ ﻣﻦ ﺣﺎﺭﺑﺖ، ﻓﻌﻠﻤﻮا ﺃﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ اﻟﺠﺪ ﻓﻲ اﻟﺤﺮﺏ، ﻭﻛﺎﻥ ﺃﻣﻴﺮ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻗﺪ ﺃﻭﺻﺎﻩ ﺑﺬﻟﻚ ﻋﻨﺪ ﻭﻓﺎﺗﻪ.
ثم ﻭﺭﺩﺕ على الإمام الحسن عليه السلام ﺑﻴﻌﺔ ﺃﻫﻞ ﻣﻜﺔ ﻭاﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻭﺳﺎﺋﺮ اﻟﺤﺠﺎﺯ ﻭاﻟﺒﺼﺮﺓ ﻭاﻟﻴﻤﺎﻣﺔ ﻭاﻟﺒﺤﺮﻳﻦ ﻭاﻟﻌﺮاﻗﻴﻦ؛ ﻭﺯاﺩ الإمام الحسن ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ اﻟﻤﻘﺎﺗﻠﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﻴﻌﺔ ﻣﺎﺋﺔ ﻣﺎﺋﺔ، ﻓﺘﺒﻌﻪ كل من تولى الخلافة ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﻭﻫﻮ ﺃﺻﻞ ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻰ اﻵﻥ ﻣﺎﻝ اﻟﺒﻴﻌﺔ.
وكانت البيعة له عليه السلام يوم الاثنين لثمان بقين من شهر رمضان سنة 40هـ، وكتب إلى العمال يقرهم في أعمالهم، وبسط فيهم العدل، فاستقامت له النواحي إلاّ الشام والجزيرة ومصر.
عماله عليه السلام
بعد تولي الإمام الحسن عليه السلام لأمر المسلمين كتب إلى عمال أبيه أمير المؤمنين يقرّهم في أعمالهم، وجعل كاتبه عبيد اللّه بن أبي رافع، وكان كاتب أبيه صلوات الله عليهما.
كما أنفذ على مقدمة جيشه عند خروجه لحرب معاوية عبيدَ اللّه بن العباس، وعقد لقيس بن سعد لواء وضمه إليه، وقال لعبيد اللّه: إن أُصِبْتَ فقيسٌ على الجيش، فإن أصيب قيس فسعيد بن قيس الهمداني.
وأنفذ لاستنفار النَّاس معقل بن قيس الرياحي، وشريح بن هانئ الحارثي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
وكان خليفته على الكوفة حين خرج عنها لحرب معاوية المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمره باستحثاث النَّاس وإشخاصهم إليه.
كتاب معاوية إلى عماله
كان وجود الإمام الحسن عليه السلام سبباً كافياً ليقض مضجع معاوية ـ كافأه الله ـ، ويشعل نار القلق في صدره، فلم يهنأ له عيش، ولم يهدأ له بال، فما كان منه إلا السعي جاهداً للتخلص منه، فأخذ يُتبع الخطة بالأخرى، ويردف الشائعة بأختها؛ إرادة منه لإطفاء نور الله، ثم إنه كتب إلى عماله على النواحي كتاباً قال فيه:
"ﺑﺴﻢ اﻟﻠﻪ اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﺮﺣﻴﻢ
ﻣﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺃﻣﻴﺮ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﺇﻟﻰ ﻓﻼﻥ ﺑﻦ ﻓﻼﻥ، ﻭﻣﻦ ﻗﺒﻠﻪ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﺳﻼﻡ ﻋﻠﻴﻜﻢ، ﻓﺈﻧﻲ ﺃﺣﻤﺪ ﺇﻟﻴﻜﻢ اﻟﻠﻪ اﻟﺬﻱ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ ﻫﻮ ... ﺃﻣﺎ ﺑﻌﺪ:
ﻓﺎﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ اﻟﺬﻱ ﻛﻔﺎﻛﻢ ﻣﺆﻧﺔ ﻋﺪﻭﻛﻢ، ﻭﻗﺘﻠﺔ ﺧﻠﻴﻔﺘﻜﻢ، ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﺑﻠﻄﻔﻪ ﻭﺣﺴﻦ ﺻﻨﻌﻪ ﺃﺗﺎﺡ ﻟﻌﻠﻲ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ ﺭجلاً ﻣﻦ ﻋﺒﺎﺩﻩ ﻓﻘﺘﻠﻪ، ﻭﺗﺮﻙ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﻣﺘﻔﺮﻗﻴﻦ ﻣﺨﺘﻠﻔﻴﻦ، ﻭﻗﺪ جاءﺗﻨﺎ ﻛﺘﺐ ﺃﺷﺮاﻓﻬﻢ ﻭﻗﺎﺩﺗﻬﻢ ﻳﻠﺘﻤﺴﻮﻥ اﻷﻣﺎﻥ ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ ﻭﻋﺸﺎﺋﺮﻫﻢ ﻓﺄﻗﺒﻠﻮا ﺇﻟﻲ ﺣﻴﻦ ﻳﺄﺗﻴﻜﻢ ﻛﺘﺎﺑﻲ ﺑﺠﺪﻛﻢ ﻭﺟﻨﺪﻛﻢ، ﻭﺣﺴﻦ ﻋﺪﺗﻜﻢ، ﻓﻘﺪ ﺃﺻﺒﺘﻢ ﺑﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ اﻟﺜﺄﺭ، ﻭﺑﻠﻐﺘﻢ اﻷﻣﻞ، ﻭﺃﻫﻠﻚ اﻟﻠﻪ ﺃﻫﻞ اﻟﺒﻐﻲ ﻭاﻟﻌﺪﻭاﻥ، ﻭاﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻭﺭﺣﻤﺔ اﻟﻠﻪ."
وعند ذلك اﺟﺘﻤﻌﺖ اﻟﻌﺴﺎﻛﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ـ كافأه الله ـ ، فسار بهم ﻗﺎﺻﺪاً اﻟﻌﺮاﻕ لمحاربة الإمام الحسن عليه السلام.
خروج الحسن وأصحابه إلى معسكر النخيلة
لما بلغ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺧﺒﺮ ﻣﺴﻴﺮ معاوية ـ كافأه الله ـ ، ﻭﺃﻧﻪ ﻗﺪ ﺑﻠﻎ ﺟﺴﺮ ﻣﻨﺒﺞ، ﺑﻌﺚ الصحابي الجليل ﺣﺠﺮ ﺑﻦ ﻋﺪﻱ الكندي رضي الله عنه ﻳﺄﻣﺮ اﻟﻌﻤﺎﻝ ﻭاﻟﻨﺎﺱ ﺑﺎﻟﺘﻬﻲء ﻟﻠﻤﺴﻴﺮ لمواجهة الجيش الأموي، ﻭﻧﺎﺩﻯ اﻟﻤﻨﺎﺩﻱ اﻟﺼﻼﺓ ﺟﺎﻣﻌﺔ، ﻓﺄﻗﺒﻞ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﺠﺘﻤﻌﻮﻥ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﺇﺫا ﺭَﺿِﻴَﺖْ ﺟﻤﺎﻋﺔ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﺄﻋﻠﻤﻨﻲ، ﻭجاءﻩ ﺳﻌﻴﺪ ﺑﻦ ﻗﻴﺲ اﻟﻬﻤﺪاﻧﻲ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ: اﺧﺮﺝ، ﻓﺨﺮﺝ الإمام اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻓﺼﻌﺪ اﻟﻤﻨﺒﺮ، ﻓﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﺛﻨﻰ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﺃﻣﺎ ﺑﻌﺪ:
ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﻛﺘﺐ اﻟﺠﻬﺎﺩ ﻋﻠﻰ ﺧﻠﻘﻪ ﻭﺳﻤﺎﻩ ﻛﺮﻫﺎً، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ ﻷﻫﻞ اﻟﺠﻬﺎﺩ ﻣﻦ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ: {اﺻﺒﺮﻭا ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻣﻊ اﻟﺼﺎﺑﺮﻳﻦ} ﻓﻠﺴﺘﻢ ﺃﻳﻬﺎ اﻟﻨﺎﺱ ﻧﺎﺋﻠﻴﻦ ﻣﺎ ﺗﺤﺒﻮﻥ ﺇﻻ ﺑﺎﻟﺼﺒﺮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺗﻜﺮﻫﻮﻥ، ﺇﻧﻪ ﺑﻠﻐﻨﻲ ﺃﻥ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﻠﻐﻪ ﺃﻧﺎ ﻛﻨﺎ ﺃﺯﻣﻌﻨﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺴﻴﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻓﺘﺤﺮﻙ ﻟﺬﻟﻚ، اﺧﺮﺟﻮا ﺭﺣﻤﻜﻢ اﻟﻠﻪ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺴﻜﺮﻛﻢ ﺑﺎﻟﻨﺨﻴﻠﺔ ﺣﺘﻰ ﻧﻨﻈﺮ ﻭﺗﻨﻈﺮﻭا ﻭﻧﺮﻯ ﻭﺗﺮﻭا.
ﻓﺴﻜﺘﻮا ﻓﻤﺎ ﺗﻜﻠﻢ ﺃﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻭﻻ ﺃﺟﺎﺑﻪ ﺑﺤﺮﻑ، ﻓﻠﻤﺎ ﺭﺃﻯ ﺫﻟﻚ ﻋﺪﻱ ﺑﻦ ﺣﺎﺗﻢ الطائي ﻗﺎﻝ: ﺃﻧﺎ اﺑﻦ ﺣﺎﺗﻢ، ﺑﺺ ﺑﺺ، ﺳﺒﺤﺎﻥ اﻟﻠﻪ - ﻣﺎ ﺃﻗﺒﺢ ﻫﺬا اﻟﻤﻘﺎﻡ! ﺃﻻ ﺗﺠﻴﺒﻮﻥ ﺇﻣﺎﻣﻜﻢ، ﻭاﺑﻦ ﺑﻨﺖ ﻧﺒﻴﻜﻢ؟ ﺃﻳﻦ ﺧﻄﺒﺎء ﻣﺼﺮ، ﺃﻳﻦ اﻟﻤﺘﺒﻠﻐﻮﻥ، ﺃﻳﻦ اﻟﺨﻮاﺻﻮﻥ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﻤﺼﺮ؟ اﻟﺬﻳﻦ ﺃﻟﺴﻨﺘﻬﻢ ﻛﺎﻟﻤﺨﺎﺭﻳﻖ ﻓﻲ اﻟﺪﻋﺔ، ﻓﺈﺫا ﻭﺟﺪﻭا اﻟﺠﺪ ﻓﺮﻭاﻏﻮﻥ ﻛﺎﻟﺜﻌﺎﻟﺐ، ﺃﻣﺎ ﺗﺨﺎﻓﻮﻥ ﻣﻘﺖ اﻟﻠﻪ ﻭﻻ ﻋﻴﺒﻬﺎ ﻭﻋﺎﺭﻫﺎ.
ﺛﻢ اﺳﺘﻘﺒﻞ الحسنَ عليه السلام ﺑﻮﺟﻬﻪ ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﺻﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﺑﻚ اﻟﻤﺮاﺷﺪ، ﻭﺟﻨﺒﻚ اﻟﻤﻜﺎﺭﻩ، ﻭﻭﻓﻘﻚ ﻟﻤﺎ ﻳﺤﻤﺪ ﻭﺭﺩﻩ ﻭﺻﺪﺭﻩ، ﻗﺪ ﺳﻤﻌﻨﺎ ﻣﻘﺎﻟﺘﻚ، ﻭﺃﺗﻴﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺃﻣﺮﻙ، ﻭﺳﻤﻌﻨﺎ ﻣﻨﻚ، ﻭﺃﻃﻌﻨﺎﻙ ﻓﻴﻤﺎ ﻗﻠﺖ، ﻭﻣﺎ ﺭﺃﻳﺖ، ﻭﻫﺬا ﻭﺟﻬﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺴﻜﺮﻱ، ﻓﻤﻦ ﺃﺣﺐ ﺃﻥ ﻳﻮاﻓﻲ ﻓﻠﻴﻮاﻑ، ﺛﻢ ﻣﻀﻰ ﻟﻮﺟﻬﻪ ﻓﺨﺮﺝ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻭﺩاﺑﺘﻪ ﺑﺎﻟﺒﺎﺏ، ﻓﺮكبها ﻭﻣﻀﻰ ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺨﻴﻠﺔ، ﻭﺃﻣﺮ ﻏﻼﻣﻪ ﺃﻥ ﻳﻠﺤﻘﻪ ﺑﻤﺎ ﻳﺼﻠﺤﻪ، ﻓﻜﺎﻥ ﻋﺪﻱ ﺃﻭﻝ اﻟﻨﺎﺱ ﻋﺴﻜﺮاً، ﺛﻢ ﻗﺎﻡ ﻗﻴﺲ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺎﺩﺓ، ﻭﻣﻌﻘﻞ ﺑﻦ ﻗﻴﺲ اﻟﺮﻳﺎﺣﻲ، ﻭﺯﻳﺎﺩ ﺑﻦ ﺣﻔﺼﺔ اﻟﺘﻴﻤﻲ، ﻓﺄﻧَّﺒﻮا اﻟﻨﺎﺱ، ﻭﻻﻣﻮﻫﻢ، ﻭﺣﺮﺿﻮﻫﻢ، ﻭﻛﻠﻤﻮا اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻤﺜﻞ ﻛﻼﻡ ﻋﺪﻱ ﺑﻦ ﺣﺎﺗﻢ ﻓﻲ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻭاﻟﻘﺒﻮﻝ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻬﻢ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﺻﺪﻗﺘﻢ ﺭﺣﻤﻜﻢ اﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺯﻟﺖ ﺃﻋﺮﻓﻜﻢ ﺑﺼﺪﻕ اﻟﻨﻴﺔ ﻭاﻟﻮﻓﺎء ﺑﺎﻟﻘﻮﻝ، ﻭاﻟﻤﻮﺩﺓ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻓﺠﺰاﻛﻢ اﻟﻠﻪ ﺧﻴﺮاً ﺛﻢ ﻧﺰﻝ.
ﻭﺧﺮﺝ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﻌﺴﻜﺮﻭا ﻭﻧﺸﻄﻮا ﻟﻠﺨﺮﻭﺝ، ﻭﺧﺮﺝ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﻌﺴﻜﺮ ﻭاﺳﺘﺨﻠﻒ ﻋﻠﻰ اﻟﻜﻮﻓﺔ اﻟﻤﻐﻴﺮﺓ ﺑﻦ ﻧﻮﻓﻞ ﺑﻦ اﻟﺤﺎﺭﺙ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻤﻄﻠﺐ، ﻭﺃﻣﺮﻩ ﺑﺎﺳﺘﺤﺜﺎﺙ اﻟﻨﺎﺱ ﻭﺇﺷﺨﺎﺻﻬﻢ ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﺠﻌﻞ ﻳﺴﺘﺤﺜﻬﻢ ﻭﻳﺨﺮﺟﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﺗﺘﺎﻟﻰ اﻟﻌﺴﻜﺮ.
خروجه (ع) إلى الشام
بعد ذلك عزم الإمام الحسن عليه السلام على الخروج إلى الشام؛ لمواجهة جيش معاوية ـ كافأه الله ـ ، وكان ذلك بعد قرابة شهرين من مبايعة الناس له، فأنفذ معقل بن قيس الرياحي، وشريح بن هانئ الحارثي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى؛ ليستنفروا الناس، فاستنفروا أربعين ألفا.
ثم إنه عليه السلام ﺳﺎﺭ ﻓﻲ ﻋﺴﻜﺮ ﻋﻈﻴﻢ، ﻭﻋﺪﺓ ﺣﺴﻨﺔ، ﺣﺘﻰ ﺃﺗﻰ ﺩﻳﺮ ﻋﺒﺪاﻟﺮﺣﻤﻦ ﻓﺄﻗﺎﻡ ﺑﻪ ﺛﻼﺛﺎً ﺣﺘﻰ اﺟﺘﻤﻊ اﻟﻨﺎﺱ، ﺛﻢ ﺩﻋﺎ ﻋﺒﻴﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﻌﺒﺎﺱ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻤﻄﻠﺐ ﻓﻘﺎﻝ: ﻟﻪ ﻳﺎ ﺑﻦ ﻋﻢ ﺇﻧﻲ ﺑﺎﻋﺚ ﻣﻌﻚ اﺛﻨﻲ ﻋﺸﺮ ﺃﻟﻔﺎً ﻣﻦ ﻓﺮﺳﺎﻥ اﻟﻌﺮﺏ، ﻭﻗﺮاء اﻟﻤﺼﺮ، اﻟﺮﺟﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﻳﺮﺩ اﻟﻜﺘﻴﺒﺔ ﻓﺴِﺮ ﺑﻬﻢ، ﻭﺃﻟﻦ ﻟﻬﻢ ﺟﺎﻧﺒﻚ، ﻭاﺑﺴﻂ ﻭﺟﻬﻚ، ﻭاﻓﺮﺵ ﻟﻬﻢ ﺟﻨﺎﺣﻚ، ﻭﺃﺩﻧﻬﻢ ﻣﻦ ﻣﺠﻠﺴﻚ، ﻓﺈﻧﻬﻢ ﺑﻘﻴﺔ ﺛﻘﺔ ﺃﻣﻴﺮ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﺻﻠﻮاﺕ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﺳﺮ ﺑﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺷﻂ اﻟﻔﺮاﺕ ﺣﺘﻰ ﺗﻘﻄﻊ ﺑﻬﻢ اﻟﻔﺮاﺕ، ﺛﻢ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﻜﻦ، ﺛﻢ اﻣﺾ ﺣﺘﻰ ﺗﺴﺘﻘﺒﻞ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ، ﻓﺈﻥ ﺃﻧﺖ ﻟﻘﻴﺘﻪ ﻓﺎﺣﺒﺴﻪ ﺣﺘﻰ ﺁﺗﻴﻚ ﻓﺈﻧﻲ ﻓﻲ ﺃﺛﺮﻙ ﻭﺷﻴﻜﺎ، ﻭﻟﻴﻜﻦ ﺧﺒﺮﻙ ﻋﻨﺪﻱ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ، ﻭﺷﺎﻭﺭ ﻫﺬﻳﻦ ﻳﻌﻨﻲ ﻗﻴﺲ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ بن عبادة، ﻭﺳﻌﻴﺪ ﺑﻦ ﻗﻴﺲ الهمداني، ﻓﺈﺫا ﻟﻘﻴﺖ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻓﻼ ﺗﻘﺎﺗﻠﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﻘﺎﺗﻠﻚ، ﻓﺈﻥ ﻓﻌﻞ ﻓﻘﺎﺗﻠﻪ، ﻓﺈﻥ ﺃﺻﺒﺖ ﻓﻘﻴﺲ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺎﺱ، ﻓﺈﻥ ﺃﺻﻴﺐ ﻗﻴﺲ, ﻓﺴﻌﻴﺪ ﺑﻦ ﻗﻴﺲ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺎﺱ، ﺛﻢ ﺃﻣﺮﻩ ﺑﻤﺎ ﺃﺭاﺩ، ﻭﺳﺎﺭ ﻋﺒﻴﺪاﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﺰﺑﻴﺮﺓ ﻓﻲ ﺷﻴﻨﻮﺭ ﺣﺘﻰ ﺧﺮﺝ ﺇﻟﻰ ﺷﺎﻫﻲ، ﺛﻢ ﻟﺰﻡ اﻟﻔﺮاﺕ ﻭاﻟﻔﻠﻮﺟﺔ ﺣﺘﻰ ﺃﺗﻰ ﻣﺴﻜﻦ، ﻭﺃﺧﺬ اﻟﺤﺴﻦُ ﻋﻠﻰ ﺣﻤﺎﻡ ﻋﻤﺮ ﺣﺘﻰ ﺃﺗﻰ ﺩﻳﺮ ﻛﻌﺐ، ﻓﻨﺰﻝ ﺳﺎﺑﺎﻁ ﺩﻭﻥ اﻟﻘﻨﻄﺮﺓ.
التحاق عبيدالله بن العباس بمعاوية
وصل ﻋﺒﻴﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﻌﺒﺎﺱ إلى "مسكن"، ثم أقبل ﺣﺘﻰ ﻧﺰﻝ ﺑﺈﺯاء معاوية، وكان قد نزل بقرية منها تسمى "الجنوبية"، فلما كان من الغد ﻭﺟﻪ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﺨﻴﻠﻪ ﺇﻟﻴﻬﻢ، ﻓﺨﺮﺝ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻋﺒﻴﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﻌﺒﺎﺱ ﻓﻴﻤﻦ ﻣﻌﻪ ﻓﻀﺮﺑﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﺭﺩﻫﻢ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺴﻜﺮﻫﻢ.
ﻓﻠﻤﺎ ﻛﺎﻥ اﻟﻠﻴﻞ ﺃﺭﺳﻞ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ـ كافأه الله ـ ﺇﻟﻰ ﻋﺒﻴﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﻌﺒﺎﺱ ﺃﻥ اﻟﺤﺴﻦ ﺭاﺳﻠﻨﻲ ﻓﻲ اﻟﺼﻠﺢ، ﻭﻫﻮ مسلِّم اﻷﻣﺮ ﺇﻟﻲ، ﻓﺈﻥ ﺩﺧﻠﺖ ﻓﻲ ﻃﺎﻋﺘﻲ اﻵﻥ ﻛﻨﺖ ﻣﺘﺒﻮﻋﺎً، ﻭﺇﻻ ﺩﺧﻠﺖ ﻭﺃﻧﺖ ﺗﺎﺑﻊ، ﻭﻟﻚ ﺇﻥ ﺟﺌﺘﻨﻲ اﻵﻥ ﺃﻋﻄﻴﺘﻚ ﻣﺎﺋﺔ ﺃﻟﻒ ﺩﺭﻫﻢ ﻳﻌﺠﻞ ﻟﻚ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﻧﺼﻔﻬﺎ، ﻭﺇﺫا ﺩﺧﻠﺖ اﻟﻜﻮﻓﺔ اﻟﻨﺼﻒ اﻵﺧﺮ، ﻓﺎﻧﺴﻞَّ ﻋﺒﻴﺪاﻟﻠﻪ ﻟﻴﻼً ﻓﺪﺧﻞ ﻋﺴﻜﺮ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻓﻮﻓﻰ ﻟﻪ ﺑﻤﺎ ﻭﻋﺪﻩ.
ﻭﺃﺻﺒﺢ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﻨﺘﻈﺮﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﺨﺮﺝ عبيدالله إليهم ﻓﻴﺼﻠﻲ ﺑﻬﻢ، ﻓﻠﻢ ﻳﺨﺮﺝ ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺤﻮا ﻓﻄﻠﺒﻮﻩ ﻓﻠﻢ ﻳﺠﺪﻭﻩ؛ ﻓﺼﻠﻰ ﺑﻬﻢ ﻗﻴﺲ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ، ﺛﻢ خطب فيهم، فلما سمعوا ما تكلم به، قالوا: اﻟﺤﻤﺪﻟﻠﻪ اﻟﺬﻱ ﺃﺧﺮﺟﻪ ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻨﺎ، اﻧﻬﺾ ﺑﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﻋﺪﻭﻧﺎ، ﻓﻨﻬﺾ ﺑﻬﻢ، ﻭﺧﺮﺝ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﺑﺴﺮ ﺑﻦ ﺃﺭﻃﺄﺓ ﻓﻲ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﺃﻟﻔﺎً ﻓﺼﺎﺣﻮا ﻫﺬا ﺃﻣﻴﺮﻛﻢ ﻗﺪ ﺑﺎﻳﻊ، ﻭﻫﺬا اﻟﺤﺴﻦ ﻗﺪ ﺻﺎﻟﺢ، ﻓﻌﻼﻡ ﺗﻘﺘﻠﻮﻥ ﺃﻧﻔﺴﻜﻢ؟ ﻗﺎﻝ ﻟﻬﻢ ﻗﻴﺲ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ: اﺧﺘﺎﺭﻭا ﺇﺣﺪﻯ اﺛﻨﺘﻴﻦ: ﺇﻣﺎ اﻟﻘﺘﺎﻝ ﻣﻊ ﻏﻴﺮ ﺇﻣﺎﻡ، ﻭﺇﻣﺎ ﺗﺒﺎﻳﻌﻮﻥ ﺑﻴﻌﺔ ﺿﻼﻝ، ﻗﺎﻟﻮا: ﺑﻞ ﻧﻘﺎﺗﻞ ﺑﻼ ﺇﻣﺎﻡ، ﻓﺨﺮﺟﻮا ﻓﻀﺎﺭﺑﻮا ﺃﻫﻞ اﻟﺸﺎﻡ ﺣﺘﻰ ﺭﺩﻭﻫﻢ ﺇﻟﻰ ﻣﺼﺎﻓﻬﻢ.
وفي رواية أنه لما لحق عبيد الله بن العباس بمعاوية، قال قيس بن سعد لأصحابه: من يبايعني على الموت؟ فبايعه أربعة آلاف، وسرح معاوية بسر بن أرطأه، وصادفوا أهل العراق على حدة وتعبئة، فجالدوهم حتى تركوا لهم العسكر.
محاولة معاوية استلحاق قيس بن سعد به
لم يكتفِ معاوية ـ كافأه الله ـ بإغراء عبيدالله بن العباس، فكاتب قيس بن سعد، يدعوه إلى مثل ما دعا إليه عبيدالله، ويعطيه ألف ألف درهم؛ يريد بذلك أن يفرق أصحاب الإمام الحسن عليه السلام عنه، فلا يبقى معه من يناصره، ولكنَّ قيس قال لرسول معاوية: قل له: لا والله لا أنثني عن شيء إلَّا عن الرمح بيني وبينك.
ﻓﻜﺘﺐ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺃﻣﺎ ﺑﻌﺪ: ﺇﻧﻤﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﻬﻮﺩﻱ اﺑﻦ ﻳﻬﻮﺩﻱ ﺗﺸﻘﻲ ﻧﻔﺴﻚ ﻭﺗﻘﺘﻠﻬﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻟﻴﺲ ﻟﻚ، ﻓﺈﻥ ﻇﻬﺮ ﺃﺣﺐ اﻟﻔﺮﻳﻘﻴﻦ ﺇﻟﻴﻚ ﻧﺒﺬﻙ ﻭﻋﺰﻟﻚ، ﻭﺇﻥ ﻇﻬﺮ ﺃﺑﻐﻀﻬﻤﺎ ﺇﻟﻴﻚ ﻧﻜﻞ ﺑﻚ ﻭﻗﺘﻠﻚ، ﻭﻗﺪ ﻛﺎﻥ ﺃﺑﻮﻙ ﺃﻭﺗﺮ ﻏﻴﺮ ﻗﻮﺳﻪ، ﻭﺭﻣﻰ ﻏﻴﺮ ﻏﺮﺿﻪ، ﻓﺄﻛﺜﺮ اﻟﺤﺰ، ﻭﺃﺧﻄﺄ اﻟﻤﻔﺼﻞ، ﻓﺨﺬﻟﻪ ﻗﻮﻣﻪ، ﻭﺃﺩﺭﻛﻪ ﻳﻮﻣﻪ، ﻓﻤﺎﺕ ﺑﺤﻮﺭاﻥ ﻃﺮﻳﺪا ﻏﺮﻳﺒﺎ. ﻭاﻟﺴﻼﻡ.
ﻓﻜﺘﺐ ﺇﻟﻴﻪ ﻗﻴﺲ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ ﺃﻣﺎ ﺑﻌﺪ: ﻓﺈﻧﻤﺎ ﺃﻧﺖ ﻭﺛﻦ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ اﻷﻭﺛﺎﻥ، ﺩﺧﻠﺖ ﻓﻲ اﻹﺳﻼﻡ ﻛﺮﻫﺎً، ﻭﺃﻗﻤﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻓَﺮَﻗَﺎً، ﻭﺧﺮﺟﺖ ﻣﻨﻪ ﻃﻮﻋﺎً، ﻭﻟﻢ ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻠﻪ ﻟﻚ ﻓﻴﻪ ﻧﺼﻴﺒﺎً؛ ﻟﻢ ﻳﻘﺪﻡ ﺇﺳﻼﻣﻚ، ﻭﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ ﻧﻔﺎﻗﻚ، ﻭﻟﻢ ﺗﺰﻝ ﺣﺮﺑﺎً ﻟﻠﻪ ﻭﻟﺮﺳﻮﻟﻪ، ﻭﺣﺰﺑﺎًً ﻣﻦ ﺃﺣﺰاﺏ اﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ، ﻓﺄﻧﺖ ﻋﺪوٌّ ﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﻭاﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻣﻦ ﻋﺒﺎﺩﻩ، ﻭﺫﻛﺮﺕ ﺃﺑﻲ، ﻭﻟﻌﻤﺮﻱ ﻣﺎ ﺃﻭﺗﺮ ﺇﻻ ﻗﻮﺳﻪ، ﻭﻻ ﺭﻣﻰ ﺇﻻ ﻏﺮﺿﻪ، ﻓﺸﻐﺐ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻻ ﻳﺸﻖ ﻏﺒﺎﺭﻩ، ﻭﻻ ﻳﺒﻠﻎ ﻛﻌﺒﻪ، ﻭﻛﺎﻥ اﻣﺮءاً ﻣﺮﻏﻮﺑﺎً ﻋﻨﻪ، ﻣﺰﻫﻮﺩاً ﻓﻴﻪ، ﻭﺯﻋﻤﺖ ﺃﻧﻲ ﻳﻬﻮﺩﻱ اﺑﻦ ﻳﻬﻮﺩﻱ، ﻭﻗﺪ ﻋﻠﻤﺖ ﻭﻋﻠﻤﻨﺎ ﺃﻥ ﺃﺑﻲ ﻣﻦ ﺃﻧﺼﺎﺭ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬﻱ ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻨﻪ، ﻭﺃﻋﺪاء اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬﻱ ﺩﺧﻠﺖ ﻓﻴﻪ ﻭﺻﺮﺕ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭاﻟﺴﻼﻡ.
وفي رواية أخرى أنه كتب إليه: إنما أنت وثن من أوثان مكة دخلت في الإسلام كرهاً وخرجت منه طائعاً، والله لو سرت إلي شِبْراً لأسيرن إليك ذراعاً، ولئن سرت إليّ ذراعاً لسرت إليك باعاً، ولئن سرت باعاً لأهرولن إليك.
ﻓﻠﻤﺎ ﻗﺮﺃ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻏﺎﻇﻪ ﻭﺃﺭاﺩ ﺇﺟﺎﺑﺘﻪ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﻋﻤﺮﻭ: ﻣﻬﻼً ﺇﻥ ﻛﺎﺗﺒﺘﻪ ﺃﺟﺎﺑﻚ ﺑﺄﺷﺪ ﻣﻦ ﻫﺬا، ﻭﺇﻥ ﺗﺮﻛﺘﻪ ﺩﺧﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﺩﺧﻞ ﻓﻴﻪ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﺄﻣﺴﻚ ﻋﻨﻪ.
قال إبراهيم بن محمد الثقفي فحدثنا أبو إسحاق البجلي بإسناده عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي أن معاوية كتب حينئذ إلى رؤوس مَنْ مع الحسن بن علي: أن قيس بن سعد قد بايعني، وجعل يكتب إلى الرجل منهم لك أرض كذا وكذا حتى بايعوه، وثاروا بالحسن عليه السلام ذات عشية فطعنه رجل منهم طعنة في جنبه، وثار إلى القصر الأبيض ليدخله فمد رجل منهم يده إلى ثوبه فانتزعه عن ظهره، وتناول آخر طنفسة فحصروه في القصر، وكتبوا إلى معاوية أن اقدم، فكتب إليه معاوية: إن قيس بن سعد قد بايعني وأن أصحابك قد ثاروا عليك، فَلِمَ تَقْتل نفسك.
وفي غير هذا الحديث: أن رجلاً من بني أسد طعنه بمعول فسقط عن بغلته وأغمي عليه فبقي بالمدائن عشرة أيام وتفرق عنه أصحابه، ثم انصرف إلى الكوفة في علته وضعفه، وبقي شهرين صاحب فراش.
الصلح بين الإمام الحسن ومعاوية
لما رأى الإمام الحسن عليه السلام تشتت أصحابه عنه، وخذلانهم له، اضطر للمصالحة مع معاوية ـ كافأه الله ـ في ﻏﺮﺓ ﺷﻬﺮ ﺭﺑﻴﻊ اﻷﻭﻝ ﺳﻨﺔ ﺇﺣﺪﻯ ﻭﺃﺭﺑﻌﻴﻦ مقابل شروط اشترطها على معاوية، منها:
أن لا يُتبع أحد بما مضى.
ولا ينال أحد من شيعة علي عليه السلام إلا بخير.
وأن تصير الخلافة بعد معاوية إلى الحسن إن كان حياً وإلا فالحسين ثم بعد ذلك في ذريتهما.
وغيرها من الشروط.
قال الإمام مجدالدين المؤيدي عليه السلام في كتاب التحف شرح الزلف ما لفظه:
"ولما غدرت به الأمة الغادرة، ونكثت عهده الجبابرة، ورفضت قول أبيه الرسول صلوات الله عليه وعلى آله وسلامه: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما))، اضطر إلى مهادنة بني أمية، وصَعِدَ المنبر فقال - بعد حمد الله، والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -: (أيها الناس والله ما بين جَابَلَق ]بلد بالمشرق[ وجابَلَص ]بلد في المغرب ليس وراءه إنسي[ ابن بنت نبي غيري وغير أخي، فليكن استماعكم لقولي على قدر معرفتكم بحقي، أيها الناس إنا كنا نقاتل وفينا الصبر والحمية، فقد شيب الصبر بالجزع، وشيبت الحمية بالعداوة، وإنكم أصبحتم اليوم بين باكيَيْن: باكٍ يبكي لقتلى صفين خاذل، وباك يبكي لقتلى النهروان ثائر، وإنكم قد دعيتم إلى أمر ليس فيه رضى ولا نصفة، فإن كنتم تريدون الله واليوم الآخر حاكمناهم إلى ظِبَّاتِ السيوف، وأطراف الرماح، وإن كنتم تريدون الدنيا أخذنا لكم العافية).
قال في الشافي - عند ذكر هذه الخطبة -: فتنادى الناس من جوانب المسجد: البقية البقية."
بعد ذلك ﺳﺎﺭ الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية ﺣﺘﻰ ﻧﺰﻝ اﻟﻨﺨﻴﻠﺔ، ﻭﺟﻤﻊ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﻬﺎ ﻓﺨﻄﺒﻬﻢ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﺪﺧﻠﻮا اﻟﻜﻮﻓﺔ ﺧﻄﺒﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻟﻢ ﻳﻨﻘﻠﻬﺎ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ اﻟﺮﻭاﺓ ﺗﺎﻣﺔ، ﻭجاءﺕ ﻣﻘﻄﻌﺔ ﻓﻲ اﻟﺤﺪﻳﺚ، فروي ﻋﻦ اﻟﺸﻌﺒﻲ أنه ﻗﺎﻝ: ﺧﻄﺐ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺣﻴﻦ ﺑﻮﻳﻊ ﻟﻪ ﻓﻘﺎﻝ: ﻣﺎ اﺧﺘﻠﻔﺖ ﺃﻣﺔ ﺑﻌﺪ ﻧﺒﻴﻬﺎ ﺇﻻ ﻇﻬﺮ ﺃﻫﻞ ﺑﺎﻃﻠﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻞ ﺣﻘﻬﺎ، ﺛﻢ ﺇﻧﻪ اﻧﺘﺒﻪ ﻓﻨﺪﻡ ﻓﻘﺎﻝ: ﺇﻻ ﻫﺬﻩ اﻷﻣﺔ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻓﺈﻧﻬﺎ.
وروي أن معاوية قال في خطبته: ﻭﺇﻧﻲ ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻗﺎﺗﻠﺘﻜﻢ ﻟﺘﺼﻠﻮا ﻭﻻ ﻟﺘﺼﻮﻣﻮا ﻭﻻ ﻟﺘﺤﺠﻮا ﻭﻻ ﻟﺘﺰﻛﻮا، ﺇﻧﻜﻢ ﻟﺘﻔﻌﻠﻮﻥ ﺫﻟﻚ، ﻭﻟﻜﻦ ﺇﻧﻤﺎ ﻗﺎﺗﻠﺘﻜﻢ ﻷﺗﺄﻣﺮ ﻋﻠﻴﻜﻢ، ﻭﻗﺪ ﺃﻋﻄﺎﻧﻲ اﻟﻠﻪ ﺫﻟﻚ ﻭﺃﻧﺘﻢ ﻛﺎﺭﻫﻮﻥ.
ﻭﺭﻭي ﻋﻦ ﺣﺒﻴﺐ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺛﺎﺑﺖ ﻗﺎﻝ: ﻟﻤﺎ ﺑﻮﻳﻊ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺧﻄﺐ ﻓﺬﻛﺮ ﻋﻠﻴﺎً ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻓﻨﺎﻝ ﻣﻨﻪ، ﻭﻧﺎﻝ ﻣﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﻓﻘﺎﻡ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻟﻴﺮﺩ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﺄﺧﺬ اﻟﺤﺴﻦُ ﺑﻴﺪﻩ، ﻓﺄﺟﻠﺴﻪ ﺛﻢ ﻗﺎﻡ ﻭﻗﺎﻝ ﺃﻳﻬﺎ اﻟﺬاﻛﺮ ﻋﻠﻴﺎً ﺃﻧﺎ اﻟﺤﺴﻦ ﻭﺃﺑﻲ ﻋﻠﻲ، ﻭﺃﻧﺖ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻭﺃﺑﻮﻙ ﺻﺨﺮ، ﻭﺃﻣﻲ ﻓﺎﻃﻤﺔ، ﻭﺃﻣﻚ ﻫﻨﺪ، ﻭﺟﺪﻱ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻭﺟﺪﻙ ﺣﺮﺏ، ﻭﺟﺪﺗﻲ ﺧﺪﻳﺠﺔ، ﻭﺟﺪﺗﻚ ﻗﺘﻴﻠﺔ، ﻓﻠﻌﻦ اﻟﻠﻪ ﺃﺧﻤﻠﻨﺎ ﺫﻛﺮا، ﻭﺃﻷﻣﻨﺎ ﺣﺴﺒﺎ، ﻭﺷﺮﻧﺎ ﻗﺪﻣﺎ، ﻭﺃﻗﺪﻣﻨﺎ ﻛﻔﺮاً ﻭﻧﻔﺎﻗﺎ، ﻓﻘﺎﻝ ﻃﻮاﺋﻒ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ: ﺁﻣﻴﻦ.
ﻭﺭﻭي ﺃﻥ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ قال للحسن ﺃﻥ ﻳﺨﻄﺐ ﻟﻤﺎ ﺳﻠﻢ ﺇﻟﻴﻪ اﻷﻣﺮ، ﻭﻇﻦ ﺃﻧﻪ ﺳﻴﺤﺼﺮ، ﻓﻘﺎﻝ ﻓﻲ ﺧﻄﺒﺘﻪ: ﺇﻧﻤﺎ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ ﻣﻦ ﺳﺎﺭ ﺑﻜﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﻭﺳﻨﺔ ﻧﺒﻴﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﻟﻴﺲ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ ﻣﻦ ﺳﺎﺭ ﺑﺎﻟﺠﻮﺭ، ﺫﻟﻚ ﻣَﻠِﻚٌ ﻣَﻠَﻚَ ﻣُﻠْﻜَﺎً ﻳﻤﺘﻊ ﻓﻴﻪ ﻗﻠﻴﻼ، ﺛﻢ ﺗﻨﻘﻄﻊ ﻟﺬﺗﻪ، ﻭﺗﺒﻘﻰ ﺗﺒﻌﺘﻪ، ﻭﺇﻥ ﺃﺩﺭﻱ ﻟﻌﻠﻪ ﻓﺘﻨﺔ ﻟﻜﻢ ﻭﻣﺘﺎﻉ ﺇﻟﻰ ﺣﻴﻦ.
ثم اﻧﺼﺮﻑ الإمام اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻓﺄﻗﺎﻡ ﺑﻬﺎ عشر سنين.
وتوجه معاوية إلى الكوفة وﺑﻴﻦ ﻳﺪﻳﻪ ﺧﺎﻟﺪ ﺑﻦ ﻋﺮﻓﻄﺔ، ﻭﻣﻌﻪ ﺭﺟﻞ ﻳﻘﺎﻝ ﻟﻪ: ﺣﺒﻴﺐ ﺑﻦ ﺣﻤﺎﺭ ﻳﺤﻤﻞ ﺭاﻳﺘﻪ ﺣﺘﻰ ﺩﺧﻞ اﻟﻜﻮﻓﺔ ﻭﺻﺎﺭ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻓﺪﺧﻠﻪ ﻣﻦ ﺑﺎﺏ اﻟﻐﻴﻞ ﻭاﺟﺘﻤﻊ اﻟﻨﺎﺱ ﺇﻟﻴﻪ.
مواقف بعض أصحاب الإمام الحسن
ﻟﻤﺎ اﺳﺘﻘﺮ اﻟﺼﻠﺢ ﺑﻴﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﻭﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺗﻘﺪﻡ ﻭﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ اﻷﻣﺮ ﺑﻌﺪﻩ ﻟﻠﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، ﻻم الإمامَ الحسنَ عليه السلام ﺟﻤﺎﻋﺔٌ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ.
فروي أن الحسين ﻗﺎﻝ لأخيه الحسن ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ: ﺃﺟﺎﺩ ﺃﻧﺖ ﻓﻴﻤﺎ ﺃﺭﻯ ﻣﻦ ﻣﻮاﺩﻋﺔ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ؟ ﻗﺎﻝ: ﻧﻌﻢ.
ﻗﺎﻝ: ﺇﻧﺎ ﻟﻠﻪ ﻭﺇﻧﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﺭاﺟﻌﻮﻥ ﺛﻼﺛﺎ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﻟﻮ ﻟﻢ ﻧﻜﻦ ﺇﻻ ﻓﻲ ﺃﻟﻒ ﺭﺟﻞ ﻟﻜﺎﻥ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻨﺎ ﺃﻥ ﻧﻘﺎﺗﻞ ﻋﻦ ﺣﻘﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﻧﺪﺭﻛﻪ ﺃﻭ ﻧﻤﻮﺕ ﻭﻗﺪ ﺃﻋﺬﺭﻧﺎ.
ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺤﺴﻦ: ﻭﻛﻴﻒ ﻟﻨﺎ ﺑﺄﻟﻒ ﺭﺟﻞ ﻣﺴﻠﻤﻴﻦ! ﺇﻧﻲ ﺃﺫﻛﺮﻙ اﻟﻠﻪ ﻳﺎ ﺃﺧﻲ ﺃﻥ ﺗﻔﺴﺪ ﻋﻠﻲ ﻣﺎ ﺃﺭﻳﺪ، ﺃﻭ ﺗﺮﺩ ﻋﻠﻲ ﺃﻣﺮﻱ، ﻓﻮاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺁﻟﻮﻙ ﻭﻧﻔﺴﻲ ﻭﺃﻣﺔ ﻣﺤﻤﺪ ﺧﻴﺮا، ﺇﻧﻚ ﺗﺮﻯ ﻣﺎ ﺃﻗﺎﺳﻲ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ، ﻭﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﻘﺎﺳﻲ ﻣﻨﻬﻢ ﺃﺑﻮﻙ ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﻛﺎﻥ ﻳﺮﻏﺐ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﻓﺮاﻗﻬﻢ ﻛﻞ ﺻﺒﺎﺡ ﻭﻣﺴﺂء، ﺛﻢ ﻗﺪ ﺗﺮﻯ ﻣﺎ ﺻﻨﻌﻮا ﺑﻲ، ﻓﺒﻬﺆﻻء ﺗﺮﺟﻮ ﺃﻥ ﻧﺪﺭﻙ ﺣﻘﻨﺎ! ﺃﻧﺎ اﻟﻴﻮﻡ ﻳﺎ ﺃﺧﻲ ﻓﻲ ﺳﻌﺔ ﻭﻋﺬﺭ ﺣﻴﺚ ﻗﺒﺾ ﻧﺒﻴﻨﺎ، ﻗﺎﻝ: ﻓﻜﻒ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻭﺳﻜﺖ.
وذلك ﺳﻔﻴﺎﻥ ﺑﻦ اﻟﻠﻴﻞ دخل ﻋﻠﻰ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ فقال: اﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻴﻚ ﻳﺎ ﻣﺬﻝ ﺭﻗﺎﺏ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﺃﻧﺖ ﻭاﻟﻠﻪ ﺑﺄﺑﻲ ﻭﺃﻣﻲ ﺃﺫﻟﻠﺖ ﺭﻗﺎﺑﻨﺎ ﺣﻴﻦ ﺳﻠﻤﺖ اﻷﻣﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ اﻟﻠﻌﻴﻦ اﺑﻦ اﻟﻠﻌﻴﻦ، اﺑﻦ ﺁﻛﺎﻟﺔ اﻷﻛﺒﺎﺩ، ﻭﻣﻌﻚ ﻣﺎﺋﺔ ﺃﻟﻒ ﻛﻠﻬﻢ ﻳﻤﻮﺗﻮﻥ ﺩﻭﻧﻚ، ﻓﻘﺎﻝ الحسن: ﻳﺎ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﺑﻦ اﻟﻠﻴﻞ، ﺇﻧﻲ ﺳﻤﻌﺖ ﺃﺑﻲ ﻳﻘﻮﻝ: ﺳﻤﻌﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻳﻘﻮﻝ: ((ﻳﻠﻲ ﻫﺬﻩ اﻷﻣﺔ ﺃﻭ ﺃﻣﺘﻲ ﺭﺟﻞ ﻭاﺳﻊ اﻟﺒﻠﻌﻮﻡ، ﺭﺣﺐ اﻟﻀﺮﺱ، ﻳﺄﻛﻞ ﻭﻻ ﻳﺸﺒﻊ، ﻻ ﻳﻨﻈﺮ اﻟﻠﻪ ﺇﻟﻴﻪ))، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﻣﺎ ﺟﺎء ﺑﻚ ﻳﺎ ﺳﻔﻴﺎﻥ؟ ﻗﺎﻝ: ﺣﺒﻜﻢ ﺃﻫﻞ اﻟﺒﻴﺖ، فقال الحسن: ﺇﺫاً ﻭاﻟﻠﻪ ﺗﻜﻮﻥ ﻣﻌﻨﺎ ﻫﻜﺬا ﻭﺃﻟﺼﻖ ﺑﻴﻦ ﺃﺻﺒﻌﻴﻪ اﻟﺴﺒﺎﺑﺘﻴﻦ.
ﻭقد روي ﺑﺎﻹﺳﻨﺎﺩ ﻋﻦ اﻟﻘﺎﺳﻢ ﺑﻦ اﻟﻤﻔﻀﻞ، ﻗﺎﻝ ﺣﺪﺛﻨﺎ ﻳﻮﺳﻒ ﺑﻦ ﻣﺎﺯﻥ اﻟﺮاﺳﻲ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻡ ﺭﺟﻞ ﺇﻟﻰ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﻗﺎﻝ: ﺳﻮﺩﺕ ﻭﺟﻮﻩ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ، ﻭﻓﻌﻠﺖ ﻭﻓﻌﻠﺖ، ﺩﺧﻠﺖ ﻣﻊ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ، ﻗﺎﻝ: ﻻ ﺗﺆﺫﻧﻲ ﻳﺮﺣﻤﻚ اﻟﻠﻪ، ﻓﺈﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺪ ﺭﺃﻯ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻴﺔ ﻳﺼﻌﺪﻭﻥ ﻋﻠﻰ ﻣﻨﺒﺮﻩ ﺭﺟﻼ ﺭﺟﻼ ﻓﺴﺎءﻩ ﺫﻟﻚ، ﻓﺄﻧﺰﻝ اﻟﻠﻪ ﻋﺰﻭﺟﻞ: {ﺇﻧﺎ ﺃﻧﺰﻟﻨﺎﻩ ﻓﻲ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ (1) ﻭﻣﺎ ﺃﺩﺭاﻙ ﻣﺎ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ (2) ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻟﻒ ﺷﻬﺮ (3)} [ اﻟﻘﺪﺭ: 1 - 3]
ﻳﻤﻠﻜﻬﺎ ﺑﻨﻮ ﺃﻣﻴﺔ، ﻗﺎﻝ اﻟﻘﺎﺳﻢ: ﻓﺤﺴﺒﻨﺎ ﺫﻟﻚ ﻓﺈﺫا ﻫﻮ ﺃﻟﻒ ﺷﻬﺮ ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻭﻻﻳﻨﻘﺺ!.
ﻭﺭﻭﻯ اﻟﺴﻴﺪ ﺃﺑﻮ ﻃﺎﻟﺐ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺑﺈﺳﻨﺎﺩﻩ: ﺃﻥ ﻣﺪﺓ ﺧﻼﻓﺘﻪ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻛﺎﻧﺖ ﺧﻤﺴﺔ ﺃﺷﻬﺮ ﻭﺃﻳﺎﻣﺎ، ﻭﻫﺬا ﺇﻧﻤﺎ ﺣﻜﺎﻩ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ اﻋﺘﺰاﻟﻪ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﻏﺮﺓ ﺷﻬﺮ ﺭﺑﻴﻊ اﻷﻭﻝ.
غدر معاوية ونكثه للصلح
لم يكن عقد الصلح بالنسبة إلى معاوية ـ كافأه الله ـ إلا حيلة من حيله، ووسيلة لابعاد الإمام الحسن عليه السلام من أمامه فيخلو له الجو بطريقة يخيلها للناس شرعية، وإلا فقد كان عازماً على النكث، غير آبهٍ بالصلح من أول لحظاته، ويدل على ذلك ما ﺭﻭي ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﺇﺳﺤﺎﻕ ﻗﺎﻝ: ﺳﻤﻌﺖ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﺎﻟﻨﺨﻴﻠﺔ ﻳﻘﻮﻝ: ﺃﻻ ﺇﻥ ﻛﻞ ﺷﻲء ﺃﻋﻄﻴﺘﻪ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺗﺤﺖ ﻗﺪﻣﻲ ﻫﺎﺗﻴﻦ ﻻ ﺃﻓﻲ ﺑﻪ. ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺇﺳﺤﺎﻕ: ﻭﻛﺎﻥ ﻭاﻟﻠﻪ ﻏﺪاﺭا.
وأيضاً يدل على تلك النية المبيتة أن معاوية - وبالرغم من الصلح - لم تهدأ له نفس، ولم تقرَّ له عين، ما دام والحسن عليه السلام في المدينة على قيد الحياة، فسعى جاهداً للغدر به، فاحتال في سمِّه على يدي امرأته جعدة ابنة الأشعث، ﻭﺑﺬﻝ ﻟﻬﺎ ﻣﺎﺋﺔ ﺃﻟﻒ ﺩﺭﻫﻢ، ﻭﻭﻋﺪﻫﺎ أن يزوجها بيزيد.
استشهاد الإمام الحسن عليه السلام
ﻟﻤﺎ اﺳﺘﺜﻘﻞ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺣﻴﺎﺓ الإمام اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ احتال على زوجته جعدة ابنة الأشعث في سمِّه عليه السلام، وأعطاها مقابل ذلك مائة ألف درهم، ووعدها بتزويجها من يزيد، فسقت الإمام الحسن بن علي عليه السلام السمَّ، ثم إن معاوية لم يفِ لها بما وعدها من التزويج بيزيد، ﻓﺰﻭﺟﺖ ﺑﻌﺪﻩ ﻓﻲ ﺃﻭﻻﺩ ﻃﻠﺤﺔ ﻭﺃﻭﻟﺪﺕ ﺃﻭﻻﺩا، ﻓﻜﺎﻥ ﺃﻭﻻﺩﻫﺎ ﺇﺫا ﺟﺮﻯ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻭﺑﻴﻦ ﻏﻴﺮﻫﻢ ﺷﻲء ﻗﺎﻟﻮا: ﻳﺎ ﺑﻨﻲ ﻣﺴﻤﺔ اﻷﺯﻭاﺝ.
ولما احتضر الإمام الحسن عليه السلام قال: لقد سقيت السمَّ ثلاث مرات ما منهن بلغت مني ما بلغت هذه، لقد تقطعت كبدي.
ﻭﺭﻭﻱ ﺃﻧﻪ ﻟﻤﺎ اﺣﺘﻀﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺑﻜﻰ، ﻓﻘﻴﻞ ﻟﻪ: ﻣﺎ ﻳﺒﻜﻴﻚ؟ ﻗﺎﻝ: ﺃﻗﺪﻡ ﻋﻠﻰ ﺳﻴﺪ ﻟﻢ ﺃﺭﻩ، ﻭﺃﺳﻠﻚ ﻃﺮﻳﻘﺎ ﻟﻢ ﺃﺳﻠﻜﻬﺎ، ﺃﺧﺮﺟﻮا ﺳﺮﻳﺮﻱ ﺇﻟﻰ ﺻﺤﻦ اﻟﺪاﺭ ﺣﺘﻰ ﺃﻧﻈﺮ ﻓﻲ ﻣﻠﻜﻮﺕ اﻟﺴﻤﻮاﺕ ﻭاﻷﺭﺽ.
فاستشهد ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺑﺎﻟﻤﺪﻳﻨﺔ سنة 50 من الهجرة، ﻭﻟﻪ من العمر 46 ﺳﻨﺔ.
قال ابن عبدون:
أتت بمعضلة الألباب والفكر ... وفي ابن هند وفي ابن المصطفى حسنٍ
وعن عمر بن بشر الهمداني: قلت لأبي إسحاق: متى ذل الناس؟ قال: حيث مات الحسن بن علي، وادعي زياد، وقتل حجر بن عدي.]الإعتبار وسلوة العارفين ج1/ ص489]
وصية الإمام الحسن عليه السلام
ﻛﺎﻥ الإمام الحسن ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻗﺪ ﺃﻭﺻﻰ ﺃﻥ ﻳﺪﻓﻦ ﺇﻟﻰ ﺟﻨﺐ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻳﺨﺎﻑ ﺃﻥ ﻳﺮاﻕ ﻣﺤﺠﻤﺔ ﻣﻦ ﺩﻡ، ﻓﻠﻤﺎ ﺳﻤﻌﺖ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﺑﺬﻟﻚ، ﺭﻛﺒﺖ بغلاً ﻭاﺳﺘﻨﻔﺮﺕ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻴﺔ، ﻭﻓﻴﻬﺎ ﻳﻘﻮﻝ اﻟﻘﺎﺋﻞ:
ﻓﻴﻮﻣﺎً ﻋﻠﻰ ﺑﻐﻞ ﻭﻳﻮﻣﺎً ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻞ
ﻓﺠﻤﻊ ﻣﺮﻭاﻥ ﻣﻦ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻴﺔ ﻭﺃﺗﺒﺎﻋﻬﻢ اﻷﻭﻏﺎﺩ اﻟﻄﻐﺎﺓ، ﻭﺑﻠﻎ ﺫﻟﻚ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ فجاء ﻫﻮ ﻭﻣﻦ ﻣﻌﻪ ﻓﻲ اﻟﺴﻼﺡ ﻟﻴﺪﻓﻨﻮا الحسن عليه السلام ﻓﻲ ﺑﻴﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻭﺃﻗﺒﻞ ﻣﺮﻭاﻥ ﻭﺃﺻﺤﺎﺑﻪ وذووه، ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ: ﻳﺎ ﺭﺏَّ ﻫﻴﺠﺎ ﻫﻲ ﺧﻴﺮٌ ﻣﻦ ﺩَﻋَﺔ، ﺃﻳﺪﻓﻦ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﻓﻲ اﻟﺒﻘﻴﻊ، ﻭﻳﺪﻓﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻓﻲ ﺑﻴﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ؟ ﻭاﻟﻠﻪ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺫﻟﻚ ﻭﺃﻧﺎ ﺃﺣﻤﻞ اﻟﺴﻴﻒ، ﻓﻠﻤﺎ ﻛﺎﺩﺕ اﻟﻔﺘﻨﺔ ﺗﺴﺘﻌﺮ ﻭاﻟﺤﺴﻴﻦ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻳﺄﺑﻰ ﺃﻥ ﻳﺪﻓﻨﻪ ﺇﻻ ﻣﻊ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻓﻜﻠﻤﻪ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺟﻌﻔﺮ، ﻭﻣﺴﻮﺭ ﺑﻦ ﻣﺨﺮﻣﺔ؛ ﻟﻴﺪﻓﻨﻪ ﻓﻲ اﻟﺒﻘﻴﻊ، ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻪ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺟﻌﻔﺮ: ﺇﻧﻪ ﻋﻬﺪ ﺇﻟﻲ ﺃﻥ ﺃﺩﻓﻨﻪ ﻓﻲ اﻟﺒﻘﻴﻊ، ﺑﺤﻘﻲ ﻋﻠﻴﻚ ﻋﺰﻣﺖ ﺃﻻ ﺗﻜﻠﻤﻨﻲ ﺑﻜﻠﻤﺔ ﻓﻤﻀﻰ ﻫﻨﺎﻟﻚ، ﻭاﺗﺼﻞ اﻟﺨﺒﺮ ﺑﻤﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺳﻔﻴﺎﻥ، ﻓﺎﺳﺘﺤﻤﺪ ﻣﺮﻭاﻥ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﻓﻘﺎﻝ ﻣﺮﺗﻴﻦ: ﺇﻳﻬﺎً ﻣﺮﻭاﻥ ﺃﻧﺖ! ﻭﺣﻜﻲ ﻋﻨﻪ ﺃﻧﻪ ﻗﺎﻝ: ﺇﻥ ﻳﻚ ﻇﻨﻲ ﺑﻤﺮﻭاﻥ ﺻﺎﺩﻗﺎً ﻟﻦ ﻳﺼﻠﻮا ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺃﺑﺪاً.
ﻓﺪﻓﻦ الإمام الحسن ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻓﻲ اﻟﺒﻘﻴﻊ من المدينة المنورة.
وروي ﺃﻧﻪ ﻟﻤﺎ ﺩﻓﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ، ﻗﺎﻡ ﺃﺧﻮﻩ ﻣﺤﻤﺪ اﺑﻦ اﻟﺤﻨﻔﻴﺔ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻰ ﻗﺒﺮﻩ ﻭﻗﺎﻝ: ﻳﺮﺣﻤﻚ اﻟﻠﻪ ﺃﺑﺎ ﻣﺤﻤﺪ، ﻟﺌﻦ ﻋﺰﺕ ﺣﻴﺎﺗﻚ ﻟﻘﺪ ﻫﺪﺕ ﻭﻓﺎﺗﻚ، ﻭﻟﻨﻌﻢ اﻟﺮﻭﺡ ﺭﻭﺡ ﻋﻤﺮ ﺑﻪ ﺟﺴﺪﻙ، ﻭﺗﻀﻤﻨﻪ ﻛﻔﻨﻚ، ﻭﻛﻴﻒ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﻛﺬﻟﻚ! ﻭﺃﻧﺖ ﺳﻠﻴﻞ اﻟﻬﺪﻯ، ﻭﺣﻠﻴﻒ ﺃﻫﻞ اﻟﺘﻘﻰ، ﻏﺬﺗﻚ ﻛﻒ اﻹﻳﻤﺎﻥ، ﻭﺭﺿﻌﺖ ﺛﺪﻱ اﻟﺘﻘﻮﻯ، ﻓﻄﺒﺖ ﺣﻴﺎ ﻭﻃﺒﺖ ﻣﻴﺘﺎ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺃﻧﻔﺴﻨﺎ ﻏﻴﺮ ﻃﻴﺒﺔ ﺑﻔﺮاﻗﻚ، ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻏﻴﺮ ﺷﺎﻛﺔ ﺑﺄﻥ اﻟﻠﻪ ﻗﺪ اﺧﺘﺎﺭ ﻟﻚ، ﺛﻢ ﺑﻜﻰ ﻭﺃﺑﻜﻰ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ.
ﻭﻟﻤﺎ ﻧﻌﻲ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ، ﻭﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﻌﺒﺎﺱ ﺑﺒﺎﺏ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ، ﻓﺤﺠﺐ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﺣﺘﻰ ﺃﺧﺬ اﻟﻨﺎﺱ ﻣﺠﺎﻟﺴﻬﻢ، ﺛﻢ ﺃﺫﻥ ﻟﻪ ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﻋﻈﻢ اﻟﻠﻪ ﺃﺟﺮﻙ ﻳﺎ ﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﻗﺎﻝ: ﻓﻴﻤﻦ؟ ﻗﺎﻝ: ﻓﻲ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻗﺎﻝ: ﺇﺫاً ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻣﻮﺗﻪ ﻓﻲ ﻋﻤﺮﻙ، ﻭﻻ ﻳﺪﺧﻞ ﻋﻤﻠﻪ ﻋﻠﻴﻚ ﻓﻲ ﻗﺒﺮﻙ، ﻓﻘﺪ ﻓﻘﺪﻧﺎ ﻣﻦ ﻫﻮ ﺃﻋﻈﻢ ﻣﻨﻪ ﻗﺪﺭاً، ﻭﺃﺟﻞ ﻣﻨﻪ ﺃﻣﺮاً، ﻓﺄﻋﻘﺐ اﻟﻠﻪ ﻋﻘﺒﻰ ﺻﺎﻟﺤﺔ ﻓﺨﺮﺝ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ:
ﺃﺻﺒﺢ اﻟﻴﻮﻡ اﺑﻦُ ﻫﻨﺪ ﺷﺎﻣﺘﺎ ... ﻇﺎﻫﺮ اﻟﻨﺨﻮﺓ ﺃنْ ﻣﺎﺕ اﻟﺤﺴﻦ
ﻭﻟﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻤﺮﻩ ... ﻣﺜﻞ ﺭﺿﻮﻯ ﻭﺛﺒﻴﺮ ﻭﺣﻀﻦ
ﻓﺎﺭتعِ اﻟﻴﻮﻡَ اﺑﻦَ ﻫﻨﺪٍ ﺁﻣﻨﺎ ... ﺇﻧّﻤﺎ ﻳﻘﻤﺺ ﺑﺎﻟﻌﻴﺮ اﻟﺴﻤﻦ
ﻭاتقِ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﻇﻬﺮ ﺗﻮﺑﺔً ... ﺇﻧﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻛﺸﻲء ﻟﻢ ﻳﻜﻦ
رثاء الحسين لأخيه الحسن عليهما السلام
ورثى الإمام الحسين بن علي أخاه الحسن بن علي عليهما السلام بقصيدة قال فيها:
ﺃﺃﺩﻫﻦ ﺭﺃﺳﻲ ﺃﻡ ﺗﻄﻴﺐ ﻣﺠﺎﻟﺴﻲ ... ﻭﺧﺪﻙ ﻣﻌﻔﻮﺭ ﻭﺃﻧﺖ ﺳﻠﻴﺐُ
ﺃﻡ اﺳﺘﻤﺘﻊ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺸﻲء ﺃﺣﺒﻪ ... ﺃﻻ ﻛﻠﻤﺎ ﺃﺩﻧﻰ ﺇﻟﻴﻚ ﺣﺒﻴﺐُ
ﺃﻡ اﺷﺮﺏ ماء اﻟﻤﺰﻥ ﺃﻡ ﻏﻴﺮ ﻣﺎﺋﻪ ... ﻭﺇﻻ ﻟﺪﻣﻌﻲ ﻓﻲ اﻷناء ﻏﺮﻭﺏُ
ﻓﻼ ﺯﻟﺖ ﺃﺑﻜﻲ ﻣﺎ ﺗﻐﻨﺖ ﺣﻤﺎﻣﺔ ... ﻋﻠﻴﻚ ﻭﻣﺎ ﻫﺒﺖ ﺻﺒﺎ ﻭﺟﻨﻮﺏُ
ﻭﻟﻴﺲ ﺣﺮﻳﺒﺎً ﻣﻦ ﺃﺻﻴﺐ ﺑﻤﺎﻟﻪ ... ﻭلكنَّ ﻣﻦ ﻭاﺭﻯ ﺃﺧﺎﻩ ﺣﺮﻳﺐُ
ﻭﻣﺎ ﻗﻄﺮﺕ ﻋﻴﻦٌ ﻣﻦ الماء ﻗﻄﺮﺓ ... ﻭﻣﺎ اﺧﻀﺮ ﻓﻲ ﺩﻭﺡ اﻟﺤﺠﺎﺯ ﻗﻀﻴﺐُ
ﺑﻜﺎﺋﻲ ﻃﻮﻳﻞ، ﻭاﻟﺪﻣﻮﻉ ﻏﺰﻳﺮﺓ ... ﻭﺃﻧﺖ ﺑﻌﻴﺪ ﻭاﻟﻤﺰاﺭ ﻗﺮﻳﺐُ
ﻭﻟﻤﺎ ﻣﻀﻰ ﻋﻨﻲ ﺃﺧﻲ ﺫﻗﺖ ﺣﺮﻗﺔ ... ﻟﻪ ﻟﻢ ﻳﺬﻗﻨﻴﻬﺎ ﺳﻮاﻩ ﻏﺮﻳﺐُ
جرت العادة أن تكون الكتابة عن العظماء من الرجال الذين شغلوا مساحة واسعة، وحيزاً كبيراً في صفحات التأريخ، ذلك لأن الرجال هم الأقدر على تحمل التكاليف، وتقحم المخاطر، وتجشم الصعاب على مختلف الازمان، لكن ذلك لم يمنع أن تُخترق تلك الصفحات، ويتخلل تلك السطور المشرقة نساء كوامل، لم تقل شأنا عن أولئك العظماء، بل لربما كُنَّ في مقدمات أولئك الأصفياء، هذا إذا لم يتناه إلى علمك أو يقرع سمعك لقباً صار تاجاً فوق الرؤوس تتحلى به النساء، ودرة وسط العقد تملأ الكون بالضياء.
إذا ذكرت فهي الحورية الإنسية، والبضعة الطاهرة الزكية، فاطمة البتول الرضية، هنا سيكون الكلام له عبق مختلف، وشذى فريد، وأريج فواح يصل نداه إلى جميع البقاع، ويملأ المدى الفسيح بلا انقطاع، وكيف لا وهي ربة الفواضل والفضائل، وفي الطبقة العليا من النساء الكوامل، وخاتمة عقد النبي الفريد، وسيدة النساء في كل العوالم بلا محيد، وكيف لا وهي في مصاف آسيا وخديجة ومريم، بل هي منهن في المحل الأول، وقد كان النبي الكريم يقول: "مريم سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء العالمين"، وقال صلوات الله عليه وعلى آله وسلم: "حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسيا بنت مزاحم"
الولادة
ولدت فاطمة في بيت يتضوع منه عبق الإيمان، وتفوح منه رائحة الفضيلة، وتتهدل فيه ثمار السماحة والكرم، وشاءت عناية الله أن تبصر النور وتفتح عينيها على الدنيا لتكون في كنف أشرف وأكرم بيت عُرف في التأريخ، هو بيت النبوة، مهد البضعة الطاهرة، بيت تحفه ظلال الوحي، وتحوطه جوانب الطهارة، ويشع منه نور الرسالة الخالدة.
استقت من أبيها النبي الكريم حبّ الإيمان والفضيلة ومكارم الأخلاق، وتشبعت بالتربية الإيمانية والأخلاق الربانية والصفات الإنسانية الكاملة، ومن أمها خديجة رضعت الشهامة والحياء والكرم والمواساة وحب الخير، فصارت درة تتوسط العقد، وجوهرة تشع دوماً بالسعد.
عندما ولدت أسماها أبوها النبي الكريم فاطمة ليفطمها الله ومحبها من النار، وكان ولادة البضعة الطاهرة في بداية بعثة النبي، وتكليفه لأداء رسالة الله إلى جميع الخلق.
النشأة
تتميز نشأة بضعة الرسول بأنها كانت في كنف الأب الرسول محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- والأم الطاهرة خديجة بنت خويلد، فكانت نشأة مميزة في ظلال هذا الجو الروحي، والسمو العائلي، والخلق النبوي الكريم.
وشاء الله تعالى أن تبدأ فاطمة حياتها الكريمة في مرحلة من أشد مراحل الدعوة الاسلامية محنة، وأكثرها قسوة على والدها النبي، وعاينت عن قرب ما كان يتعرض له أبوها النبي من الأذية من قبل كفار قريش، وما كان يلقاه من الجفوة والغلظة، فقد كانت هي التي تبعد القذارة من على ظهر رسول حين يتجرأ أشقى الناس ويضعها على ظهره الكريم وهو يصلي، وفي هذا الموقف كانت تتملكها شفقة البنت البارة، ويتداخلها العطف الشديد على أبيها النبي الكريم، الذي كان يصبر على ما يصيبه فاكتسبت منه هذا الخلق النبوي العظيم، وأيضا لم تكن بمنأى عن الأذى في الوقت الذي فرضت فيه قريش المقاطعة الإقتصادية والحصار الخانق الذي بسببه أكل المؤمنون أوراق الشجر, وربط فيه النبي على بطنه بالحجر، ومعه بنو هاشم فكان النبي الكريم في شعب أبي طالب، ومعه زوجته خديجة، ومعهم فاطمة البتول.
ورغم أن أمها خديجة قد توفيت وهي في سن العاشرة أو ما يقاربها لكن لم يفتها عطف الأب العظيم ودفئه، وحنانه الفياض الذي كان يغمرها في كل وقت، ويعوضها عما أصابها من فقد أمها، وهي لمست ذلك وشعرت به، فقد كانت تذهب إلى أبيها إذا أصابها غم، أو ألم بها حزن، أو نزل بها مصيبة، أو فاجأتها جائحة، أو كدر صفوها رنق، أو اعتراها شيء من نوائب الدهر؛ فتجد عند أبيها السلو والبهجة والمواساة، وتخرج من عنده طيبة الخاطر، راضية النفس، طلقة المحيا، يعلو محياها قسمات الفرح، وتظهر من ثناياها ملامح التباشير فانعكس ذلك عليها في تصرفها وفي جميع فعالها
زواج فاطمة
كان زواج فاطمة بالإمام علي بن أبي طالب مختلفاً، وخاصاً ومميزاً من بين كل الزيجات التي حصلت في تأريخ البشر؛ أنه لم يكن بيد أحد، بل كان المتولي لأمره مباشرة هو رب السماء، وخالق الكون ومنشئ الأنفس، تتلخص تلك الحقيقة في قول النبي الأكرم صلوات الله عليه وعلى آله وسلم: "ﺇﻧﻤﺎ ﺃﻧﺎ ﺑﺸﺮ ﻣﺜﻠﻜﻢ ﺃﺗﺰﻭﺝ ﻣﻨﻜﻢ ﻭﺃﺯﻭﺟﻜﻢ ﺇﻻ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﻓﺈﻥ ﺯﻭاﺟﻬﺎ ﻧﺰﻝ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء"، فلم يأذن الله لنبيه الكريم في قطع الأمر لأحد حينما توافد الخطاب من كبار الصحابة يطلبون يد البضعة الطاهرة والجوهرة المكنونة.
وكيف لا يكون شأنه عظيم وهو عرس باركته السماء واحتفلت به الملائكة، وزُخرفت له الجنة، وتزينت له الحور العين؟!.
وكيف لا ونثار عقده بين أهل السماء من اللؤلؤ الرطب والياقوت الأحمر والدر اﻻخضر، تتبادره الحور من كل جانب ويتناهبنه من كل طرف؟!
و كان الذي تولى زفافها إلى بيت زوجها هو خير أهل الأرض أبوها النبي الكريم يرافقه خير أهل السماء جبريل ومعه ميكائيل وصفوة من الملائكة.
وكيف لا يكون ذلك الزواج استثنائياً ومتميزاً وإرادة الله تقتضي أن يكون من ثمار هذا العرس تلك الذرية المباركة التي اختيرت لتكون موضع عناية الله لهداية البشر، وتكون الحبل الممدود للناس الذي يصلهم ويربطهم بالثقل الأكبر؟!
وقد كان هذا العرس المبارك في السنة الثانية للهجرة، وعندما أختارها أبوها لتكون حليلة الوصي هُمس في أذنها، وتردد كلام إلى مسامعها بأن من صارت له عروسة هو رجل فقير ليس من ذوي المال والجاه، فذهبت إلى أبيها النبي الكريم لا للاعتراض على من ستظل في كنف بيته، وتكون سكنه ومأواه ، فهو رجل أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه خير الخيرة، وصفوة الصفوة، بل ذهب إلى أبيها ليصدر منه ما تصحح به المفاهيم الخاطئة التي يعتقدها بعض الناس في معايير الاختيار للرجل المناسب، ولينبه بفضيلة وعظمة من سيكون خدينها وقرينها وزوجها المستقبلي، فقال لها: "ﺃﻣﺎ ﺗﺮﺿﻴﻦ ﺃﻧﻲ ﺯﻭﺟﺘﻚ ﺃﻭﻝ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﺇﺳﻼﻣﺎً، ﻭﺃﻋﻠﻤﻬﻢ ﻋﻠﻤﺎً، ﺃﻣﺎ ﺗﺮﺿﻴﻦ ﻳﺎ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﺃﻥ اﻟﻠﻪ إﻃَّﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻞ اﻷﺭﺽ ﻓﺎﺧﺘﺎﺭ ﻣﻨﻬﺎ ﺭﺟﻠﻴﻦ، ﻓﺠﻌﻞ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﺃﺑﺎﻙ ﻭاﻵﺧﺮ ﺑﻌﻠﻚ", وهذا الموقف ينسجم مع ما فعله الإمام علي مع النبي الكريم حين خلفه صلى الله عليه وآله في المدينة وقيل فيه إنه ما تركه إلا استثقالاً له، فجاءه علي وقال: "أتخلفني مع النساء والصبيان؟".
فقال له النبي صلوات الله عليه وعلى آله وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي"
وبعد العرس المبارك انتقلت فاطمة الزهراء إلى البيت الزوجي الذي كانت تحيط به عظمة الزهد وبساطة العيش، فكانت تعين زوجها على أمر دينه وآخرته، وتقوم بشؤونها المنزلية والأعمال البيتية من طبخ وتنظيف وإحضار للماء, ورعاية الأطفال، حتى أنّها كانت تطحن بيد وترقد طفلها باليد الأخرى، في حياة يصبغها طابع القناعة والزهد بعيداً عن زخارف الدنيا وزبرجها.
مكانة فاطمة الزهراء
أحتلت فاطمة البتول مكانة كبيرة لدى أبيها النبي الكريم صلى الله عليه وآله، وتربعت على عرش قلبه، وكان لها الحظ الأوفر والنصيب الأكبر من بين كل أخوتها، ذلك ليس لأنها أصغر الأولاد وخاتمة العقد الذين يكون لهم شأنهم آخر عن سائر الأبناء، ويحظون باهتمام أكثر من غيرهم، بل لأن فاطمة اكتسبت من الأخلاق الفاضلة، والمكارم الحميدة ما جعلها سيدة النساء ليس في عالمها فحسب، بل سيدة نساء العالمين، وكانت نموذجاً فريداً في عالم النساء، وشخصية مميزة امتلأت بالحب والعطف الكبير، ولا عجب أن اكتسبت واستحقت الكنية العظيمة من أبيها النبي الكريم "أم أبيها"؛ لأنها كانت تغدق على أبيها النبي بفيض من العطف ونبع من الحنان والرأفة والرعاية العظيمة, والاهتمام الكبير أعظم مما تفيض به الأم الحانية لولدها، فكانت تضمّد لأبيها جرحه، وتمسح الدم من على جبينه وخده، وتحزن لحزنه، وتفرح لفرحه، وترفع عنه الأذى، وتبعد عنه الشوك والقذى، ويغمها فراقه، ويشق عليها الابتعاد عنه، وتتعاهده بما يحتاجه، وتتفقده في جميع أموره و أحواله، وكانت تستقبله كلما جاء من سفره وترحاله، فتكون أول من يلتقي به من أهله ونسائه، فتقوم له وتقبله، وتجلسه في مكانها، وتقربه إلى جنبها.
ولعظم مكانتها لديه كانت هي منفردة التي دعاها النبي الكريم لمباهلة النصارى وكانت المباهلة لا يحضر فيها إلا أخص الخواص، ومن يصطفيهم عن سواهم من الناس، وجعلها خامسة أصحاب الكساء حينما جمع النبي علياً والحسن والحسين وأمهما فاطمة وقال في حقهم: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" بعدما نزل قوله تعالى: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا"، ما ذلك إلا لعظم خطرها وعظيم فضلها وشرفها، وكيف لا وقد جعلها بضعته التي يغضبه ما يغضبها، ويرضيه ما يرضيها، فلا عجب أن كان النبي يخصها بالذكر دون غيرها من بناته وزوجاته، وقد كان في كل يوم يذهب الى بيتها ويقول: "الصلاة الصلاة يا أهل بيت رسول", بعدما كان الأمر الإلهي للنبي "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها"، وممَّا يدل على أنها راجحة المقام، عظيمة المكان، أنه ينصب لها منبر يوم القيامة وتتخطى رقاب العالمين كما ورد في الأثر: "ينادي منادٍ يوم القيامة: يا أهل الجمع غضّوا أبصاركم من فاطمة بنت محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم" قال: فتخرج من قبرها معها ثياب تشخب بالدم حتى تنتهي إلى العرش وتقول: "يا رب انتصف لولدي ممن قتلهم"
وقد جعلت ذرية النبي الكريم في ولد فاطمة وعقبها، وخصت بهذه المكرمة دون سواها يقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم "كل بني آدم ينتمون إلى أبيهم إلا الحسن والحسين فأنا أبوها وعصبتهما".
خصائصها
لقد كانت فاطمة أسوة لجميع النساء عبر الزمان، لأنها في صفاتها كانت البنت البارة والزوجة الصالحة والأم الفاضلة، وفي حياتها دورس كثيرة، وصفات كريمة جعلتها تمتطي جواد العلى, وتتربع عرش الفضل, وتحلق في سماء الفضيلة من رحاب إلى رحاب متفوقة على قريناتها من بنات جنسها، فمن التحلي بالصبر إلى الرضى والزهد والقناعة، ومن الرحمة بالناس إلى الإيثار لهم، ومن العفاف إلى الكرم، ومن السخاء إلى الحياء، ولا تُنْسى تلك المواقف التي رُسمت فيها أنصع الصور للزاهراء البتول منها:-
- لما زوجها اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ: ((ﻳﺎ ﺃﻡ ﺃﻳﻤﻦ زفي ﺑﻨﺘﻲ ﺇﻟﻰ ﻋﻠﻲ، ﻭﻣﺮﻳﻪ ﺃﻥ ﻻ ﻳﻌﺠﻞ ﺣﺘﻰ ﺁﺗﻴﻬﺎ))، ﻓﻠﻤﺎ ﺻﻠﻰ اﻟﻌﺸﺎء ﺃﻗﺒﻞ ﺑﺮﻛﻮﺓ ﻛﺎﻥ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎء ﻓﺘﻔﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﺷﺎء اﻟﻠﻪ ﻭﻗﺎﻝ: ((ﺇﺷﺮﺏ ﻳﺎ ﻋﻠﻲ ﻭﺗﻮﺿﺄ، ﻭاﺷﺮﺑﻲ ﻳﺎ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﻭﺗﻮﺿﺄﻱ، ﺛﻢ ﺭﺩ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺒﺎﺏ ﻓﺒﻜﺖ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﻓﻘﺎﻝ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ﻣﺎ ﻳﺒﻜﻴﻚ ﻳﺎ ﺑﻨﻴﺔ؟ ﻗﺪ ﺯﻭﺟﺘﻚ ﺃﻗﺪﻣﻬﻢ ﺇﺳﻼﻣﺎ، ﻭﺃﺣﺴﻨﻬﻢ ﺧﻠﻘﺎ، ﻭﺃﻋﻠﻤﻬﻢ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻋﻠﻤﺎ)).
- ذات يوم قال علي ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ لفاطمة ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺮﺿﻮاﻥ: "ﺇﻥ اﻟﻄﺤﻦ ﻭاﺧﺘﺪاﻣﻚ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻚ ﻗﺪ ﺟﻬﺪاﻙ، ﻓﻠﻮ ﺃﺗﻴﺖ ﺃﺑﺎﻙ ﻓﺴﺄﻟﺘﻴﻪ ﺧﺎﺩﻣﺎً"، ﻓﻘﺎﻟﺖ: "ﻓﺎﻧﻄﻠﻖ ﻣﻌﻲ"، ﻗﺎﻝ: "ﻓﺄﺗﻴﻨﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﺬﻛﺮﺕ ﻟﻪ ﺫﻟﻚ"، ﻓﻘﺎﻝ: "ﺃﻻ ﺃﺩﻟﻜﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﻋﻤﻞ ﺧﻴﺮ ﻟﻜﻤﺎ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ، ﺗﺳﺒﺤﺎﻥ اﻟﻠﻪ ﺇﺫا ﺁﻭﻳﺘﻤﺎ ﻓﺮاﺷﻜﻤﺎ ﺛﻼﺛﺎ ﻭﺛﻼﺛﻴﻦ، ﻭﺗﺤﻤﺪاﻧﻪ ﺛﻼﺛﺎ ﻭﺛﻼﺛﻴﻦ، ﻭﺗﻜﺒﺮاﻧﻪ ﺃﺭﺑﻌﺎ ﻭﺛﻼﺛﻴﻦ، ﻓﺘﻠﻚ ﻣﺎﺋﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﺴﺎﻥ ﻭﺃﻟﻒ ﻓﻲ اﻟﻤﻴﺰاﻥ", فرضيت سلام الله عليها بما دلها عليه رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم.
- ذات مرة أصابت عليًّا عليه السَّلام خصاصة، فقال لفاطمة: "لو أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألتيه"، فأتتهُ وكانت عنده أم أيمن، فدقت الباب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن هذا الداق فاطمة، وقد أتتنا في ساعة ما عوّدتنا أن تأتينا في مثلها، فقُومي فافتحي لها الباب"، فقال عليه وآله الصلاة والسَّلام: "يا فاطمة لقد أتَيْتِنَا في ساعة ما عوّدتنا أن تأتينا في مثلها؟" فقالت: "يا رسول الله هذه الملائكة إن طعامها التسبيح والتهليل، والتّحميد والتّمجيد، فما طعامنا؟". قال صلوات الله عليه وعلى آله: "والذي نفس محمد بيده ما اقتبس لآل محمد نار منذ ثلاثة أيام، وقد أُتينا بأعنزٍ فإن شئت فخُذي خمس أعنزٍ، وإن شئتِ علّمتك خمس كلماتٍ علمنيهن جبريل عليه السَّلام؟" قالت: بل علّمني الكلمات، قال: قولي: "يا أول الأوّلين، ويا آخر الآخِرين، ويا ذا القوة المتين، ويا رازق المساكين، ويا أرحم الراحمين" فانصرفت حتى دخلت على عليٍّ عليه السَّلام فقال: "ما وراءك؟" فقالت: "ذهبتُ من عندك إلى الدنيا فأتيتك بالآخرة، قال: خير أيَّامك، خير أيَّامك".
- لما ﻣﺮﺽ اﻟﺤﺴﻦ ﻭاﻟﺤﺴﻴﻦ نذر اﻹمام علي وفاطمة صيام ثلاثة أيام متتالية إن تعافا الحسنان من مرضهما, فلما أنعم الله عليهما بالشفاء، قررا أن يوفيا بالنذر الذي عليهما ﻭﻓﻲ اﻟﻴﻮﻡ اﻷﻭﻝ ﻣﻦ اﻟﺼﻴﺎﻡ ﺟﺎءﻫﻢ ﻣﺴﻜﻴﻦ, وقال: مسكين يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة؛ ﻓﺄﻋﻄﻮﻩ ﻃﻌﺎﻣﻬﻢ ﻭﺷﺮﺑﻮا اﻟﻤﺎء ﻓﻘﻂ.
ﻭﻓﻲ اﻟﻴﻮﻡ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﺮﺽ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻳﺘﻴﻢ: يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة؛ ﻓﺄﻋﻄﻮﻩ ﻃﻌﺎﻣﻬﻢ ﻭﺃﻛﻤﻠﻮا ﺻﻴﺎﻣﻬﻢ ﻭﻟﻢ ﻳﺬﻭﻗﻮا ﻏﻴﺮ اﻟﻤﺎء، ﻭﻓﻲ اﻟﻴﻮﻡ اﻟﺜﺎﻟﺚ ﺟﺎءﻫﻢ ﺃﺳﻴﺮ ﻓﺄﻋﻄﻮﻩ ﻃﻌﺎﻣﻬﻢ, وهنا تتجلى الفضائل، وتظهر ملامح الشيم والمكارم، ففضيلة الصبر جلية، وفضيلة الإيثار ليست فيهم بخفية، وفضيلة الوفاء شيمة علوية فاطمية، وفضيلة الإخلاص في العمل تكمل تلك الصفات الرضية، وفي ذلك نزل قول الله تعالى في فاطمة وفي زوجها وبنيها: "ﻳﻮﻓﻮﻥ ﺑﺎﻟﻨﺬﺭ ﻭﻳﺨﺎﻓﻮﻥ ﻳﻮﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺷﺮﻩ ﻣﺴﺘﻄﻴﺮا ﻭﻳﻄﻌﻤﻮﻥ اﻟﻄﻌﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﺣﺒﻪ ﻣﺴﻜﻴﻨﺎ ﻭﻳﺘﻴﻤﺎ ﻭﺃﺳﻴﺮا ﺇﻧﻤﺎ ﻧﻄﻌﻤﻜﻢ ﻟﻮﺟﻪ اﻟﻠﻪ ﻻ ﻧﺮﻳﺪ ﻣﻨﻜﻢ ﺟﺰاء ﻭﻻ ﺷﻜﻮﺭا "
الرحيل
كان فراق النبي الكريم على بضعته الزكية مؤلماً؛ لذا حزنت عليه حزناً شديداً، وكان حزنها عليه مؤثراً حتى أثر على صحتها، إضافة إلى ما أصابها من الأذى الذي كان بسبب أخذ حقها، وسلب نصيبها الذي وهبه لها أبوها النبي الكريم أثناء حياتها فقد صارت كارة للدنيا وللعيش فيها، وتتشوق إلى الرحيل واللحاق بأبيها صلوات الله عليه وعلى آله, وتجلى ذلك عندما جمعت نسوة من الأنصار، وألقت على مسامعن هذه الخطبة :"واللهِ أصبحتُ عائفةً لدُنياكم، قالِيَةً لرجالكم، لفظتُهم بعد أن عَجمْتُهم، وشِنئتهم بعد أن سَبَرتهم، فقبحاً لفُلول الحدّ، وخَوَر القناة، وخَطَل الرأي، وبئسما قدّمَت لهم أنفسُهم أن سَخِط اللهُ عليهم وفي العذاب هم خالدون؛ لا جرم قد قلّدتهم رِبْقَتها، وشنّت عليهم غارتها، فجَدْعاً وعَقْراً، وسُحْقاً للقوم الظالمين، وَيْحَهم أين زحزحوها عن رَوَاسي الرّسالة، وقواعدِ النبوّة، ومَهبِط الرُّوح الأمين، والطيبين بأمر الدّنيا والدّين ، ألا ذلك هو الخسران المبين.
وما الّذي نَقَموا من أبي حسن؟!, نَقَموا واللهِ نكيرَ سيفه، وشِدّة وَطْأته، ونَكالَ وَقْعته، وتنمّره في ذات الله، وتالله لو تكافُّوا عن زِمام نبذَه إليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لاعتَلَقه، ولسار إليهم سيراً سُجُحاً، لا تكلم حشاشته، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم مَنهلاً نَميراً فضفاضاً يطفح ضفّتاه، ولأصدرهم بِطاناً قد تحيّر بهم الرأي، غير متحلّ بطائل، إلاّ بغَمْر الناهل، وردعه سورة الساغبِ، ولفتحتْ عليهم بركات من السّماء والأرض، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون.
ألا هلمّ فاستمع وما عشت أراك الدهر عجبه، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث، إلى أيّ لجأ استندوا، وبأيّ عُروة تمسّكوا! لبئسَ المَولى ولبئس العَشِير، ولبئس للظالمين بدلاً! استبدلوا والله الذُّنَابَى بالقَوادم، والعَجُز بالكاهل؛ فرغماً لمعاطس قومٍ يَحسَبون أنّهم يُحسِنون صُنْعاً: «ألا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ»، وَيْحهم! «أفَمَنْ يَهْدِي إلَى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلاّ أنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»! أما لَعَمر الله لقد لقِحت فنظِرة ريْثما تنتَج، ثمّ احتلبوها طِلاعَ العَقْب دَماً عَبيطاً وذُعافاً مُمقِراً هنالك يَخسَر المُبطِلون، ويَعرِف التالون غِبَّ ما أسّس الأوّلون، ثمّ طِيبوا عن أنفسكم نفساً، واطمئنّوا للفتنة جأشاً، وأبشِروا بسيفٍ صارم، وهرْج شامل، واستبدادٍ من الظالمين يَدَعُ فيئكم زهيداً، وجمعَكم حَصِيداً؛ فيا حسرةً عليكم، وأنَّى لكم وقد عُمَّيتْ عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون"
وقد ﻛﺎﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ في أثناء مرضه اﻟﺬﻱ ﺗﻮﻓﻲ ﻓﻴﻪ ﺳﺎﺭ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﺑﺸﻲء ﻓﺒﻜﺖ، ﺛﻢ ﺳﺎﺭﻫﺎ ﺑﺸﻲء ﻓﻀﺤﻜﺖ، فسُئلت ﻋﻦ ﺫﻟﻚ, ﻓﻘﺎﻟﺖ: "ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﺃﻧﻪ ﻣﻘﺒﻮﺽ ﻣﻦ ﻭﺟﻌﻪ ﻓﺒﻜﻴﺖ، ﺛﻢ ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﺃﻧﻲ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﻳﻠﺤﻖ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺃﻫﻠﻪ ﻓﻀﺤﻜﺖ".
فلم تلبث إلا بضعة أشهر حتى مرضت، فأوصت الإمام علي أن يدفنها سرا، وهنا ترتسم في الذهن علامة استفهام عريضة عن السبب لهذه الوصية، ليذكر التأريخ في صفحاته الإجابة الكاملة عن هذه الحقيقة, ثم لحقت إلى جوار ربها الكريم، وبذلك ينهدم ركنا الوصي ويكتمل مشهد الحزن العميق الذي خيم على أبي الحسن كما أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا علي كيف بك إذا انهد ركناك؟!".
وبعدما ذهب الأمام علي ليورايها الثرى توجه إلى قبر فاطمة يتمثل كأنه يخاطب النبي الكريم فقال: "اﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻴﻚ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻲ ﻭﻋﻦ اﺑﻨﺘﻚ اﻟﻨﺎﺯﻟﺔ ﻓﻲ ﺟﻮاﺭﻙ ﻭاﻟﺴﺮﻳﻌﺔ اﻟﻠﺤﺎﻕ ﺑﻚ, قلَّ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﻋﻦ ﺻﻔﻴﺘﻚ ﺻﺒﺮﻱ ورقَّ ﻋﻨﻬﺎ ﺗﺠﻠﺪﻱ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻓﻲ اﻟﺘﺄﺳﻲ ﻟﻲ ﺑﻌﻈﻴﻢ ﻓﺮﻗﺘﻚ ﻭﻓﺎﺩﺡ ﻣﺼﻴﺒﺘﻚ ﻣﻮﺿﻊ ﺗﻌﺰ, ﻓﻠﻘﺪ ﻭﺳﺪﺗﻚ ﻓﻲ ﻣﻠﺤﻮﺩﺓ ﻗﺒﺮﻙ ﻭﻓﺎﺿﺖ ﺑﻴﻦ ﻧﺤﺮﻱ ﻭﺻﺪﺭﻱ ﻧﻔﺴﻚ فإنَّا ﻟﻠﻪ ﻭﺇﻧﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﺭاﺟﻌﻮﻥ ﻓﻠﻘﺪ اﺳﺘﺮﺟﻌﺖ اﻟﻮﺩﻳﻌﺔ ﻭﺃﺧﺬﺕ اﻟﺮﻫﻴﻨﺔ ﺃﻣﺎ ﺣﺰﻧﻲ ﻓﺴﺮﻣﺪ, ﻭﺃﻣﺎ ﻟﻴﻠﻲ ﻓﻤﺴﻬﺪ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻳﺨﺘﺎﺭ اﻟﻠﻪ ﻟﻲ ﺩاﺭﻙ اﻟﺘﻲ ﺃﻧﺖ ﺑﻬﺎ ﻣﻘﻴﻢ ﻭﺳﺘﻨﺒﺌﻚ اﺑﻨﺘﻚ ﺑﺘﻀﺎﻓﺮ ﺃﻣﺘﻚ ﻋﻠﻰ ﻫﻀﻤﻬﺎ ﻓﺄﺣﻔﻬﺎ اﻟﺴﺆاﻝ ﻭاﺳﺘﺨﺒﺮﻫﺎ اﻟﺤﺎﻝ ﻫﺬا ﻭﻟﻢ ﻳﻄﻞ اﻟﻌﻬﺪ ﻭﻟﻢ ﻳﺨﻞ ﻣﻨﻚ اﻟﺬﻛﺮ ﻭاﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻴﻜﻤﺎ ﺳﻼﻡ ﻣﻮﺩﻉ ﻻ ﻗﺎﻝ ﻭﻻ ﺳﺌﻢ ﻓﺈﻥ ﺃﻧﺼﺮﻑ ﻓﻼ ﻋﻦ ﻣﻼﻟﺔ ﻭﺇﻥ ﺃﻗﻢ ﻓﻼ ﻋﻦ ﺳﻮء ﻇﻦ ﺑﻤﺎ ﻭﻋﺪ اﻟﻠﻪ اﻟﺼﺎﺑﺮﻳﻦ".
ثم كان يزور قبر النبي الكريم اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ وقبر بضعته الكريمة كل أسبوع وينشد هذين البيتين:
ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﺃﺷﻜﻮ ﻻ ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺎﺱ ﺇﻧﻨﻲ ***ﺃﺭﻯ اﻷﺭﺽ ﺗﺒﻘﻰ ﻭاﻷﺧﻼء ﺗﺬﻫﺐ
ﺃﺧﻼﻱ ﻟﻮ ﻏﻴﺮ اﻟﺤﻤﺎﻡ ﺃﺻﺎﺑﻜﻢ*** ﻋﺘﺒﺖ ﻭﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻮﺕ ﻣﻌﺘﺐ
فصلوات الله عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث يوم الدين
تظل البشرية تهوي نحو عظمائها, وتتطلع أعناقها إلى سمائهم, مستلهمة منهم ومن تاريخهم الدروس والعبر؛ لتجعلها قوارب نجاة في خضم غطمطم الحياة المليء بالأعاصير والمخاطر, ومن هنا يكون حديثنا عن الإمام الحسين عليهم السلام كمُلْهم للفضيلة, ودالٍّ على الخير, ونموذج فذٍّ في الحياة الكريمة.
وإنه لمن أبواب الخير, وأسباب الهداية أن نحلق في سماء حُفَّت بعبق الوحي, واتشحت بمعاني النبوة, وترعرعت في بحبوحة الطهر والكمال, وشهد بتطهيرها التنزيل, وأثنى عليها الملك الجليل.
نسبه الشريف
هو سبط رسول الله وريحانته الحسينُ بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، يكنى بأبي عبدالله، وأمه فاطمة الزهراء، فهو اﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﻤﺼﻄﻔﻰ، ﻭﺧﺎﻣﺲ ﺃﻫﻞ اﻟﻜﺴﺎء.
مولده عليه السلام
إلى رعاية الرسول الأكرم, وعلى دفء النبوة, وحنايا الوحي, يفد ضيف جديد, تتلقفه الأيدي بشغف كبير, كان الكل ينظر إليه, الكل تحوط به الغبطة وينتشله السرور, وفي هذا الجو المفعم بالسعادة كانت عينا جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تخفي خلفها خبراً آخر ونبأ محزناً, إنها الشهادة المنتظرة, ومن الصعب جداً أن تعزى في مولودك, فعن أم الفضل بنت الحارث، أنها دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول اللّه إني رأيت الليلة حلماً منكراً على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري، قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((خيراً رأيت, تلد فاطمة ولداً يكون في حجرك)).. فولدت فاطمة الحسين بن علي كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم, فدخلت به يوماً فوضعته في حجره ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يهرقان الدموع, فقلت: بأبي وأمي يا رسول اللّه مالك؟ قال: ((أتاني جبريل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا - فقلت: هذا؟! - قال: نعم, وأتاني بتربة من تربته حمراء)).
ولد الإمام الحسين عليه السلام في الخامس من شهر شعبان سنة أربع من الهجرة، وكان العلوق به بعد ولادة أخيه الحسن عليه السلام بخمسين يوماً، فأذنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أذنه، ﻭأسماه ﺣﺴﻴﻨﺎً، ﻭﺃﻣﺮ ﺑﺄﻥ ﻳﺤﻠﻖ ﺷﻌﺮﻩ ﻓﻲ اﻟﻴﻮﻡ اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻭﻳﺘﺼﺪﻕ ﺑﻮﺯﻧﻪ ﻓﻀﺔ، ﻭﻋﻖَّ ﻋﻨﻪ ﻛﺒﺸﺎ.
وروي أن فاطمة عليها السلام لما ولدت الحسن، قالت لعلي: سمه. قال علي عليه السلام: وكنت رجلاً أحب الحرب، فأحببت أن أسميه حرباً، ثم قلت: ما كنت لأسبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باسمه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: سمه، فقال: ((ما كنت لأسبق ربي عزَّ وجلَّ)) فأوحى الله إلى جبريل أنه ولد لمحمد ابن فاهبط وأقرئه السلام، وهنئه، وقل له: ((إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون))، فهبط جبريل عليه السلام فهنَّأه من الله تعالى، ثم قال: إن الله يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون، فقال: وما كان اسمه؟ قال: شبر، قال: لساني عربي. قال: فسمه الحسن؛ فسماه الحسن، فلما ولد الحسين أوحى الله إلى جبريل: قد ولد لمحمد ابنٌ فاهبط وهنئه، وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون؛ فلما نزل وهنأه وبلغه الرسالة. قال: وما كان اسم ابن هارون؟ فقال: شبير. قال: لساني عربي. قال: فسمه الحسين. قال: فسماه الحسين.
صفته عليه السلام
كان الإمام الحسين عليه السلام يُشبَّه بجده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من سُرته إلى قدميه، وكان شديد البياض، روي أنه كان إذا قعد في موضع فيه ظلمة يُهتدى إليه لبياض جبينه ونحره, وقد وصفه بعض أصحابه الذين استشهدوا معه يوم الطف، قائلاً:
لَهُ طَلعةٌ مِثل شَمس الضّحى *** لَهُ غرَّة مِثل بَدرٍ مُنير
وحينما عُرِض الرأس الشريف على يزيد بن معاوية ذُهِلَ من جمال هيبته، وطفق يقول: ما رأيتُ وجهاً قط أحسن مِنه!!
كان الإمام الحسين سليل النبوة في دين وزهد وعمل وتقوى, وهو من الخمسة التي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً, وقد حج الإمام الحسين بن علي 25 حجة ماشياً.
كما ﻋُﺮﻑ الإمام الحسين بن علي عليه السلام ﺑﺎﻟﻔﺼﺎﺣﺔ ﻭاﻟﻮﻓﺎء ﻭاﻟﻜﺮﻡ ﻭاﻟﺸﺠﺎﻋﺔ وجليل الصفات وكريم المزايا ﻣﻦ ﺻﺒﺎﻩ، وقد أوتي ملكة الخطابة وحسن البيان وطلاقة اللسان ومن كلامه المرتجل قوله في توديع أبي ذر وقد أخرجه عثمان من المدينة بعد أن أخرجه معاوية من الشام: "يا عماه! إن الله قادر على أن يغير ما قد ترى, والله كل يوم في شأن, وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك, وما أغناك عمَّا منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم! فاسأل الله الصبر والنصر, واستعذْ به من الجشع والجزع, فإن الصبر من الدين والكرم, وإن الجشع لا يقدم رزقاً والجزع لا يؤخر أجلاً".
وجاءت الروايات بقوله الشعر في أغراض الحكمة وبعض المناسبات ومن ذلك هذه الأبيات:
اغنَ عن المخلوق بالخالقِ
تغن عن الكاذب والصادقِ
واسترزق الرحمن من فضله
فليس غير الله من رازق
من ظن أن الناس يغنونه
فليس بالرحمن بالواثق
ومنه هذان البيتان في زوجته وابنته:
لعمرك إنني لأحب داراً
تكون بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل كل مالي
وليس لعاتب عندي عتابُ
وكان ﻳﻌﺎﻣﻞ اﻟﻨﺎﺱ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ نبوية، ويتخلق معهم بأخلاق القرآن, ﻭﻳﺒﺼﺮﻫﻢ بشؤوﻥ ﺩﻳﻨﻬﻢ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻮاﺟﻬﻬﻢ ﺑﺘﺨﻄﺌﺔ، فمن ﺁﺩاﺑﻪ ﻭﺁﺩاﺏ ﺃﺧﻴﻪ اﻟﺤﺴﻦ عليهما السلام ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺃﻧﻬﻤﺎ ﺭﺃﻳﺎ ﺃﻋﺮاﺑﻴﺎً ﻳﺨﻔﻒ اﻟﻮﺿﻮء ﻭاﻟﺼﻼﺓ، ﻓﻠﻢ ﻳﺸﺎءا ﺃﻥ ﻳﺠﺒﻬﺎﻩ ﺑﻐﻠﻄﻪ، ﻭﻗﺎﻻ ﻟﻪ: ((ﻧﺤﻦ ﺷﺎﺑﺎﻥ ﻭﺃﻧﺖ ﺷﻴﺦ ﺭﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮﻥ ﺃﻋﻠﻢ ﺑﺄﻣﺮ اﻟﻮﺿﻮء ﻭاﻟﺼﻼﺓ ﻣﻨﺎ، ﻓﻨﺘﻮﺿﺄ ﻭﻧﺼﻠﻲ ﻋﻨﺪﻙ، ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻥ ﻋﻨﺪﻧﺎ ﻗﺼﻮﺭ ﺗﻌﻠﻤﻨﺎ)) ﻓﺘﻨﺒﻪ اﻟﺸﻴﺦ ﺇﻟﻰ ﻏﻠﻄﻪ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﺄﻧﻒ ﻣﻦ ﺗﻨﺒﻴﻬﻬﻤﺎ ﺇﻟﻴﻪ.
وقد منحه الرسول الأكرم جرأته وجوده فقد روي عن زينب بنت أبي رافع، عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّها أتت بالحسن والحسين إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله في شكواه الذي توفّي فيه، فقالت: يا رسول الله هذان ابناك فورِّثهما شيئاً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أمّا الحسن فله هيبتي وسؤددي، وأما حسين فله جرأتي وجودي)).
ولقد كان مع قربه من الناس وكرم أخلاقه في تعامله معهم عظيم المهابة في أعينهم عرفه بذلك وليه وعدوه فهذا معاوية بن أبي سفيان يصفه لأحد من قريش: إذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير, فتلك حلقة أبي عبدالله مؤتزراً إلى أنصاف ساقيه.
ﺃﻭﻻﺩﻩ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ
له من البنين:
1- ﻋﻠﻲ اﻷﻛﺒﺮ وعقب الحسين من ذريته وهو زين العابدين على قول الطالبيين ولكن بعض أهل النسب يقول أن زين العابدين إنما هو علي الأصغر ومنه العقب أما الأكبر فلم يعقب واستشهد مع أبيه في كربلاء على حد زعمهم, وعلى كلا الحالين فللحسين ولدان سمَّى كل واحد منهما علياً أحدهما استشهد في كربلاء والآخر وهو زين العابدين تعمر بعد أبيه وأعقب ثم وقع الخلاف بعد ذلك من الذي استشهد في كربلاء هل هو الأصغر أم الأكبر على ما أوضحناه.
2- ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ، ﻗﺘﻞ ﻣﻊ ﺃﺑﻴﻪ ﺑﺎﻟﻄﻒ، ﺟﺎءﺗﻪ ﻧﺸﺎﺑﺔ ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺣﺠﺮ ﺃﺑﻴﻪ ﻓﻘﺘﻠﺘﻪ، ﻭأم علي وعبدالله ﻭاﺣﺪﺓ وهي ﺑﺎﺑﻮﻳﻪ ﺑﻨﺖ ﻳﺰﺩﺟﺮﺩ ﺑﻦ ﺷﻬﺮﻳﺎﺭ..
3- ﻋﻠﻲ اﻷﺻﻐﺮ، ﻭﺃﻣﻪ ﻟﻴﻠﻰ ﺑﻨﺖ ﺃﺑﻲ ﻣﺮﺓ ﺑﻦ ﻋﺮﻭﺓ ﺑﻦ ﻣﺴﻌﻮﺩ اﻟﺜﻘﻔﻴﺔ وقتل مع أبيه في كربلاء على ما حكاه المولى مجدالدين المؤيدي في التحف, ويلاحظ هنا الخلاف السابق.
4- ﺟﻌﻔﺮ ﺩﺭﺝ ﺻﻐﻴﺮاً، ﻭﺃﻣﻪ ﺑﻠﻮﻳﺔ ﻣﻦ ﺑﻠﻲ ﺑﻦ ﻗﻀﺎﻋﺔ.
ﻭﺫﻛﺮ ﺑﻌﺾ ﺃﻫﻞ اﻟﻨﺴﺐ: ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ، ﻭﻣﺤﻤﺪاً.
ﻭاﻟﻌﻘﺐ ﻣﻦ ﻭﻟﺪ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻟﻮاﺣﺪ، ﻭﻫﻮ: ﻋﻠﻲ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻴﻦ اﻷﻛﺒﺮ ﻓﻲ ﻗﻮﻝ اﻟﻄﺎﻟﺒﻴﺔ، ﻭاﻷﺻﻐﺮ ﻓﻲ ﻗﻮﻝ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﻨﺴﺐ.
ﻭله ﻣﻦ اﻟﺒﻨﺎﺕ:
1- ﻓﺎﻃﻤﺔ ﻭﺃﻣﻬﺎ ﺃﻡ ﺇﺳﺤﺎﻕ ﺑﻨﺖ ﻃﻠﺤﺔ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ اﻟﻠﻪ.
2- ﺳﻜﻴﻨﺔ ﻭﺃﻣﻬﺎ اﻟﺮﺑﺎﺏ اﺑﻨﺔ اﻣﺮء اﻟﻘﻴﺲ ﺑﻦ ﻋﺪﻱ ﺑﻦ ﺃﻭﺱ.
الحسين (ع) في القرآن
لم يترك القرآن الكريم ذكر الأولياء والصالحين، فضلاً عن ذكر أبناء النبيين، وخلاصته المصطفين، ومن هنا فلا بد أن يكون للإمام الحسين عليه السلام مقامه في هذا الكتاب العظيم، ومن ذلك:
أنه ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في آية المباهلة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} ]آل عمران/ 61]
فقد ذَكَرَت الرواياتُ الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اصطحب الحسين يوم المباهلة مع أخيه الحسن وأبيه علي وأمّه فاطمة عليهم السلام، ولم يصطحب غيرهم.
وهو أيضاً من جملة الذين أذهب الله عنهم الرجس حين قال تعالى: }إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا{ ]الأحزاب/ 33]، فقد روي عن أمّ سلمة وبطرق عديدة أنّها قالت: لمّا نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّاً, وفاطمة, وحسناً, وحسيناً, فجلّل عليهم كساءً خيبرياً، فقال: ((اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً))، وفيها إعلان سماوي عن طهارتهم وعصمتهم عليهم السلام.
وهو من المبشرين بالجنة بقوله تعالى: }وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا{، وقصة إطعامهم للمسكين واليتيم والأسير، وإيثارهم لهم على أنفسهم مشهورة.
وإذا كان الإمام الحسين عليه السلام أبا الشهداء, فلا شك أن ما من آية تتحدث عن الشهداء عموماً إلا وهو أميرها ومقصودها.
الحسين (ع) في السنة
إذا كان القرآن الكريم لم يترك ذكر الإمام الحسين عليه السلام، فبالأحرى أن تمتلئ السنة الشريفة بذكره، وذكر فضائله ومناقبه، ومن أشهر الأحاديث الواردة فيه عليه السلام:
قول جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: ((حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً حسين سبط من الأسباط)).]الأمالي الإثنينية ج1/ ص534، المعجم الكبير ج3/ ص57، مسند أحمد ج4/ ص172]
وقوله صلى الله عليه و آله وسلم في الحسنين: ((مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي)).]مسند أحمد, ج2/ ص288، المستدرك, ج3/ ص187، الإمام المنصور بالله، الشافي ج1/ ص110]
وفيه وفي أخيه الحسن عليهما السلام يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)).]الإمام المنصور بالله، الشافي, ج1/ ص339، مجموع السيد حميدان, ج1/ ص367]
وعن عبد الله بن عمران أن رسول الله صل الله عليه واله وسلم قال: ((إن الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا)).]المعجم الكبير, ج3/ ص209، الجامع الكبير للسيوطي, ج1/ ص6293، سنن الترمذي, ج5/ ص657]
وعن عمر بن الخطّاب، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: ((كلّ بني أنثى فإنّ عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإنّي أنا عصبتهم وأنا أبوهم)).]الشافي للإمام المنصور, ج2/ ص8، مجموع كتب ورسائل الإمام الهادي, ج1/ ص97، المعجم الكبير للطبراني, ج3/ ص73، الجامع الكبير للسيوطي, ج1/ ص15817]
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة)).[الأمالي الإثنينية, ج1/ ص488، صحيفة الرضا, ج1/ ص158، مسند الإمام زيد, ج1/ ص462، المعجم الكبير, ج3/ ص61]
عن جابر بن عبدالله: ((مَن سرَّه أنْ ينظُرَ إلى رجُلٍ مِن أهلِ الجنَّةِ فلْينظُرْ إلى الحُسَيْنِ بنِ علِيٍّ فإنِّي سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يقولُه)). [ابن حبان، صحيح ابن حبان,ج15/ ص421, برقم 6966 ـ الذهبي، ميزان الاعتدال, ج2/ص40]
نشأة الإمام الحسين (ع)
نشأ الإمام الحسين عليه السلام في بيت النبوة والطهارة، ومسقط الوحي والرسالة، فتربى في حجر جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وبين يدي أبيه علي المرتضى وأمه فاطمة الزهراء عليهم السلام، فنهل من معينهم الصافي، حتى عانقته الفضيلة، ومازجته مكارم الأخلاق.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير الاهتمام بالحسين وبأخيه الحسن عليهما السلام، يدعوهما بابنيه، ويؤذيه أن ينالهما شيء، قال يزيد بن أبي زياد: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيت عائشة، فمر على بيت فاطمة فسمع حسيناً يبكي، فقال: ((ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني)).
ومن محبة النبي للإمام الحسين وشفقته عليه أن يؤذيه شيء أن الحسين كان يأتي ورسول الله ساجد فيركب على عنقه فيطيل رسول الله السجود حتى لا يعجله, فعن عبدالله بن شداد: سجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صلاة فجاء الحسن أو الحسين [قال مهدي: وأكبر ظني أنه الحسين] فركب عنقه وهو ساجد فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر فلمَّا قضى صلاته قالوا له فقال إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحملهما على عاتقه، فقال له أحدهم: نعم الفرس تحتكما، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ونعم الفارسان هما"، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعطيهما الكثير من وقته، ويلاعبهما، ويظهر الكثير من حبه لهما.
عن محمد الباقر بن علي بن الحسين: اصطرع الحسنُ والحسينُ عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولُ: هي حَسَنُ! فقالت له فاطمةُ: يا رسولَ اللهِ، تُعينُ الحسَنَ كأنَّه أحَبُّ إليك من الحُسَينِ؟! قال: إنَّ جبريل يُعينُ الحُسَين، وإني أحِبُّ أن أُعينَ الحَسَن
وقد جاء عن علي بن مرة أنه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعينا إلى طعام، فإذا الحسين يلعب في الطريق، فأسرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمام القوم، ثم بسط يديه فجعل الحسين يفر مرة ههنا، ومرة ههنا، يضاحكه حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه، والأخرى بين رأسه وأذنيه، ثم اعتنقه فقبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حسين مني وأنا منه، أحب الله من أحبه، الحسن والحسين سبطان من الأسباط)).
وكان الله يحبيهما بعنايته ويكلأهما برعايته, فقد أكرمهما الله وهو في ظل جده المصطفى بكرامات عدة فقد روى أبو هريرة أنه كان الحسين عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكان يحبه حبا شديدا فقال: أذهب إلى أبي؟ [وفي حديث البغوي إلى أمي] فقلت: أذهب معه؟ قال [أبو هريرة]: فجاءت برقة من السماء فمشى في ضوئها حتى بلغ [زاد البغوي إلى أمه].
وفي رواية أخرى عنه كنا نُصلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم العشاءَ فكان إذا سجد وثبَ الحسينُ والحسنُ على ظهرِه فإذا رفع رأسَه أخذَهما ووضعَهما وضعًا رفيقًا فإذا عاد عادَا حتى إذا قضى صلاتَه قال فوضع واحدًا هاهنا وواحدًا هاهنا على فخِذِه فقمتُ إليه فقلتُ يا رسولَ اللهِ ألا أذهبُ إلى أُمهِما قال لا فَبَرقَتْ برقةٌ فقال الحقَا بأمِّكُما فلم يزالا في ضوئِها حتى دخلا.
وبعد موت جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم تلبث أن لحقته أمه فاطمة عليها السلام، فعاش في ظل والده الإمام علي عليه السلام.
بعض الأخبار الواردة في استشهاده (ع)
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يشير إلى ما سيحدث على أهل بيته عليهم السلام من الأثرة، وما سيعانونه من بعده، وخصوصاً الإمام الحسين عليه السلام لعظم الفاجعة به، وهول المصيبة، ومن ذلك:
ما روي أن ﺟﺒﺮﻳﻞ عليه السلام أخبر ﺭﺳﻮﻝَ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺑﻤﺎ ﺳﻴﺼﻴﺐ اﻟﺤﺴﻴﻦ (ع) ﺑﻌﺪﻩ، ﻭﺃﻥ ﺃﻣﺘﻪ ﺳﺘﻘﺘﻠﻪ ﺑﻌﺪﻩ ﻓﻲ ﻛﺮﺑﻼء، ﻓﻜﺎﻥ ﻳﺒﻜﻲ ﺑﻜﺎء ﺷﺪﻳﺪاً، وﻳﻠﺜﻢ ﺛﻐﺮ اﻟﺤﺴﻴﻦ عليه السلام، ﻭﻳﻘﺒﻠﻪ، ﻭﻳﻘﻮﻝ: ((ﺣﺴﻴﻦ ﻣﻨﻲ ﻭﺃﻧﺎ ﻣﻦ ﺣﺴﻴﻦ، ﺃﺣﺐ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺃﺣﺐ ﺣﺴﻴﻨﺎ، ﺣﺴﻴﻦ ﺳﺒﻂ ﻣﻦ اﻷﺳﺒﺎﻁ )).
وروي عن اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ: ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺧﺮﺝ ﻣﺴﺎﻓﺮاً ﻣﻦ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﻓﻠﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺑﺤﺮﺓ، ﻭﻗﻒ ﻭاﺳﺘﺮﺟﻊ، ﺃﻱ ﻗﺎﻝ: ﺇﻧﺎ ﻟﻠﻪ ﻭﺇﻧﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﺭاﺟﻌﻮﻥ، ﺛﻢ ﻣﺮ، ﺛﻢ ﻭﻗﻒ ﻭاﺳﺘﺮﺟﻊ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻷﻭﻝ ﻭﺑﻜﻰ، ﻭﻗﺎﻝ: ﻫﺬا ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻳﺨﺒﺮﻧﻲ ﺃﻧﻬﺎ ﺃﺭﺽ ﻛﺮﺏ ﻭﺑﻼء ﻳﻘﺘﻞ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺳﺨﻴﻠﺘﻲ ﻭﻓﺮﺥ ﻓﺮﺧﺘﻲ، ﻭﺃﺗﺎﻧﻲ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺘﺮﺑﺔ ﺣﻤﺮاء، ﺛﻢ ﺩﻓﻌﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﻋﻠﻲ عليه السلام، ﻭﻗﺎﻝ: ﺇﺫا ﻏﻠﺖ ﻭﺳﺎﻟﺖ ﺩﻣﺎً ﻋﺒﻴﻄﺎ ﻓﻘﺪ ﻗﺘﻞ اﻟﺤﺴﻴﻦ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ ﻭﻣﺪ ﻳﺪﻩ: ﻳﺰﻳﺪ ﻻ ﺑﺎﺭﻙ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﻳﺰﻳﺪ، ﻛﺄﻧﻲ ﺃﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﺼﺮﻋﻪ ﻭﻣﺪﻓﻨﻪ.
ﻗﺎﻝ ﻭﺩﻓﻊ ﻋﻠﻲ عليه السلام اﻟﺘﺮﺑﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ، ﻓﺸﺪﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﻃﺮﻑ ﺛﻮﺑﻬﺎ، ﻓﻠﻤﺎ ﻗﺘﻞ اﻟﺤﺴﻴﻦ عليه السلام، ﺇﺫا ﺑﻬﺎ ﺗﺴﻴﻞ ﺩﻣﺎً ﻋﺒﻴﻄﺎً، ﻓﻘﺎﻟﺖ ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ: اﻟﻴﻮﻡ ﺃﻓﺸﻲ ﺳﺮ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ.
و اخبار جبريل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مروية في كتب المسلمين عامة باختلاف مذاهبهم ومن تلك الروايات عن سعيد بن جمهان: أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أتاهُ جبريلُ بترابٍ من ترابِ القريةِ الَّتي يُقتلُ فيها الحسينُ وقيلَ لَهُ اسمُها كربلاءُ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم كربٌ وبلاءٌ
عن أنس بن مالك استأذَن مَلِكُ القَطْرِ ربَّه أنْ يزُورَ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فأذِن له فكان في يومِ أمِّ سلَمةَ فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: (احفَظي علينا البابَ لا يدخُلْ علينا أحَدٌ) فبَيْنا هي على البابِ إذ جاء الحُسَينُ بنُ علِيٍّ فظفِر فاقتحَم ففتَح البابَ فدخَل فجعَل يتوثَّبُ على ظَهرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وجعَل النَّبيُّ يتلثَّمُه ويُقبِّلُه فقال له الملَكُ: أتُحِبُّه؟ قال: (نَعم) قال: أمَا إنَّ أمَّتَك ستقتُلُه إنْ شِئْتَ أرَيْتُك المكانَ الَّذي يُقتَلُ فيه؟ قال: (نَعم) فقبَض قَبضةً مِن المكانِ الَّذي يُقتَلُ فيه فأراه إيَّاه فجاءه بسَهلةٍ أو تُرابٍ أحمَرَ فأخَذَتْه أمُّ سلَمةَ فجعَلَتْه في ثوبِها قال ثابتٌ: كنَّا نقولُ: إنَّها كَرْبَلاءُ
ولا زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تلك الحال، يبين للأمة عظيم منزلة الحسنين عليهما السلام، ويكرر على مسامعها الإشادة بفضلهما وتكريمهما، ويربط حبه بحبهما؛ لدورهما العظيم في هداية الأمة من بعده، ورجاء منه أن تنهض هذه الأمة للذب عنهما وعن أهل البيت عليهم السلام، وقد استمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك حتى آخر لحظة من حياته، فإنه لما ﺛﻘﻞ ﻓﻲ ﻣﺮﺿﻪ، ﻭاﻟﺒﻴﺖ ﻏﺎﺹ ﺑﻤﻦ ﻓﻴﻪ، ﻗﺎﻝ: "اﺩﻋﻮا ﻟﻲ اﻟﺤﺴﻦ ﻭاﻟﺤﺴﻴﻦ" ﻗﺎﻝ: ﻓﺠﻌﻞ ﻳﻠﺜﻤﻬﻤﺎ ﺣﺘﻰ ﺃﻏﻤﻲ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﺠﻌﻞ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻳﺮﻓﻌﻬﻤﺎ ﻋﻦ وجهه ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ: ﻓﻔﺘﺢ النبي ﻋﻴﻨﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: "ﺩﻋﻬﻤﺎ ﻳﺘﻤﺘﻌﺎﻥ ﻣﻨﻲ ﻭﺃﺗﻤﺘﻊ ﻣﻨﻬﻤﺎ، ﻓﺈﻧﻪ ﺳﻴﺼﻴﺒﻬﻤﺎ ﺑﻌﺪﻱ ﺃﺛﺮﺓ"، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: "ﺃﻳﻬﺎ اﻟﻨﺎﺱ، ﺇﻧﻲ ﺧﻠﻔﺖ ﻓﻴﻜﻢ ﻛﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﻭﺳﻨﺘﻲ ﻭﻋﺘﺮﺗﻲ ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ، ﻓﺎﻟﻤﻀﻴﻊ ﻟﻜﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﻛﺎﻟﻤﻀﻴﻊ ﻟﺴﻨﺘﻲ، ﻭاﻟﻤﻀﻴﻊ ﻟﺴﻨﺘﻲ ﻛﺎﻟﻤﻀﻴﻊ ﻟﻌﺘﺮﺗﻲ، ﺃﻣﺎ ﺇﻥ ﺫﻟﻚ ﻟﻦ ﻳﻔﺘﺮﻗﺎ ﺣﺘﻰ اﻟﻠﻘﺎء ﻋﻠﻰ اﻟﺤﻮﺽ".
ﻭﺭﻭﻯ ﺃﺑﻮ اﻟﻌﺒﺎﺱ اﻟﺤﺴﻨﻲ ﻳﺮﻓﻌﻪ ﺇﻟﻰ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﻗﺎﻝ: اﺷﺘﺪ ﺑﺮﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻣﺮﺿﻪ اﻟﺬﻱ ﻣﺎﺕ ﻣﻨﻪ، ﻓﺤﻀﺮﺗُﻪ ﻭﻗﺪ ﺿَﻢَّ اﻟﺤﺴﻴﻦ عليه السلام ﺇﻟﻰ ﺻﺪﺭﻩ، فيسيل ﻣﻦ ﻋﺮﻓﻪ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻫﻮ ﻳﺠﻮﺩ ﺑﻨﻔﺴﻪ، ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ: ((ﻣﺎﻟﻲ ﻭﻟﻴﺰﻳﺪ ﻻ ﺑﺎﺭﻙ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﻳﺰﻳﺪ اﻟﻠﻬﻢ اﻟﻌﻦ ﻳﺰﻳﺪ))، ﺛﻢ ﻏﺸﻲ ﻃﻮﻳﻼً ﻭﺃﻓﺎﻕ، ﻓﺠﻌﻞ ﻳﻘﺒﻞ اﻟﺤﺴﻴﻦ عليه السلام، ﻭﻋﻴﻨﺎﻩ ﺗﺬﺭﻓﺎﻥ، ﻭﻳﻘﻮﻝ: ((ﺃﻣﺎ ﺇﻥ ﻟﻲ ﻭﻟﻘﺎﺗﻠﻚ ﻣﻘﺎﻣﺎً ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ اﻟﻠﻪ )).
الإمام الحسين مع أبيه (سنة 11 - 40 هجرية)
أقام الإمام الحسين مع أبيه عليهما السلام ما يقارب سبعاً وثلاثين سنة، يأخذ عنه العلم ويستمع عليه أحاديث جده المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله ولقد روى أولاده وبالخصوص علي بن الحسين تلك الأحاديث, ودوَّنها أولادهم في كتبهم فمعظم أحاديث مسند الإمام زيد بن علي مروية عنه وكذلك الإمام الباقر وأولاده فقد جمع الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد الباقر مجموعة عظيمة من تلك الأحاديث في صحيفته, ومن تلك الأحاديث:
روى الإمام زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((للشهيد سبع درجاتٍ:
فأول درجاته: أن يرى منزله من الجنة قبل خروج روحه فيهون عليه ما به.
والثانية: أن تبرز له زوجةٌ من حور الجنة فتقول له: أبشر يا ولي الله فوالله ما عند الله خيرٌ لك مما عند أهلك.
والثالثة: إذا خرجت نفسه جاءه خدمه من الجنة فولوا غسله وكفنه وطيبوه من طيب الجنة.
والرابعة: أن لا يهون على مسلمٍ خروج نفسه مثل ما يهون على الشهيد.
والخامسة: أن يبعث يوم القيامة وجروحه تنبعث مسكاً فيعرف الشهداء برائحتهم يوم القيامة.
والسادسة: أنه ليس أحدٌ أقرب منزلاً من عرش الرحمن من الشهداء.
والسابعة: أن لهم كل جمعةٍ زورةً يزورون الله عز وجل فيحيون بتحية الكرامة ويتحفون بتحف الجنة ثم ينصرفون فيقال: هؤلاء زوار الرحمن))
وروى الإمام علي بن موسى الرضى، حدثنا أبي، عن أبيه، عن أبيه جعفر، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تقعد إلا إلى عالم يدعوك من الخمس إلى الخمس: من الرغبة إلى الزهد، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكبر إلى التواضع، ومن المداهنة إلى المناصحة، ومن الجهل إلى العلم )).
وروى الإمام جعفر بن محمد، عن آبائه، عن الحسين بن علي عليهم السلام قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( وإذا صليت فصلّ صلاة مودع، وإياك يا حسين وما يعتذر منه.. ))
كما سمع الإمام الحسين بن علي عن أبيه فقد سمع عن جده رسول الله من دون واسطة فعن أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن الحسين بن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أربع من علامات النفاق جمود العين، وقساوة القلب، والإصرار على الذنب، والحرص على الدنيا)) .
وقف الإمام الحسين مع أبيه في حروبه أثناء خلافته، فقد روى المؤرخون أنه كان قائد الميسرة في حرب الجمل، كما كان مع أخيه الحسن على الميمنة في معركة صفين.
وهكذا ظل ملازماً لأبيه الإمام علي عليه السلام في السلم والحرب، ينهل منه العلم والتجارب حتى آخر لحظات حياته.
الإمام الحسين مع أخيه الإمام الحسن (سنة 40 - 50 هجرية)
وبعد استشهاد الإمام علي عليه السلام كان الإمام الحسين عليه السلام مع أخيه وإمام زمانه الحسن بن علي نعم العضد والعون، فرافقه مع عسكره نحو الشام، ووقف إلى جانبه في ساحة القتال، وتجرع ما تجرعه الإمام الحسن عليه السلام من وهن الجبهة الداخلية، وشراسة الأعداء الخارجيين، وتسلل الخونة من أمراء جيشه، ولما اقترح معاوية الصلح، وعلى فرض صحة أنه راجع الحسن في مسألة الموافقة على الصلح، فلعل ذلك كان منه حين المشاورة، لم تبد منه فيما بعد أي معارضة على مسألة الصلح، سيما بعد أن أوضح له الامام الحسن الأسباب الداعية لذلك، وكيف له أن يبديَ أي معارضة؟! وهو يعلم أن إمام زمانه هو الحسن عليه السلام، وللإمام أن يرى ما هو الأصلح للأمة، فيقوم به، وبعد الصلح عاد مع أخيه الإمام الحسن إلى المدينة ليقيم هناك، وبقي حتى واراه الثرى بعد أن دس إليه معاوية السم.
ويروى أنه في وداع أخيه الحسن عليه السلام قام ناعياً، فقال: (رحمك الله، أبا محمد، إن كنت لتناصر الحق عند مظانّه، وتؤثر الله عند مداحض الباطل وفي مواطن التقية بحسن الرويّة، وتستشفّ جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة، وتقبض عنها يداً طاهرة، وتردع ما رده أعداؤك بأيسر المؤونة عليك، وأنت ابن سلالة النبوة، ورضيع لبان الحكمة، وإلى روح وريحان، وجنة نعيم، أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عليه).
ﻭﻟﻠﺤﺴﻴﻦ أيضا ﺃﺑﻴﺎﺕٌ ﻓﻴﻪ ﻳﺮﺛﻴﻪ ﺑﻬﺎ:
أأدهن رأسي أم تطيب مجالسي
وخدك معفور وأنت سليب
أم استمتع الدنيا بشيء أحبه
ألا كلما يدني إليك حبيب
أم أشرب ماء المزن أم غير مائه
وما لدموعي في الإناء غروب
فلا زلت أبكي ما تغنت حمامة
عليك وما هبت صبا وجنوب
وما قطرت عيني من الماء قطرة
وما اخضرَّ في دوح الحجاز قضيب
وليس حريباً من أصيب بماله
ولكن من وارى أخاه حريب
بكائي طويل والدموع غزيرة
وأنت بعيد والمزار قريب
ولما مضى عني أخي ذقت حرقة
له لم يذقنيها سواه غريب
دور الإمام الحسين الإصلاحي في الأمة
بعد وفاة الإمام الحسن عليه السلام اجتمع أنصاره، ومعهم بنو جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي ـ وأم جعدة هي أم هانئ بنت أبي طالب ـ في دار سليمان بن صرد، فكتبوا إلى الحسين عليه السلام كتاباً بالتعزية، وقالوا في كتابهم: "إن الله قد جعل فيك أعظم الخلف ممن مضى، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، المنتظرة لأمرك".
وكتب إليه بنو جعدة يخبرونه "بحسن رأي أهل الكوفة فيه، وحبهم لقدومه وتطلعهم إليه، وأنهم قد وجدوا من أنصاره وإخوانه من يرضى هديه، ويطمأن إلى قوله، ويعرف نجدته وبأسه، فأفضوا إليهم ما هم عليه من شنآن ابن أبي سفيان، والبراءة منه، ويسألونه الكتاب إليهم برأيه"، فكتب الحسين عليه السلام إليهم: "إني لأرجو أن يكون رأي أخي - رحمه الله - في الموادعة، ورأيي في جهاد الظلمة رشداً وسداداً، فالصقوا بالأرض، واخفوا الشخص، واكتموا الهوى، واحترسوا من الظنة ما دام ابن هند حياً، فإن يحدث به حدث وأنا حي يأتكم رأيي إن شاء الله".
ومع تتابع هذه الدعوات والعروض التي قدمت للإمام الحسين (ع) إلا أنه ظل ملتزماً بالصلح الذي كان بين أخيه الإمام الحسن (ع) وبين معاوية، وفي نفس الوقت، وبسبب الثقافات الحالقة للدين، التي سعى معاوية لنشرها بين المسلمين، كتشويهه لصورة أهل البيت عليهم السلام، ونشره للمذاهب الباطلة المنكرة كالجبر والإرجاء، مستعيناً بعلماء السوء وفتاواهم الضالة، وتوظيف وُضَّاع يضعون الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من أجل ذلك لم يكن للإمام الحسين عليه السلام بداً من مواجهة هذا التحريف والتزييف، فكان له عليه السلام عدة تحركات في هذا الصدد، منها أنه كان له حلقة مشهورة في المسجد النبوي؛ لتعليم الناس وإرشادهم، وتنبيههم لأيِّ تحريف في الدين.
كذلك كان له العديد من الرسائل والخطب في تلك الفترة، كما نقل التأريخ الكثير من النقد اللاذع الذي وجهه لمعاوية بسبب ما بدر منه من تجاوزات، كما كان عليه السلام دائم التواصل مع الناس، تغشاه العديد من الوفود والوجاهات؛ ليوجههم وينبههم على تلك الانحرافات الفكرية.
رفض الإمام الحسين بيعة يزيد
قد كان معاوية ولا ريب ينوي أن يجعلها دولة أموية متعاقبة في ذريته منذ تصدى للخلافة, إلا أنه كان يتردد ويتكتم ولا يفضي بنيته إلى أقرب المقربين إليه, ثم كبرت سنه وخاف أن يعجل عن قصده, فبدأ في التمهيد لبيعة يزيد, وأن تكون البيعة في حياته؛ لأن يزيد الطائش الفاسق لن تتم له بيعة إلا بالحيلة والمكر وتحت إشراف أبيه معاوية مهندس نكسات الأمة.
كان موقف الإمام الحسين واضحاً من تلك البيعة الفاجرة، وعبر في أكثر من موقف وعلى الملأ رفضها واستنكارها, فقد أنشد يوماً:
لا دعوت السوام في غسق الصبح.... مغتراً ولا دعوت يزيدا
يوم أعطي على المهابة ضيماً.... والمنايا يرصدنني أن أحيدا
وبتلك المواقف المشهودة حاول أن يوصل إلى معاوية موقفه الصارم من هذه البيعة, وحين تهيأت الفرصة للإمام الحسين أن يقف أمام معاوية أعلن وبصريح العبارة عن تلك المواقف, وأفصح عنها بأفصح بيان, فخاطبه: " تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوباً أو تنعت غائباً،... ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى اللَّه بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فواللَّه ما برحت تقدح باطلاً في جورٍ وحنقاً في ظلم حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص".
سعى معاوية جاهداً في تثبيت البيعة لولده يزيد, فاحضر كبار أهل الشام, وعرض عليهم وصيته بذلك, والتي جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما عهد «به» معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى ابنه يزيد بن معاوية: أنه قد بايعه، وعهد إليه، وجعل الأمر من بعده إليه، وسماه أمير المؤمنين، على أن يحفظ هذا الحي من قريش، ويبعد قاتل الأحبة هذا الحي من الأنصار، وأن يقدم بني أمية وبني عبد شمس على بني هاشم وغيرهم، ويطلب بدم المظلوم المذبوح أمير المؤمنين عثمان قتيل آل أبي تراب، فمن قرئ عليه هذا الكتاب وقبله وبادر إلى طاعة أميره أكرم وقرب، ومن تلكأ عليه وامتنع فضرب الرقاب.
فلما خرجوا من عنده أقبل على يزيد وقال: يا بني إني قد وطأت لك البلاد، وأذللت الرقاب وبُوئت بالأوزار، ولست أخاف عليك من هذه الأمة إلاّ أربعة نفر من قريش: فرخ أبي تراب شبيه أبيه [ويعني الإمام الحسين]، وقد عرفت عداوته وعداوة آله لنا، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
فأما عبد الرحمن بن أبي بكر فمغرى بالنساء، فإن بايعك الناس بايعك، وأما ابن عمر فما أظن أنه يقاتلك ولايصلح لها، فإن أباه كان أعرف به، وقد قال: كيف أستخلف رجلاً لم يحسن أن يطلق امرأته.
وأما الحسين بن علي فإن أهل العراق لا يدعونه حتى يخرجوه عليك, ويكفيكه الله بمن قتل أباه، وأما ابن الزبير فإن أمكنتك الفرصة فقطعه إرباً إرباً, فإنه يجثم جثوم الأسد, ويروغ روغان الثعلب.
ثم كتب معاوية إلى ابن أخيه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان والياً له على المدينة؛ يأمره بأخذ البيعة ليزيد من أهل الحجاز، وأن يدعو الحسين وبعض كبار أهل المدينة، ولا يفارقهم إلا وقد أخذ البيعة له، ومن أبى منهم قتله، وقد روي أن معاوية بعدها قرّر أن يسافر إلى المدينة؛ ليتولى بنفسه إقناع المعارضين بأخذ البيعة ليزيد إلا أن الموت حال دون ذلك، فتوفي معاوية ليلة النصف من رجب سنة ستين، قبل أن يدرك ما أمل.
وصل كتاب معاوية إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبه، وعلى إثره ورد خبر نعي معاوية وتولي يزيد للحكم، ولأن أولى اهتمامات يزيد طلب البيعة من الحسين عليه السلام، فقد أرسل مع خبر نعي والده كتاباً إلى هذا الوالي يطلب فيه أخذ البيعة من أهل المدينة، ثم أرفق الكتاب بصحيفة صغيرة فيها: خذ الحسين، وعبدالله بن عُمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً، ومن أبَى فاضرب عنقه.
عند ذلك دعا الوليدُ مروانَ بن الحكم، فاستشاره في ذلك، فقال مروان: أحضرهم الساعة قبل أن ينتشر خبر موت معاوية، فمن أبى البيعة، فاضرب عنقه.
فقال الوليد: والله لا أفعل، أأقتل الحسين؟!
طلب والي المدينة الإمام الحسين للحضور
وفي منتصف تلك الليلة دعا الوليد الحسين عليه السلام وابن الزبير، فقال ابن الزبير للحسين: فيمَ تراه بعث إلينا هذه الساعة؟
فقال له الإمام الحسين (ع): إني أظن أن طاغيتهم قد هلك، فيريد معاجلتنا بالبيعة ليزيد الخمور قبل أن يدعو الناس، فقد رأيت البارحة فيما يرى النائم منبر معاوية منكوساً، وداره تشتعل نيراناً.
ثم عاودهما رسول الوليد، فدخل الحسين عليه السلام منزله، فاغتسل وتطهر وصلى أربعاً وعشرين ركعة، ودعا واستخار الله، ثم أقبل نحو دار الوليد، وكان الإمام الحسين (ع) قد أمر جماعة من أهل بيته ومواليه بالمجيء معه، وأمرهم بحمل السلاح والمكوث عند الباب، فإن هم سمعوا صوته قد علا، فليدخلوا عليهم؛ ليدافعوا عنه، فدخل الإمام عليه السلام، فسلم فرد الوليد عليه، ولما استقر المجلس بالإمام الحسين عليه السلام، نعى الوليد إليه معاوية، ثم عرض عليه البيعة ليزيد، فقال عليه السلام: (مِثلِي لا يبايِعُ سراً، فإذا دعوتَ النَّاسَ إلى البيعة دعوتنا معهم فكان أمراً واحداً).
أراد الإمام الحسين عليه السلام بذلك كسب بعض الوقت، وكذلك معرفة موقف الناس عند اجتماعهم، وقد يكون أراد أيضاً استغلال ذلك الجمع؛ لتعبئتهم لرفض البيعة ليزيد.
فقال له الوليد: انصرف على اسم الله؛ حتى تأتينا مع جماعة الناس.
فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة، ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً، حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، ولكن احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه.
فلما سمع الحسين عليه السلام مروان، قال له: ويلي عليك يا ابن الزرقاء! أنت تأمر بضرب عنقي؟! كذبت والله ولؤمت، والله لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك، وإن شئت ذلك فرم ضرب عنقي إن كنت صادقاً.
ثم أقبل على الوليد، فقال: أيّها الأمير إنَّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة والبيعة.
هكذا أعلن الإمام الحسين (ع) بكل شجاعة وإباء أنه لن يخضع للظالمين، ولن يؤيد الفاسقين، ولن يرضى بهذا الانحراف الخطير عن دين الله، فكانت مسألة رفض البيعة ليزيد لا نقاش فيها عنده عليه السلام، وقد عبر عن ذلك بقوله: "لَولم يَكُن في الدنيا مَلجَأ ولا مَأوى لَمَا بَايَعتُ يَزيد".
كانت تلك الليلة هي ليلة السبت 27 رجب سنة 60 هـ، فلما أصبح خرج من منزله يستمع الأخبار، فلقيه مروان، فقال له: يا أبا عبدالله إني لك ناصح فأطعني ترشد، فقال الحسين عليه السلام: وما ذاك، قل حتى أسمع.
فقال مروان: إني آمرك ببيعة يزيد بن معاوية، فإنه خير لك في دينك ودنياك.
فقال الحسين عليه السلام: "إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براعٍ مثل يزيد", وطال الحديث بينه وبين مروان حتى انصرف عليه السلام وهو غضبان .
لم يكن الوليد مستعداً للتشديد على الحسين (ع) وقتله، فقد روي أنه قال لمروان: وبخ غيرك يا مروان، إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني، والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت حسيناً، سبحان الله! أقتل حسيناً إن قال: لا أبايع! والله إني لأظن امرأ يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة.
هذا الموقف ساعد الإمام الحسين عليه السلام للحصول على بعض الوقت؛ ليتمكن من الخروج من المدينة سالماً.
توديع الإمام الحسين (ع) لجده رسول الله
لما أراد الإمام الحسين عليه السلام الخروج من المدينة، أتى قبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فودعه وصلى ما شاء الله، فغلبته عيناه وهو على ذلك الحال، فرأى كأنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ملائكة محتوشين به، فاحتضنه وقبل بين عينه، وقال: "يا بني العجل العجل، تأتي يا بني إلى جدك وأبيك وأمك وأخيك".
فانتبه عليه السلام وأخبر أهل بيته، فما رؤي أكثر باكياً وباكية فيهم من ليلتهم تلك، ثم ودعهم، فقالوا: نحن معك حيث أخذت.
وفي تلك الأثناء دخل الإمام الحسين على أخيه محمد بن الحنفية وودعه وبكيا حتى اخضلت لحاهما، وتهيأ ابن الحنفية للخروج معه فجزاه خيراً، وأمره بالتخلف ينتظر ما يرد عليه من أمره
أسباب الثورة
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا بلغ بنو أمية أربعين اتخذوا دين الله دغلاً وعباد الله خولاً ومال الله دولاً)).
لم يكن الإمام الحسين عليه السلام ليسكت عن كل تلك التجاوزات التي يقوم بها بنو أمية؛ إذ كان الواجب الديني والإنساني يحتم عليه الوقوف في وجه الحكم الأموي الجائر الذي استحلَّ حُرُمَات الله، وخالف سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ونهب ثروات الأمة، وقد أكد الإمام الحسين عليه السلام ذلك بقوله: "ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، وأستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله".
كان لا بد له من القيام؛ ليبين البدع، ويقضي عليها، وعلى المذاهب والأفكار التي تبناها بنو أمية، ويعيد روح الإسلام الأصيل إلى جسد الأمة المثقلة، ويحمي المستضعفين منها عموماً, ومن أتباعه وأهل بيته على وجه الخصوص من بطش بني أمية، ويعيد الحق والعدل إلى نصابه، لا سيما والناس يتطلعون إلى من ينقذهم من طغيان بني أمية، وحكامهم الجائرين، ويرفع عنهم الظلم والجبروت، وقد كاتبوه وراسلوه وبايعوه وأعطوه العهود والمواثيق، وتواترت عليه الرسائل والوفود، فكانت مسؤوليته أمام الله تزداد، فلم يستجز لنفسه البقاء والسكوت مع تلك الدعوات المُلِحَّة لإنقاذهم من ظلم الأمويين وَبَغيِهِم، ولو لم يكن إلا إبلاء للعذر أمام الله وإقامة للحجة.
أهداف الثورة
لم تكن المسألة مسألة نـزاع بين الهاشميين وبني أمية، كما يصورها البعض، ولم تكن أيضاً ثورةً من أجل المال والسلطان ولا غيرهما ممّا يسعى إليه أهل الدنيا، بل كانت مسالة نزاع بين الحق والباطل، بين "الشريعة والدين" في وجه "التحريف والتزييف"، وهذا ما بينه الإمام الحسين عليه السلام حين قال: "لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك".
وعلى هذا فقد كان من أهم أهداف ثورة الإمام الحسين (ع) إحياء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتأكيد على أنهما من مُقَوِّمَات هذا الدين؛ حتى لا تموت هذه الفريضة العظيمة، وقد أوضح الإمام الحسين عليه السلام بنفسه ذلك حين قال: (أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: "من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله"، ألا وإن هؤلاء (بنو أمية) قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله).
ولقد صاغ جملة تلك الأهداف لثورته في مقولته التي حفظت في القلوب, وتجذرت في ذاكرة الثورات, وفي ضمائر الثائرين: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت أطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جَدِّي وأبي علي بن أبي طالب، فَمن قَبلَني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم، وهو خير الحاكمين".
وظلت هذه المبادئ والأهداف التي ثار من أجلها الإمام الحسين عليه السلام منهجاً تتناقله الأجيال وتقتبس منه الأحرار، كما ظلت نوراً يهتدي به رواد العدالة حتى يومنا هذا وإلى يوم القيامة.
خروج الإمام الحسين إلى مكة
خرج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة ليلاً، وهو يقرأ:} فخرج منها خائفاً يترقب{ ]القصص:21]، وذلك في ليلة الأحد 28 رجب سنة 60هـ، قاصداً مكة، ومعه من ولده وإخوته وبني أخيه وبني عمه، فوصل الإمام ومن معه إلى مكّة في الثالث من شعبان ليلة الجمعة، وهو يقرأ:} قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ{ ]القصص:22]، فنزل في منزل عمه العباس بن عبد المطلب، في شعب علي، ومكث فيها 125 يوماً.
كُتُبُ أهل الكوفة إلى الإمام الحسين
وفي مدة بقاء الإمام الحسين عليه السلام في مكة، وصلته الكتب والرسل من أشراف أهل الكوفة، أمثال سليمان بن صرد الخزاعيّ، والمسيّب بن نجيّة، وحبيب بن مظاهر، وممّا كتبوه: "فأقبل إلينا فرحاً مسروراً مأموناً مباركاً سديداً وسيِّداً أميراً مطاعاً... ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه - أي النعمان بن بشير والي الكوفة- عنّا حتّى يلحق بالشام فأقدم إلينا، فلعلّ الله عزَّ وجلَّ أن يجمعنا بك على الحقّ"، وأيضاً: "أقدم يا بن رسول الله ، فليس لنا إمام غيرك".
حمل تلك الكتب والرسائل إلى الإمام الحسين عليه السلام بعض وجهائهم، كقيس بن مسهّر الصيداويّ، فسلّموها للإمام الحسين عليه السلام، سائلين منه القدوم معهم إلى الكوفة، ولكنّه عليه السلام تأنّى في أمره، فظلت الكتب والرسل تتوافد عليه؛ يستعجلونه القدوم عليهم، ومن تلك الرسائل: "أمّا بعد، فإنّ الناس منتظرون لا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل يا بن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد اخضرّت الجنّات، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار، فاقدم إذا شئت، فإنّما تقدم إلى جندٍ لك مجنّدة".
وقد روي أن مجموع الكتب والرسائل التي وصلت الإمام الحسين عليه السلام قرابة 800 كتاب من24,000 شخص من أهل العراقين, كلها متضمنة للبيعة للإمام الحسين.
إرسال مسلم بن عقيل إلى "الكوفة"
عندما رأى الإمام الحسين عليه السلام تلك الكتب والرسل من أهل الكوفة، قال لهم: "أبعث معكم أخي وابن عمي، فإذا أخذ لي بيعتي وأتاني عنهم بمثل ما كتبوا به إلي قدمت عليهم"، فدعا مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وقال له: "اشخص إلى الكوفة، فإن رأيت منهم اجتماعاً على ما كتبوا ورأيته أمراً ترى الخروج معه، فاكتب إلي برأيك"، وبعث معه برسالة لهم يقول فيها:
"... وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد أمرته أن يكتب إليّ بحالكم ورأيكم ورأي ذوي الحجى والفضل منكم، وهو متوجّه إلى ما قبلكم إن شاء الله تعالى، والسلام ولا قوّة إلّا بالله، فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولا تخذلوه، فلعمري ليس الإمام العامل بالكتاب والعادل بالقسط كالذي يحكم بغير الحقّ ولا يهدي ولا يُهتدى".
وعندما وصل ﻣﺴﻠﻢ بن عقيل إلى اﻟﻜﻮﻓﺔ اجتمع إليه أهلها، ﻓﺒﺎﻳﻌﻮﻩ ﻭﻋﺎﻫﺪﻭﻩ ﻭﻋﺎﻗﺪﻭﻩ وأعطوه اﻟﻤﻮاﺛﻴﻖ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺼﺮﺓ ﻭاﻟﻮﻓﺎء، فكتب مسلم إلى إلى الإمام الحسين (ع) بحال أهل الكوفة، وكان ممّا جاء في الكتاب: "أمّا بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وإنّ جميع أهل الكوفة معك، وقد بايعني منهم ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين تقرأ كتابي، فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هدى، والسلام".
وفي المقابل كتب أعداء أهل البيت (ع) في الكوفة إلى يزيد بن معاوية بقدوم مسلم بن عقيل وحركته، وأخبروه أن يبعث إليها رجلاً قوياً بدلاً من النعمان بن بشير، الذي اتَّهموه بالتواطئ مع مسلم بن عقيل، فلما وصلت الكتب إلى يزيد، دعا سرجون مولى معاوية، فقال له: ما رأيك؟ فقال سرجون: ضم المصرين الكوفة والبصرة إلى عبيد الله بن زياد.
وفعلاً استجاب يزيد لمشورة سرجون، وضم ولاية الكوفة إلى ابن زياد.
قدم عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، واستطاع بمكره وخداعه أن يخمد حركة مسلم في الكوفة خلال فترة يسيرة، فقام باعتقال هانئ بن عروة وقتله، وخداع أنصاره بالدعاية والتهويل الإعلامي، والتخويف بقدوم الجيش الشامي، حتى بقي مسلم بن عقيل وحيداً في أزقة الكوفة، ومن ثم تمّ اعتقاله في اليوم التالي، وقتله، وسحبه بالحبال في أزقة الكوفة مع هانئ بن عروة.
وكان مقتل مسلم بن عقيل يوم الثلاثاء الثامن من ذي الحجة سنة 60هـ، وفي ذلك اليوم خرج الإمام الحسين عليه السلام من مكة نحو العراق.
خروج الإمام الحسين من "مكة"
عندما وردت رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (ع) تحثه على القدوم إلى الكوفة، لم يكن قد علم بالأحداث التي جرت في الكوفة بعد إرسال تلك الرسالة، فعزم على التوجه إلى العراق؛ استجابة لدعوة أهلها، واستعجل في الخروج من مكة يوم الثلاثاء الثامن من ذي الحجة سنة 60هـ، وقيل: في السابع من ذي الحجة، ولم ينتظر اكتمال شعائر الحج.
ولما أجمع الإمام الحسين عليه السلام رأيه على الخروج، جاءه ابن عباس ونهاه عن ذلك، وقال: يا ابن عم، إن أهل الكوفة قوم غدر قتلوا أباك، وخذلوا أخاك، وطعنوه وسلبوه، وسلموه إلى عدوه؛ فأبى الحسين، وعزم على المسير؛ فقال له ابن عباس: إن كرهت المقام بمكة خوفاً على نفسك فسر إلى اليمن فإن بها عزلة ولنا بها أنصار، وبها قلاع وشعاب، واكتب إلى أهل الكوفة، فإن أخرجوا أميرهم وسلموها إلى نائبك فسر إليهم، فإنك إذا سرت إليهم على هذه لم آمن عليك منهم، وإن عصيتني فأنزل أولادك وأهلك هاهنا، فوالله إني لخائف عليك أن تقتل كما قتل عثمان، ونساؤه وأهله ينظرون إليه.
كان قرار الإمام الحُسين عليه السّلام في الخروج إلى العراق لا رجعة فيه، مهما كانت التضحيات، وعندما عزم على المسير جمع أهل بيته وأنصاره وﺧﻄﺐ فيهم، ﻓﺤﻤﺪ الله ﻭﺃﺛﻨﻰ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﺇﻥ ﻫﺬﻩ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻗﺪ ﺗﻨﻜﺮﺕ ﻭﺃﺩﺑﺮ ﻣﻌﺮﻭﻓﻬﺎ، ﻓﻠﻢ ﻳﺒﻖ ﺇﻻ ﺻﺒﺎﺑﺔ ﻛﺼﺒﺎﺑﺔ اﻹناء، ﻭﺧﺴﻴﺲ ﻋﻴﺶ ﻛﺎﻟﻤﺮﻋﻰ ﺃﻻ ﺗﺮﻭﻥ ﺃﻥ اﻟﺤﻖ ﻻ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻪ، ﻭﺃﻥ اﻟﺒﺎﻃﻞ ﻻ ﻳﻨﻬﻰ ﻋﻨﻪ، ﻟﻴﺮﻏﺐ اﻟﻤﺮﺅ ﻓﻲ ﻟﻘﺎء ﺭﺑﻪ، ﻓﺈﻧﻲ ﻻ ﺃﺭﻯ اﻟﻤﻮﺕ ﺇﻻ ﺳﻌﺎﺩﺓ، ﻭاﻟﺤﻴﺎﺓ ﻣﻊ اﻟﻈﺎﻟﻤﻴﻦ ﺇﻻ ﺷﻘﺎﻭﺓ.
ﻓﻘﺎﻡَ ﺇﻟﻴﻪ ﺯﻫﻴﺮ ﺑﻦ اﻟﻘﻴﻦ اﻟﻌﺠﻠﻲ, ﻓﻘﺎﻝ: ﻗﺪ ﺳﻤﻌﺖ ﻣﻘﺎﻟﺘﻚ ﻫﺪﻳﺖ، ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺎﻗﻴﺔ ﻭﻛﻨﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺨﻠﺪﻳﻦ، ﻭﻛﺎﻥ ﻓﻲ اﻟﺨﺮﻭﺝ ﻣﻮاﺳﺎﺗﻚ ﻭﻧﺼﺮﺗﻚ، ﻻﺧﺘﺮﻧﺎ اﻟﺨﺮﻭﺝ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻌﻚ ﻋﻠﻰ اﻹﻗﺎﻣﺔ ﻓﻴﻬﺎ، ﻓﺠﺰاﻩ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﺧﻴﺮاً، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى
إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بماله
وفارق مثبوراً وحارب مجرما
فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم
كفى بك داء أن تعيش وترغما
ﺛﻢ ﻗﺮﺃ:} وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا{.
الطريق إلى "كربلاء"
استغرقت رحلة الإمام الحسين (ع) من حين خروجه من مكة إلى أن وصل كربلاء 24 يوماً تقريباً، بدءاً باليوم الثامن من شهر ذي الحجة الحرام سنة 60 هـ، وحتى اليوم الثاني من شهر محرم الحرام سنة 61هـ.
وفي طريق هذه الرحلة التقى الإمام الحسين عليه السلام بعدد من الأشخاص القادمين من الكوفة، فكان يسألهم عن أهل الكوفة، ومدى استعدادهم لنصرته، وكان ممن التقى به اﻟﻄﺮﻣﺎﺡ اﻟﻄﺎﺋﻲ اﻟﺸﺎﻋﺮ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﺧﺮﺟﺖ؟ ﻗﺎﻝ: ﻣﻦ اﻟﻜﻮﻓﺔ، ﻗﺎﻝ: ﻛﻴﻒ ﻭﺟﺪﺕ ﺃﻫﻞ اﻟﻜﻮﻓﺔ؟ ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ اﺑﻦ ﺭﺳﻮﻝ الله ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﻣﻌﻚ، ﻭﺳﻴﻮﻓﻬﻢ ﻋﻠﻴﻚ.
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﺻﺪﻗﺖ، اﻟﻨﺎﺱ ﻋﺒﻴﺪ اﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻭاﻟﺪﻳﻦ ﻟﻐﻮ ﻋﻠﻰ ﺃﻟﺴﻨﺘﻬﻢ, ﻳﺤﻮﻃﻮﻧﻪ ﻣﺎ ﺩﺭﺕ ﻣﻌﺎﺋﺸﻬﻢ ﻓﺈﺫا اﻣﺘﺤﻨﻮا ﺑﺎﻟﺒﻼء ﻗﻞ اﻟﺪﻳﺎﻧﻮﻥ.
الإمام الحسين في بستان بني عامر
ثم مضى عليه السلام مكملاً طريقه، حتى بلغ ﺑﺴﺘﺎﻥ ﺑﻨﻲ ﻋﺎﻣﺮ فلقي الفرزدق قادماً من العراق، فقال أين تريد يا بن رسول الله؟ ما أعجلك عن الموسم؟ وذلك يوم التروية، فقال: لو لم أعجل لأخذت أخذا، فأخبرني يا فرزدق الخبر؟ قال: تركت الناس قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية، فقال الإمام الحسين موضحاً أسباب خروجه: يا فرزدق إن هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين، وأنا أولى من قام بنصرة دين الله، وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، فأعرض عنه الفرزدق، وواصل الإمام الحسين عليه السلام سيره إلى الكوفة.
ويروى أن الإمام الحسين (ع)- في هذا الموضع- ﻛﺘﺐ ﺇﻟﻰ أخيه ﻣﺤﻤﺪ ﻭﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻪ، قائلاً: "ﻣﻦ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻭﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻪ ﺃﻣﺎ ﺑﻌﺪ: ﻓﺈﻧﻜﻢ ﺇﻥ ﻟﺤﻘﺘﻢ ﺑﻲ اﺳﺘﺸﻬﺪﺗﻢ، ﻭﺇﻥ ﺗﺨﻠﻔﺘﻢ ﻋﻨﻲ ﻟﻢ ﺗﻠﺤﻘﻮا اﻟﻨﺼﺮ، ﻭاﻟﺴﻼﻡ".
وبعد خروجه ﻣﻦ ﺑﺴﺘﺎﻥ ﺑﻨﻲ ﻋﺎﻣﺮ ﺑﻤﺮﺣﻠﺔ ﺃﻭ ﻣﺮﺣﻠﺘﻴﻦ ﻟﻘﻲ ﻋﺒﺪالله ﺑﻦ ﻣﻄﻴﻊ اﻟﻌﺪﻭﻱ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ: ﺃﻳﻦ ﺗﺮﻳﺪ ﻳﺎ اﺑﻦ ﺭﺳﻮﻝ الله؟ ﻗﺎﻝ: "ﺃﺭﻳﺪ اﻟﻜﻮﻓﺔ؛ ﻓﺈﻥ ﺃﻫﻠﻬﺎ ﻛﺘﺒﻮا ﺇﻟﻲ"، ﻗﺎﻝ: ﻓﺈﻧﻲ ﺃﻧﺸﺪﻙ ﻳﺎ اﺑﻦ ﺭﺳﻮﻝ الله ﺑﺎﻟﺒﻴﺖ اﻟﺤﺮاﻡ ﻭاﻟﺒﻠﺪ اﻟﺤﺮاﻡ ﻭاﻟﺸﻬﺮ اﻟﺤﺮاﻡ ﺃﻥ ﺗﻌﺮﺽ ﻧﻔﺴﻚ ﻟﺒﻨﻲ ﻣﺮﻭاﻥ؛ ﻓﻮالله ﻟﺌﻦ ﻋﺮﺿﺖ ﻧﻔﺴﻚ ﻟﻬﻢ ﻟﻴﻘﺘﻠﻨﻚ.
لم تكن هذه التحذيرات كافية لمنع الإمام الحسين عليه السلام من مواصلة مسير يحدو به هاتف الإصلاح في أمة جده رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله.
الإمام الحسين في الحاجز
مضى الإمام الحسين حتى وصل الحاجز من بطن الرمة، وفي هذا الموضع كتب الإمام الحسين عليه السلام كتاباً إلى أهل الكوفة، وأرسله مع مبعوثه قيس بن مسهّر، قال فيه:
"بسم الرحمن الرحيم من الحسين إلى إخوانه المؤمنين سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا اله إلا هو أما بعد: فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني بحسن رأيكم واجتماع ملاكم على نصرتنا والطلب بحقنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فالتمسوا أمركم وجدوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
سار قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الإمام الحسين على بساط السرعة, لكن تلك المهمة لم تنجح, فلما وصل قيس القادسية اعترضه أحد أنصار بني أمية, واسمه الحصين بن تميم، وبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له: اصعد فسب الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي بن أبي طالب، فصعد قيس القصر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "أيها الناس إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنا رسوله وقد فارقته الحاجز، فأجيبوه"، ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلي بن أبي طالب، فأمر عبيد الله، فألقي من فوق القصر فمات.
الإمام الحسين في "الخُزيمية"
عندما وصل الإمام الحسين عليه السلام ومن معه إلى الخُزيمية، سمعت زينب عليها السلام هاتفاً، يقول:
ألا يا عيـن فاحتـفلي بجـهد *** فمن يبكي على الشـهداء بعدي
عـلى قـوم تسـوقهم المنـايـا *** بمقـدار إلـى إنجـاز وعـدي
الإمام الحسين في "الثعلبية" ووصول خبر استشهاد مسلم وهانئ
وصل الإمام الحسين بن علي عليه السلام إلى منطقة تدعى "الثعلبية" وبدأت تصل إليه الأخبار المؤلمة, فقد ورد عليه خبر مقتل مسلم بن عقيل، وعدم وفاء أهل الكوفة، وتخلفهم عما دعوه لأجله.
أعلمه بذلك رجلان من بني أسد، وهما عبد الله بن سليم والمدرئ بن المشمعل، قضيا حجهما، وكانا ذا همة للحاق بالحسين عليه السلام، فلما دَنَيَا من الحسين إذا هما برجل قادم من الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين عليه السلام، فوقف الحسين كأنه يريده، ثم تركه ومضى، فذهبا نحو الرجل، فسألاه عن أخبار الكوفة، فقال لهم: لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق.
فأقبل الرجلان حتى لحقا بالحسين عليه السلام في الثعلبية ممسياً، فجاءاه فسلما عليه، فرد عليهما السلام، فقالا له: رحمك الله، إن عندنا خبراً إن شئت حدثناك علانية وإن شئت سراً، قال: ما دون هؤلاء ستر، فقالا له: رأيت الراكب الذي استقبلته عشي أمس؟ قال: نعم، وقد أردت مسألته، فقالا: قد والله استبرأنا لك خبره، وكفيناك مسألته، وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل، وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قُتِلَ مسلم وهانئ، ورآهما يجران في السوق بأرجلهما، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمة الله عليهما، يكرر ذلك مراراً، فقلنا له: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك، فوثب بنو عقيل، فقالوا: والله لا ننصرف حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا، فقال الإمام الحسين عليه السلام: ما خير في العيش بعد هؤلاء؟
فعلما أنه قد عزم رأيه على المسير، فقال له عبد الله بن سليم والمدرئ بن المشمعل الأسديان: خار الله لك. فقال: رحمكما الله.
هنا كان للإمام الحسين عليه السلام أن يرجع بعد أن عرف تخلف الناصر له، وأن أهل الكوفة قد غدروا به، ولكنه مع ذلك رجح الاستمرار؛ لأداء ما يراه واجباً تجاه الإسلام والمسلمين، غير مبال بالمصير الذي سيلاقيه، فعزم على مواصلة المسير إلى الكوفة دون تردد.
واصل الإمام الحسين عليه السلام مسيره، وسرعان ما جاءه خبر استشهاد رسوله قيس، وافاه به رسول من الكوفة، يقال أن الذي أرسله محمّد بن الأشعث، فقد كان سأله مسلم بن عقيل قبل موته أن يكتب للحسين بما كان من أمره، وخذلان أهل الكوفة إياه، بعد أن بايعوه، فلما قرأ الأمام الحسين عليه السلام الكتاب، قَالَ للرسول: كل مَا حم نازل، وعند اللَّه نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا، ثم خرج إلى أصحابه؛ ليعلمهم بحقيقة الوضع، فقال:
"بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وقيس بن مسهّر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس معه ذمام".
فتفرق الناس عنه، وأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفر ممن انضموا إليه، وفي صبيحة اليوم التالي أمر أصحابه بحمل الماء، ومتابعة المسير نحو الكوفة.
الحر في وجه الركب الكربلائي
وصل الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه إلى شراف فباتوا بها، وعند الفجر أمر شبّان القافلة بحمل ما يستطيعون من الماء، فملؤوا القرب والأواني وساروا، حتى إذا كانوا بالعذيب لقيهم رجل من بني أسد يدعى الحر بن يزيد الرياحي في 1000 فارس، فأقبلوا حتّى نزلوا في مقابل أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، فقال الحسين عليه السلام لفتيانه: "اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفاً".
وبعد إقامة صلاة الظهر والعصر قام الإمام الحسين عليه السلام في جيش الحرّ خطيباً، فقال:
"أمّا بعد، أيّها الناس فإنّكم إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم، وقدمت به عليّ رسلكم انصرفت عنكم"، فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا والله ما ندري هذه الكتب التي تذكر، وحينئذٍ أمر الحسين عليه السلام أن تنشر الرسائل بين أيديهم.
فقال الحرّ: فإنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد.
فقال له الحسين عليه السلام: "الموت أدنى إليك من ذلك".
ثمّ قال لأصحابه: "قوموا فاركبوا"، فركبوا، وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: "انصرفوا بنا"، فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين ذلك، فقال الحسين عليه السلام للحر: ثكلتك أمك ما تريد؟ فقال الحر: والله لو غيرك يقولها ما تركت ذكر أمه، ولكنه والله ما إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما أقدر عليه.
فقال الحسين عليه السلام: فما تريد؟ قال: أريد أن أقدمك على عبيد الله بن زياد: قال: فإني والله لا أتبعك، فقال الحر: وأنا والله لا أدعك.
فلما ترادا الكلام قال له الحر: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت أن أقدم بك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة، ولا يردك إلى المدينة، يكون بيني وبينك نصفاً حتى أكتب إلى الأمير عبيد الله بن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أحببت ذلك، أو إلى ابن زياد إن شئت، فلعل الله أن يرزقني العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك.
انتقال الإمام الحسين من "العذيب" إلى "البيضة"
فمضى الإمام الحسين عليه السلام بأصحابه، والحر بن يزيد يسايرهم، إلى أن وصلوا البيضة، فقام الإمام الحسين عليه السلام خطيباً في أصحابه وأصحاب الحر، فقال:
"أيّها الناس إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غَيَّرَ، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم... وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، والمغرور من اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه...".
فقام زهير بن القين، فقال: والله لو كنا في الدنيا مخلدين لآثرنا فراقها في نصرتك ومواساتك، فدعا له الحسين بخير.
وأقبل الحر بن يزيد يقول: يا حسين أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقاتلن، ولئن قوتلت لتهلكن.
فقال الحسين: أبالموت تخوفني؟ أقول كما قال أخو الأوس:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى
إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه
وفارق مثبوراً وحالف محرما
فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم
كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما
الإمام الحسين في قصر بني مقاتل
واصل الإمام الحسين عليه السلام طريقه، فلم يزل سائراً بموكبه حتى نزل قصر بني مقاتل، والحر لا يفارقه، فبينا هم كذلك إذ ورد إلى الحر كتاب ابن زياد أن جعجع بالحسين وأصحابه حتى يأتيك كتابي هذا، ولا تخله أبداً إلا بالعراء.
فقال الإمام الحسين عليه السلام: ننزل تلك القرية يعني الغاضرية، قال الحر: لا أستطيع ذلك، فسار والحر ينازعه حتى انتهى إلى موضع المعركة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: كربلاء. قال: كرب والله وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا، ومهراق دمائنا، ومنعه الحر تجاوزه، فحطت أثقاله.
فلما كان جوف الليل أقبل الإمام الحسين عليه السلام يتمثل ويقول:
يا دهر أفٍّ لك من خليل كم لك بالإشراق والأصيل
من ميت وصـاحب قتيـل والـدهـر لا يقنـع بالبـديـل
وكل حي سالك السبيل
فقالت له أخته زينب: لعلك تخبرنا بأنك تغصب نفسك؟ فقال عليه السلام: لو ترك القطا لنام.
علي بن الحسين ونفسيته المؤمنة
لما ارتحل الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه من قصر بني مقاتل وساروا ساعة خفق رأس الحسين عليه السلام خفقةً، ثم انتبه فأقبل يقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين" مرتين.
فأقبل إليه علي بن الحسين عليه السلام، وهو على فرس فقال: يا أبت جعلت فداك مما استرجعت؟ وعلام حمدت الله؟ قال الحسين:" يا بني إنه عرض لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا".
فقال: يا أبتاه لا أراك الله سوءاً أبداً، ألسنا على الحقِّ؟ قال: "بلى يا بني، والله الذي إليه مرجع العباد".
فقال: يا أبت فإذاً لا نبالي. قال الحسين عليه السلام: "جزاك الله خير ما جزى ولداً عن والده".
هذه هي روحية أهل البيت عليهم السلام، لا يهمهم إلا أن يكونوا على الحق، ثم لا يهمهم أي مصير يلاقيهم بعد ذلك.
الإمام الحسين في أرض كربلاء
لما وافى الإمام الحسين كربلاء، قال: في أي موضع نحن؟ قالوا: بكربلاء، قال: كرب والله وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا ومهراق دمائنا
وهنا خطب الإمام الحسين أصحابه كما رواها حفيده الإمام زيد بن علي عن أبيه عليهما السلام، وقد جاء فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "أيها الناس، خط الموت على بني آدم كخط القلادة على جيد الفتاة ما أولعني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب عليه السلام إلى يوسف وأخيه، وإن لي لمصرعاً أنا لاقيه كأني أنظر إلى أوصالي يقطعها وحوش الفلوات غبراً وعفراص، قد ملأت مني أكراشها، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ليوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله حرمته وعترته، ولن تفارقه أعضاؤه وهي مجموعة في حضيرة القدس تقر بهم عينه وينجز لهم عدته، من كان فينا باذل مهتجه فليرحل فإني راحل غداً إن شاء الله، ثم نهض إلى عدوه".
وصول الجيش الأموي بقيادة عمر بن سعد
فلما كان صباح اليوم التالي أقبل عمر بن سعد بن أبي وقاص في 4,000 من الكوفة من قبل عبيدالله بن زياد، ولم تكن ولاية عمر بن سعد على الجيش بلا ثمن, فقد روي أن عبيد الله بن زياد ولاَّه الرَّي وأرض دسْتبى، فخرج يريد الري في أربعة آلاف، فورد عليه كتاب ابن زياد يُسِّيره إلى محاربة الحسين، حتى إذا فرغ من قتال الإمام الحسين سار إلى ولايته, فاستعفاه، فقال له ابن زياد: إما أن تسير إلي محاربته أو ترد علينا عهدنا.
فجعل يتقَلْقَل ويقول:
ووالله ما أدري وإنـي لـواقـــف ومهما يكن من حادث سيبين
أأترك ملك الري والري رغبـة أم أرجــع مذموماً بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها حجـاب وملك الري قرة عين
فغلب عليه الشقاء، وسار إلى قتل الإمام الحسين عليه السلام
فلما أتاه، قال له الحسين عليه السلام: "اختر واحدة من ثلاث: إما أن تدعوني فألحق بالثغور، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فأنصرف من حيث جئت"، فقبل ذلك عمر بن سعد، فكتب إلى عبيدالله بن زياد، فكتب إليه عبيدالله: لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي، فقال الحسين بن علي عليهما السلام: "لا والله لا يكون ذلك أبدا".
ويروى أن ابن زياد كتب مع شمر بن ذي الجوشن إلى عمر بن سعد: أني لم أبعثك لتكُفَ عن الحسين وتمنيه البقاء والعافية، فإن نزل على حكم أمير المؤمنين واستسلم فذلك، وإلاّ فاقتله وأوطئ الخيل صدره وظهره، فإن أنت أبيت فاعتزل وخل بين شمر وبين العسكر، فقد أمرناه بأمرنا والسلام.
ثم خرج عبيد الله بن زياد حتى عسكر بالنخيلة، وبعث الحصين بن تميم إلى عمر بن سعد وحجان بن الحر وشبث بن ربعي وشمر بن ذي الجوشن في 7000 رجل، وكتب إلى عمر بن سعد يأمره بمنع الحسين وأصحابه الماء.
منع الحسين وأصحابه من الفرات
كانت خطة الأمويين أن يمنعوا الحسين وأصحابه من الماء حتى يعجزوا عن المواجهة, مع أن الفارق العددي بين الجيشين كان كفيلاً بحسم المعركة لصالح الأمويين فهناك 12000 في مقابل ثلة من المؤمنين, ولكن الوقائع أرادت أن تفضح الأمويين وتكشف عن نفسياتهم الخبيثة, بعث عمر بن سعد قائد من قواده يدعى ابنَ الحجاج في كتيبة مكونة 500 فارس تكون مهمتها منع الحسين من الماء فجاءوا حتى أحدقوا بشريعة الماء، وحالوا بينهم وبين الماء, وكان ذلك قبل قتل الحسين عليه السلام بثلاثة أيام.
لم يستسمل الحسين وأصحابه فقد قاموا بعدة محاولات للحصول على الماء ومن ذلك ما روي: أنه لما أضر بالحسين وأصحابه العطش قام عليه السلام فأمر فحفرت آبار وأنبع الله لهم منها ماء عذباً فشربوا منه ودفن.
كما روي أن الحسين حاول الوصول إلى شريعة الماء حين اشتد بهم العطش بإرسال مجموعة من المقاتلين قوامها 15 فارساً بقيادة أخيه العباس بن علي, لكن الفارق العددي منع من نجاح المهمة واستشهد حينها رجل يقال له "رشيد" ودفنه الإمام الحسين في موضعه وكانت فاطمة بنت الحسين تسميه السقا.
وفي بعض الروايات أنه حاول الوصول إلى الماء بنفسه كما روي من أنه عليه السلام ركب المُسَنَّاة يريد الفرات، فقال شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله): ويلكم حولوا بينه وبين الماء.
ودنا ليشرب، فرماه حصين بن تميم - لعنه الله - بسهم فوقع في فمه، فجعل يتلقى الدم، ويرمي به إلى السماء، ويقول: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذر على الأرض منهم أحداً.
ومع أن الرواية لم تبين متى خرج بنفسه يريد شرعة الماء ولكن الذي يميل إليه الفؤاد ويدركه الذوق أنه كان بعد استشهاد أصحابه.
خطبة الإمام الحسين في الجيش الأموي
ولأننا مع شخصية نبوية بامتياز تسعى لهداية الناس ومنعهم من الوقوع في الرذيلة فلقد حاول الإمام الحسين أن يجلي عن تلك الجموع غشاوة الجهل والضلال ويبين لهم ما هم عليه من الجرم والانحراف فقام فيهم خطيباً, قال في كتاب "الحدائق الوردية: ﻭﻟﻤﺎ اﺿﻄﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺇﻟﻰ ﻣﺤﺎﺭﺑﺔ اﻟﻘﻮﻡ ﻭعبأ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﻟﻤﺤﺎﺭﺑﺔ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، ﻭﺭﺗﺒﻬﻢ ﻣﺮاﺗﺒﻬﻢ، ﻭﺃﻗﺎﻡ اﻟﺮاﻳﺎﺕ ﻓﻲ ﻣﻮاﺿﻌﻬﺎ، ﻭﻋﺒﺄ ﺃﺻﺤﺎﺏ اﻟﻤﻴﻤﻨﺔ ﻭاﻟﻤﻴﺴﺮﺓ، ﻭﻗﺎﻝ ﻷﺻﺤﺎﺏ اﻟﻘﻠﺐ: اﺛﺒﺘﻮا، ﻭﺃﺣﺎﻃﻮا ﺑﺎﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﺎﻧﺐ ﺣﺘﻰ ﺟﻌﻠﻮﻩ ﻓﻲ ﻣﺜﻞ اﻟﺤﻠﻘﺔ، ﻓﺨﺮﺝ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺣﺘﻰ ﺃﺗﻰ اﻟﻨﺎﺱ، ﻓﺎﺳﺘﻨﺼﺘﻬﻢ ﻓﺄﺑﻮا ﺃﻥ ﻳﻨﺼﺘﻮا ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻝ ﻟﻬﻢ: "ﻭﻳﻠﻜﻢ ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﺃﻥ ﺗﻨﺼﺘﻮا ﻟﻲ ﻓﺘﺴﻤﻌﻮا ﻗﻮﻟﻲ؛ ﻓﺈﻧﻲ ﺇﻧﻤﺎ ﺃﺩﻋﻮﻛﻢ ﺇﻟﻰ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺮﺷﺎﺩ، ﻓﻤﻦ ﺃﻃﺎﻋﻨﻲ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ اﻟﻤﻬﺘﺪﻳﻦ ﻭاﻟﻤﺮﺷﺪﻳﻦ، ﻭﻣﻦ ﻋﺼﺎﻧﻲ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ اﻟﻤﻬﻠﻜﻴﻦ، ﻭﻛﻠﻜﻢ ﻋﺎﺹ ﻷﻣﺮﻱ، ﻏﻴﺮ ﻣﺴﺘﻤﻊ ﻗﻮﻟﻲ، ﻓﻘﺪ اﻧﺠﺰﻟﺖ ﻋﻄﻴﺎﺗﻜﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﺮاﻡ، ﻭﻣﻠﺌﺖ ﺑﻄﻮﻧﻜﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﺮاﻡ، ﻓﻄﺒﻊ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﻮﺑﻜﻢ، ﻭﻳﻠﻜﻢ ﺃﻻ ﺗﻨﺼﺘﻮﻥ؟ ﺃﻻ ﺗﺴﺘﻤﻌﻮﻥ؟".
ﻓﺘﻼﻭﻡ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻭﻗﺎﻟﻮا: ﺃﻧﺼﺘﻮا ﻟﻪ، ﻓﺄﻧﺼﺘﻮا، ﻓﻘﺎﻡ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻓﻴﻬﻢ: ﻓﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﺛﻨﻰ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﺻﻠﻰ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: "ﺗﺒﺎ ﻟﻜﻢ ﺃﻳﺘﻬﺎ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻭﺗﺮﺣﺎ، ﺃﻓﺤﻴﻦ اﺳﺘﺼﺮﺧﺘﻤﻮﻧﺎ ﻭﻟﻬﻴﻦ ﻣﺘﺤﻴﺮﻳﻦ، ﻓﺄﺻﺮﺧﻨﺎﻛﻢ ﻣﻮﺟﺰﻳﻦ ﻣﺴﺘﻌﺪﻳﻦ، ﺳﻠﻠﺘﻢ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺳﻴﻔﺎ ﻓﻲ ﺭﻗﺎﺑﻨﺎ! ﻭﺣﺸﺸﺘﻢ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻧﺎﺭ اﻟﻔﺘﻦ، ﺟﻨﺎﻫﺎ ﻋﺪﻭﻛﻢ ﻭﻋﺪﻭﻧﺎ، ﻓﺄﺻﺒﺤﺘﻢ ﺇﻟﺒﺎً ﻋﻠﻰ ﺃﻭﻟﻴﺎﺋﻜﻢ، ﻭﻳﺪاً ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻷﻋﺪاﺋﻜﻢ، ﻟﻐﻴﺮ ﻋﺪﻝ ﺃﻓﺸﻮﻩ ﻓﻴﻜﻢ، ﻭﻻ ﺃﻣﻞ ﺃﺻﺒﺢ ﻟﻜﻢ ﻓﻴﻬﻢ، ﺇﻻ اﻟﺤﺮاﻡ ﻣﻦ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺃﻧﺎﻟﻮﻛﻢ، ﻭﺧﺴﻴﺲ ﻋﻴﺶ ﻃﻌﻤﺘﻢ ﻓﻴﻪ، ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺣﺪﺙ ﻛﺎﻥ ﻣﻨﺎ، ﻭﻻ ﺭﺃﻱ ﺗﻔﻴﻞ، ﻓﻬﻼ ﻟﻜﻢ اﻟﻮﻳﻼﺕ ﺗﺠﻬﻤﺘﻤﻮﻧﺎ ﻭاﻟﺴﻴﻒ ﻟﻢ ﻳﺸﻬﺮ، ﻭاﻟﺠﺄﺵ ﻃﺎﻣﻦ، ﻭاﻟﺮﺃﻱ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﺨﻒ، ﻭﻟﻜﻦ ﺃﺳﺮﻋﺘﻢ ﺇﻟﻴﻨﺎ ﻛﻄﻴﺮﺓ اﻟﺬﺑﺎﺏ، ﻭﺗﺪاﻋﻴﺘﻢ ﻛﺘﺪاعي اﻟﻔﺮاﺵ، ﻓﻘﺒﺤﺎً ﻟﻜﻢ ﻓﺈﻧﻤﺎ ﺃﻧﺘﻢ ﻣﻦ ﻃﻮاﻏﻴﺖ اﻷﻣﺔ، ﻭﺷﺬاﺫ اﻷﺣﺰاﺏ، ﻭﻧﺒﺬﺓ اﻟﻜﺘﺎﺏ، ﻭﻧﻔﺜﺔ اﻟﺸﻴﻄﺎﻥ، ﻭﻋﺼﺒﺔ اﻵﺛﺎﻡ، ﻭﻣﺤﺮﻓﻲ اﻟﻜﺘﺎﺏ، ﻭمطفئي اﻟﺴﻨﻦ، ﻭﻗﺘﻠﺔ ﺃﻭﻻﺩ اﻷﻧﺒﻴﺎء، ﻭﻣﺒﻴﺮﻱ ﻋﺘﺮﺓ اﻷﻭﺻﻴﺎء، ﻭﻣﻠﺤﻘﻲ اﻟﻌﻬﺎﺭ ﺑﺎﻟﻨﺴﺐ، ﻭﻣﺆﺫﻱ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ، ﻭﺻﺮاﺡ ﺃﺋﻤﺔ اﻟﻤﺴﺘﻬﺰﺋﻴﻦ، اﻟﺬﻳﻦ ﺟﻌﻠﻮا اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻋﻀﻴﻦ، ﻭﺃﻧﺘﻢ اﺑﻦ ﺣﺮﺏ ﻭﺃﺷﻴﺎﻋﻪ ﺗﻌﺘﻤﺪﻭﻥ، ﻭﺇﻳﺎﻧﺎ ﺗﺤﺎﺭﺑﻮﻥ.
ﺃﺟﻞ ﻭاﻟﻠﻪ ﺧﺬﻝ ﻓﻴﻜﻢ ﻣﻌﺮﻭﻑ، ﻭﺷﺠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﺮﻭﻗﻜﻢ، ﻭﺗﻮاﺭﺛﺘﻪ ﺃﺻﻮﻟﻜﻢ ﻭﻓﺮﻭﻋﻜﻢ، ﻭﺛﺒﺘﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻗﻠﻮﺑﻜﻢ، ﻭﻏﺸﻴﺖ ﺻﺪﻭﺭﻛﻢ، ﻓﻜﻨﺘﻢ ﺃﺧﺒﺚ ﺷﻲء: ﺳُﺨَﻰً ﻟﻠﻨﺎﺻﺐ، ﻭﺃﻛﻠﺔ ﻟﻠﻐﺎﺻﺐ، ﺃﻻ ﻟﻌﻨﺔ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺎﻛﺜﻴﻦ، اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻨﻘﻀﻮﻥ اﻷﻳﻤﺎﻥ ﺑﻌﺪ ﺗﻮﻛﻴﺪﻫﺎ، ﻭﻗﺪ ﺟﻌﻠﺘﻢ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻛﻔﻴﻼ، ﻭﺃﻧﺘﻢ ﻭاﻟﻠﻪ ﻫﻢ، ﺃﻻ ﺇﻥ اﻟﺪﻋﻲ ﺑﻦ اﻟﺪﻋﻲ ﻗﺪ ﺭﻛﺰ ﺑﻴﻦ اﺛﻨﺘﻴﻦ: ﺑﻴﻦ اﻟﻘﺘﻠﺔ ﻭاﻟﺬﻟﺔ، ﻭﻫﻴﻬﺎﺕ ﻣﻨﺎ ﺃﺧﺬ اﻟﺪﻧﻴﺔ، ﺃﺑﻰ اﻟﻠﻪ ﺫﻟﻚ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﻭاﻟﻤﺆﻣﻨﻮﻥ، ﻭﺟﺪﻭﺩ ﻃﺎﺑﺖ، ﻭﺣﺠﻮﺭ ﻃﻬﺮﺕ، ﻭﺃﻧﻮﻑ ﺣﻤﻴﺔ، ﻭﻧﻔﻮﺱ ﺃﺑﻴﺔ، ﻻ ﺗﺆﺛﺮ ﻣﺼﺎﺭﻉ اﻟﻠﺌﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﻣﺼﺎﺭﻉ اﻟﻜﺮاﻡ، ﺃﻻ ﻗﺪ ﺃﻋﺬﺭﺕ ﻭﺃﻧﺬﺭﺕ، ﺃﻻ ﺇﻧﻲ ﺯاﺣﻒ ﺑﻬﺬﻩ اﻷﺳﺮﺓ، ﻋﻠﻰ ﻗﻠﺔ اﻟﻌﺘﺎﺩ، ﻭﺧﺬﻟﺔ اﻷﺻﺤﺎﺏ"، ﺛﻢ ﺃﻧﺸﺄ ﻳﻘﻮﻝ:
"ﻓﺈﻥ ﻧﻬﺰﻡ ﻓﻬﺰاﻣﻮﻥ ﻗﺪﻣﺎ ... ﻭﺇﻥ ﻧﻬﺰﻡ ﻓﻐﻴﺮ ﻣﻬﺰﻣﻴﻨﺎ
ﺃﻻ ﺛﻢ ﻻ ﺗﻠﺒﺜﻮﻥ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﺇﻻ ﻛﺮﻳﺜﻤﺎ ﺗﺮﻛﺐ اﻟﻔﺮﺱ ﺣﺘﻰ ﺗﺪﻭﺭ ﺑﻜﻢ اﻟﺮﺣﻰ، ﻋﻬﺪاً ﻋﻬﺪﻩ ﺇﻟﻲ ﺃﺑﻲ، ﻓﺄﺟﻤﻌﻮا ﺃﻣﺮﻛﻢ ﻭﺷﺮﻛﺎءﻛﻢ ﺛﻢ ﻛﻴﺪﻭﻥ ﺟﻤﻴﻌﺎً ﻭﻻ ﺗﻨﻈﺮﻭﻥ، ﺇﻧﻲ ﺗﻮﻛﻠﺖ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﺭﺑﻲ ﻭﺭﺑﻜﻢ، ﻣﺎ ﻣﻦ ﺩﺁﺑﺔ ﺇﻻ ﻫﻮ ﺁﺧﺬ ﺑﻨﺎﺻﻴﺘﻬﺎ ﺇﻥ ﺭﺑﻲ ﻋﻠﻰ ﺻﺮاﻁ ﻣﺴﺘﻘﻴﻢ.
اﻟﻠﻬﻢ اﺣﺒﺲ ﻋﻨﻬﻢ ﻗﻄﺮ اﻟﺴﻤﺂء، ﻭاﺑﻌﺚ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺳﻨﻴﻦ ﻛﺴﻨﻲ ﻳﻮﺳﻒ، ﻭﺳﻠﻂ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻏﻼﻡ ﺛﻘﻴﻒ ﻳﺴﻘﻴﻬﻢ ﻛﺄﺳﺎً ﻣﺮﺓ، ﻓﻼ ﻳﺪﻉ ﻓﻴﻬﻢ ﺃﺣﺪاً ﺇﻻ ﻗﺘﻠﻪ ﺑﻘﺘﻠﺔ، ﻭﺿﺮﺑﻪ ﺑﻀﺮﺑﺔ، ﻳﻨﺘﻘﻢ ﻟﻲ ﻭﻷﻭﻟﻴﺎﺋﻲ ﻭﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ ﻭﺃﺷﻴﺎﻋﻲ ﻣﻨﻬﻢ؛ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻏﺮُّﻭﻧﺎ ﻭﻛﺬﺑﻮﻧﺎ ﻭﺧﺬﻟﻮﻧﺎ، ﻭﺃﻧﺖ ﺭﺑﻨﺎ ﻋﻠﻴﻚ ﺗﻮﻛﻠﻨﺎ ﻭﺇﻟﻴﻚ ﺃﻧﺒﻨﺎ ﻭﺇﻟﻴﻚ اﻟﻤﺼﻴﺮ".
ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﺃﻳﻦ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ؟ اﺩﻋﻮا ﻟﻲ ﻋﻤﺮ. ﻓﺪﻋﻲ ﻟﻪ، ﻭﻛﺎﻥ ﻛﺎﺭﻫﺎً ﻻ ﻳﺤﺐ ﺃﻥ ﻳﺄﺗﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: "ﻳﺎ ﻋﻤﺮ، ﺃﻧﺖ ﺗﻘﺘﻠﻨﻲ؟ ﺗﺰﻋﻢ ﺃﻥ ﻳﻮﻟﻴﻚ اﻟﺪﻋﻲ اﺑﻦ اﻟﺪﻋﻲ ﺑﻼﺩﻱ اﻟﺮﻱ ﻭﺟﺮﺟﺎﻥ، ﻭاﻟﻠﻪ ﻻﺗﺘﻬﻨﺄ ﺑﺬﻟﻚ ﺃﺑﺪا، ﻋﻬﺪاً ﻣﻌﻬﻮﺩا، ﻓﺎﺻﻨﻊ ﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﺻﺎﻧﻊ، ﻓﺈﻧﻚ ﻻ ﺗﻔﺮﺡ ﺑﻌﺪﻱ ﺑﺪﻧﻴﺎ ﻭﻻ ﺁﺧﺮﺓ، ﻭﻟﻜﺄﻧﻲ ﺑﺮﺃﺳﻚ ﻋﻠﻰ ﻗﺼﺒﺔ ﻗﺪ ﻧﺼﺒﺖ ﺑﺎﻟﻜﻮﻓﺔ ﺗﺘﺮاﻣﺎﻩ اﻟﺼﺒﻴﺎﻥ، ﻭﻳﺘﺨﺬﻭﻧﻪ ﻏﺮﺿﺎً ﺑﻴﻨﻬﻢ"، ﻓﺎﻏﺘﺎﻅ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ ﻣﻦ ﻛﻼﻣﻪ، ﺛﻢ ﺻﺮﻑ ﺑﻮﺟﻬﻪ ﻋﻨﻪ، ﻭﻧﺎﺩﻯ ﺑﺄﺻﺤﺎﺑﻪ: ﻣﺎ ﺗﻨﺘﻈﺮﻭﻥ ﺑﻪ، اﺣﻤﻠﻮا ﺑﺄﺟﻤﻌﻜﻢ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺃﻛﻠﺔ ﻭاﺣﺪﺓ.
بدء المعركة
عن الإمام الكامل عبد الله بن الحسن عليه السلام أن علي بن الحسين عليه السلام قال: صبحتنا الخيل يوم الجمعة، فدعا الحسين بفرس رسول الله وهو المرتجز، فركبه ثم رفع يده، فقال: "اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هَمٍ يضعف به الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلتُه بك، وشكوته إليك، رغبةً فيه إليك عمن سواك، ففرَّجته وكشفته، أنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة، يا أرحم الراحمين".
ﻭﺯﺣﻒ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ ـ ﻟﻌﻨﻪ اﻟﻠﻪ ـ، ﻭﻧﺎﺩﻯ ﻏﻼﻣﻪ ﺩﺭﻳﺪاً: ﻗﺪﻡ ﺭاﻳﺘﻚ، ﺛﻢ ﻭﺿﻊ عمر ﺳﻬﻤﻪ ﻓﻲ ﻛﺒﺪ ﻗﻮﺳﻪ، ﺛﻢ ﺭﻣﻰ ﻭﻗﺎﻝ: اﺷﻬﺪﻭا ﻟﻲ ﻋﻨﺪ اﻷﻣﻴﺮ [ ﻳﻌﻨﻲ ﻋﺒﻴﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺯﻳﺎﺩ لعنه الله وإياهم] ﺃﻧﻲ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﺭﻣﺎﻩ، ﻓﺮﻣﻰ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﻛﻠﻬﻢ ﻓﻲ ﺃﺛﺮﻩ ﺭﺷﻘﺔ ﻭاﺣﺪﺓ، ﻓﻤﺎ ﺑﻘﻲ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺇﻻ ﺃﺻﺎﺑﻪ ﻣﻦ ﺭﻣﻴﻬﻢ ﺳﻬﻢ.
الإمام الحسين يقدم ولده كأول شهيد في المعركة
كان علي بن الحسين عليه السلام أول من خرج من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته، فَشَدَّ على الناس بسيفه، وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي نحن ورب الناس أولى بالنبي
تا الله لا يحكم فينا ابن الدعي
لما برز علي بن الحسين إليهم، أرخى الحسين - صلوات الله عليه وسلامه - عينيه فبكى، ثم قال: "اللهم كن أنت الشهيد عليهم، فبرز إليهم غلام أشبه الخلق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، فجعل يشد عليهم ثم يرجع إلى أبيه فيقول: يا أباه، العطش، فيقول له الحسين: "اصبر حبيبي فإنك لا تمسي حتى يسقيك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكأسه"، وجعل يكر كرة بعد كرة، حتى رمى بسهم فوقع في حلقه فخرقه، وأقبل ينقلب في دمه، ثم نادى: يا أبتاه عليك السلام، هذا جدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرئك السلام، ويقول: عجل القدوم إلينا، وشهق شهقة فارق الدنيا.
ثم تبعه أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته واحداً واحداً، فاستشهد القاسم بن الحسن، وكذا العباس بن علي عليهم السلام، وكان يقاتل قتالاً شديداً، فاعتوره الرجالة برماحهم فقتلوه، واستشهد أصحاب الحسين عليه السلام جميعاً، فبقي عليه السلام وحيداً ليس معه أحد.
من قصص الإباء في كربلاء
في الرواية أنه جاء رجل حتى دخل عسكر الحسين، فجاء إلى رجل من أصحابه فقال له: إن خبر ابنك فلان وافى، إن الديلم أسروه، فتنصرف معي حتى نسعى في فدائه، فقال: حتى أصنع ماذا؟ عند الله أحتسبه ونفسي، فقال له الحسين: انصرف وأنت في حل من بيعتي، وأنا أعطيك فداء ابنك. فقال: هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك. لا يكون والله هذا أبداً، ولا أفارقك، ثم حمل على القوم فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه ورضوانه
قصص مؤلمة في كربلاء
يروى أنه وﻟﺪ للإمام الحسين عليه السلام في أثناء المعركة ولد، ﻓﺄﺗﻲ ﺑﻪ إليه، ﻭﻫﻮ ﻗﺎﻋﺪ، ﻓﺄﺧﺬﻩ عليه السلام ﻓﻲ ﺣﺠﺮﻩ ﻭﻟﺒﺎﻩ ﺑﺮﻳﻘﻪ، ﻭﺳﻤﺎﻩ ﻋﺒﺪالله، ﻓﺒﻴﻨﺎ ﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ ﺇﺫ ﺭﻣﺎﻩ ﺣﺮﻣﻠﺔ ﺑﻦ اﻟﻜﺎﻫﻦ ﺑﺴﻬﻢ ﻓﻨﺤﺮﻩ، ﻓﺄﺧﺬ اﻟﺤﺴﻴﻦ عليه السلام ﺩﻣﻪ، ﻓﺠﻤﻌﻪ ﻭﺭﻣﻰ ﺑﻪ ﻧﺤﻮ السماء، ﻓﻤﺎ ﻭﻗﻌﺖ ﻣﻨﻪ ﻗﻄﺮﺓ ﺇﻟﻰ اﻷﺭﺽ.
ﻗﺎﻝ ﻓﻀﻴﻞ: ﻭﺣﺪﺛﻨﻲ ﺃﺑﻮ اﻟﻮﺭﺩ ﺃﻧﻪ ﺳﻤﻊ ﺃﺑﺎ ﺟﻌﻔﺮ ﻳﻘﻮﻝ: ﻟﻮ ﻭﻗﻌﺖ ﻣﻨﻪ ﺇﻟﻰ اﻷﺭﺽ ﻗﻄﺮﺓ ﻟﻨﺰﻝ اﻟﻌﺬاﺏ، ﻭﻫﻮ اﻟﺬﻱ ﻳﻘﻮﻝ ﻓﻴﻪ اﻟﺸﺎﻋﺮ:
ﻭﻋﻨﺪ ﻏﻨﻲ ﻗﻄﺮﺓ ﻣﻦ ﺩﻣﺂﺋﻨﺎ ﻭﻓﻲ ﺃﺳﺪ ﺃﺧﺮﻯ ﺗﻌﺪ ﻭﺗﺬﻛﺮ
ومن القصص المؤلمة في كربلاء قصة القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ففي المقاتل: أحاطوا بالحسين عليه السلام، وأقبل غلام من أهله نحوه، وأخذته زينب بنت علي لتحبسه، فقال لها الحسين: احبسيه، فأبى الغلام، فجاء يعدوا إلى الحسين، فقام إلى جنبه، وأهوى أبحر بن كعب بالسيف إلى الحسين، فقال الغلام لأبجر: يا ابن الخبيثة أتقتل عمي؟ فضربه أبجر بالسيف، واتقاه الغلام بيده فأطنها إلى الجلد. وبقيت معلقة بالجلد، فنادى الغلام: يا أمه، فأخذه الحسين فضمه إليه، وقال: يا ابن أخي احتسب فيما أصابك الثواب، فإن الله ملحقك بآبائك الصالحين، برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحمزة، وعلي، وجعفر، والحسن عليهم السلام.
استشهاد الحسين عليه السلام
قال الحسين بن علي عليه السلام: إني رأيت كأن كلاباً تنبح عليّ، وكأن أشدها عليّ كلب أبقع، وكان شمر بن ذي الجوشن ـ لعنه الله ـ أبرص.
بعد أن استشهد جميع أصحاب الحسين وأهل بيته, وبقي الحسين وحيداً في ساحة المعركة, يكاد العطش يقطع كبده, أقبل شمر بن ذي الجوشن في الرَّجالة نحو الحسين, فجعل الحسين يشد عليهم، فينكشفون عنه، وعليه قميص خز، يصف عبد الله بن عمار بن عبد يغوث الحسين وقتاله وهو في تلك الحالة: والله ما رأيت مكثوراً قط قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه، ولا أمضى جناناً، ما رأيت قبله ولا بعده مثله، إن كانت الرجال تنكشف عن يمينه وعن يساره انكشاف المِعْزَى إذا شد فيها الذئب.
كان الحسين يشكي العطش, وهو مثخنٌ في جراحه, وجعل يطلب الماء، وشمر - لعنه الله - يقول له: والله لا ترده أو ترد النار، فقال له رجل: ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنه بطوان الحيات، والله لا تذوقه أو تموت عطشاً، فقال الحسين: اللهم أمته عطشاً.
قال الراوي: والله لقد كان هذا الرجل يقول: اسقوني ماء، فيؤتى بماء، فيشرب حتى يخرج من فيه وهو يقول: اسقوني، قتلني العطش، فلم يزل كذلك حتى مات
وفي هذه الأثناء صاح شمر في أصحابه: ثكلتكم أمهاتكم ما تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه، فحَمَل عليه سِنَان بن أنس بن عمر النخعي في تلك الساعة، فطعنه بالرمح فوقع، ثم قال لخَولّي بن يزيد بن الأصبحي: حز رأسه، فأراد ذلك فضعف وارتعد. فقال له سنان: فتّ الله عضدك وأبان يدك، فنزل إليه فذبحه، ورفع رأسه إلى خولي بن يزيد.
وقيل: أن الذي قتله أبو الجنوب زياد بن عبد الرحمن الجعفي، والقثعم، وصالح بن وهب اليزني وخولى بن يزيد، كل قد ضربه وشرك فيه, ونزل سنان بن أنس النخعي فاحتز رأسه.
ﻭﺃﺟﺮﻭا اﻟﺨﻴﻞ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﺟﺜﺘﻪ اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﻘﻄﻌﺖ، ﻭﻗﺎﻝ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ: ﻫﻜﺬا ﺃﻣﺮﻧﺎ ﻋﺒﻴﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺯﻳﺎﺩ ﺃﻥ ﻧﺼﻨﻊ ﺑﻪ.
ﻓﺎﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻋﻈﻴﻢ ﻣﺎ ﺃﺗﻮﻩ، ﻭﻓﺤﺶ ﻣﺎ اﺭﺗﻜﺒﻮﻩ، ﻓﻘﺎﺗﻠﻬﻢ اﻟﻠﻪ ﺃﻧﻰ ﻳﺆﻓﻜﻮﻥ، ﻭاﻟﺒﻬﻴﻤﺔ ﺗﺤﺮﻡ اﻟﻤﺜﻠﺔ ﺑﻬﺎ ﻋﻨﺪ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻓﻜﻴﻒ ﺑﺴﺒﻂ اﻟﻨﺒﻮءﺓ ﻭﺛﻤﺮ اﻟﻮﺻﻴﺔ، ﻭﺳﻴﺪ ﺷﺒﺎﺏ ﺃﻫﻞ اﻟﺠﻨﺔ، ﺳﻼﻡ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺻﻠﻮاﺗﻪ ﻭﺭﺿﻮاﻧﻪ؟!
وروي أنه لما قتل الحسين عليه السلام سُمِعَ هاتفٌ في الجو يقول:
أترجو أمةٌ قَتَلت حسيناً ... شفاعةَ جدهِ يومَ الحسابِ
ﻭقد ﺭﻭﻱ ﻋﻦ ﺟﻌﻔﺮ اﻟﺼﺎﺩﻕ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﺃﻧﻪ ﻭﺟﺪ ﻓﻲ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ: ﺛﻼﺙ ﻭﺛﻼﺛﻮﻥ ﻃﻌﻨﺔ، ﻭﺃﺭﺑﻊ ﻭﺃﺭﺑﻌﻮﻥ ﺿﺮﺑﺔ، ﻭﻭﺟﺪ ﻓﻲ ﺟﺒﺔ ﺧﺰ ﺩﻛﻨﺎء ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻰ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻣﺎﺋﺔ ﺧﺮﻕ، ﻭﺑﻀﻌﺔ ﻋﺸﺮ ﺧﺮﻗﺎً ﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﺭﻣﻴﺔ ﻭﻃﻌﻨﺔ ﻭﺿﺮﺑﺔ.
ﻭﺭﻭﻱ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺃﻧﻪ ﻗﺎﻝ: ﻟﻢ ﻳُﻀﺮﺏ ﺃﺣﺪ ﻓﻲ اﻹﺳﻼﻡ ﻣﻨﺬ ﻛﺎﻥ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺿﺮﺏ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻭﺟﺪ ﺑﻪ: ﻣﺎﺋﺔ ﻭﻋﺸﺮﻭﻥ ﺿﺮﺑﺔ ﺑﺴﻴﻒ ﻭﺭﻣﻴﺔ، ﻭﺧﺬﻑ ﺑﺤﺠﺮ.
ﻭلم ينته بهم الأمر إلى قتل سبط رسول الله فقط، بل بلغ بهم الحد إلى سلبه ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ملابسه، فأخذ ﻳﺤﻴﻰ ﺑﻦ ﻛﻌﺐ سراويله، ﻓﻜﺎﻧﺘﺎ ﻳﺪاﻩ ﺗﻘﻄﺮاﻥ ﺩﻣﺎً ﺇﺫا ﺃﺷﺘﻰ، ﻭﺇﺫا ﺃﺻﺎﻑ ﻳﺒﺴﺘﺎ، ﻭﻋﺎﺩﺗﺎ ﻛﺄﻧﻬﻤﺎ ﻋﻮﺩ ﻳﺎﺑﺲ، ﻭﺃﺧﺬ ﻗﻄﻴﻔﺘﻪ عليه السلام ﻗﻴﺲ ﺑﻦ اﻷﺷﻌﺚ ﺑﻦ ﻗﻴﺲ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻘﺎﻝ ﻟﻪ: ﻗﻴﺲ اﻟﻘﻄﻴﻔﺔ، ﻭﺃﺧﺬ ﺑﺮﻧﺴﻪ ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻦ ﺑﺸﻴﺮ اﻟﻜﻨﺪﻱ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺧﺰ، ﻓﺄﺗﻰ ﺑﻪ ﺃﻫﻠﻪ، ﻓﻘﺎﻟﺖ اﻣﺮﺃﺗﻪ ﺑﻨﺖ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺎﺭﺙ: ﺃﺳﻠﺐ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻳﺪﺧﻞ ﺑﻴﺘﻲ؟ ﺃﺧﺮﺟﻪ ﻋﻨﻲ، ﻓﻠﻢ ﻳﺰﻝ ﻣﺤﺘﺎﺟﺎً ﺣﺘﻰ ﻣﺎﺕ, ﻭﺃﺧﺬ ﻋﻤﺎﻣﺘﻪ عليه السلام ﺟﺎﺑﺮ ﺑﻦ ﻳﺰﻳﺪ اﻷﻭﺩﻱ، ﻓﺎﻋﺘﻢ ﺑﻬﺎ ﻓﺼﺎﺭ ﻣﺠﺬﻭﻣﺎً، ﻭﺃﺧﺬ ﺩﺭﻋﻪ عليه السلام ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻦ ﺑﺸﺮ اﻟﻜﻨﺪﻱ، ﻓﻠﺒﺴﻪ ﻓﺼﺎﺭ ﻣﻌﺘﻮﻫﺎً.
استشهد الإمام الحسين عليه السلام، وهو ابن 58 سنة، في يوم الجمعة 10 محرم سنة 61هـ واستشهد معه أهل بيته عليهم السلام، وكانوا بضعة عشر شاباً، واستشهد أصحابه الذين بذلوا أنفسهم قبل نفسه رضوان الله عليهم أجمعين، وجزاهم خير الجزاء.
ﻭلم ينج من أهل البيت عليه السلام يومئذٍ إلا ثلاثة، وهم ﻋﻠﻲ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، وكان ﻋﻠﻴﻼً، ﻭﻗﺪ ﺣﻀﺮ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﺘﺎﻝ ﻓﺪﻓﻊ الله ﻋﻨﻪ، ﻭﺃﺧﺬ ﻣﻊ النساء، ﻭﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ، ﻭاﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻼﻡ, وقد جرح الحسن المثنى في المعركة وظل بين الجرحى حتى أتاه قوم من بني أسد فأخذوه إلى ديارهم وعالجوه.
ﻭبعد قتل الإمام الحسين عليه السلام اﺭﺗﻔﻌﺖ ﻏﺒﺮﺓ ﺷﺪﻳﺪﺓ ﺳﻮﺩاء ﻓﻈﻦ اﻟﻘﻮﻡ ﺃﻥ اﻟﻌﺬاﺏ ﻗﺪ ﺃﺗﺎﻫﻢ، ﺛﻢ اﻧﺠﻠﺖ ﻋﻨﻬﻢ، ﻭﺃﻗﺒﻞ ﺷﻤﺮ ﺑﻦ ﺫﻱ اﻟﺠﻮﺷﻦ ﺇﻟﻰ اﻟﺨﻴﺎﻡ، ﻭﺃﻣﺮ ﺑﺴﻠﺐ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻣﻊ النساء، ﻓﺄﺧﺬﻭا ﻛﻞ ﻣﺎ ﻓﻲ اﻟﺨﻴﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﺃﺧﺬﻭا ﻗﺮﻃﺎً ﻓﻲ ﺃﺫﻥ ﺃﻡ ﻛﻠﺜﻮﻡ، ﻭﺧﺮﻣﻮا ﺃﺫﻧﻬﺎ، ﻭﻓﺮﻍ اﻟﻘﻮﻡ ﻣﻦ اﻟﻘﺴﻤﺔ ﻭﺿﺮﺑﻮا ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﺎﺭ.
جزاء قاتل الحسين
لم يكن لجرم بحجم قتل الإمام الحسين سبط رسول الله وريحانته مع قتل أهل بيته أن يمر من دون جزاء دنيوي قبل الجزاء الأخروي وعلى هذا جاءت الروايات فعن عبدالله بن عباس نزلَ جبريلُ على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قتلَ بِيَحْيَى بنِ زكريَّا سبعينَ أَلْفًَا فإنَّهُ قاتلَ بابنِ ابنتِكَ الحسينَ بنَ علِيٍّ سبعينَ ألفًا وسبعينَ ألفًا
أما عن الجزاء الأخروي فقد روي عن جابر بن عبدالله: رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهوَ يَفحَجُ بينَ فَخِذَيْ الحسينِ ويُقَبِّلُ زبيبتَه، ويقولُ: لَعَنَ اللهُ قاتِلَكَ، قال جابرٌ: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ ! ومن قاتلُهُ؟ قال: رجلٌ من أمتي يَبغضُ عِترتِي لا تنالُه شفاعتي، كأنِّي بنفسِه بينَ أطباقِ النيرانِ يَرسبُ تارةً ويطفو أُخرَى، وإنَّ جوفَهُ ليقولُ: عَقْ عَقْ
عن البراء بن عازب: لَمَّا قُتِلَ الحسينُ بنُ علِيٍّ رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المنامِ فقال إنْ رأيتَ البرَاءَ بنَ عازِبٍ فأقرِئْهُ السلامَ وأخبِرْهُ أنَّ قتَلَةَ الحسينِ بنِ علِيٍّ في النارِ وإنْ كادَ اللهُ أنْ يَسْحَقَ أهلَ الأرضِ مِنهُ بِعذابٍ أليمٍ قال فأتيْتُ البرَاءَ فأخبرْتُهُ فقال صدَقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مَنْ رآنِي في المنامِ فقدْ رآنِي فإنَّ الشيطانَ لا يَتصوَّرُ بِي
أيات عقيب استشهاد الإمام الحسين
ﻭﺭﻭﻯ اﻟﺴﻴﺪ ﺃﺑﻮ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻳﺤﻴﻰ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻴﻦ اﻟﺤﺴﻴﻨﻲ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻼﻡ ﺑﺈﺳﻨﺎﺩﻩ ﻋﻦ ﺧﺎﻟﺪ ﺑﻦ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﻦ ﺃﻡ ﺳﻠﻴﻢ ﺧﺎﻟﺔ ﻟﻪ، ﻗﺎﻟﺖ: ﻟﻤﺎ ﻗﺘﻞ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﻣﻄﺮﺕ اﻟﺴﻤﺎء ﻣﻄﺮا ﻛﺎﻟﺪﻡ ﻋﻠﻰ اﻟﺒﻴﻮﺕ ﻭاﻟﺤﻴﻄﺎﻥ، ﻓﺒﻠﻐﻨﻲ ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﺑﺎﻟﺒﺼﺮﺓ ﻭاﻟﻜﻮﻓﺔ ﻭاﻟﺸﺎﻡ ﻭﺧﺮاﺳﺎﻥ ﺣﺘﻰ ﻛﻨﺎ ﻻ ﻧﺸﻚ ﺃﻧﻪ ﺳﻴﻨﺰﻝ اﻟﻌﺬاﺏ.
ﻭﺭﻭي ﻋﻦ اﻷﺳﻮﺩ ﺑﻦ ﻗﻴﺲ ﻗﺎﻝ: ﻛﻨﺖ ﻟﻴﺎﻟﻲ ﻗﺘﻞ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ اﺑﻦ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﺳﻨﺔ، ﻓﺎﺭﺗﻔﻌﺖ ﺣﻤﺮﺓ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ اﻟﻤﺸﺮﻕ، ﻭﺣﻤﺮﺓ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ اﻟﻤﻐﺮﺏ، ﻓﻜﺎﻧﺘﺎ ﺗﻠﺘﻘﻴﺎﻥ ﻓﻲ ﻛﺒﺪ السماء ﺃﺷﻬﺮا.
عن أبي قبيل حيي بن هانئ المعافري: عن أبي قَبيلٍ قال: لما قُتِلَ الحُسينُ كُسِفَتِ الشمسُ كَسفةً بدتِ الكواكبُ نصفَ النهارِ حتى ظننَّا أنها هي – يعني: الساعةُ
رأس الحسين وتعامل بني أمية
قد روي بالإسناد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أن الحسين لما قتل أخذ رأسه رجل من أهل الشام، فأتى به ابن زياد (لعنه الله) فوضعه بين يديه وجعل يقول:
أوقر ركابي فضة وذهباً فقد قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أماً وأباً وخيرهم إن ينسبون نسباً
فقيل له: قد علمت أنه خير الناس أما وأبا فلم قتلته؟ فأمر بقتله غيظاً عليه لقوله ومدحه الحسين عليه السلام.
ثم أمر ابن زياد بالرأس الشريف ومعه النساء أن يذهب بهن إلى الشام إلى مجلس يزيد, فاحضر الرأس ووضع بين يدي يزيد - لعنه الله - في طست، فجعل ينكته على ثناياه بالقضيب وهو يقول:
نفلق هاماً من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وتمثل أيضاً والرأس بين يديه بقول عبد الله بن الزبعري:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرم من أشياخهم
وعدلناه ببدر فاعتدل
بهذه الأخلاق الجاهلية استقبل يزيد الرأس الشريف, كاشفاً عن نفس خبيثة تغلي حقداً وعداوة لله ولرسوله, وهو ما يبين أن ملحمة كربلاء لم تجرِ في سياق الصراع على السلطة وحماية الملك وتصفية الخصوم كما يتوهم البعض, ولا هي جولة من جولات الصراع بين الأسرتين "الأموية والهاشمية" المتخاصمتين تاريخياً كما يزعم بعض الكتبة, بل تعدت ذلك لتكون انتقاماً من رسول الله في ذريته وسبطه كما صرح يزيد في أبياته التي تمثل بها, كما أن ذلك التصرف المقيت مع الرٍأس الشريف يكشف من جهة أخرى أخلاق يزيد التي تجاوز بها أخلاق الحروب, والصراعات, فمن أخلاق الحرب في الجاهلية والإسلام أن المنتصر يتنزه عن التشفي والتعامل بروح الانتقام, لكن يزيد تجاوز ذلك كله ليتعامل مع نساء الحسين ورأسه وجسده بروح انتقامية ووحشية, وهنا يحق لنا أن نتسائل مع أولئك الذين يشتاطون غضباً ودفاعاً عن يزيد, مدعيين أن يزيد لم يرض بما قام به قائده ابن زياد, كيف استطاعوا مع كل هذا الحقائق أن يبلغوا هذا الحد من الكذب والتزييف بإصدار تلك الإدعاءات الفارغة.
تلقي المسلمون لخبر استشهاده
وحين نقرأ ذلك الاحتفاء من يزيد وابن زياد بقتل الإمام الحسين نجد في الجانب المشرق من هذه الأمة كيف تلقى المؤمنون خبر استشهاده فعن شهر بن حوشب قال: كنتُ عندَ أمِّ سلمةَ زوجُ النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين أتاها قَتْلُ الحسينِ، فقالَت: قد فعَلوها ملأَ اللهُ بيوتَهم وقبورَهم نارًا، ووقعَتْ مَغشيَّةً علَيها، فقُمنا.
وعن سلمى البكرية دخلتُ على أمِّ سلمةَ، وهي تبكي، فقلتُ: ما يُبْكِيكِ؟ قالت: رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم– تَعْنِي في المنامِ – وعلى رأسِهِ ولِحْيَتِهِ التُّرابُ، فقلتُ: ما لكَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: شَهِدْتُ قَتْلَ الحُسَيْنِ آنِفًا.
زيارة جابر بن عبدالله لضريح الإمام الحسين
عن عطية العوفي، قال: خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري زائرين قبر الحسين عليه السلام، فلما وردنا كربلاء، دنا جابر من شاطيء الفرات فاغتسل، ثم اتزر بإزار، ثم ارتدى بآخر، ثم فتح صرة فيها سعد فنثره على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلا ذكر اللّه تعالى حتى دنا من القبر، قال: يا عطية، المسنيه. فألمسته، فخرّ على القبر مغشياً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلما أفاق قال: يا حسين، يا حسين، يا حسين. ثلاثاً، ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه. ثم قال: وأنَّى لك الجواب، وقد شخبت أوداجك على أشباحك، وفرق بين بدنك ورأسك، فأشهد أنك ابن خير النبيين، وابن سيد الوصيين، وابن حَلِيْفِ التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيد النقباء، وابن فاطمة سيدة النساء، وما بالك ألا تكون هكذا، وقد غذّتك كف محمد سيد المرسلين، ورُبِيت في حجور المتقين، وأُرضِعت من ثدي الإيمان، وفُطِمت بالإسلام وطبت حياً فطبت ميتاً، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة لفراقك، ولا شاكة في الخيرة لك، فعليك سلام اللّه ورضوانه، فاشهد أنك مضيت على ما مضى عليه يحيى بن زكريا.
قال عطية: ثم جال ببصره حول القبر. فقال: السلام عليكِ أيتها الأرواح الطيبة التي حلت بفناء الحسين عليه السلام وأناخت برحله، أشهد أنكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وعبدتم اللّه حتى أتاكم اليقين، والذي بعث محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم بالحق، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
قال عطية، فقلت لجابر بن عبد الله: وكيف؟ ولم نهبط وادياً، ولم نعل جبلاً، ولم نضرب بسيف والقوم فرقت بين رؤوسهم وأبدانهم، فأيتمت الأولاد، وأرملت الأزواج؟!
فقال لي: يا عطية، سمعت حبيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، يقول: ((من أحب قوماً حُشِر معهم، ومن أحب عمل قوم أُشرِك في عملهم )). احدر بي نحو أبيات كوفان، قال: فلما صرنا في بعض الطريق، قال لي عطية: هل أوصيك، وما أظنني بعد هذه السفرة أُلاقيك: أحبب محب آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ما أحبهم وأبغض مبغض آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ما أبغضهم، وإن كان صواماً قواماً