تظل البشرية تهوي نحو عظمائها, وتتطلع أعناقها إلى سمائهم, مستلهمة منهم ومن تاريخهم الدروس والعبر؛ لتجعلها قوارب نجاة في خضم غطمطم الحياة المليء بالأعاصير والمخاطر, ومن هنا يكون حديثنا عن الإمام الحسين عليهم السلام كمُلْهم للفضيلة, ودالٍّ على الخير, ونموذج فذٍّ في الحياة الكريمة.
وإنه لمن أبواب الخير, وأسباب الهداية أن نحلق في سماء حُفَّت بعبق الوحي, واتشحت بمعاني النبوة, وترعرعت في بحبوحة الطهر والكمال, وشهد بتطهيرها التنزيل, وأثنى عليها الملك الجليل.
نسبه الشريف
هو سبط رسول الله وريحانته الحسينُ بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، يكنى بأبي عبدالله، وأمه فاطمة الزهراء، فهو اﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﻤﺼﻄﻔﻰ، ﻭﺧﺎﻣﺲ ﺃﻫﻞ اﻟﻜﺴﺎء.
مولده عليه السلام
إلى رعاية الرسول الأكرم, وعلى دفء النبوة, وحنايا الوحي, يفد ضيف جديد, تتلقفه الأيدي بشغف كبير, كان الكل ينظر إليه, الكل تحوط به الغبطة وينتشله السرور, وفي هذا الجو المفعم بالسعادة كانت عينا جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تخفي خلفها خبراً آخر ونبأ محزناً, إنها الشهادة المنتظرة, ومن الصعب جداً أن تعزى في مولودك, فعن أم الفضل بنت الحارث، أنها دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول اللّه إني رأيت الليلة حلماً منكراً على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري، قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((خيراً رأيت, تلد فاطمة ولداً يكون في حجرك)).. فولدت فاطمة الحسين بن علي كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم, فدخلت به يوماً فوضعته في حجره ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يهرقان الدموع, فقلت: بأبي وأمي يا رسول اللّه مالك؟ قال: ((أتاني جبريل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا - فقلت: هذا؟! - قال: نعم, وأتاني بتربة من تربته حمراء)).
ولد الإمام الحسين عليه السلام في الخامس من شهر شعبان سنة أربع من الهجرة، وكان العلوق به بعد ولادة أخيه الحسن عليه السلام بخمسين يوماً، فأذنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أذنه، ﻭأسماه ﺣﺴﻴﻨﺎً، ﻭﺃﻣﺮ ﺑﺄﻥ ﻳﺤﻠﻖ ﺷﻌﺮﻩ ﻓﻲ اﻟﻴﻮﻡ اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻭﻳﺘﺼﺪﻕ ﺑﻮﺯﻧﻪ ﻓﻀﺔ، ﻭﻋﻖَّ ﻋﻨﻪ ﻛﺒﺸﺎ.
وروي أن فاطمة عليها السلام لما ولدت الحسن، قالت لعلي: سمه. قال علي عليه السلام: وكنت رجلاً أحب الحرب، فأحببت أن أسميه حرباً، ثم قلت: ما كنت لأسبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باسمه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: سمه، فقال: ((ما كنت لأسبق ربي عزَّ وجلَّ)) فأوحى الله إلى جبريل أنه ولد لمحمد ابن فاهبط وأقرئه السلام، وهنئه، وقل له: ((إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون))، فهبط جبريل عليه السلام فهنَّأه من الله تعالى، ثم قال: إن الله يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون، فقال: وما كان اسمه؟ قال: شبر، قال: لساني عربي. قال: فسمه الحسن؛ فسماه الحسن، فلما ولد الحسين أوحى الله إلى جبريل: قد ولد لمحمد ابنٌ فاهبط وهنئه، وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون؛ فلما نزل وهنأه وبلغه الرسالة. قال: وما كان اسم ابن هارون؟ فقال: شبير. قال: لساني عربي. قال: فسمه الحسين. قال: فسماه الحسين.
صفته عليه السلام
كان الإمام الحسين عليه السلام يُشبَّه بجده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من سُرته إلى قدميه، وكان شديد البياض، روي أنه كان إذا قعد في موضع فيه ظلمة يُهتدى إليه لبياض جبينه ونحره, وقد وصفه بعض أصحابه الذين استشهدوا معه يوم الطف، قائلاً:
لَهُ طَلعةٌ مِثل شَمس الضّحى *** لَهُ غرَّة مِثل بَدرٍ مُنير
وحينما عُرِض الرأس الشريف على يزيد بن معاوية ذُهِلَ من جمال هيبته، وطفق يقول: ما رأيتُ وجهاً قط أحسن مِنه!!
كان الإمام الحسين سليل النبوة في دين وزهد وعمل وتقوى, وهو من الخمسة التي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً, وقد حج الإمام الحسين بن علي 25 حجة ماشياً.
كما ﻋُﺮﻑ الإمام الحسين بن علي عليه السلام ﺑﺎﻟﻔﺼﺎﺣﺔ ﻭاﻟﻮﻓﺎء ﻭاﻟﻜﺮﻡ ﻭاﻟﺸﺠﺎﻋﺔ وجليل الصفات وكريم المزايا ﻣﻦ ﺻﺒﺎﻩ، وقد أوتي ملكة الخطابة وحسن البيان وطلاقة اللسان ومن كلامه المرتجل قوله في توديع أبي ذر وقد أخرجه عثمان من المدينة بعد أن أخرجه معاوية من الشام: "يا عماه! إن الله قادر على أن يغير ما قد ترى, والله كل يوم في شأن, وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك, وما أغناك عمَّا منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم! فاسأل الله الصبر والنصر, واستعذْ به من الجشع والجزع, فإن الصبر من الدين والكرم, وإن الجشع لا يقدم رزقاً والجزع لا يؤخر أجلاً".
وجاءت الروايات بقوله الشعر في أغراض الحكمة وبعض المناسبات ومن ذلك هذه الأبيات:
اغنَ عن المخلوق بالخالقِ
تغن عن الكاذب والصادقِ
واسترزق الرحمن من فضله
فليس غير الله من رازق
من ظن أن الناس يغنونه
فليس بالرحمن بالواثق
ومنه هذان البيتان في زوجته وابنته:
لعمرك إنني لأحب داراً
تكون بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل كل مالي
وليس لعاتب عندي عتابُ
وكان ﻳﻌﺎﻣﻞ اﻟﻨﺎﺱ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ نبوية، ويتخلق معهم بأخلاق القرآن, ﻭﻳﺒﺼﺮﻫﻢ بشؤوﻥ ﺩﻳﻨﻬﻢ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻮاﺟﻬﻬﻢ ﺑﺘﺨﻄﺌﺔ، فمن ﺁﺩاﺑﻪ ﻭﺁﺩاﺏ ﺃﺧﻴﻪ اﻟﺤﺴﻦ عليهما السلام ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺃﻧﻬﻤﺎ ﺭﺃﻳﺎ ﺃﻋﺮاﺑﻴﺎً ﻳﺨﻔﻒ اﻟﻮﺿﻮء ﻭاﻟﺼﻼﺓ، ﻓﻠﻢ ﻳﺸﺎءا ﺃﻥ ﻳﺠﺒﻬﺎﻩ ﺑﻐﻠﻄﻪ، ﻭﻗﺎﻻ ﻟﻪ: ((ﻧﺤﻦ ﺷﺎﺑﺎﻥ ﻭﺃﻧﺖ ﺷﻴﺦ ﺭﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮﻥ ﺃﻋﻠﻢ ﺑﺄﻣﺮ اﻟﻮﺿﻮء ﻭاﻟﺼﻼﺓ ﻣﻨﺎ، ﻓﻨﺘﻮﺿﺄ ﻭﻧﺼﻠﻲ ﻋﻨﺪﻙ، ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻥ ﻋﻨﺪﻧﺎ ﻗﺼﻮﺭ ﺗﻌﻠﻤﻨﺎ)) ﻓﺘﻨﺒﻪ اﻟﺸﻴﺦ ﺇﻟﻰ ﻏﻠﻄﻪ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﺄﻧﻒ ﻣﻦ ﺗﻨﺒﻴﻬﻬﻤﺎ ﺇﻟﻴﻪ.
وقد منحه الرسول الأكرم جرأته وجوده فقد روي عن زينب بنت أبي رافع، عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّها أتت بالحسن والحسين إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله في شكواه الذي توفّي فيه، فقالت: يا رسول الله هذان ابناك فورِّثهما شيئاً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أمّا الحسن فله هيبتي وسؤددي، وأما حسين فله جرأتي وجودي)).
ولقد كان مع قربه من الناس وكرم أخلاقه في تعامله معهم عظيم المهابة في أعينهم عرفه بذلك وليه وعدوه فهذا معاوية بن أبي سفيان يصفه لأحد من قريش: إذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير, فتلك حلقة أبي عبدالله مؤتزراً إلى أنصاف ساقيه.
ﺃﻭﻻﺩﻩ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ
له من البنين:
1- ﻋﻠﻲ اﻷﻛﺒﺮ وعقب الحسين من ذريته وهو زين العابدين على قول الطالبيين ولكن بعض أهل النسب يقول أن زين العابدين إنما هو علي الأصغر ومنه العقب أما الأكبر فلم يعقب واستشهد مع أبيه في كربلاء على حد زعمهم, وعلى كلا الحالين فللحسين ولدان سمَّى كل واحد منهما علياً أحدهما استشهد في كربلاء والآخر وهو زين العابدين تعمر بعد أبيه وأعقب ثم وقع الخلاف بعد ذلك من الذي استشهد في كربلاء هل هو الأصغر أم الأكبر على ما أوضحناه.
2- ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ، ﻗﺘﻞ ﻣﻊ ﺃﺑﻴﻪ ﺑﺎﻟﻄﻒ، ﺟﺎءﺗﻪ ﻧﺸﺎﺑﺔ ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺣﺠﺮ ﺃﺑﻴﻪ ﻓﻘﺘﻠﺘﻪ، ﻭأم علي وعبدالله ﻭاﺣﺪﺓ وهي ﺑﺎﺑﻮﻳﻪ ﺑﻨﺖ ﻳﺰﺩﺟﺮﺩ ﺑﻦ ﺷﻬﺮﻳﺎﺭ..
3- ﻋﻠﻲ اﻷﺻﻐﺮ، ﻭﺃﻣﻪ ﻟﻴﻠﻰ ﺑﻨﺖ ﺃﺑﻲ ﻣﺮﺓ ﺑﻦ ﻋﺮﻭﺓ ﺑﻦ ﻣﺴﻌﻮﺩ اﻟﺜﻘﻔﻴﺔ وقتل مع أبيه في كربلاء على ما حكاه المولى مجدالدين المؤيدي في التحف, ويلاحظ هنا الخلاف السابق.
4- ﺟﻌﻔﺮ ﺩﺭﺝ ﺻﻐﻴﺮاً، ﻭﺃﻣﻪ ﺑﻠﻮﻳﺔ ﻣﻦ ﺑﻠﻲ ﺑﻦ ﻗﻀﺎﻋﺔ.
ﻭﺫﻛﺮ ﺑﻌﺾ ﺃﻫﻞ اﻟﻨﺴﺐ: ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ، ﻭﻣﺤﻤﺪاً.
ﻭاﻟﻌﻘﺐ ﻣﻦ ﻭﻟﺪ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻟﻮاﺣﺪ، ﻭﻫﻮ: ﻋﻠﻲ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻴﻦ اﻷﻛﺒﺮ ﻓﻲ ﻗﻮﻝ اﻟﻄﺎﻟﺒﻴﺔ، ﻭاﻷﺻﻐﺮ ﻓﻲ ﻗﻮﻝ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﻨﺴﺐ.
ﻭله ﻣﻦ اﻟﺒﻨﺎﺕ:
1- ﻓﺎﻃﻤﺔ ﻭﺃﻣﻬﺎ ﺃﻡ ﺇﺳﺤﺎﻕ ﺑﻨﺖ ﻃﻠﺤﺔ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ اﻟﻠﻪ.
2- ﺳﻜﻴﻨﺔ ﻭﺃﻣﻬﺎ اﻟﺮﺑﺎﺏ اﺑﻨﺔ اﻣﺮء اﻟﻘﻴﺲ ﺑﻦ ﻋﺪﻱ ﺑﻦ ﺃﻭﺱ.
الحسين (ع) في القرآن
لم يترك القرآن الكريم ذكر الأولياء والصالحين، فضلاً عن ذكر أبناء النبيين، وخلاصته المصطفين، ومن هنا فلا بد أن يكون للإمام الحسين عليه السلام مقامه في هذا الكتاب العظيم، ومن ذلك:
أنه ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في آية المباهلة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} ]آل عمران/ 61]
فقد ذَكَرَت الرواياتُ الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اصطحب الحسين يوم المباهلة مع أخيه الحسن وأبيه علي وأمّه فاطمة عليهم السلام، ولم يصطحب غيرهم.
وهو أيضاً من جملة الذين أذهب الله عنهم الرجس حين قال تعالى: }إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا{ ]الأحزاب/ 33]، فقد روي عن أمّ سلمة وبطرق عديدة أنّها قالت: لمّا نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّاً, وفاطمة, وحسناً, وحسيناً, فجلّل عليهم كساءً خيبرياً، فقال: ((اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً))، وفيها إعلان سماوي عن طهارتهم وعصمتهم عليهم السلام.
وهو من المبشرين بالجنة بقوله تعالى: }وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا{، وقصة إطعامهم للمسكين واليتيم والأسير، وإيثارهم لهم على أنفسهم مشهورة.
وإذا كان الإمام الحسين عليه السلام أبا الشهداء, فلا شك أن ما من آية تتحدث عن الشهداء عموماً إلا وهو أميرها ومقصودها.
الحسين (ع) في السنة
إذا كان القرآن الكريم لم يترك ذكر الإمام الحسين عليه السلام، فبالأحرى أن تمتلئ السنة الشريفة بذكره، وذكر فضائله ومناقبه، ومن أشهر الأحاديث الواردة فيه عليه السلام:
قول جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: ((حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً حسين سبط من الأسباط)).]الأمالي الإثنينية ج1/ ص534، المعجم الكبير ج3/ ص57، مسند أحمد ج4/ ص172]
وقوله صلى الله عليه و آله وسلم في الحسنين: ((مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي)).]مسند أحمد, ج2/ ص288، المستدرك, ج3/ ص187، الإمام المنصور بالله، الشافي ج1/ ص110]
وفيه وفي أخيه الحسن عليهما السلام يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)).]الإمام المنصور بالله، الشافي, ج1/ ص339، مجموع السيد حميدان, ج1/ ص367]
وعن عبد الله بن عمران أن رسول الله صل الله عليه واله وسلم قال: ((إن الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا)).]المعجم الكبير, ج3/ ص209، الجامع الكبير للسيوطي, ج1/ ص6293، سنن الترمذي, ج5/ ص657]
وعن عمر بن الخطّاب، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: ((كلّ بني أنثى فإنّ عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإنّي أنا عصبتهم وأنا أبوهم)).]الشافي للإمام المنصور, ج2/ ص8، مجموع كتب ورسائل الإمام الهادي, ج1/ ص97، المعجم الكبير للطبراني, ج3/ ص73، الجامع الكبير للسيوطي, ج1/ ص15817]
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة)).[الأمالي الإثنينية, ج1/ ص488، صحيفة الرضا, ج1/ ص158، مسند الإمام زيد, ج1/ ص462، المعجم الكبير, ج3/ ص61]
عن جابر بن عبدالله: ((مَن سرَّه أنْ ينظُرَ إلى رجُلٍ مِن أهلِ الجنَّةِ فلْينظُرْ إلى الحُسَيْنِ بنِ علِيٍّ فإنِّي سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يقولُه)). [ابن حبان، صحيح ابن حبان,ج15/ ص421, برقم 6966 ـ الذهبي، ميزان الاعتدال, ج2/ص40]
نشأة الإمام الحسين (ع)
نشأ الإمام الحسين عليه السلام في بيت النبوة والطهارة، ومسقط الوحي والرسالة، فتربى في حجر جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وبين يدي أبيه علي المرتضى وأمه فاطمة الزهراء عليهم السلام، فنهل من معينهم الصافي، حتى عانقته الفضيلة، ومازجته مكارم الأخلاق.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير الاهتمام بالحسين وبأخيه الحسن عليهما السلام، يدعوهما بابنيه، ويؤذيه أن ينالهما شيء، قال يزيد بن أبي زياد: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيت عائشة، فمر على بيت فاطمة فسمع حسيناً يبكي، فقال: ((ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني)).
ومن محبة النبي للإمام الحسين وشفقته عليه أن يؤذيه شيء أن الحسين كان يأتي ورسول الله ساجد فيركب على عنقه فيطيل رسول الله السجود حتى لا يعجله, فعن عبدالله بن شداد: سجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صلاة فجاء الحسن أو الحسين [قال مهدي: وأكبر ظني أنه الحسين] فركب عنقه وهو ساجد فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر فلمَّا قضى صلاته قالوا له فقال إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحملهما على عاتقه، فقال له أحدهم: نعم الفرس تحتكما، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ونعم الفارسان هما"، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعطيهما الكثير من وقته، ويلاعبهما، ويظهر الكثير من حبه لهما.
عن محمد الباقر بن علي بن الحسين: اصطرع الحسنُ والحسينُ عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولُ: هي حَسَنُ! فقالت له فاطمةُ: يا رسولَ اللهِ، تُعينُ الحسَنَ كأنَّه أحَبُّ إليك من الحُسَينِ؟! قال: إنَّ جبريل يُعينُ الحُسَين، وإني أحِبُّ أن أُعينَ الحَسَن
وقد جاء عن علي بن مرة أنه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعينا إلى طعام، فإذا الحسين يلعب في الطريق، فأسرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمام القوم، ثم بسط يديه فجعل الحسين يفر مرة ههنا، ومرة ههنا، يضاحكه حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه، والأخرى بين رأسه وأذنيه، ثم اعتنقه فقبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حسين مني وأنا منه، أحب الله من أحبه، الحسن والحسين سبطان من الأسباط)).
وكان الله يحبيهما بعنايته ويكلأهما برعايته, فقد أكرمهما الله وهو في ظل جده المصطفى بكرامات عدة فقد روى أبو هريرة أنه كان الحسين عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكان يحبه حبا شديدا فقال: أذهب إلى أبي؟ [وفي حديث البغوي إلى أمي] فقلت: أذهب معه؟ قال [أبو هريرة]: فجاءت برقة من السماء فمشى في ضوئها حتى بلغ [زاد البغوي إلى أمه].
وفي رواية أخرى عنه كنا نُصلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم العشاءَ فكان إذا سجد وثبَ الحسينُ والحسنُ على ظهرِه فإذا رفع رأسَه أخذَهما ووضعَهما وضعًا رفيقًا فإذا عاد عادَا حتى إذا قضى صلاتَه قال فوضع واحدًا هاهنا وواحدًا هاهنا على فخِذِه فقمتُ إليه فقلتُ يا رسولَ اللهِ ألا أذهبُ إلى أُمهِما قال لا فَبَرقَتْ برقةٌ فقال الحقَا بأمِّكُما فلم يزالا في ضوئِها حتى دخلا.
وبعد موت جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم تلبث أن لحقته أمه فاطمة عليها السلام، فعاش في ظل والده الإمام علي عليه السلام.
بعض الأخبار الواردة في استشهاده (ع)
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يشير إلى ما سيحدث على أهل بيته عليهم السلام من الأثرة، وما سيعانونه من بعده، وخصوصاً الإمام الحسين عليه السلام لعظم الفاجعة به، وهول المصيبة، ومن ذلك:
ما روي أن ﺟﺒﺮﻳﻞ عليه السلام أخبر ﺭﺳﻮﻝَ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺑﻤﺎ ﺳﻴﺼﻴﺐ اﻟﺤﺴﻴﻦ (ع) ﺑﻌﺪﻩ، ﻭﺃﻥ ﺃﻣﺘﻪ ﺳﺘﻘﺘﻠﻪ ﺑﻌﺪﻩ ﻓﻲ ﻛﺮﺑﻼء، ﻓﻜﺎﻥ ﻳﺒﻜﻲ ﺑﻜﺎء ﺷﺪﻳﺪاً، وﻳﻠﺜﻢ ﺛﻐﺮ اﻟﺤﺴﻴﻦ عليه السلام، ﻭﻳﻘﺒﻠﻪ، ﻭﻳﻘﻮﻝ: ((ﺣﺴﻴﻦ ﻣﻨﻲ ﻭﺃﻧﺎ ﻣﻦ ﺣﺴﻴﻦ، ﺃﺣﺐ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺃﺣﺐ ﺣﺴﻴﻨﺎ، ﺣﺴﻴﻦ ﺳﺒﻂ ﻣﻦ اﻷﺳﺒﺎﻁ )).
وروي عن اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ: ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺧﺮﺝ ﻣﺴﺎﻓﺮاً ﻣﻦ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﻓﻠﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺑﺤﺮﺓ، ﻭﻗﻒ ﻭاﺳﺘﺮﺟﻊ، ﺃﻱ ﻗﺎﻝ: ﺇﻧﺎ ﻟﻠﻪ ﻭﺇﻧﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﺭاﺟﻌﻮﻥ، ﺛﻢ ﻣﺮ، ﺛﻢ ﻭﻗﻒ ﻭاﺳﺘﺮﺟﻊ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻷﻭﻝ ﻭﺑﻜﻰ، ﻭﻗﺎﻝ: ﻫﺬا ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻳﺨﺒﺮﻧﻲ ﺃﻧﻬﺎ ﺃﺭﺽ ﻛﺮﺏ ﻭﺑﻼء ﻳﻘﺘﻞ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺳﺨﻴﻠﺘﻲ ﻭﻓﺮﺥ ﻓﺮﺧﺘﻲ، ﻭﺃﺗﺎﻧﻲ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺘﺮﺑﺔ ﺣﻤﺮاء، ﺛﻢ ﺩﻓﻌﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﻋﻠﻲ عليه السلام، ﻭﻗﺎﻝ: ﺇﺫا ﻏﻠﺖ ﻭﺳﺎﻟﺖ ﺩﻣﺎً ﻋﺒﻴﻄﺎ ﻓﻘﺪ ﻗﺘﻞ اﻟﺤﺴﻴﻦ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ ﻭﻣﺪ ﻳﺪﻩ: ﻳﺰﻳﺪ ﻻ ﺑﺎﺭﻙ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﻳﺰﻳﺪ، ﻛﺄﻧﻲ ﺃﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﺼﺮﻋﻪ ﻭﻣﺪﻓﻨﻪ.
ﻗﺎﻝ ﻭﺩﻓﻊ ﻋﻠﻲ عليه السلام اﻟﺘﺮﺑﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ، ﻓﺸﺪﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﻃﺮﻑ ﺛﻮﺑﻬﺎ، ﻓﻠﻤﺎ ﻗﺘﻞ اﻟﺤﺴﻴﻦ عليه السلام، ﺇﺫا ﺑﻬﺎ ﺗﺴﻴﻞ ﺩﻣﺎً ﻋﺒﻴﻄﺎً، ﻓﻘﺎﻟﺖ ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ: اﻟﻴﻮﻡ ﺃﻓﺸﻲ ﺳﺮ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ.
و اخبار جبريل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مروية في كتب المسلمين عامة باختلاف مذاهبهم ومن تلك الروايات عن سعيد بن جمهان: أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أتاهُ جبريلُ بترابٍ من ترابِ القريةِ الَّتي يُقتلُ فيها الحسينُ وقيلَ لَهُ اسمُها كربلاءُ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم كربٌ وبلاءٌ
عن أنس بن مالك استأذَن مَلِكُ القَطْرِ ربَّه أنْ يزُورَ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فأذِن له فكان في يومِ أمِّ سلَمةَ فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: (احفَظي علينا البابَ لا يدخُلْ علينا أحَدٌ) فبَيْنا هي على البابِ إذ جاء الحُسَينُ بنُ علِيٍّ فظفِر فاقتحَم ففتَح البابَ فدخَل فجعَل يتوثَّبُ على ظَهرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وجعَل النَّبيُّ يتلثَّمُه ويُقبِّلُه فقال له الملَكُ: أتُحِبُّه؟ قال: (نَعم) قال: أمَا إنَّ أمَّتَك ستقتُلُه إنْ شِئْتَ أرَيْتُك المكانَ الَّذي يُقتَلُ فيه؟ قال: (نَعم) فقبَض قَبضةً مِن المكانِ الَّذي يُقتَلُ فيه فأراه إيَّاه فجاءه بسَهلةٍ أو تُرابٍ أحمَرَ فأخَذَتْه أمُّ سلَمةَ فجعَلَتْه في ثوبِها قال ثابتٌ: كنَّا نقولُ: إنَّها كَرْبَلاءُ
ولا زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تلك الحال، يبين للأمة عظيم منزلة الحسنين عليهما السلام، ويكرر على مسامعها الإشادة بفضلهما وتكريمهما، ويربط حبه بحبهما؛ لدورهما العظيم في هداية الأمة من بعده، ورجاء منه أن تنهض هذه الأمة للذب عنهما وعن أهل البيت عليهم السلام، وقد استمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك حتى آخر لحظة من حياته، فإنه لما ﺛﻘﻞ ﻓﻲ ﻣﺮﺿﻪ، ﻭاﻟﺒﻴﺖ ﻏﺎﺹ ﺑﻤﻦ ﻓﻴﻪ، ﻗﺎﻝ: "اﺩﻋﻮا ﻟﻲ اﻟﺤﺴﻦ ﻭاﻟﺤﺴﻴﻦ" ﻗﺎﻝ: ﻓﺠﻌﻞ ﻳﻠﺜﻤﻬﻤﺎ ﺣﺘﻰ ﺃﻏﻤﻲ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﺠﻌﻞ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻳﺮﻓﻌﻬﻤﺎ ﻋﻦ وجهه ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ: ﻓﻔﺘﺢ النبي ﻋﻴﻨﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: "ﺩﻋﻬﻤﺎ ﻳﺘﻤﺘﻌﺎﻥ ﻣﻨﻲ ﻭﺃﺗﻤﺘﻊ ﻣﻨﻬﻤﺎ، ﻓﺈﻧﻪ ﺳﻴﺼﻴﺒﻬﻤﺎ ﺑﻌﺪﻱ ﺃﺛﺮﺓ"، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: "ﺃﻳﻬﺎ اﻟﻨﺎﺱ، ﺇﻧﻲ ﺧﻠﻔﺖ ﻓﻴﻜﻢ ﻛﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﻭﺳﻨﺘﻲ ﻭﻋﺘﺮﺗﻲ ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ، ﻓﺎﻟﻤﻀﻴﻊ ﻟﻜﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﻛﺎﻟﻤﻀﻴﻊ ﻟﺴﻨﺘﻲ، ﻭاﻟﻤﻀﻴﻊ ﻟﺴﻨﺘﻲ ﻛﺎﻟﻤﻀﻴﻊ ﻟﻌﺘﺮﺗﻲ، ﺃﻣﺎ ﺇﻥ ﺫﻟﻚ ﻟﻦ ﻳﻔﺘﺮﻗﺎ ﺣﺘﻰ اﻟﻠﻘﺎء ﻋﻠﻰ اﻟﺤﻮﺽ".
ﻭﺭﻭﻯ ﺃﺑﻮ اﻟﻌﺒﺎﺱ اﻟﺤﺴﻨﻲ ﻳﺮﻓﻌﻪ ﺇﻟﻰ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﻗﺎﻝ: اﺷﺘﺪ ﺑﺮﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻣﺮﺿﻪ اﻟﺬﻱ ﻣﺎﺕ ﻣﻨﻪ، ﻓﺤﻀﺮﺗُﻪ ﻭﻗﺪ ﺿَﻢَّ اﻟﺤﺴﻴﻦ عليه السلام ﺇﻟﻰ ﺻﺪﺭﻩ، فيسيل ﻣﻦ ﻋﺮﻓﻪ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻫﻮ ﻳﺠﻮﺩ ﺑﻨﻔﺴﻪ، ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ: ((ﻣﺎﻟﻲ ﻭﻟﻴﺰﻳﺪ ﻻ ﺑﺎﺭﻙ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﻳﺰﻳﺪ اﻟﻠﻬﻢ اﻟﻌﻦ ﻳﺰﻳﺪ))، ﺛﻢ ﻏﺸﻲ ﻃﻮﻳﻼً ﻭﺃﻓﺎﻕ، ﻓﺠﻌﻞ ﻳﻘﺒﻞ اﻟﺤﺴﻴﻦ عليه السلام، ﻭﻋﻴﻨﺎﻩ ﺗﺬﺭﻓﺎﻥ، ﻭﻳﻘﻮﻝ: ((ﺃﻣﺎ ﺇﻥ ﻟﻲ ﻭﻟﻘﺎﺗﻠﻚ ﻣﻘﺎﻣﺎً ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ اﻟﻠﻪ )).
الإمام الحسين مع أبيه (سنة 11 - 40 هجرية)
أقام الإمام الحسين مع أبيه عليهما السلام ما يقارب سبعاً وثلاثين سنة، يأخذ عنه العلم ويستمع عليه أحاديث جده المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله ولقد روى أولاده وبالخصوص علي بن الحسين تلك الأحاديث, ودوَّنها أولادهم في كتبهم فمعظم أحاديث مسند الإمام زيد بن علي مروية عنه وكذلك الإمام الباقر وأولاده فقد جمع الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد الباقر مجموعة عظيمة من تلك الأحاديث في صحيفته, ومن تلك الأحاديث:
روى الإمام زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((للشهيد سبع درجاتٍ:
فأول درجاته: أن يرى منزله من الجنة قبل خروج روحه فيهون عليه ما به.
والثانية: أن تبرز له زوجةٌ من حور الجنة فتقول له: أبشر يا ولي الله فوالله ما عند الله خيرٌ لك مما عند أهلك.
والثالثة: إذا خرجت نفسه جاءه خدمه من الجنة فولوا غسله وكفنه وطيبوه من طيب الجنة.
والرابعة: أن لا يهون على مسلمٍ خروج نفسه مثل ما يهون على الشهيد.
والخامسة: أن يبعث يوم القيامة وجروحه تنبعث مسكاً فيعرف الشهداء برائحتهم يوم القيامة.
والسادسة: أنه ليس أحدٌ أقرب منزلاً من عرش الرحمن من الشهداء.
والسابعة: أن لهم كل جمعةٍ زورةً يزورون الله عز وجل فيحيون بتحية الكرامة ويتحفون بتحف الجنة ثم ينصرفون فيقال: هؤلاء زوار الرحمن))
وروى الإمام علي بن موسى الرضى، حدثنا أبي، عن أبيه، عن أبيه جعفر، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تقعد إلا إلى عالم يدعوك من الخمس إلى الخمس: من الرغبة إلى الزهد، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكبر إلى التواضع، ومن المداهنة إلى المناصحة، ومن الجهل إلى العلم )).
وروى الإمام جعفر بن محمد، عن آبائه، عن الحسين بن علي عليهم السلام قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( وإذا صليت فصلّ صلاة مودع، وإياك يا حسين وما يعتذر منه.. ))
كما سمع الإمام الحسين بن علي عن أبيه فقد سمع عن جده رسول الله من دون واسطة فعن أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن الحسين بن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أربع من علامات النفاق جمود العين، وقساوة القلب، والإصرار على الذنب، والحرص على الدنيا)) .
وقف الإمام الحسين مع أبيه في حروبه أثناء خلافته، فقد روى المؤرخون أنه كان قائد الميسرة في حرب الجمل، كما كان مع أخيه الحسن على الميمنة في معركة صفين.
وهكذا ظل ملازماً لأبيه الإمام علي عليه السلام في السلم والحرب، ينهل منه العلم والتجارب حتى آخر لحظات حياته.
الإمام الحسين مع أخيه الإمام الحسن (سنة 40 - 50 هجرية)
وبعد استشهاد الإمام علي عليه السلام كان الإمام الحسين عليه السلام مع أخيه وإمام زمانه الحسن بن علي نعم العضد والعون، فرافقه مع عسكره نحو الشام، ووقف إلى جانبه في ساحة القتال، وتجرع ما تجرعه الإمام الحسن عليه السلام من وهن الجبهة الداخلية، وشراسة الأعداء الخارجيين، وتسلل الخونة من أمراء جيشه، ولما اقترح معاوية الصلح، وعلى فرض صحة أنه راجع الحسن في مسألة الموافقة على الصلح، فلعل ذلك كان منه حين المشاورة، لم تبد منه فيما بعد أي معارضة على مسألة الصلح، سيما بعد أن أوضح له الامام الحسن الأسباب الداعية لذلك، وكيف له أن يبديَ أي معارضة؟! وهو يعلم أن إمام زمانه هو الحسن عليه السلام، وللإمام أن يرى ما هو الأصلح للأمة، فيقوم به، وبعد الصلح عاد مع أخيه الإمام الحسن إلى المدينة ليقيم هناك، وبقي حتى واراه الثرى بعد أن دس إليه معاوية السم.
ويروى أنه في وداع أخيه الحسن عليه السلام قام ناعياً، فقال: (رحمك الله، أبا محمد، إن كنت لتناصر الحق عند مظانّه، وتؤثر الله عند مداحض الباطل وفي مواطن التقية بحسن الرويّة، وتستشفّ جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة، وتقبض عنها يداً طاهرة، وتردع ما رده أعداؤك بأيسر المؤونة عليك، وأنت ابن سلالة النبوة، ورضيع لبان الحكمة، وإلى روح وريحان، وجنة نعيم، أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عليه).
ﻭﻟﻠﺤﺴﻴﻦ أيضا ﺃﺑﻴﺎﺕٌ ﻓﻴﻪ ﻳﺮﺛﻴﻪ ﺑﻬﺎ:
أأدهن رأسي أم تطيب مجالسي
وخدك معفور وأنت سليب
أم استمتع الدنيا بشيء أحبه
ألا كلما يدني إليك حبيب
أم أشرب ماء المزن أم غير مائه
وما لدموعي في الإناء غروب
فلا زلت أبكي ما تغنت حمامة
عليك وما هبت صبا وجنوب
وما قطرت عيني من الماء قطرة
وما اخضرَّ في دوح الحجاز قضيب
وليس حريباً من أصيب بماله
ولكن من وارى أخاه حريب
بكائي طويل والدموع غزيرة
وأنت بعيد والمزار قريب
ولما مضى عني أخي ذقت حرقة
له لم يذقنيها سواه غريب
دور الإمام الحسين الإصلاحي في الأمة
بعد وفاة الإمام الحسن عليه السلام اجتمع أنصاره، ومعهم بنو جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي ـ وأم جعدة هي أم هانئ بنت أبي طالب ـ في دار سليمان بن صرد، فكتبوا إلى الحسين عليه السلام كتاباً بالتعزية، وقالوا في كتابهم: "إن الله قد جعل فيك أعظم الخلف ممن مضى، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، المنتظرة لأمرك".
وكتب إليه بنو جعدة يخبرونه "بحسن رأي أهل الكوفة فيه، وحبهم لقدومه وتطلعهم إليه، وأنهم قد وجدوا من أنصاره وإخوانه من يرضى هديه، ويطمأن إلى قوله، ويعرف نجدته وبأسه، فأفضوا إليهم ما هم عليه من شنآن ابن أبي سفيان، والبراءة منه، ويسألونه الكتاب إليهم برأيه"، فكتب الحسين عليه السلام إليهم: "إني لأرجو أن يكون رأي أخي - رحمه الله - في الموادعة، ورأيي في جهاد الظلمة رشداً وسداداً، فالصقوا بالأرض، واخفوا الشخص، واكتموا الهوى، واحترسوا من الظنة ما دام ابن هند حياً، فإن يحدث به حدث وأنا حي يأتكم رأيي إن شاء الله".
ومع تتابع هذه الدعوات والعروض التي قدمت للإمام الحسين (ع) إلا أنه ظل ملتزماً بالصلح الذي كان بين أخيه الإمام الحسن (ع) وبين معاوية، وفي نفس الوقت، وبسبب الثقافات الحالقة للدين، التي سعى معاوية لنشرها بين المسلمين، كتشويهه لصورة أهل البيت عليهم السلام، ونشره للمذاهب الباطلة المنكرة كالجبر والإرجاء، مستعيناً بعلماء السوء وفتاواهم الضالة، وتوظيف وُضَّاع يضعون الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من أجل ذلك لم يكن للإمام الحسين عليه السلام بداً من مواجهة هذا التحريف والتزييف، فكان له عليه السلام عدة تحركات في هذا الصدد، منها أنه كان له حلقة مشهورة في المسجد النبوي؛ لتعليم الناس وإرشادهم، وتنبيههم لأيِّ تحريف في الدين.
كذلك كان له العديد من الرسائل والخطب في تلك الفترة، كما نقل التأريخ الكثير من النقد اللاذع الذي وجهه لمعاوية بسبب ما بدر منه من تجاوزات، كما كان عليه السلام دائم التواصل مع الناس، تغشاه العديد من الوفود والوجاهات؛ ليوجههم وينبههم على تلك الانحرافات الفكرية.
رفض الإمام الحسين بيعة يزيد
قد كان معاوية ولا ريب ينوي أن يجعلها دولة أموية متعاقبة في ذريته منذ تصدى للخلافة, إلا أنه كان يتردد ويتكتم ولا يفضي بنيته إلى أقرب المقربين إليه, ثم كبرت سنه وخاف أن يعجل عن قصده, فبدأ في التمهيد لبيعة يزيد, وأن تكون البيعة في حياته؛ لأن يزيد الطائش الفاسق لن تتم له بيعة إلا بالحيلة والمكر وتحت إشراف أبيه معاوية مهندس نكسات الأمة.
كان موقف الإمام الحسين واضحاً من تلك البيعة الفاجرة، وعبر في أكثر من موقف وعلى الملأ رفضها واستنكارها, فقد أنشد يوماً:
لا دعوت السوام في غسق الصبح.... مغتراً ولا دعوت يزيدا
يوم أعطي على المهابة ضيماً.... والمنايا يرصدنني أن أحيدا
وبتلك المواقف المشهودة حاول أن يوصل إلى معاوية موقفه الصارم من هذه البيعة, وحين تهيأت الفرصة للإمام الحسين أن يقف أمام معاوية أعلن وبصريح العبارة عن تلك المواقف, وأفصح عنها بأفصح بيان, فخاطبه: " تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوباً أو تنعت غائباً،... ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى اللَّه بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فواللَّه ما برحت تقدح باطلاً في جورٍ وحنقاً في ظلم حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص".
سعى معاوية جاهداً في تثبيت البيعة لولده يزيد, فاحضر كبار أهل الشام, وعرض عليهم وصيته بذلك, والتي جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما عهد «به» معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى ابنه يزيد بن معاوية: أنه قد بايعه، وعهد إليه، وجعل الأمر من بعده إليه، وسماه أمير المؤمنين، على أن يحفظ هذا الحي من قريش، ويبعد قاتل الأحبة هذا الحي من الأنصار، وأن يقدم بني أمية وبني عبد شمس على بني هاشم وغيرهم، ويطلب بدم المظلوم المذبوح أمير المؤمنين عثمان قتيل آل أبي تراب، فمن قرئ عليه هذا الكتاب وقبله وبادر إلى طاعة أميره أكرم وقرب، ومن تلكأ عليه وامتنع فضرب الرقاب.
فلما خرجوا من عنده أقبل على يزيد وقال: يا بني إني قد وطأت لك البلاد، وأذللت الرقاب وبُوئت بالأوزار، ولست أخاف عليك من هذه الأمة إلاّ أربعة نفر من قريش: فرخ أبي تراب شبيه أبيه [ويعني الإمام الحسين]، وقد عرفت عداوته وعداوة آله لنا، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
فأما عبد الرحمن بن أبي بكر فمغرى بالنساء، فإن بايعك الناس بايعك، وأما ابن عمر فما أظن أنه يقاتلك ولايصلح لها، فإن أباه كان أعرف به، وقد قال: كيف أستخلف رجلاً لم يحسن أن يطلق امرأته.
وأما الحسين بن علي فإن أهل العراق لا يدعونه حتى يخرجوه عليك, ويكفيكه الله بمن قتل أباه، وأما ابن الزبير فإن أمكنتك الفرصة فقطعه إرباً إرباً, فإنه يجثم جثوم الأسد, ويروغ روغان الثعلب.
ثم كتب معاوية إلى ابن أخيه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان والياً له على المدينة؛ يأمره بأخذ البيعة ليزيد من أهل الحجاز، وأن يدعو الحسين وبعض كبار أهل المدينة، ولا يفارقهم إلا وقد أخذ البيعة له، ومن أبى منهم قتله، وقد روي أن معاوية بعدها قرّر أن يسافر إلى المدينة؛ ليتولى بنفسه إقناع المعارضين بأخذ البيعة ليزيد إلا أن الموت حال دون ذلك، فتوفي معاوية ليلة النصف من رجب سنة ستين، قبل أن يدرك ما أمل.
وصل كتاب معاوية إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبه، وعلى إثره ورد خبر نعي معاوية وتولي يزيد للحكم، ولأن أولى اهتمامات يزيد طلب البيعة من الحسين عليه السلام، فقد أرسل مع خبر نعي والده كتاباً إلى هذا الوالي يطلب فيه أخذ البيعة من أهل المدينة، ثم أرفق الكتاب بصحيفة صغيرة فيها: خذ الحسين، وعبدالله بن عُمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً، ومن أبَى فاضرب عنقه.
عند ذلك دعا الوليدُ مروانَ بن الحكم، فاستشاره في ذلك، فقال مروان: أحضرهم الساعة قبل أن ينتشر خبر موت معاوية، فمن أبى البيعة، فاضرب عنقه.
فقال الوليد: والله لا أفعل، أأقتل الحسين؟!
طلب والي المدينة الإمام الحسين للحضور
وفي منتصف تلك الليلة دعا الوليد الحسين عليه السلام وابن الزبير، فقال ابن الزبير للحسين: فيمَ تراه بعث إلينا هذه الساعة؟
فقال له الإمام الحسين (ع): إني أظن أن طاغيتهم قد هلك، فيريد معاجلتنا بالبيعة ليزيد الخمور قبل أن يدعو الناس، فقد رأيت البارحة فيما يرى النائم منبر معاوية منكوساً، وداره تشتعل نيراناً.
ثم عاودهما رسول الوليد، فدخل الحسين عليه السلام منزله، فاغتسل وتطهر وصلى أربعاً وعشرين ركعة، ودعا واستخار الله، ثم أقبل نحو دار الوليد، وكان الإمام الحسين (ع) قد أمر جماعة من أهل بيته ومواليه بالمجيء معه، وأمرهم بحمل السلاح والمكوث عند الباب، فإن هم سمعوا صوته قد علا، فليدخلوا عليهم؛ ليدافعوا عنه، فدخل الإمام عليه السلام، فسلم فرد الوليد عليه، ولما استقر المجلس بالإمام الحسين عليه السلام، نعى الوليد إليه معاوية، ثم عرض عليه البيعة ليزيد، فقال عليه السلام: (مِثلِي لا يبايِعُ سراً، فإذا دعوتَ النَّاسَ إلى البيعة دعوتنا معهم فكان أمراً واحداً).
أراد الإمام الحسين عليه السلام بذلك كسب بعض الوقت، وكذلك معرفة موقف الناس عند اجتماعهم، وقد يكون أراد أيضاً استغلال ذلك الجمع؛ لتعبئتهم لرفض البيعة ليزيد.
فقال له الوليد: انصرف على اسم الله؛ حتى تأتينا مع جماعة الناس.
فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة، ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً، حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، ولكن احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه.
فلما سمع الحسين عليه السلام مروان، قال له: ويلي عليك يا ابن الزرقاء! أنت تأمر بضرب عنقي؟! كذبت والله ولؤمت، والله لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك، وإن شئت ذلك فرم ضرب عنقي إن كنت صادقاً.
ثم أقبل على الوليد، فقال: أيّها الأمير إنَّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة والبيعة.
هكذا أعلن الإمام الحسين (ع) بكل شجاعة وإباء أنه لن يخضع للظالمين، ولن يؤيد الفاسقين، ولن يرضى بهذا الانحراف الخطير عن دين الله، فكانت مسألة رفض البيعة ليزيد لا نقاش فيها عنده عليه السلام، وقد عبر عن ذلك بقوله: "لَولم يَكُن في الدنيا مَلجَأ ولا مَأوى لَمَا بَايَعتُ يَزيد".
كانت تلك الليلة هي ليلة السبت 27 رجب سنة 60 هـ، فلما أصبح خرج من منزله يستمع الأخبار، فلقيه مروان، فقال له: يا أبا عبدالله إني لك ناصح فأطعني ترشد، فقال الحسين عليه السلام: وما ذاك، قل حتى أسمع.
فقال مروان: إني آمرك ببيعة يزيد بن معاوية، فإنه خير لك في دينك ودنياك.
فقال الحسين عليه السلام: "إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براعٍ مثل يزيد", وطال الحديث بينه وبين مروان حتى انصرف عليه السلام وهو غضبان .
لم يكن الوليد مستعداً للتشديد على الحسين (ع) وقتله، فقد روي أنه قال لمروان: وبخ غيرك يا مروان، إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني، والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت حسيناً، سبحان الله! أقتل حسيناً إن قال: لا أبايع! والله إني لأظن امرأ يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة.
هذا الموقف ساعد الإمام الحسين عليه السلام للحصول على بعض الوقت؛ ليتمكن من الخروج من المدينة سالماً.
توديع الإمام الحسين (ع) لجده رسول الله
لما أراد الإمام الحسين عليه السلام الخروج من المدينة، أتى قبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فودعه وصلى ما شاء الله، فغلبته عيناه وهو على ذلك الحال، فرأى كأنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ملائكة محتوشين به، فاحتضنه وقبل بين عينه، وقال: "يا بني العجل العجل، تأتي يا بني إلى جدك وأبيك وأمك وأخيك".
فانتبه عليه السلام وأخبر أهل بيته، فما رؤي أكثر باكياً وباكية فيهم من ليلتهم تلك، ثم ودعهم، فقالوا: نحن معك حيث أخذت.
وفي تلك الأثناء دخل الإمام الحسين على أخيه محمد بن الحنفية وودعه وبكيا حتى اخضلت لحاهما، وتهيأ ابن الحنفية للخروج معه فجزاه خيراً، وأمره بالتخلف ينتظر ما يرد عليه من أمره
أسباب الثورة
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا بلغ بنو أمية أربعين اتخذوا دين الله دغلاً وعباد الله خولاً ومال الله دولاً)).
لم يكن الإمام الحسين عليه السلام ليسكت عن كل تلك التجاوزات التي يقوم بها بنو أمية؛ إذ كان الواجب الديني والإنساني يحتم عليه الوقوف في وجه الحكم الأموي الجائر الذي استحلَّ حُرُمَات الله، وخالف سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ونهب ثروات الأمة، وقد أكد الإمام الحسين عليه السلام ذلك بقوله: "ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، وأستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله".
كان لا بد له من القيام؛ ليبين البدع، ويقضي عليها، وعلى المذاهب والأفكار التي تبناها بنو أمية، ويعيد روح الإسلام الأصيل إلى جسد الأمة المثقلة، ويحمي المستضعفين منها عموماً, ومن أتباعه وأهل بيته على وجه الخصوص من بطش بني أمية، ويعيد الحق والعدل إلى نصابه، لا سيما والناس يتطلعون إلى من ينقذهم من طغيان بني أمية، وحكامهم الجائرين، ويرفع عنهم الظلم والجبروت، وقد كاتبوه وراسلوه وبايعوه وأعطوه العهود والمواثيق، وتواترت عليه الرسائل والوفود، فكانت مسؤوليته أمام الله تزداد، فلم يستجز لنفسه البقاء والسكوت مع تلك الدعوات المُلِحَّة لإنقاذهم من ظلم الأمويين وَبَغيِهِم، ولو لم يكن إلا إبلاء للعذر أمام الله وإقامة للحجة.
أهداف الثورة
لم تكن المسألة مسألة نـزاع بين الهاشميين وبني أمية، كما يصورها البعض، ولم تكن أيضاً ثورةً من أجل المال والسلطان ولا غيرهما ممّا يسعى إليه أهل الدنيا، بل كانت مسالة نزاع بين الحق والباطل، بين "الشريعة والدين" في وجه "التحريف والتزييف"، وهذا ما بينه الإمام الحسين عليه السلام حين قال: "لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك".
وعلى هذا فقد كان من أهم أهداف ثورة الإمام الحسين (ع) إحياء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتأكيد على أنهما من مُقَوِّمَات هذا الدين؛ حتى لا تموت هذه الفريضة العظيمة، وقد أوضح الإمام الحسين عليه السلام بنفسه ذلك حين قال: (أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: "من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله"، ألا وإن هؤلاء (بنو أمية) قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله).
ولقد صاغ جملة تلك الأهداف لثورته في مقولته التي حفظت في القلوب, وتجذرت في ذاكرة الثورات, وفي ضمائر الثائرين: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت أطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جَدِّي وأبي علي بن أبي طالب، فَمن قَبلَني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم، وهو خير الحاكمين".
وظلت هذه المبادئ والأهداف التي ثار من أجلها الإمام الحسين عليه السلام منهجاً تتناقله الأجيال وتقتبس منه الأحرار، كما ظلت نوراً يهتدي به رواد العدالة حتى يومنا هذا وإلى يوم القيامة.
خروج الإمام الحسين إلى مكة
خرج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة ليلاً، وهو يقرأ:} فخرج منها خائفاً يترقب{ ]القصص:21]، وذلك في ليلة الأحد 28 رجب سنة 60هـ، قاصداً مكة، ومعه من ولده وإخوته وبني أخيه وبني عمه، فوصل الإمام ومن معه إلى مكّة في الثالث من شعبان ليلة الجمعة، وهو يقرأ:} قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ{ ]القصص:22]، فنزل في منزل عمه العباس بن عبد المطلب، في شعب علي، ومكث فيها 125 يوماً.
كُتُبُ أهل الكوفة إلى الإمام الحسين
وفي مدة بقاء الإمام الحسين عليه السلام في مكة، وصلته الكتب والرسل من أشراف أهل الكوفة، أمثال سليمان بن صرد الخزاعيّ، والمسيّب بن نجيّة، وحبيب بن مظاهر، وممّا كتبوه: "فأقبل إلينا فرحاً مسروراً مأموناً مباركاً سديداً وسيِّداً أميراً مطاعاً... ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه - أي النعمان بن بشير والي الكوفة- عنّا حتّى يلحق بالشام فأقدم إلينا، فلعلّ الله عزَّ وجلَّ أن يجمعنا بك على الحقّ"، وأيضاً: "أقدم يا بن رسول الله ، فليس لنا إمام غيرك".
حمل تلك الكتب والرسائل إلى الإمام الحسين عليه السلام بعض وجهائهم، كقيس بن مسهّر الصيداويّ، فسلّموها للإمام الحسين عليه السلام، سائلين منه القدوم معهم إلى الكوفة، ولكنّه عليه السلام تأنّى في أمره، فظلت الكتب والرسل تتوافد عليه؛ يستعجلونه القدوم عليهم، ومن تلك الرسائل: "أمّا بعد، فإنّ الناس منتظرون لا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل يا بن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد اخضرّت الجنّات، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار، فاقدم إذا شئت، فإنّما تقدم إلى جندٍ لك مجنّدة".
وقد روي أن مجموع الكتب والرسائل التي وصلت الإمام الحسين عليه السلام قرابة 800 كتاب من24,000 شخص من أهل العراقين, كلها متضمنة للبيعة للإمام الحسين.
إرسال مسلم بن عقيل إلى "الكوفة"
عندما رأى الإمام الحسين عليه السلام تلك الكتب والرسل من أهل الكوفة، قال لهم: "أبعث معكم أخي وابن عمي، فإذا أخذ لي بيعتي وأتاني عنهم بمثل ما كتبوا به إلي قدمت عليهم"، فدعا مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وقال له: "اشخص إلى الكوفة، فإن رأيت منهم اجتماعاً على ما كتبوا ورأيته أمراً ترى الخروج معه، فاكتب إلي برأيك"، وبعث معه برسالة لهم يقول فيها:
"... وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد أمرته أن يكتب إليّ بحالكم ورأيكم ورأي ذوي الحجى والفضل منكم، وهو متوجّه إلى ما قبلكم إن شاء الله تعالى، والسلام ولا قوّة إلّا بالله، فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولا تخذلوه، فلعمري ليس الإمام العامل بالكتاب والعادل بالقسط كالذي يحكم بغير الحقّ ولا يهدي ولا يُهتدى".
وعندما وصل ﻣﺴﻠﻢ بن عقيل إلى اﻟﻜﻮﻓﺔ اجتمع إليه أهلها، ﻓﺒﺎﻳﻌﻮﻩ ﻭﻋﺎﻫﺪﻭﻩ ﻭﻋﺎﻗﺪﻭﻩ وأعطوه اﻟﻤﻮاﺛﻴﻖ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺼﺮﺓ ﻭاﻟﻮﻓﺎء، فكتب مسلم إلى إلى الإمام الحسين (ع) بحال أهل الكوفة، وكان ممّا جاء في الكتاب: "أمّا بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وإنّ جميع أهل الكوفة معك، وقد بايعني منهم ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين تقرأ كتابي، فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هدى، والسلام".
وفي المقابل كتب أعداء أهل البيت (ع) في الكوفة إلى يزيد بن معاوية بقدوم مسلم بن عقيل وحركته، وأخبروه أن يبعث إليها رجلاً قوياً بدلاً من النعمان بن بشير، الذي اتَّهموه بالتواطئ مع مسلم بن عقيل، فلما وصلت الكتب إلى يزيد، دعا سرجون مولى معاوية، فقال له: ما رأيك؟ فقال سرجون: ضم المصرين الكوفة والبصرة إلى عبيد الله بن زياد.
وفعلاً استجاب يزيد لمشورة سرجون، وضم ولاية الكوفة إلى ابن زياد.
قدم عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، واستطاع بمكره وخداعه أن يخمد حركة مسلم في الكوفة خلال فترة يسيرة، فقام باعتقال هانئ بن عروة وقتله، وخداع أنصاره بالدعاية والتهويل الإعلامي، والتخويف بقدوم الجيش الشامي، حتى بقي مسلم بن عقيل وحيداً في أزقة الكوفة، ومن ثم تمّ اعتقاله في اليوم التالي، وقتله، وسحبه بالحبال في أزقة الكوفة مع هانئ بن عروة.
وكان مقتل مسلم بن عقيل يوم الثلاثاء الثامن من ذي الحجة سنة 60هـ، وفي ذلك اليوم خرج الإمام الحسين عليه السلام من مكة نحو العراق.
خروج الإمام الحسين من "مكة"
عندما وردت رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (ع) تحثه على القدوم إلى الكوفة، لم يكن قد علم بالأحداث التي جرت في الكوفة بعد إرسال تلك الرسالة، فعزم على التوجه إلى العراق؛ استجابة لدعوة أهلها، واستعجل في الخروج من مكة يوم الثلاثاء الثامن من ذي الحجة سنة 60هـ، وقيل: في السابع من ذي الحجة، ولم ينتظر اكتمال شعائر الحج.
ولما أجمع الإمام الحسين عليه السلام رأيه على الخروج، جاءه ابن عباس ونهاه عن ذلك، وقال: يا ابن عم، إن أهل الكوفة قوم غدر قتلوا أباك، وخذلوا أخاك، وطعنوه وسلبوه، وسلموه إلى عدوه؛ فأبى الحسين، وعزم على المسير؛ فقال له ابن عباس: إن كرهت المقام بمكة خوفاً على نفسك فسر إلى اليمن فإن بها عزلة ولنا بها أنصار، وبها قلاع وشعاب، واكتب إلى أهل الكوفة، فإن أخرجوا أميرهم وسلموها إلى نائبك فسر إليهم، فإنك إذا سرت إليهم على هذه لم آمن عليك منهم، وإن عصيتني فأنزل أولادك وأهلك هاهنا، فوالله إني لخائف عليك أن تقتل كما قتل عثمان، ونساؤه وأهله ينظرون إليه.
كان قرار الإمام الحُسين عليه السّلام في الخروج إلى العراق لا رجعة فيه، مهما كانت التضحيات، وعندما عزم على المسير جمع أهل بيته وأنصاره وﺧﻄﺐ فيهم، ﻓﺤﻤﺪ الله ﻭﺃﺛﻨﻰ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﺇﻥ ﻫﺬﻩ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻗﺪ ﺗﻨﻜﺮﺕ ﻭﺃﺩﺑﺮ ﻣﻌﺮﻭﻓﻬﺎ، ﻓﻠﻢ ﻳﺒﻖ ﺇﻻ ﺻﺒﺎﺑﺔ ﻛﺼﺒﺎﺑﺔ اﻹناء، ﻭﺧﺴﻴﺲ ﻋﻴﺶ ﻛﺎﻟﻤﺮﻋﻰ ﺃﻻ ﺗﺮﻭﻥ ﺃﻥ اﻟﺤﻖ ﻻ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻪ، ﻭﺃﻥ اﻟﺒﺎﻃﻞ ﻻ ﻳﻨﻬﻰ ﻋﻨﻪ، ﻟﻴﺮﻏﺐ اﻟﻤﺮﺅ ﻓﻲ ﻟﻘﺎء ﺭﺑﻪ، ﻓﺈﻧﻲ ﻻ ﺃﺭﻯ اﻟﻤﻮﺕ ﺇﻻ ﺳﻌﺎﺩﺓ، ﻭاﻟﺤﻴﺎﺓ ﻣﻊ اﻟﻈﺎﻟﻤﻴﻦ ﺇﻻ ﺷﻘﺎﻭﺓ.
ﻓﻘﺎﻡَ ﺇﻟﻴﻪ ﺯﻫﻴﺮ ﺑﻦ اﻟﻘﻴﻦ اﻟﻌﺠﻠﻲ, ﻓﻘﺎﻝ: ﻗﺪ ﺳﻤﻌﺖ ﻣﻘﺎﻟﺘﻚ ﻫﺪﻳﺖ، ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺎﻗﻴﺔ ﻭﻛﻨﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺨﻠﺪﻳﻦ، ﻭﻛﺎﻥ ﻓﻲ اﻟﺨﺮﻭﺝ ﻣﻮاﺳﺎﺗﻚ ﻭﻧﺼﺮﺗﻚ، ﻻﺧﺘﺮﻧﺎ اﻟﺨﺮﻭﺝ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻌﻚ ﻋﻠﻰ اﻹﻗﺎﻣﺔ ﻓﻴﻬﺎ، ﻓﺠﺰاﻩ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﺧﻴﺮاً، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى
إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بماله
وفارق مثبوراً وحارب مجرما
فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم
كفى بك داء أن تعيش وترغما
ﺛﻢ ﻗﺮﺃ:} وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا{.
الطريق إلى "كربلاء"
استغرقت رحلة الإمام الحسين (ع) من حين خروجه من مكة إلى أن وصل كربلاء 24 يوماً تقريباً، بدءاً باليوم الثامن من شهر ذي الحجة الحرام سنة 60 هـ، وحتى اليوم الثاني من شهر محرم الحرام سنة 61هـ.
وفي طريق هذه الرحلة التقى الإمام الحسين عليه السلام بعدد من الأشخاص القادمين من الكوفة، فكان يسألهم عن أهل الكوفة، ومدى استعدادهم لنصرته، وكان ممن التقى به اﻟﻄﺮﻣﺎﺡ اﻟﻄﺎﺋﻲ اﻟﺸﺎﻋﺮ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﺧﺮﺟﺖ؟ ﻗﺎﻝ: ﻣﻦ اﻟﻜﻮﻓﺔ، ﻗﺎﻝ: ﻛﻴﻒ ﻭﺟﺪﺕ ﺃﻫﻞ اﻟﻜﻮﻓﺔ؟ ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ اﺑﻦ ﺭﺳﻮﻝ الله ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﻣﻌﻚ، ﻭﺳﻴﻮﻓﻬﻢ ﻋﻠﻴﻚ.
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﺻﺪﻗﺖ، اﻟﻨﺎﺱ ﻋﺒﻴﺪ اﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻭاﻟﺪﻳﻦ ﻟﻐﻮ ﻋﻠﻰ ﺃﻟﺴﻨﺘﻬﻢ, ﻳﺤﻮﻃﻮﻧﻪ ﻣﺎ ﺩﺭﺕ ﻣﻌﺎﺋﺸﻬﻢ ﻓﺈﺫا اﻣﺘﺤﻨﻮا ﺑﺎﻟﺒﻼء ﻗﻞ اﻟﺪﻳﺎﻧﻮﻥ.
الإمام الحسين في بستان بني عامر
ثم مضى عليه السلام مكملاً طريقه، حتى بلغ ﺑﺴﺘﺎﻥ ﺑﻨﻲ ﻋﺎﻣﺮ فلقي الفرزدق قادماً من العراق، فقال أين تريد يا بن رسول الله؟ ما أعجلك عن الموسم؟ وذلك يوم التروية، فقال: لو لم أعجل لأخذت أخذا، فأخبرني يا فرزدق الخبر؟ قال: تركت الناس قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية، فقال الإمام الحسين موضحاً أسباب خروجه: يا فرزدق إن هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين، وأنا أولى من قام بنصرة دين الله، وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، فأعرض عنه الفرزدق، وواصل الإمام الحسين عليه السلام سيره إلى الكوفة.
ويروى أن الإمام الحسين (ع)- في هذا الموضع- ﻛﺘﺐ ﺇﻟﻰ أخيه ﻣﺤﻤﺪ ﻭﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻪ، قائلاً: "ﻣﻦ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻭﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻪ ﺃﻣﺎ ﺑﻌﺪ: ﻓﺈﻧﻜﻢ ﺇﻥ ﻟﺤﻘﺘﻢ ﺑﻲ اﺳﺘﺸﻬﺪﺗﻢ، ﻭﺇﻥ ﺗﺨﻠﻔﺘﻢ ﻋﻨﻲ ﻟﻢ ﺗﻠﺤﻘﻮا اﻟﻨﺼﺮ، ﻭاﻟﺴﻼﻡ".
وبعد خروجه ﻣﻦ ﺑﺴﺘﺎﻥ ﺑﻨﻲ ﻋﺎﻣﺮ ﺑﻤﺮﺣﻠﺔ ﺃﻭ ﻣﺮﺣﻠﺘﻴﻦ ﻟﻘﻲ ﻋﺒﺪالله ﺑﻦ ﻣﻄﻴﻊ اﻟﻌﺪﻭﻱ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ: ﺃﻳﻦ ﺗﺮﻳﺪ ﻳﺎ اﺑﻦ ﺭﺳﻮﻝ الله؟ ﻗﺎﻝ: "ﺃﺭﻳﺪ اﻟﻜﻮﻓﺔ؛ ﻓﺈﻥ ﺃﻫﻠﻬﺎ ﻛﺘﺒﻮا ﺇﻟﻲ"، ﻗﺎﻝ: ﻓﺈﻧﻲ ﺃﻧﺸﺪﻙ ﻳﺎ اﺑﻦ ﺭﺳﻮﻝ الله ﺑﺎﻟﺒﻴﺖ اﻟﺤﺮاﻡ ﻭاﻟﺒﻠﺪ اﻟﺤﺮاﻡ ﻭاﻟﺸﻬﺮ اﻟﺤﺮاﻡ ﺃﻥ ﺗﻌﺮﺽ ﻧﻔﺴﻚ ﻟﺒﻨﻲ ﻣﺮﻭاﻥ؛ ﻓﻮالله ﻟﺌﻦ ﻋﺮﺿﺖ ﻧﻔﺴﻚ ﻟﻬﻢ ﻟﻴﻘﺘﻠﻨﻚ.
لم تكن هذه التحذيرات كافية لمنع الإمام الحسين عليه السلام من مواصلة مسير يحدو به هاتف الإصلاح في أمة جده رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله.
الإمام الحسين في الحاجز
مضى الإمام الحسين حتى وصل الحاجز من بطن الرمة، وفي هذا الموضع كتب الإمام الحسين عليه السلام كتاباً إلى أهل الكوفة، وأرسله مع مبعوثه قيس بن مسهّر، قال فيه:
"بسم الرحمن الرحيم من الحسين إلى إخوانه المؤمنين سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا اله إلا هو أما بعد: فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني بحسن رأيكم واجتماع ملاكم على نصرتنا والطلب بحقنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فالتمسوا أمركم وجدوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
سار قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الإمام الحسين على بساط السرعة, لكن تلك المهمة لم تنجح, فلما وصل قيس القادسية اعترضه أحد أنصار بني أمية, واسمه الحصين بن تميم، وبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له: اصعد فسب الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي بن أبي طالب، فصعد قيس القصر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "أيها الناس إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنا رسوله وقد فارقته الحاجز، فأجيبوه"، ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلي بن أبي طالب، فأمر عبيد الله، فألقي من فوق القصر فمات.
الإمام الحسين في "الخُزيمية"
عندما وصل الإمام الحسين عليه السلام ومن معه إلى الخُزيمية، سمعت زينب عليها السلام هاتفاً، يقول:
ألا يا عيـن فاحتـفلي بجـهد *** فمن يبكي على الشـهداء بعدي
عـلى قـوم تسـوقهم المنـايـا *** بمقـدار إلـى إنجـاز وعـدي
الإمام الحسين في "الثعلبية" ووصول خبر استشهاد مسلم وهانئ
وصل الإمام الحسين بن علي عليه السلام إلى منطقة تدعى "الثعلبية" وبدأت تصل إليه الأخبار المؤلمة, فقد ورد عليه خبر مقتل مسلم بن عقيل، وعدم وفاء أهل الكوفة، وتخلفهم عما دعوه لأجله.
أعلمه بذلك رجلان من بني أسد، وهما عبد الله بن سليم والمدرئ بن المشمعل، قضيا حجهما، وكانا ذا همة للحاق بالحسين عليه السلام، فلما دَنَيَا من الحسين إذا هما برجل قادم من الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين عليه السلام، فوقف الحسين كأنه يريده، ثم تركه ومضى، فذهبا نحو الرجل، فسألاه عن أخبار الكوفة، فقال لهم: لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق.
فأقبل الرجلان حتى لحقا بالحسين عليه السلام في الثعلبية ممسياً، فجاءاه فسلما عليه، فرد عليهما السلام، فقالا له: رحمك الله، إن عندنا خبراً إن شئت حدثناك علانية وإن شئت سراً، قال: ما دون هؤلاء ستر، فقالا له: رأيت الراكب الذي استقبلته عشي أمس؟ قال: نعم، وقد أردت مسألته، فقالا: قد والله استبرأنا لك خبره، وكفيناك مسألته، وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل، وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قُتِلَ مسلم وهانئ، ورآهما يجران في السوق بأرجلهما، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمة الله عليهما، يكرر ذلك مراراً، فقلنا له: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك، فوثب بنو عقيل، فقالوا: والله لا ننصرف حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا، فقال الإمام الحسين عليه السلام: ما خير في العيش بعد هؤلاء؟
فعلما أنه قد عزم رأيه على المسير، فقال له عبد الله بن سليم والمدرئ بن المشمعل الأسديان: خار الله لك. فقال: رحمكما الله.
هنا كان للإمام الحسين عليه السلام أن يرجع بعد أن عرف تخلف الناصر له، وأن أهل الكوفة قد غدروا به، ولكنه مع ذلك رجح الاستمرار؛ لأداء ما يراه واجباً تجاه الإسلام والمسلمين، غير مبال بالمصير الذي سيلاقيه، فعزم على مواصلة المسير إلى الكوفة دون تردد.
واصل الإمام الحسين عليه السلام مسيره، وسرعان ما جاءه خبر استشهاد رسوله قيس، وافاه به رسول من الكوفة، يقال أن الذي أرسله محمّد بن الأشعث، فقد كان سأله مسلم بن عقيل قبل موته أن يكتب للحسين بما كان من أمره، وخذلان أهل الكوفة إياه، بعد أن بايعوه، فلما قرأ الأمام الحسين عليه السلام الكتاب، قَالَ للرسول: كل مَا حم نازل، وعند اللَّه نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا، ثم خرج إلى أصحابه؛ ليعلمهم بحقيقة الوضع، فقال:
"بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وقيس بن مسهّر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس معه ذمام".
فتفرق الناس عنه، وأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفر ممن انضموا إليه، وفي صبيحة اليوم التالي أمر أصحابه بحمل الماء، ومتابعة المسير نحو الكوفة.
الحر في وجه الركب الكربلائي
وصل الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه إلى شراف فباتوا بها، وعند الفجر أمر شبّان القافلة بحمل ما يستطيعون من الماء، فملؤوا القرب والأواني وساروا، حتى إذا كانوا بالعذيب لقيهم رجل من بني أسد يدعى الحر بن يزيد الرياحي في 1000 فارس، فأقبلوا حتّى نزلوا في مقابل أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، فقال الحسين عليه السلام لفتيانه: "اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفاً".
وبعد إقامة صلاة الظهر والعصر قام الإمام الحسين عليه السلام في جيش الحرّ خطيباً، فقال:
"أمّا بعد، أيّها الناس فإنّكم إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم، وقدمت به عليّ رسلكم انصرفت عنكم"، فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا والله ما ندري هذه الكتب التي تذكر، وحينئذٍ أمر الحسين عليه السلام أن تنشر الرسائل بين أيديهم.
فقال الحرّ: فإنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد.
فقال له الحسين عليه السلام: "الموت أدنى إليك من ذلك".
ثمّ قال لأصحابه: "قوموا فاركبوا"، فركبوا، وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: "انصرفوا بنا"، فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين ذلك، فقال الحسين عليه السلام للحر: ثكلتك أمك ما تريد؟ فقال الحر: والله لو غيرك يقولها ما تركت ذكر أمه، ولكنه والله ما إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما أقدر عليه.
فقال الحسين عليه السلام: فما تريد؟ قال: أريد أن أقدمك على عبيد الله بن زياد: قال: فإني والله لا أتبعك، فقال الحر: وأنا والله لا أدعك.
فلما ترادا الكلام قال له الحر: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت أن أقدم بك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة، ولا يردك إلى المدينة، يكون بيني وبينك نصفاً حتى أكتب إلى الأمير عبيد الله بن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أحببت ذلك، أو إلى ابن زياد إن شئت، فلعل الله أن يرزقني العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك.
انتقال الإمام الحسين من "العذيب" إلى "البيضة"
فمضى الإمام الحسين عليه السلام بأصحابه، والحر بن يزيد يسايرهم، إلى أن وصلوا البيضة، فقام الإمام الحسين عليه السلام خطيباً في أصحابه وأصحاب الحر، فقال:
"أيّها الناس إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غَيَّرَ، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم... وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، والمغرور من اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه...".
فقام زهير بن القين، فقال: والله لو كنا في الدنيا مخلدين لآثرنا فراقها في نصرتك ومواساتك، فدعا له الحسين بخير.
وأقبل الحر بن يزيد يقول: يا حسين أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقاتلن، ولئن قوتلت لتهلكن.
فقال الحسين: أبالموت تخوفني؟ أقول كما قال أخو الأوس:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى
إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه
وفارق مثبوراً وحالف محرما
فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم
كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما
الإمام الحسين في قصر بني مقاتل
واصل الإمام الحسين عليه السلام طريقه، فلم يزل سائراً بموكبه حتى نزل قصر بني مقاتل، والحر لا يفارقه، فبينا هم كذلك إذ ورد إلى الحر كتاب ابن زياد أن جعجع بالحسين وأصحابه حتى يأتيك كتابي هذا، ولا تخله أبداً إلا بالعراء.
فقال الإمام الحسين عليه السلام: ننزل تلك القرية يعني الغاضرية، قال الحر: لا أستطيع ذلك، فسار والحر ينازعه حتى انتهى إلى موضع المعركة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: كربلاء. قال: كرب والله وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا، ومهراق دمائنا، ومنعه الحر تجاوزه، فحطت أثقاله.
فلما كان جوف الليل أقبل الإمام الحسين عليه السلام يتمثل ويقول:
يا دهر أفٍّ لك من خليل كم لك بالإشراق والأصيل
من ميت وصـاحب قتيـل والـدهـر لا يقنـع بالبـديـل
وكل حي سالك السبيل
فقالت له أخته زينب: لعلك تخبرنا بأنك تغصب نفسك؟ فقال عليه السلام: لو ترك القطا لنام.
علي بن الحسين ونفسيته المؤمنة
لما ارتحل الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه من قصر بني مقاتل وساروا ساعة خفق رأس الحسين عليه السلام خفقةً، ثم انتبه فأقبل يقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين" مرتين.
فأقبل إليه علي بن الحسين عليه السلام، وهو على فرس فقال: يا أبت جعلت فداك مما استرجعت؟ وعلام حمدت الله؟ قال الحسين:" يا بني إنه عرض لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا".
فقال: يا أبتاه لا أراك الله سوءاً أبداً، ألسنا على الحقِّ؟ قال: "بلى يا بني، والله الذي إليه مرجع العباد".
فقال: يا أبت فإذاً لا نبالي. قال الحسين عليه السلام: "جزاك الله خير ما جزى ولداً عن والده".
هذه هي روحية أهل البيت عليهم السلام، لا يهمهم إلا أن يكونوا على الحق، ثم لا يهمهم أي مصير يلاقيهم بعد ذلك.
الإمام الحسين في أرض كربلاء
لما وافى الإمام الحسين كربلاء، قال: في أي موضع نحن؟ قالوا: بكربلاء، قال: كرب والله وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا ومهراق دمائنا
وهنا خطب الإمام الحسين أصحابه كما رواها حفيده الإمام زيد بن علي عن أبيه عليهما السلام، وقد جاء فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "أيها الناس، خط الموت على بني آدم كخط القلادة على جيد الفتاة ما أولعني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب عليه السلام إلى يوسف وأخيه، وإن لي لمصرعاً أنا لاقيه كأني أنظر إلى أوصالي يقطعها وحوش الفلوات غبراً وعفراص، قد ملأت مني أكراشها، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ليوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله حرمته وعترته، ولن تفارقه أعضاؤه وهي مجموعة في حضيرة القدس تقر بهم عينه وينجز لهم عدته، من كان فينا باذل مهتجه فليرحل فإني راحل غداً إن شاء الله، ثم نهض إلى عدوه".
وصول الجيش الأموي بقيادة عمر بن سعد
فلما كان صباح اليوم التالي أقبل عمر بن سعد بن أبي وقاص في 4,000 من الكوفة من قبل عبيدالله بن زياد، ولم تكن ولاية عمر بن سعد على الجيش بلا ثمن, فقد روي أن عبيد الله بن زياد ولاَّه الرَّي وأرض دسْتبى، فخرج يريد الري في أربعة آلاف، فورد عليه كتاب ابن زياد يُسِّيره إلى محاربة الحسين، حتى إذا فرغ من قتال الإمام الحسين سار إلى ولايته, فاستعفاه، فقال له ابن زياد: إما أن تسير إلي محاربته أو ترد علينا عهدنا.
فجعل يتقَلْقَل ويقول:
ووالله ما أدري وإنـي لـواقـــف ومهما يكن من حادث سيبين
أأترك ملك الري والري رغبـة أم أرجــع مذموماً بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها حجـاب وملك الري قرة عين
فغلب عليه الشقاء، وسار إلى قتل الإمام الحسين عليه السلام
فلما أتاه، قال له الحسين عليه السلام: "اختر واحدة من ثلاث: إما أن تدعوني فألحق بالثغور، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فأنصرف من حيث جئت"، فقبل ذلك عمر بن سعد، فكتب إلى عبيدالله بن زياد، فكتب إليه عبيدالله: لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي، فقال الحسين بن علي عليهما السلام: "لا والله لا يكون ذلك أبدا".
ويروى أن ابن زياد كتب مع شمر بن ذي الجوشن إلى عمر بن سعد: أني لم أبعثك لتكُفَ عن الحسين وتمنيه البقاء والعافية، فإن نزل على حكم أمير المؤمنين واستسلم فذلك، وإلاّ فاقتله وأوطئ الخيل صدره وظهره، فإن أنت أبيت فاعتزل وخل بين شمر وبين العسكر، فقد أمرناه بأمرنا والسلام.
ثم خرج عبيد الله بن زياد حتى عسكر بالنخيلة، وبعث الحصين بن تميم إلى عمر بن سعد وحجان بن الحر وشبث بن ربعي وشمر بن ذي الجوشن في 7000 رجل، وكتب إلى عمر بن سعد يأمره بمنع الحسين وأصحابه الماء.
منع الحسين وأصحابه من الفرات
كانت خطة الأمويين أن يمنعوا الحسين وأصحابه من الماء حتى يعجزوا عن المواجهة, مع أن الفارق العددي بين الجيشين كان كفيلاً بحسم المعركة لصالح الأمويين فهناك 12000 في مقابل ثلة من المؤمنين, ولكن الوقائع أرادت أن تفضح الأمويين وتكشف عن نفسياتهم الخبيثة, بعث عمر بن سعد قائد من قواده يدعى ابنَ الحجاج في كتيبة مكونة 500 فارس تكون مهمتها منع الحسين من الماء فجاءوا حتى أحدقوا بشريعة الماء، وحالوا بينهم وبين الماء, وكان ذلك قبل قتل الحسين عليه السلام بثلاثة أيام.
لم يستسمل الحسين وأصحابه فقد قاموا بعدة محاولات للحصول على الماء ومن ذلك ما روي: أنه لما أضر بالحسين وأصحابه العطش قام عليه السلام فأمر فحفرت آبار وأنبع الله لهم منها ماء عذباً فشربوا منه ودفن.
كما روي أن الحسين حاول الوصول إلى شريعة الماء حين اشتد بهم العطش بإرسال مجموعة من المقاتلين قوامها 15 فارساً بقيادة أخيه العباس بن علي, لكن الفارق العددي منع من نجاح المهمة واستشهد حينها رجل يقال له "رشيد" ودفنه الإمام الحسين في موضعه وكانت فاطمة بنت الحسين تسميه السقا.
وفي بعض الروايات أنه حاول الوصول إلى الماء بنفسه كما روي من أنه عليه السلام ركب المُسَنَّاة يريد الفرات، فقال شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله): ويلكم حولوا بينه وبين الماء.
ودنا ليشرب، فرماه حصين بن تميم - لعنه الله - بسهم فوقع في فمه، فجعل يتلقى الدم، ويرمي به إلى السماء، ويقول: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذر على الأرض منهم أحداً.
ومع أن الرواية لم تبين متى خرج بنفسه يريد شرعة الماء ولكن الذي يميل إليه الفؤاد ويدركه الذوق أنه كان بعد استشهاد أصحابه.
خطبة الإمام الحسين في الجيش الأموي
ولأننا مع شخصية نبوية بامتياز تسعى لهداية الناس ومنعهم من الوقوع في الرذيلة فلقد حاول الإمام الحسين أن يجلي عن تلك الجموع غشاوة الجهل والضلال ويبين لهم ما هم عليه من الجرم والانحراف فقام فيهم خطيباً, قال في كتاب "الحدائق الوردية: ﻭﻟﻤﺎ اﺿﻄﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺇﻟﻰ ﻣﺤﺎﺭﺑﺔ اﻟﻘﻮﻡ ﻭعبأ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﻟﻤﺤﺎﺭﺑﺔ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، ﻭﺭﺗﺒﻬﻢ ﻣﺮاﺗﺒﻬﻢ، ﻭﺃﻗﺎﻡ اﻟﺮاﻳﺎﺕ ﻓﻲ ﻣﻮاﺿﻌﻬﺎ، ﻭﻋﺒﺄ ﺃﺻﺤﺎﺏ اﻟﻤﻴﻤﻨﺔ ﻭاﻟﻤﻴﺴﺮﺓ، ﻭﻗﺎﻝ ﻷﺻﺤﺎﺏ اﻟﻘﻠﺐ: اﺛﺒﺘﻮا، ﻭﺃﺣﺎﻃﻮا ﺑﺎﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﺎﻧﺐ ﺣﺘﻰ ﺟﻌﻠﻮﻩ ﻓﻲ ﻣﺜﻞ اﻟﺤﻠﻘﺔ، ﻓﺨﺮﺝ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺣﺘﻰ ﺃﺗﻰ اﻟﻨﺎﺱ، ﻓﺎﺳﺘﻨﺼﺘﻬﻢ ﻓﺄﺑﻮا ﺃﻥ ﻳﻨﺼﺘﻮا ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻝ ﻟﻬﻢ: "ﻭﻳﻠﻜﻢ ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﺃﻥ ﺗﻨﺼﺘﻮا ﻟﻲ ﻓﺘﺴﻤﻌﻮا ﻗﻮﻟﻲ؛ ﻓﺈﻧﻲ ﺇﻧﻤﺎ ﺃﺩﻋﻮﻛﻢ ﺇﻟﻰ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺮﺷﺎﺩ، ﻓﻤﻦ ﺃﻃﺎﻋﻨﻲ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ اﻟﻤﻬﺘﺪﻳﻦ ﻭاﻟﻤﺮﺷﺪﻳﻦ، ﻭﻣﻦ ﻋﺼﺎﻧﻲ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ اﻟﻤﻬﻠﻜﻴﻦ، ﻭﻛﻠﻜﻢ ﻋﺎﺹ ﻷﻣﺮﻱ، ﻏﻴﺮ ﻣﺴﺘﻤﻊ ﻗﻮﻟﻲ، ﻓﻘﺪ اﻧﺠﺰﻟﺖ ﻋﻄﻴﺎﺗﻜﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﺮاﻡ، ﻭﻣﻠﺌﺖ ﺑﻄﻮﻧﻜﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﺮاﻡ، ﻓﻄﺒﻊ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﻮﺑﻜﻢ، ﻭﻳﻠﻜﻢ ﺃﻻ ﺗﻨﺼﺘﻮﻥ؟ ﺃﻻ ﺗﺴﺘﻤﻌﻮﻥ؟".
ﻓﺘﻼﻭﻡ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻭﻗﺎﻟﻮا: ﺃﻧﺼﺘﻮا ﻟﻪ، ﻓﺄﻧﺼﺘﻮا، ﻓﻘﺎﻡ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻓﻴﻬﻢ: ﻓﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﺛﻨﻰ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﺻﻠﻰ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: "ﺗﺒﺎ ﻟﻜﻢ ﺃﻳﺘﻬﺎ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻭﺗﺮﺣﺎ، ﺃﻓﺤﻴﻦ اﺳﺘﺼﺮﺧﺘﻤﻮﻧﺎ ﻭﻟﻬﻴﻦ ﻣﺘﺤﻴﺮﻳﻦ، ﻓﺄﺻﺮﺧﻨﺎﻛﻢ ﻣﻮﺟﺰﻳﻦ ﻣﺴﺘﻌﺪﻳﻦ، ﺳﻠﻠﺘﻢ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺳﻴﻔﺎ ﻓﻲ ﺭﻗﺎﺑﻨﺎ! ﻭﺣﺸﺸﺘﻢ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻧﺎﺭ اﻟﻔﺘﻦ، ﺟﻨﺎﻫﺎ ﻋﺪﻭﻛﻢ ﻭﻋﺪﻭﻧﺎ، ﻓﺄﺻﺒﺤﺘﻢ ﺇﻟﺒﺎً ﻋﻠﻰ ﺃﻭﻟﻴﺎﺋﻜﻢ، ﻭﻳﺪاً ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻷﻋﺪاﺋﻜﻢ، ﻟﻐﻴﺮ ﻋﺪﻝ ﺃﻓﺸﻮﻩ ﻓﻴﻜﻢ، ﻭﻻ ﺃﻣﻞ ﺃﺻﺒﺢ ﻟﻜﻢ ﻓﻴﻬﻢ، ﺇﻻ اﻟﺤﺮاﻡ ﻣﻦ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺃﻧﺎﻟﻮﻛﻢ، ﻭﺧﺴﻴﺲ ﻋﻴﺶ ﻃﻌﻤﺘﻢ ﻓﻴﻪ، ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺣﺪﺙ ﻛﺎﻥ ﻣﻨﺎ، ﻭﻻ ﺭﺃﻱ ﺗﻔﻴﻞ، ﻓﻬﻼ ﻟﻜﻢ اﻟﻮﻳﻼﺕ ﺗﺠﻬﻤﺘﻤﻮﻧﺎ ﻭاﻟﺴﻴﻒ ﻟﻢ ﻳﺸﻬﺮ، ﻭاﻟﺠﺄﺵ ﻃﺎﻣﻦ، ﻭاﻟﺮﺃﻱ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﺨﻒ، ﻭﻟﻜﻦ ﺃﺳﺮﻋﺘﻢ ﺇﻟﻴﻨﺎ ﻛﻄﻴﺮﺓ اﻟﺬﺑﺎﺏ، ﻭﺗﺪاﻋﻴﺘﻢ ﻛﺘﺪاعي اﻟﻔﺮاﺵ، ﻓﻘﺒﺤﺎً ﻟﻜﻢ ﻓﺈﻧﻤﺎ ﺃﻧﺘﻢ ﻣﻦ ﻃﻮاﻏﻴﺖ اﻷﻣﺔ، ﻭﺷﺬاﺫ اﻷﺣﺰاﺏ، ﻭﻧﺒﺬﺓ اﻟﻜﺘﺎﺏ، ﻭﻧﻔﺜﺔ اﻟﺸﻴﻄﺎﻥ، ﻭﻋﺼﺒﺔ اﻵﺛﺎﻡ، ﻭﻣﺤﺮﻓﻲ اﻟﻜﺘﺎﺏ، ﻭمطفئي اﻟﺴﻨﻦ، ﻭﻗﺘﻠﺔ ﺃﻭﻻﺩ اﻷﻧﺒﻴﺎء، ﻭﻣﺒﻴﺮﻱ ﻋﺘﺮﺓ اﻷﻭﺻﻴﺎء، ﻭﻣﻠﺤﻘﻲ اﻟﻌﻬﺎﺭ ﺑﺎﻟﻨﺴﺐ، ﻭﻣﺆﺫﻱ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ، ﻭﺻﺮاﺡ ﺃﺋﻤﺔ اﻟﻤﺴﺘﻬﺰﺋﻴﻦ، اﻟﺬﻳﻦ ﺟﻌﻠﻮا اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻋﻀﻴﻦ، ﻭﺃﻧﺘﻢ اﺑﻦ ﺣﺮﺏ ﻭﺃﺷﻴﺎﻋﻪ ﺗﻌﺘﻤﺪﻭﻥ، ﻭﺇﻳﺎﻧﺎ ﺗﺤﺎﺭﺑﻮﻥ.
ﺃﺟﻞ ﻭاﻟﻠﻪ ﺧﺬﻝ ﻓﻴﻜﻢ ﻣﻌﺮﻭﻑ، ﻭﺷﺠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﺮﻭﻗﻜﻢ، ﻭﺗﻮاﺭﺛﺘﻪ ﺃﺻﻮﻟﻜﻢ ﻭﻓﺮﻭﻋﻜﻢ، ﻭﺛﺒﺘﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻗﻠﻮﺑﻜﻢ، ﻭﻏﺸﻴﺖ ﺻﺪﻭﺭﻛﻢ، ﻓﻜﻨﺘﻢ ﺃﺧﺒﺚ ﺷﻲء: ﺳُﺨَﻰً ﻟﻠﻨﺎﺻﺐ، ﻭﺃﻛﻠﺔ ﻟﻠﻐﺎﺻﺐ، ﺃﻻ ﻟﻌﻨﺔ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺎﻛﺜﻴﻦ، اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻨﻘﻀﻮﻥ اﻷﻳﻤﺎﻥ ﺑﻌﺪ ﺗﻮﻛﻴﺪﻫﺎ، ﻭﻗﺪ ﺟﻌﻠﺘﻢ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻛﻔﻴﻼ، ﻭﺃﻧﺘﻢ ﻭاﻟﻠﻪ ﻫﻢ، ﺃﻻ ﺇﻥ اﻟﺪﻋﻲ ﺑﻦ اﻟﺪﻋﻲ ﻗﺪ ﺭﻛﺰ ﺑﻴﻦ اﺛﻨﺘﻴﻦ: ﺑﻴﻦ اﻟﻘﺘﻠﺔ ﻭاﻟﺬﻟﺔ، ﻭﻫﻴﻬﺎﺕ ﻣﻨﺎ ﺃﺧﺬ اﻟﺪﻧﻴﺔ، ﺃﺑﻰ اﻟﻠﻪ ﺫﻟﻚ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﻭاﻟﻤﺆﻣﻨﻮﻥ، ﻭﺟﺪﻭﺩ ﻃﺎﺑﺖ، ﻭﺣﺠﻮﺭ ﻃﻬﺮﺕ، ﻭﺃﻧﻮﻑ ﺣﻤﻴﺔ، ﻭﻧﻔﻮﺱ ﺃﺑﻴﺔ، ﻻ ﺗﺆﺛﺮ ﻣﺼﺎﺭﻉ اﻟﻠﺌﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﻣﺼﺎﺭﻉ اﻟﻜﺮاﻡ، ﺃﻻ ﻗﺪ ﺃﻋﺬﺭﺕ ﻭﺃﻧﺬﺭﺕ، ﺃﻻ ﺇﻧﻲ ﺯاﺣﻒ ﺑﻬﺬﻩ اﻷﺳﺮﺓ، ﻋﻠﻰ ﻗﻠﺔ اﻟﻌﺘﺎﺩ، ﻭﺧﺬﻟﺔ اﻷﺻﺤﺎﺏ"، ﺛﻢ ﺃﻧﺸﺄ ﻳﻘﻮﻝ:
"ﻓﺈﻥ ﻧﻬﺰﻡ ﻓﻬﺰاﻣﻮﻥ ﻗﺪﻣﺎ ... ﻭﺇﻥ ﻧﻬﺰﻡ ﻓﻐﻴﺮ ﻣﻬﺰﻣﻴﻨﺎ
ﺃﻻ ﺛﻢ ﻻ ﺗﻠﺒﺜﻮﻥ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﺇﻻ ﻛﺮﻳﺜﻤﺎ ﺗﺮﻛﺐ اﻟﻔﺮﺱ ﺣﺘﻰ ﺗﺪﻭﺭ ﺑﻜﻢ اﻟﺮﺣﻰ، ﻋﻬﺪاً ﻋﻬﺪﻩ ﺇﻟﻲ ﺃﺑﻲ، ﻓﺄﺟﻤﻌﻮا ﺃﻣﺮﻛﻢ ﻭﺷﺮﻛﺎءﻛﻢ ﺛﻢ ﻛﻴﺪﻭﻥ ﺟﻤﻴﻌﺎً ﻭﻻ ﺗﻨﻈﺮﻭﻥ، ﺇﻧﻲ ﺗﻮﻛﻠﺖ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﺭﺑﻲ ﻭﺭﺑﻜﻢ، ﻣﺎ ﻣﻦ ﺩﺁﺑﺔ ﺇﻻ ﻫﻮ ﺁﺧﺬ ﺑﻨﺎﺻﻴﺘﻬﺎ ﺇﻥ ﺭﺑﻲ ﻋﻠﻰ ﺻﺮاﻁ ﻣﺴﺘﻘﻴﻢ.
اﻟﻠﻬﻢ اﺣﺒﺲ ﻋﻨﻬﻢ ﻗﻄﺮ اﻟﺴﻤﺂء، ﻭاﺑﻌﺚ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺳﻨﻴﻦ ﻛﺴﻨﻲ ﻳﻮﺳﻒ، ﻭﺳﻠﻂ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻏﻼﻡ ﺛﻘﻴﻒ ﻳﺴﻘﻴﻬﻢ ﻛﺄﺳﺎً ﻣﺮﺓ، ﻓﻼ ﻳﺪﻉ ﻓﻴﻬﻢ ﺃﺣﺪاً ﺇﻻ ﻗﺘﻠﻪ ﺑﻘﺘﻠﺔ، ﻭﺿﺮﺑﻪ ﺑﻀﺮﺑﺔ، ﻳﻨﺘﻘﻢ ﻟﻲ ﻭﻷﻭﻟﻴﺎﺋﻲ ﻭﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ ﻭﺃﺷﻴﺎﻋﻲ ﻣﻨﻬﻢ؛ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻏﺮُّﻭﻧﺎ ﻭﻛﺬﺑﻮﻧﺎ ﻭﺧﺬﻟﻮﻧﺎ، ﻭﺃﻧﺖ ﺭﺑﻨﺎ ﻋﻠﻴﻚ ﺗﻮﻛﻠﻨﺎ ﻭﺇﻟﻴﻚ ﺃﻧﺒﻨﺎ ﻭﺇﻟﻴﻚ اﻟﻤﺼﻴﺮ".
ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﺃﻳﻦ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ؟ اﺩﻋﻮا ﻟﻲ ﻋﻤﺮ. ﻓﺪﻋﻲ ﻟﻪ، ﻭﻛﺎﻥ ﻛﺎﺭﻫﺎً ﻻ ﻳﺤﺐ ﺃﻥ ﻳﺄﺗﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: "ﻳﺎ ﻋﻤﺮ، ﺃﻧﺖ ﺗﻘﺘﻠﻨﻲ؟ ﺗﺰﻋﻢ ﺃﻥ ﻳﻮﻟﻴﻚ اﻟﺪﻋﻲ اﺑﻦ اﻟﺪﻋﻲ ﺑﻼﺩﻱ اﻟﺮﻱ ﻭﺟﺮﺟﺎﻥ، ﻭاﻟﻠﻪ ﻻﺗﺘﻬﻨﺄ ﺑﺬﻟﻚ ﺃﺑﺪا، ﻋﻬﺪاً ﻣﻌﻬﻮﺩا، ﻓﺎﺻﻨﻊ ﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﺻﺎﻧﻊ، ﻓﺈﻧﻚ ﻻ ﺗﻔﺮﺡ ﺑﻌﺪﻱ ﺑﺪﻧﻴﺎ ﻭﻻ ﺁﺧﺮﺓ، ﻭﻟﻜﺄﻧﻲ ﺑﺮﺃﺳﻚ ﻋﻠﻰ ﻗﺼﺒﺔ ﻗﺪ ﻧﺼﺒﺖ ﺑﺎﻟﻜﻮﻓﺔ ﺗﺘﺮاﻣﺎﻩ اﻟﺼﺒﻴﺎﻥ، ﻭﻳﺘﺨﺬﻭﻧﻪ ﻏﺮﺿﺎً ﺑﻴﻨﻬﻢ"، ﻓﺎﻏﺘﺎﻅ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ ﻣﻦ ﻛﻼﻣﻪ، ﺛﻢ ﺻﺮﻑ ﺑﻮﺟﻬﻪ ﻋﻨﻪ، ﻭﻧﺎﺩﻯ ﺑﺄﺻﺤﺎﺑﻪ: ﻣﺎ ﺗﻨﺘﻈﺮﻭﻥ ﺑﻪ، اﺣﻤﻠﻮا ﺑﺄﺟﻤﻌﻜﻢ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺃﻛﻠﺔ ﻭاﺣﺪﺓ.
بدء المعركة
عن الإمام الكامل عبد الله بن الحسن عليه السلام أن علي بن الحسين عليه السلام قال: صبحتنا الخيل يوم الجمعة، فدعا الحسين بفرس رسول الله وهو المرتجز، فركبه ثم رفع يده، فقال: "اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هَمٍ يضعف به الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلتُه بك، وشكوته إليك، رغبةً فيه إليك عمن سواك، ففرَّجته وكشفته، أنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة، يا أرحم الراحمين".
ﻭﺯﺣﻒ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ ـ ﻟﻌﻨﻪ اﻟﻠﻪ ـ، ﻭﻧﺎﺩﻯ ﻏﻼﻣﻪ ﺩﺭﻳﺪاً: ﻗﺪﻡ ﺭاﻳﺘﻚ، ﺛﻢ ﻭﺿﻊ عمر ﺳﻬﻤﻪ ﻓﻲ ﻛﺒﺪ ﻗﻮﺳﻪ، ﺛﻢ ﺭﻣﻰ ﻭﻗﺎﻝ: اﺷﻬﺪﻭا ﻟﻲ ﻋﻨﺪ اﻷﻣﻴﺮ [ ﻳﻌﻨﻲ ﻋﺒﻴﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺯﻳﺎﺩ لعنه الله وإياهم] ﺃﻧﻲ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﺭﻣﺎﻩ، ﻓﺮﻣﻰ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﻛﻠﻬﻢ ﻓﻲ ﺃﺛﺮﻩ ﺭﺷﻘﺔ ﻭاﺣﺪﺓ، ﻓﻤﺎ ﺑﻘﻲ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺇﻻ ﺃﺻﺎﺑﻪ ﻣﻦ ﺭﻣﻴﻬﻢ ﺳﻬﻢ.
الإمام الحسين يقدم ولده كأول شهيد في المعركة
كان علي بن الحسين عليه السلام أول من خرج من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته، فَشَدَّ على الناس بسيفه، وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي نحن ورب الناس أولى بالنبي
تا الله لا يحكم فينا ابن الدعي
لما برز علي بن الحسين إليهم، أرخى الحسين - صلوات الله عليه وسلامه - عينيه فبكى، ثم قال: "اللهم كن أنت الشهيد عليهم، فبرز إليهم غلام أشبه الخلق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، فجعل يشد عليهم ثم يرجع إلى أبيه فيقول: يا أباه، العطش، فيقول له الحسين: "اصبر حبيبي فإنك لا تمسي حتى يسقيك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكأسه"، وجعل يكر كرة بعد كرة، حتى رمى بسهم فوقع في حلقه فخرقه، وأقبل ينقلب في دمه، ثم نادى: يا أبتاه عليك السلام، هذا جدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرئك السلام، ويقول: عجل القدوم إلينا، وشهق شهقة فارق الدنيا.
ثم تبعه أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته واحداً واحداً، فاستشهد القاسم بن الحسن، وكذا العباس بن علي عليهم السلام، وكان يقاتل قتالاً شديداً، فاعتوره الرجالة برماحهم فقتلوه، واستشهد أصحاب الحسين عليه السلام جميعاً، فبقي عليه السلام وحيداً ليس معه أحد.
من قصص الإباء في كربلاء
في الرواية أنه جاء رجل حتى دخل عسكر الحسين، فجاء إلى رجل من أصحابه فقال له: إن خبر ابنك فلان وافى، إن الديلم أسروه، فتنصرف معي حتى نسعى في فدائه، فقال: حتى أصنع ماذا؟ عند الله أحتسبه ونفسي، فقال له الحسين: انصرف وأنت في حل من بيعتي، وأنا أعطيك فداء ابنك. فقال: هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك. لا يكون والله هذا أبداً، ولا أفارقك، ثم حمل على القوم فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه ورضوانه
قصص مؤلمة في كربلاء
يروى أنه وﻟﺪ للإمام الحسين عليه السلام في أثناء المعركة ولد، ﻓﺄﺗﻲ ﺑﻪ إليه، ﻭﻫﻮ ﻗﺎﻋﺪ، ﻓﺄﺧﺬﻩ عليه السلام ﻓﻲ ﺣﺠﺮﻩ ﻭﻟﺒﺎﻩ ﺑﺮﻳﻘﻪ، ﻭﺳﻤﺎﻩ ﻋﺒﺪالله، ﻓﺒﻴﻨﺎ ﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ ﺇﺫ ﺭﻣﺎﻩ ﺣﺮﻣﻠﺔ ﺑﻦ اﻟﻜﺎﻫﻦ ﺑﺴﻬﻢ ﻓﻨﺤﺮﻩ، ﻓﺄﺧﺬ اﻟﺤﺴﻴﻦ عليه السلام ﺩﻣﻪ، ﻓﺠﻤﻌﻪ ﻭﺭﻣﻰ ﺑﻪ ﻧﺤﻮ السماء، ﻓﻤﺎ ﻭﻗﻌﺖ ﻣﻨﻪ ﻗﻄﺮﺓ ﺇﻟﻰ اﻷﺭﺽ.
ﻗﺎﻝ ﻓﻀﻴﻞ: ﻭﺣﺪﺛﻨﻲ ﺃﺑﻮ اﻟﻮﺭﺩ ﺃﻧﻪ ﺳﻤﻊ ﺃﺑﺎ ﺟﻌﻔﺮ ﻳﻘﻮﻝ: ﻟﻮ ﻭﻗﻌﺖ ﻣﻨﻪ ﺇﻟﻰ اﻷﺭﺽ ﻗﻄﺮﺓ ﻟﻨﺰﻝ اﻟﻌﺬاﺏ، ﻭﻫﻮ اﻟﺬﻱ ﻳﻘﻮﻝ ﻓﻴﻪ اﻟﺸﺎﻋﺮ:
ﻭﻋﻨﺪ ﻏﻨﻲ ﻗﻄﺮﺓ ﻣﻦ ﺩﻣﺂﺋﻨﺎ ﻭﻓﻲ ﺃﺳﺪ ﺃﺧﺮﻯ ﺗﻌﺪ ﻭﺗﺬﻛﺮ
ومن القصص المؤلمة في كربلاء قصة القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ففي المقاتل: أحاطوا بالحسين عليه السلام، وأقبل غلام من أهله نحوه، وأخذته زينب بنت علي لتحبسه، فقال لها الحسين: احبسيه، فأبى الغلام، فجاء يعدوا إلى الحسين، فقام إلى جنبه، وأهوى أبحر بن كعب بالسيف إلى الحسين، فقال الغلام لأبجر: يا ابن الخبيثة أتقتل عمي؟ فضربه أبجر بالسيف، واتقاه الغلام بيده فأطنها إلى الجلد. وبقيت معلقة بالجلد، فنادى الغلام: يا أمه، فأخذه الحسين فضمه إليه، وقال: يا ابن أخي احتسب فيما أصابك الثواب، فإن الله ملحقك بآبائك الصالحين، برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحمزة، وعلي، وجعفر، والحسن عليهم السلام.
استشهاد الحسين عليه السلام
قال الحسين بن علي عليه السلام: إني رأيت كأن كلاباً تنبح عليّ، وكأن أشدها عليّ كلب أبقع، وكان شمر بن ذي الجوشن ـ لعنه الله ـ أبرص.
بعد أن استشهد جميع أصحاب الحسين وأهل بيته, وبقي الحسين وحيداً في ساحة المعركة, يكاد العطش يقطع كبده, أقبل شمر بن ذي الجوشن في الرَّجالة نحو الحسين, فجعل الحسين يشد عليهم، فينكشفون عنه، وعليه قميص خز، يصف عبد الله بن عمار بن عبد يغوث الحسين وقتاله وهو في تلك الحالة: والله ما رأيت مكثوراً قط قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه، ولا أمضى جناناً، ما رأيت قبله ولا بعده مثله، إن كانت الرجال تنكشف عن يمينه وعن يساره انكشاف المِعْزَى إذا شد فيها الذئب.
كان الحسين يشكي العطش, وهو مثخنٌ في جراحه, وجعل يطلب الماء، وشمر - لعنه الله - يقول له: والله لا ترده أو ترد النار، فقال له رجل: ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنه بطوان الحيات، والله لا تذوقه أو تموت عطشاً، فقال الحسين: اللهم أمته عطشاً.
قال الراوي: والله لقد كان هذا الرجل يقول: اسقوني ماء، فيؤتى بماء، فيشرب حتى يخرج من فيه وهو يقول: اسقوني، قتلني العطش، فلم يزل كذلك حتى مات
وفي هذه الأثناء صاح شمر في أصحابه: ثكلتكم أمهاتكم ما تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه، فحَمَل عليه سِنَان بن أنس بن عمر النخعي في تلك الساعة، فطعنه بالرمح فوقع، ثم قال لخَولّي بن يزيد بن الأصبحي: حز رأسه، فأراد ذلك فضعف وارتعد. فقال له سنان: فتّ الله عضدك وأبان يدك، فنزل إليه فذبحه، ورفع رأسه إلى خولي بن يزيد.
وقيل: أن الذي قتله أبو الجنوب زياد بن عبد الرحمن الجعفي، والقثعم، وصالح بن وهب اليزني وخولى بن يزيد، كل قد ضربه وشرك فيه, ونزل سنان بن أنس النخعي فاحتز رأسه.
ﻭﺃﺟﺮﻭا اﻟﺨﻴﻞ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﺟﺜﺘﻪ اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﻘﻄﻌﺖ، ﻭﻗﺎﻝ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ: ﻫﻜﺬا ﺃﻣﺮﻧﺎ ﻋﺒﻴﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺯﻳﺎﺩ ﺃﻥ ﻧﺼﻨﻊ ﺑﻪ.
ﻓﺎﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻋﻈﻴﻢ ﻣﺎ ﺃﺗﻮﻩ، ﻭﻓﺤﺶ ﻣﺎ اﺭﺗﻜﺒﻮﻩ، ﻓﻘﺎﺗﻠﻬﻢ اﻟﻠﻪ ﺃﻧﻰ ﻳﺆﻓﻜﻮﻥ، ﻭاﻟﺒﻬﻴﻤﺔ ﺗﺤﺮﻡ اﻟﻤﺜﻠﺔ ﺑﻬﺎ ﻋﻨﺪ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻓﻜﻴﻒ ﺑﺴﺒﻂ اﻟﻨﺒﻮءﺓ ﻭﺛﻤﺮ اﻟﻮﺻﻴﺔ، ﻭﺳﻴﺪ ﺷﺒﺎﺏ ﺃﻫﻞ اﻟﺠﻨﺔ، ﺳﻼﻡ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺻﻠﻮاﺗﻪ ﻭﺭﺿﻮاﻧﻪ؟!
وروي أنه لما قتل الحسين عليه السلام سُمِعَ هاتفٌ في الجو يقول:
أترجو أمةٌ قَتَلت حسيناً ... شفاعةَ جدهِ يومَ الحسابِ
ﻭقد ﺭﻭﻱ ﻋﻦ ﺟﻌﻔﺮ اﻟﺼﺎﺩﻕ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ: ﺃﻧﻪ ﻭﺟﺪ ﻓﻲ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ: ﺛﻼﺙ ﻭﺛﻼﺛﻮﻥ ﻃﻌﻨﺔ، ﻭﺃﺭﺑﻊ ﻭﺃﺭﺑﻌﻮﻥ ﺿﺮﺑﺔ، ﻭﻭﺟﺪ ﻓﻲ ﺟﺒﺔ ﺧﺰ ﺩﻛﻨﺎء ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻰ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻣﺎﺋﺔ ﺧﺮﻕ، ﻭﺑﻀﻌﺔ ﻋﺸﺮ ﺧﺮﻗﺎً ﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﺭﻣﻴﺔ ﻭﻃﻌﻨﺔ ﻭﺿﺮﺑﺔ.
ﻭﺭﻭﻱ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺃﻧﻪ ﻗﺎﻝ: ﻟﻢ ﻳُﻀﺮﺏ ﺃﺣﺪ ﻓﻲ اﻹﺳﻼﻡ ﻣﻨﺬ ﻛﺎﻥ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺿﺮﺏ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻭﺟﺪ ﺑﻪ: ﻣﺎﺋﺔ ﻭﻋﺸﺮﻭﻥ ﺿﺮﺑﺔ ﺑﺴﻴﻒ ﻭﺭﻣﻴﺔ، ﻭﺧﺬﻑ ﺑﺤﺠﺮ.
ﻭلم ينته بهم الأمر إلى قتل سبط رسول الله فقط، بل بلغ بهم الحد إلى سلبه ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ملابسه، فأخذ ﻳﺤﻴﻰ ﺑﻦ ﻛﻌﺐ سراويله، ﻓﻜﺎﻧﺘﺎ ﻳﺪاﻩ ﺗﻘﻄﺮاﻥ ﺩﻣﺎً ﺇﺫا ﺃﺷﺘﻰ، ﻭﺇﺫا ﺃﺻﺎﻑ ﻳﺒﺴﺘﺎ، ﻭﻋﺎﺩﺗﺎ ﻛﺄﻧﻬﻤﺎ ﻋﻮﺩ ﻳﺎﺑﺲ، ﻭﺃﺧﺬ ﻗﻄﻴﻔﺘﻪ عليه السلام ﻗﻴﺲ ﺑﻦ اﻷﺷﻌﺚ ﺑﻦ ﻗﻴﺲ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻘﺎﻝ ﻟﻪ: ﻗﻴﺲ اﻟﻘﻄﻴﻔﺔ، ﻭﺃﺧﺬ ﺑﺮﻧﺴﻪ ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻦ ﺑﺸﻴﺮ اﻟﻜﻨﺪﻱ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺧﺰ، ﻓﺄﺗﻰ ﺑﻪ ﺃﻫﻠﻪ، ﻓﻘﺎﻟﺖ اﻣﺮﺃﺗﻪ ﺑﻨﺖ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺎﺭﺙ: ﺃﺳﻠﺐ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻳﺪﺧﻞ ﺑﻴﺘﻲ؟ ﺃﺧﺮﺟﻪ ﻋﻨﻲ، ﻓﻠﻢ ﻳﺰﻝ ﻣﺤﺘﺎﺟﺎً ﺣﺘﻰ ﻣﺎﺕ, ﻭﺃﺧﺬ ﻋﻤﺎﻣﺘﻪ عليه السلام ﺟﺎﺑﺮ ﺑﻦ ﻳﺰﻳﺪ اﻷﻭﺩﻱ، ﻓﺎﻋﺘﻢ ﺑﻬﺎ ﻓﺼﺎﺭ ﻣﺠﺬﻭﻣﺎً، ﻭﺃﺧﺬ ﺩﺭﻋﻪ عليه السلام ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻦ ﺑﺸﺮ اﻟﻜﻨﺪﻱ، ﻓﻠﺒﺴﻪ ﻓﺼﺎﺭ ﻣﻌﺘﻮﻫﺎً.
استشهد الإمام الحسين عليه السلام، وهو ابن 58 سنة، في يوم الجمعة 10 محرم سنة 61هـ واستشهد معه أهل بيته عليهم السلام، وكانوا بضعة عشر شاباً، واستشهد أصحابه الذين بذلوا أنفسهم قبل نفسه رضوان الله عليهم أجمعين، وجزاهم خير الجزاء.
ﻭلم ينج من أهل البيت عليه السلام يومئذٍ إلا ثلاثة، وهم ﻋﻠﻲ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، وكان ﻋﻠﻴﻼً، ﻭﻗﺪ ﺣﻀﺮ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﺘﺎﻝ ﻓﺪﻓﻊ الله ﻋﻨﻪ، ﻭﺃﺧﺬ ﻣﻊ النساء، ﻭﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ، ﻭاﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻼﻡ, وقد جرح الحسن المثنى في المعركة وظل بين الجرحى حتى أتاه قوم من بني أسد فأخذوه إلى ديارهم وعالجوه.
ﻭبعد قتل الإمام الحسين عليه السلام اﺭﺗﻔﻌﺖ ﻏﺒﺮﺓ ﺷﺪﻳﺪﺓ ﺳﻮﺩاء ﻓﻈﻦ اﻟﻘﻮﻡ ﺃﻥ اﻟﻌﺬاﺏ ﻗﺪ ﺃﺗﺎﻫﻢ، ﺛﻢ اﻧﺠﻠﺖ ﻋﻨﻬﻢ، ﻭﺃﻗﺒﻞ ﺷﻤﺮ ﺑﻦ ﺫﻱ اﻟﺠﻮﺷﻦ ﺇﻟﻰ اﻟﺨﻴﺎﻡ، ﻭﺃﻣﺮ ﺑﺴﻠﺐ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻣﻊ النساء، ﻓﺄﺧﺬﻭا ﻛﻞ ﻣﺎ ﻓﻲ اﻟﺨﻴﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﺃﺧﺬﻭا ﻗﺮﻃﺎً ﻓﻲ ﺃﺫﻥ ﺃﻡ ﻛﻠﺜﻮﻡ، ﻭﺧﺮﻣﻮا ﺃﺫﻧﻬﺎ، ﻭﻓﺮﻍ اﻟﻘﻮﻡ ﻣﻦ اﻟﻘﺴﻤﺔ ﻭﺿﺮﺑﻮا ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﺎﺭ.
جزاء قاتل الحسين
لم يكن لجرم بحجم قتل الإمام الحسين سبط رسول الله وريحانته مع قتل أهل بيته أن يمر من دون جزاء دنيوي قبل الجزاء الأخروي وعلى هذا جاءت الروايات فعن عبدالله بن عباس نزلَ جبريلُ على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قتلَ بِيَحْيَى بنِ زكريَّا سبعينَ أَلْفًَا فإنَّهُ قاتلَ بابنِ ابنتِكَ الحسينَ بنَ علِيٍّ سبعينَ ألفًا وسبعينَ ألفًا
أما عن الجزاء الأخروي فقد روي عن جابر بن عبدالله: رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهوَ يَفحَجُ بينَ فَخِذَيْ الحسينِ ويُقَبِّلُ زبيبتَه، ويقولُ: لَعَنَ اللهُ قاتِلَكَ، قال جابرٌ: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ ! ومن قاتلُهُ؟ قال: رجلٌ من أمتي يَبغضُ عِترتِي لا تنالُه شفاعتي، كأنِّي بنفسِه بينَ أطباقِ النيرانِ يَرسبُ تارةً ويطفو أُخرَى، وإنَّ جوفَهُ ليقولُ: عَقْ عَقْ
عن البراء بن عازب: لَمَّا قُتِلَ الحسينُ بنُ علِيٍّ رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المنامِ فقال إنْ رأيتَ البرَاءَ بنَ عازِبٍ فأقرِئْهُ السلامَ وأخبِرْهُ أنَّ قتَلَةَ الحسينِ بنِ علِيٍّ في النارِ وإنْ كادَ اللهُ أنْ يَسْحَقَ أهلَ الأرضِ مِنهُ بِعذابٍ أليمٍ قال فأتيْتُ البرَاءَ فأخبرْتُهُ فقال صدَقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مَنْ رآنِي في المنامِ فقدْ رآنِي فإنَّ الشيطانَ لا يَتصوَّرُ بِي
أيات عقيب استشهاد الإمام الحسين
ﻭﺭﻭﻯ اﻟﺴﻴﺪ ﺃﺑﻮ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻳﺤﻴﻰ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻴﻦ اﻟﺤﺴﻴﻨﻲ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻼﻡ ﺑﺈﺳﻨﺎﺩﻩ ﻋﻦ ﺧﺎﻟﺪ ﺑﻦ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﻦ ﺃﻡ ﺳﻠﻴﻢ ﺧﺎﻟﺔ ﻟﻪ، ﻗﺎﻟﺖ: ﻟﻤﺎ ﻗﺘﻞ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﻣﻄﺮﺕ اﻟﺴﻤﺎء ﻣﻄﺮا ﻛﺎﻟﺪﻡ ﻋﻠﻰ اﻟﺒﻴﻮﺕ ﻭاﻟﺤﻴﻄﺎﻥ، ﻓﺒﻠﻐﻨﻲ ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﺑﺎﻟﺒﺼﺮﺓ ﻭاﻟﻜﻮﻓﺔ ﻭاﻟﺸﺎﻡ ﻭﺧﺮاﺳﺎﻥ ﺣﺘﻰ ﻛﻨﺎ ﻻ ﻧﺸﻚ ﺃﻧﻪ ﺳﻴﻨﺰﻝ اﻟﻌﺬاﺏ.
ﻭﺭﻭي ﻋﻦ اﻷﺳﻮﺩ ﺑﻦ ﻗﻴﺲ ﻗﺎﻝ: ﻛﻨﺖ ﻟﻴﺎﻟﻲ ﻗﺘﻞ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ اﺑﻦ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﺳﻨﺔ، ﻓﺎﺭﺗﻔﻌﺖ ﺣﻤﺮﺓ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ اﻟﻤﺸﺮﻕ، ﻭﺣﻤﺮﺓ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ اﻟﻤﻐﺮﺏ، ﻓﻜﺎﻧﺘﺎ ﺗﻠﺘﻘﻴﺎﻥ ﻓﻲ ﻛﺒﺪ السماء ﺃﺷﻬﺮا.
عن أبي قبيل حيي بن هانئ المعافري: عن أبي قَبيلٍ قال: لما قُتِلَ الحُسينُ كُسِفَتِ الشمسُ كَسفةً بدتِ الكواكبُ نصفَ النهارِ حتى ظننَّا أنها هي – يعني: الساعةُ
رأس الحسين وتعامل بني أمية
قد روي بالإسناد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أن الحسين لما قتل أخذ رأسه رجل من أهل الشام، فأتى به ابن زياد (لعنه الله) فوضعه بين يديه وجعل يقول:
أوقر ركابي فضة وذهباً فقد قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أماً وأباً وخيرهم إن ينسبون نسباً
فقيل له: قد علمت أنه خير الناس أما وأبا فلم قتلته؟ فأمر بقتله غيظاً عليه لقوله ومدحه الحسين عليه السلام.
ثم أمر ابن زياد بالرأس الشريف ومعه النساء أن يذهب بهن إلى الشام إلى مجلس يزيد, فاحضر الرأس ووضع بين يدي يزيد - لعنه الله - في طست، فجعل ينكته على ثناياه بالقضيب وهو يقول:
نفلق هاماً من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وتمثل أيضاً والرأس بين يديه بقول عبد الله بن الزبعري:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرم من أشياخهم
وعدلناه ببدر فاعتدل
بهذه الأخلاق الجاهلية استقبل يزيد الرأس الشريف, كاشفاً عن نفس خبيثة تغلي حقداً وعداوة لله ولرسوله, وهو ما يبين أن ملحمة كربلاء لم تجرِ في سياق الصراع على السلطة وحماية الملك وتصفية الخصوم كما يتوهم البعض, ولا هي جولة من جولات الصراع بين الأسرتين "الأموية والهاشمية" المتخاصمتين تاريخياً كما يزعم بعض الكتبة, بل تعدت ذلك لتكون انتقاماً من رسول الله في ذريته وسبطه كما صرح يزيد في أبياته التي تمثل بها, كما أن ذلك التصرف المقيت مع الرٍأس الشريف يكشف من جهة أخرى أخلاق يزيد التي تجاوز بها أخلاق الحروب, والصراعات, فمن أخلاق الحرب في الجاهلية والإسلام أن المنتصر يتنزه عن التشفي والتعامل بروح الانتقام, لكن يزيد تجاوز ذلك كله ليتعامل مع نساء الحسين ورأسه وجسده بروح انتقامية ووحشية, وهنا يحق لنا أن نتسائل مع أولئك الذين يشتاطون غضباً ودفاعاً عن يزيد, مدعيين أن يزيد لم يرض بما قام به قائده ابن زياد, كيف استطاعوا مع كل هذا الحقائق أن يبلغوا هذا الحد من الكذب والتزييف بإصدار تلك الإدعاءات الفارغة.
تلقي المسلمون لخبر استشهاده
وحين نقرأ ذلك الاحتفاء من يزيد وابن زياد بقتل الإمام الحسين نجد في الجانب المشرق من هذه الأمة كيف تلقى المؤمنون خبر استشهاده فعن شهر بن حوشب قال: كنتُ عندَ أمِّ سلمةَ زوجُ النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين أتاها قَتْلُ الحسينِ، فقالَت: قد فعَلوها ملأَ اللهُ بيوتَهم وقبورَهم نارًا، ووقعَتْ مَغشيَّةً علَيها، فقُمنا.
وعن سلمى البكرية دخلتُ على أمِّ سلمةَ، وهي تبكي، فقلتُ: ما يُبْكِيكِ؟ قالت: رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم– تَعْنِي في المنامِ – وعلى رأسِهِ ولِحْيَتِهِ التُّرابُ، فقلتُ: ما لكَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: شَهِدْتُ قَتْلَ الحُسَيْنِ آنِفًا.
زيارة جابر بن عبدالله لضريح الإمام الحسين
عن عطية العوفي، قال: خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري زائرين قبر الحسين عليه السلام، فلما وردنا كربلاء، دنا جابر من شاطيء الفرات فاغتسل، ثم اتزر بإزار، ثم ارتدى بآخر، ثم فتح صرة فيها سعد فنثره على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلا ذكر اللّه تعالى حتى دنا من القبر، قال: يا عطية، المسنيه. فألمسته، فخرّ على القبر مغشياً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلما أفاق قال: يا حسين، يا حسين، يا حسين. ثلاثاً، ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه. ثم قال: وأنَّى لك الجواب، وقد شخبت أوداجك على أشباحك، وفرق بين بدنك ورأسك، فأشهد أنك ابن خير النبيين، وابن سيد الوصيين، وابن حَلِيْفِ التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيد النقباء، وابن فاطمة سيدة النساء، وما بالك ألا تكون هكذا، وقد غذّتك كف محمد سيد المرسلين، ورُبِيت في حجور المتقين، وأُرضِعت من ثدي الإيمان، وفُطِمت بالإسلام وطبت حياً فطبت ميتاً، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة لفراقك، ولا شاكة في الخيرة لك، فعليك سلام اللّه ورضوانه، فاشهد أنك مضيت على ما مضى عليه يحيى بن زكريا.
قال عطية: ثم جال ببصره حول القبر. فقال: السلام عليكِ أيتها الأرواح الطيبة التي حلت بفناء الحسين عليه السلام وأناخت برحله، أشهد أنكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وعبدتم اللّه حتى أتاكم اليقين، والذي بعث محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم بالحق، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
قال عطية، فقلت لجابر بن عبد الله: وكيف؟ ولم نهبط وادياً، ولم نعل جبلاً، ولم نضرب بسيف والقوم فرقت بين رؤوسهم وأبدانهم، فأيتمت الأولاد، وأرملت الأزواج؟!
فقال لي: يا عطية، سمعت حبيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، يقول: ((من أحب قوماً حُشِر معهم، ومن أحب عمل قوم أُشرِك في عملهم )). احدر بي نحو أبيات كوفان، قال: فلما صرنا في بعض الطريق، قال لي عطية: هل أوصيك، وما أظنني بعد هذه السفرة أُلاقيك: أحبب محب آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ما أحبهم وأبغض مبغض آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ما أبغضهم، وإن كان صواماً قواماً