نسبه
هو الإمام الأعظم فاتح باب الجهاد والاجتهاد أبو الحسين زيد بن علي سيد العابدين بن الحسين السبط بن علي بن ابي طالب عليهم السلام, نسب دونه فلق الصباح الأنور، بل شعاع الشمس والقمر، ولله القائل:
آمل أن يعطيني.... ربي أقصى أملي
بحب زيد بن علي.... بن الحسين بن علي
وهو مجدد المائة الأولى.
أمه: أم ولد اسمها جيدا اشتراها المختار بن أبي عبيد بثلاثين ألف درهم، وقال: ما أرى أحداً أحق بها من علي بن الحسين، فبعث بها إليه، وروي أن علي بن الحسين هو الذي اشتراها، ويروى أن زين العابدين كان قد رأى تلك الليلة رسول الله آخذاً بيده فأدخله الجنة فزوجه حوراء قال: فواقعتها فعلقت فصاح بي رسول الله : يا علي، سم المولود منها زيداً، قال: فما قمنا حتى أرسل المختار بأم زيد.
مولده عليه السلام
ولد عليه السلام سنة (75)هـ, وحين قرعت البشرى سمع زين العابدين بولادته قام فصلى ركعتين شكراً لله، ثم أخذ المصحف مستفتحاً لاختيار اسم مولوده، فخرج في أول السطر قول اللّه تعالى: ((وَفَضَّلَ اللّه المُجَاهِدِيْنَ عَلَى القَاعِدِيْنَ أَجْراً عَظِيْماً))، فأطبق المصحف، ثم قام وصلى ركعات، ثم فتح المصحف، فخرج في أول السطر: ((وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ قُتِلُوْا فِيْ سَبِيْلِ اللّه أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُوْنَ))، ثم قام وركع، ثم أخذ المصحف وفتحه فخرج في أول سطر: ((إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنْ المُؤْمِنِيْنَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللّه فَيَقْتُلُوْنَ وَيُقْتَلُوْنَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِيْ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيْلِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه فَاسْتَبْشِرُوْا بِبَيْعِكُمُ الَّذِيْ بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيْمُ))، وبعد ذلك أطبق زين العابدين المصحف وضرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، عُزِّيت في هذا المولود، إنه زيد ..أما واللـه ما أجد من ولد الحسين في يوم القيامة أعظم منه وسيلة، ولا أصحاباً آثر عند اللّه من أصحابه، وقامَ عليه السلام بالتأذين في أذنه اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى، وعوَّذه بالله من الشيطان الرجيم.
أولاده:
للإمام زيد (ع) أربعة من الأولاد وهم: الإمام يحيى بن زيد وليس له عقب، وعيسى، ومحمد، والحسين، وأعقب هؤلاء الثلاثة من ولده عليهم السلام، وكلهم علماء من أفاضل أهل بيت النبوة.
صفته:
كان عليه السلام أبيض اللون، أعين، مقرون الحاجبين، تام الخلق، طويل القامة، كث اللحية، عريض الصدر، أقنى الأنف، أسود الرأس واللحية، إلا أن الشيب خالط في عارضيه.
وكان يشبَّه بأمير المؤمنين في الفصاحة، والبلاغة، والبراعة، قال خالد بن صفوان: انتهت الفصاحة، والخطابة، والزهادة، والعبادة من بني هاشم إلى زيد بن علي عليه السلام، وكان يعرف في المدينة: بحليف القرآن.
بعض الآثار الواردة فيه:
جاء فيه على لسان جده رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله العديد من الآثار، منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر يوماً إلى زيد بن حارثة فبكى وقال: ((المقتول في اللّه المصلوب من أمتي المظلوم من أهل بيتي سمي هذا)) وأشار إلى زيد بن حارثة، ثم قال: (( أدن مني يا زيد زادك اسمك عندي حباً فإنك سمي الحبيب من ولدي زيد)).[الإمام المرشد بالله, الأمالي الإثنينية ج1/ ص554● ابن عساكر, تأريخ دمشق ج19/ ص458● المتقي الهندي, كنز العمال ج13/ ص398]
ورُوي عن أبي جعفر محمد بن علي، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، أنه قال للحسين: ((يخرج من صلبك رجل يقال له: زيد، يتخطى هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس غراً محجلين، يدخلون الجنة أجمعين بغير حساب)).[الإمام الموفق بالله, الاعتبار ص391● أبو الفرج الأصفهاني, مقاتل الطالبيين ج1/ ص104]
ومما روى الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: أخبرني أبي، قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه سيخرج مني رجل يقال له زيد، فينتهب ملك السلطان، فيقتل، ثم يصعد بروحه إلى السماء الدنيا، فيقول له النبيون: جزى الله نبيك عنا أفضل الجزاء، كما شهد لنا بالبلاغ، وأقول أنا: أقررت عيني يا بني وأديت عني)).[الإمام الهادي إلى الحق, مجموع رسائل الإمام الهادي, ج1/ ص72]
وخطب أمير المؤمنين على منبر الكوفة، فذكر أشياء وفتناً، حتى قال: (ثم يملك هشام تسع عشرة سنة، وتواريه أرض رصافة، رصفت عليه النار، مالي ولهشام جبار عنيد، قاتل ولدي الطيب المطيب، لا تأخذه رأفة ولا رحمة، يصلب ولدي بكناسة الكوفة، (زيد) في الذروة الكبرى من الدرجات العلى، فإن يقتل زيد، فعلى سنة أبيه، ثم الوليد فرعون خبيث، شقي غير سعيد، يا له من مخلوع قتيل، فاسقها وليد، وكافرها يزيد، وطاغوتها أزيرق.. إلى آخر كلامه).الإمام المنصور بالله, الشافي, ج1/ ص400]
نشأته عليه السلام
نشأ في ظل والده السجّاد قرابة (19) عاماً ينهلُ من علمه ومعارفه، وعندما توفى والده انتقل؛ ليعيش تحت رعاية أخيه الباقر، مواصلاً الطريق في طلب العلم، بهمة ليس لها مثيل حتى أصبح فارس هذا الميدان، لا يجارى ولا يبارى وانتهت إليه معارف آباءه وأجداده، وأصبح يعلم ما لا يعلم غيره.
حليف القرآن
اعتكف الإمام زيد عليه السلام مع القرآن ما يقارب (13) سنة، حتى اشتهر بحليف القرآن، قال أبو الجارود: دخلت المدينة وكلما سألت عن زيد بن علي قيل لي: ذلك حليف القرآن.
ويروى أنه عليه السلام طلب من أخيه محمد الباقر كتاباً كان لجده علي عليه السلام، فنسي أبو جعفر الباقر مدة من الزمن، ثم تذكر فأخرجه إليه، فقال له زيد: قد وجدت ما أردت منه في القرآن!! فأراد أبو جعفر أن يختبره وقال له: فأسألك؟ قال زيد: نعم، سلني عما أحببت ففتح أبو جعفر الكتاب وجعل يسأل، وزيد يجيب كما في الكتاب فقال أبو جعفر: (بأبي أنت وأمي يا أخي أنت والله نَسِيْج وحدك، بركةُ اللّه على أم ولدتك، لقد أنجبت حين أتت بك شبيه آبائك ). قال الإمام زيد: (واللـه لا تأتونني بحديث تصدقون فيه إلا أتيتكم به من كتاب اللّه).
عبادته عليه السلام
وكما ورث آباءه علما فقد ورثهم عبادة وزهدا، قال الإمام يحيى بن زيد عليه السلام واصفاً عبادة والده: رحم اللّه أبي كان أحد المتعبدين، قائم ليله صائم نهاره، كان يصلي في نهاره ما شاء اللّه فإذا جن الليل عليه نام نومة خفيفة، ثم يقوم فيصلي في جوف الليل ما شاء اللّه، ثم يتوجه قائماً على قدميه يدعو اللّه تبارك وتعالى ويتضرع له ويبكي بدموع جارية حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر سجد سجدة، ثم يصلي الفجر، ثم يجلس للتعقيب حتى يرتفع النهار، ثم يذهب لقضاء حوائجه، فإذا كان قريب الزوال أتى وجلس في مصلاه واشتغل بالتسبيح والتحميد للرب المجيد، فإذا صار الزوال صلى الظهر وجلس، ثم يصلي العصر، ثم يشتغل بالتعقيب ساعة ثم يسجد سجدة، فإذا غربت الشمس صلى المغرب والعشاء، وقال الإمام الكامل عبدالله بن الحسن عليه السلام: (كانَ زيد بن علي إذا قرأَ آيةَ الخوف ، مادَ كما تميدُ الشجرةُ من الريح في اليوم العاصف، ولَم أرَ فينا ولا في غيرنا مثله).
وأما عن زهده وورعه فهو يقول عن نفسه: (واللـه ما كذبت كذبة منذ عرفت يميني من شمالي، ولا انتهكت لله مَحْرَماً منذ عرفت أن اللّه يعاقب عليه).
اهتمامه بأحوال المسلمين
من الصفات التي تميز بها الإمام زيد حرقته لأوضاع الناس واهتمامه بأحوالهم يقول أخوه الحسين بن علي بن الحسين عليهم السلام: (كانَ أخي زيد بن علي يُعَظِّمُ ما يأتِيه أهلُ الجور وما يكونُ مِن أعمالهم فيقول: " والله ما يدعني كتابُ ربي أنْ أَكُفَّ يدي، والله ما يَرضَى الله من العارفينَ به أن يَكُفُوا أيديَهُم وأَلْسِنَتَهُم عَنْ المُفسدينَ في أرضِه").
منزلته عليه السلام
يتبين للمطلع على سيرة الإمام زيد عليه السلام أنه قد فاق أقرانه، وصار أوحد عصره علماً وفضلاً وزهداً وعبادة وجهاداً وسعياً في إصلاح حال الأمة الإسلامية، بل يتبين له أنه أعظم شخصية إسلامية بعد الأنبياء والوصي والحسنين، ويتأكد ذلك من خلال الآثار التي وردت فيه على لسان جده النبي وأبيه الوصي، بالإضافة إلى شهادات فضلاء وأئمة أهل البيت عليهم السلام وغيرهم من علماء وفضلاء الأمة الإسلامية.
روى الحافظ أبو عبدالله العلوي بسنده عن أبي حمزة الثمالي أنّه قال: قال أبو جعفر- أي الباقر-: (لا والله الذي لا إله إلاّ هو، ما خَرَجَ فينا أهل البيت ناسٌ أشبهُ بعلي بن أبي طالب منه يعني من زيد بن علي).
روى الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام عن محمد بن علي بن الحسين باقر العلم أنَّ قوماً وَفَدُوا إليه فقالوا: يا ابن رسول الله إنَّ أخاكَ زيداً فينا وَهُوَ يسألُ البيعة، أفَنُبايعُهْ؟ فقال لهم محمد: (بايعوه فإنّه اليومَ أفضَلُنا).] الإمام الهادي، مجموع رسائله، ج1/ ص104]
قال جعفر الصادق عليه السلام لأحد أصحابه: (لا أظنك ترى فينا أحداً مثله إلى أن تقوم الساعة).
قال الإمامُ جعفرُ الصادق: (برئ اللهُ ممّن برئ من عمّي زيد، كان والله أقرأُنا لكتاب الله، وأفقهُنا في دين الله وأوصلُنا للرحم، والله ما ترك فينا لدينا ولا لآخرة مثله).
عن عبدالله بن الحسن بن الحسن أنه قال: (اللهم إنّي أُشهِدُكَ وحَمَلَةَ عرشك وملائكتك ومَنْ حَرَني مِنْ خَلْقِكْ، أنَّي أتولّى زيد بن علي وأبرأُ إليكَ ممن برئَ منه وأصحابه، مضىَ واللهِ زيد ما خلفَ فينا لدين ودنيا مثله(.
الإمام الكامل عبدالله بن الحسن: ( العلم بيننا وبين الناس وبين الناس علي بن أبي طالب، والعلم بيننا وبين الشيعة زيد بن علي).
الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الجرجاني بسنده عن قاسم بن إبراهيم أنّه قال: حدّثني عبدالله بن موسى الكاظم عن أبيه أنّه قال: (كانَ زيد بن علي خير ولد فاطمة صلوات الله عليها). ] المرشد بالله، الأمالي الإثنينية، ج1/ ص571].
الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام في كتاب معرفة الله عن محمد بن الحنفية أنّه قال: ( سيُصلَبُ منَّا رجلٌ يُقالُ له زيد بن علي في هذا الموضع - يعني موضعاً يُقالُ له الكنائس - لم يسبقهُ الأولون ولا الآخرون فضلاً). [الإمام الهادي، مجموع رسائله، ج1/ ص103].
عبدالله بن محمد بن الحنفية أنّه قال: ( لو نزلَ عيسى بن مريم لأخْبَرَكُم أنَّ زيد بن علي خيرُ من وَطِئَ على عفر التراب).
أبو حنيفة النعمان: (شاهدتُ زيداً بنَ علي، فما رأيتُ في زمانه أفقهَ منه ولا أعلمَ ولا أسرعَ جواباً ولا أبْينَ قولاً، لقد كان منقطعَ النظير، ولقد ضاهى خروجُه خروجَ رسول الله في بدر).
المحدث الكبير سليمان بن مهران الأعمش حيث يقول: (ما رأيت فيهم ـ يعني أهل البيت ـ أفضل منه ولا أفصح ولا أعلم).
عامر شرحبيل الشعبي: (ما ولد النساء أفضل من زيد بن علي، ولا أفقه، ولا أشجع، ولا أزهد).
سفيانُ الثوري: (قام مقام الحسين بن علي وكان أعلمَ خلق الله بكتاب الله، والله ما ولدت النساءُ مثله).
الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية عليه السلام: (أما والله لقد أحيا زيد ما اندثر من سنن المرسلين، وأقام عمود الدين إذ أعوج، ولن نقتبس إلا من نوره، وزيد إمام الأئمة).
الإمام أبو طالب في كتاب الديانة: (وكثير من معتزلة بغداد كمحمد بن عبدالله الإسكافي وغيره ينسبون إليه في كتبهم، ويقولون: نحن زيدية وحسبك في هذا الباب انتساب المعتزلة إليه مع أنها تنظر إلى الناس بالعين التي ينظر بها ملائكة السماء إلى أهل الأرض مثلاً، فلولا ظهور علمه وبراعته وتقدمه على كل أحد في فضيلته لما انقادت له المعتزلة).
الإمام زيد وواصل بن عطاء
من الأخطاء التي يرددها البعض جهلاً والبعض الآخر عمداً للتشكيك في الإمام زيد عليه السلام خصوصاً ومنهج أهل البيت عموماً، قولهم أن الإمام زيداً عليه السلام تتلمذ على يد واصل بن عطاء كبير المعتزلة، وهذا القول لا شك أنه عارٍ من الصحة، ليس لأجل واصل بن عطاء شخصياً، بل لأن الواقع لا يصدقه، وإليك بعض الملاحظات التي تكشف عدم صوابية ذلك القول:
أولاً: الإمام زيد عليه السلام ولد في المدينة المنورة في بيت النبوة، ونشأ في أحضان والده الإمام زين العابدين علي بن الحسين أعلم أهل زمانه، وأخيه الأكبر باقر العلم الإمام محمد بن علي، ودرس وتعلم على يديهما، وبلغ من العلم والمعرفة ما فاق به أقرانه كما تقدم، وغدى قبلة يرجع إليها في حل المعضلات، فما الذي يحوجه إلى التتلمذ على يد واصل بن عطاء؟!
ثانياً: واصل بن عطاء نفسه جاء يستفسر الإمام زيداً عن مسألة الخلافة، وأسئلة واصل للإمام زيد موجودة ضمن رسائل الإمام زيد عليه السلام.
ثالثاً: المروي أن واصل بن عطَاء وعمرو بن عُبيد من المبايعين للإمام زيد بن عَلي.
رابعاً: من المعلوم أن الإمام زيداً أكبر سناً من واصل بسنوات، إذ كانت ولادته عليه السلام سنة 75هـ على أصح الأقوال, بينما ولادة واصل بن عطاء سنة (80)هـ، وصحيح أن بعض كتب الطبقات والتراجم ذكرت أن ولادة الإمام زيد كانت في سنة (80)هـ وهو أبعد تقدير، فعليها فهما متساويان في العمر، وهذا يجعل من البعيد كثيرا أن يتتلمذ الإمام زيد على يد واصل.
خامساً: نجد في كتب المعتزلة أنهم جعلوا الإمام زيد بن علي في الطبقة الثالثة، وجعلوا واصل بن عطاء في الطبقة الرابعة وهذا يدل أن المعتزلة نفسهم لا يعتقدون أن الإمام زيداً عليه السلام درس عند واصل، ولو علموا ذلك لافتخروا به ولما غفلوا عنه.
سادساً: ومما يدحض صحة هذا القول – أيضاً- أن أهل الحديث الذين ترجموا لزيد بن علي لم يذكروا أنه تتلمذ على يد واصل بن عطاء.
سابعاً: فقد سبق وأن نقلنا أن كثيراً من المعتزلة كانوا ينتسبون للإمام زيد وليس العكس.
ثامناً: المروي أن واصل بن عطاء درس على يد عبدالله بن محمد بن علي، وعبدالله بن محمد درس على يد أبيه محمد بن الحنفية، ومحمد بن الحنفية درس على يد الإمام علي بن أبي طالب، فعلم واصل بن عطاء في الأصل مقتبس من أهل البيت، فكيف يحتاج الإمام زيد إلى التتلمذ على يد واصل، وهو من أهل البيت بل أعلمهم.
نعم حصل اجتماع بين الإمام زيد مع واصل بن عطاء، واستفسر من الإمام زيد، ويظهر أنهما تناقشا العلم وبعض المسائل، فكانت أفكارهما في مسائل العقيدة متقاربة؛ بسبب أن المنهل الذي يلتقي فيه علمهما هو علي بن أبي طالب.
ثورة الإمام زيد
لم تكن ثورة الإمام زيد عليه السلام وليدة لحظتها, ولا ردة فعل متشنجة, ولا تهور غير مدروس العواقب, بل كانت أوضاع الناس وأحوال المسلمين تضيق على الإمام زيد (ع) القيام بالثورة؛ لأن بني أمية قد حرفوا حركة الإسلام عن مسارها النبوي, وهنا سنقف على شرح بعض أحوال العالم الإسلامي قبيل قيام الثورة:
الوضع الديني والعقائدي
على الصعيد الديني والعقائدي وطد بنو أمية حكمهم وملكهم بتحريف عقيدة الناس وأفكارهم, فجاؤوا بعقيدة الجبر والإرجاء، وتقديس ولي الأمر ووجوب طاعته، حتى لو كان ظالماً يجلد ظهرك ويفري لحكمك, ووظفوا لنشر هذه الأفكار علماء السلطان, ولقد بلغ الأمر بأحد ولاتهم، وهو الحجّاج بن يوسف الثقفي أن يخطب أمام الجماهير قائلاً: رسولك أفضل أم خليفتك؟ يريد بذلك أن عبد الملك بن مروان أفضل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وأجبروا الناس باعتقاد تلك الأقوال, تعاملوا بالصرامة والقتل والتعذيب لكل من خالفهم في الرأي، ومن أمثلة ذلك ما مارسه الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك مع غيلان الدمشقي والجعد بن درهم.
أما الجعد بن درهم فلما أنكر أن يكون القرآن أزليا وقال بأنه محدث، أخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري، وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فحبسه خالد، فلما صلى صلاة العيد, يوم الأضحى قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا يقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم.
أما غيلان الدمشقي, فقد ذكر المؤرخون أن غيلان كان يقول أن معاصي العباد منهم, وليست من الله, فأمر هشام بضربه مع أحد رفقائه سبعين جلدة, ثم أمر هشام بإخراج ألسنتهما من أقفيتهما، فلم يلبثا أن ماتا، ثم ألقيا على مزبلة يراهما الناس مصلوبين.
الوضع المعيشي والاجتماعي
وأما على الصعيد المعيشي والاجتماعي، فبدلاً من أن يعملوا على إصلاح أحوال الناس ومعيشتهم، ويخففوا من معاناتهم، أصبحت مهمتهم الأساسية وشغلهم الشاغل جمع الثروات والأموال، ما أدى إلى حرمان الكثير من عامة الناس من أبسط مقومات الحياة, مع الحاجة الشديدة التي كانت تعصف بالسواد الأعظم من الرعية, ولقد روى التاريخ صوراً عن ثراء خلفاء بني أمية عموماً وثراء الطاغية هشام, وعبثه, وغناه الفاحش على وجه الخصوص, فقد جمع من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبله.
يصف أحد من وفد على هشام عرشه فيقول: في دار قوراء مفروشة بالزحام، وهو في مجلس مفروش بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب ذهب وحيطانه كذلك، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب خز حمر، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب يقلبه بيده فتفوح روائحه.
وهنا مثال لفحش هشام بن عبد الملك, فحين علم أن أحد أولاده كان مولعاً بالفاحشة، وكان قد ولاه حمص فقدم إليه أهلها يشكون فحشه, فعزله عن عمله، وقال له: أيزني القرشي؟ أتدري ما فسق القرشي وفجوره؟ إنما هو أن تأخذ مال هذا فتعطيه هذا، وتقتل هذا وتأخذ مال هذا, وهذا تحريض من هشام لولده بأخذ أموال الناس وقتلهم, واعتراف بما كان بنو أمية عليه من الظلم والفساد.
الوضع العام
سنلخص الوضع العام التي كانت تعيشه الأمة في عناوين عامة تكشف بعض جرائم بني أمية:
وقعة الحرة وقتل (10000) من أهل المدينة واغتصاب (1000) امرأة.
هدم الكعبة.
قتل سعيد بن جبير وخيار التابعين وأبناء الصحابة.
قتل كل من يحب أهل البيت.
سب أمير المؤمنين على المنابر.
تعاطي الخمر ومعاقرته جهاراً نهاراً.
جلب المغنيين والمغنيات وتشجيعهم وإهدار أموال المسلمين فيه المنكرات.
الاستهانة بالمقدسات الإسلامية, ومن أمثلة ذلك:
*أن الإمام زيداً عليه السلام دخل على هشام وفي مجلسه يهودي يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانتهره الإمام زيد وقال: يا كافر أما والله لئن تمكنت منك لأختطفن روحك، فقال هشام: مه يا زيد لا تؤذِ جليسنا. فخرج زيد عليه السلام، وهو يقول: من استشعر حب البقاء استدثر الذل إلى الفناء.
* وفي يوم من أيام المواجهة ظهر رجل من أهل الشام من كلب على فرس رائع، فلم يزل شاتما لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، فجعل زيد يبكي حتى ابتلت لحيته وجعل يقول: أما أحد يغضب لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله؟ أما أحد يغضب لرسول الله صلى الله عليه وآله؟ أما أحد يغضب لله؟
الإمام زيد ومعاناة الأمة
أدرك الإمام زيد عليه السلام المعاناة التي تعيشها الأمة، وخطورة الوضع التي وصلت إليه، فكان كثير التحسر على حالها، مستشعراً لضرورة التحرك للإصلاح فيها حتى لو أدى ذلك إلى استشهاده، وهو ما عبر عنه الإمام زيد في عدة مقامات:
قال الإمام زيد بن علي عليه السلام يوماً لأحد أصحابه: (والله لوددت أن يدي ملصقة بالثريا، ثم أقع منها حيث أقع، فأتقطع قطعة قطعة, ويصلح الله بذلك أمر أمة محمد).
ويقول: (كيف لي أن أسكن، وقد خولف كتاب الله، وتحوكم إلى الجبت والطاغوت، والله لو لم يكن إلا أنا وابني يحيى لخرجت وجاهدت حتى أفنى).
وكيف له مع فضله وعلمه أن يترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الذي ما فتئ يحث عليها في كتبه ومراسلاته للعلماء، لا سيما أن سكوته يعني اندثار هذه الفريضة العظيمة، وانطماس الكثير من معالم الدين.
سبب ثورة الإمام زيد
لقد صرح الإمام زيد بن علي عليه السلام في الكثير من المواضع بالأسباب التي دعته للخروج والثورة، وهي في الجملة لا تخرج عن الأسباب التي خرج لأجلها جده الإمام الحسين عليه السلام، وتجتمع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال عليه السلام حين خفقت رايات الجهاد: (والله ما يسرني أني لقيت محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم آمر في أمته بمعروف، ولم أنههم عن منكر، والله ما أبالي إذا قمت بكتاب الله وسنة نبيه أنه تأجج لي نار، ثم قذفت فيها، ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة الله).
وقال عليه السلام مُخاطباً علماء الأمة: (قد ميزكم اللّه تعالى حق تمييز، ووسمكم سِمَة لا تخفى على ذي لب، وذلك حين قال لكم: ﴿وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُوْنَ باِلمعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيْمُوْنَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوْنَ الزَّكَاةَ وَيُطِيْعُوْنَ اللَّهَ وَرَسُوْلَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ﴾، فبدأ بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بفضيلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عنده، وبمنزلة القائمين بذلك من عباده ... واعلموا أن فريضة اللّه تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أقيمت له استقامت الفرائض بأسرها، هينها وشديدها).
قال عليه السلام حين شاهد امرأة تأكل من بقايا الطعام: (من أجل هذه كان خروجي).
ويقول في خطبة له: (أيها الناس إن لكم علي أن لا أضع حجراً على حجر، ولا أكري نهرا، ولا أكثّر مالا، ولا أعطيه زوجة ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلدة إلى بلدة حتى أسد ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل فضلة نقلتها إلى البلد الذي يليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم؛ وأن لكم أعطياتكم عندي في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم).
احتوت بنود بيعته على عدة أمور تدل أنه كان يولي إقامة العدالة الاجتماعية اهتماماً كبيراً كما سيأتي نص بيعته.
الثورة الفكرية
لقد أخذت ثورة الإمام زيد عليه السلام مسارين، مسار فكري ومسار عسكري, فبدأ أولاً بالتحرك في المسار الفكري, فتحرك في أوساط الأمة ثقافياً وفكرياً, لمواجهة الأفكار الضالة التي حاول بنو أمية نشرها بين المسلمين كما تقدم بيانه, فعمل بداية على نشر العلم وتدريسه.
فكان له العديد من الطلبة الذين تعلموا على يديه وساهموا في نشر العلم والمعرفة الصحيحة، والذين أصبحوا فيما بعد من علماء الإسلام المشاهير، أمثال الإمام يحيى بن زيد، والإمام عيسى بن زيد، والحسين بن زيد، والإمام جعفر الصادق، والإمام عبد الله بن الحسن الكامل، وأبي خالد الواسطي، وأبي حنيفة النعمان، وشعبة بن الحجاج العتكي، ومنصور بن المعتمر، وثابت بن دينار الثمالي، وجابر بن يزيد الجعفي، وسلمان بن مهران الأعمش، وغيرهم كثير.
قام بتأليف الكثير من الكتب والرسائل منها رسالته المشهورة الى علماء الأمة، والتي فيها: ( إنما تصلح الأمور على أيدي العلماء، وتفسد بهم إذا باعوا أمر اللّه تعالى ونهيه بمعاونة الظالمين الجائرين)، ومن أشهر مؤلفاته: المجموع الفقهي والحديثي- ومجموع رسائل الإمام زيد- وتفسير غريب القرآن.
عقد العديد من اللقاءات والنقاشات مع العلماء, ولم يترك فرصة إلا واستغلها؛ لتبيين الحق وإزهاق باطل بني أمية.
الالتقاء بالناس في مواسم الحج, وفي أثناء زيارة المدينة المنورة من القادمين من مختلف الأمصار, ومن الأمثلة على ذلك:
ما روي أن عزيزة بنت زكريا بن أبي زائدة قالت: سمعت أبي يقول: لما حججت مررت بالمدينة، فقلت: لو دخلت على زيد بن علي بن الحسين فسلمت عليه، فدخلت عليه فسمعته يتمثل بأبيات وهو يقول:
ومن يطلب المال الممنع بالقنا
يعش ماجدا أو تخترمه المخارم
متى تجمع القلب الذكي وصارما
وأنفا حميا تجتنبك المظالم
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم
فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم
فخرجت من عنده فمضيت فقضيت حجتي، ثم انصرفت إلى الكوفة، فبلغني قدومه فأتيته فسلمت عليه وسألته عما قدم له، فأخبرني بكتب من كتب إليه يسأله القدوم عليه، فأشرت عليه بالانصراف، فلحقه القوم فردوه.
دخل زيد بن علي مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصف النهار، في يوم حار من باب السوق، فرآه سعد بن إبراهيم في جماعة من القرشيين قد حان قيامهم، فأشار إليهم فقال لهم سعد بن إبراهيم: هذا زيد يشير إليكم فقوموا له، فجاءهم فقال: أي قوم أنتم أضعف من أهل الحرة، فقالوا: لا، فقال: فأنا أشهد أن يزيدا ليس شرا من هشام بن عبد الملك فما لكم؟ فقال سعد لأصحابه: مدة هذا قصيرة. فلم ينشب أن خرج فقتل.
قال محمد بن يحيى بن عبد الكريم بن شعيب الحجبي: أقبل زيد بن علي بن حسين، فدخل المسجد وفيه نفر من قريش قد لحقتهم الشمس في مجلسهم، فقاموا يريدون التحول، فلما توسط زيد المسجد، خاف أن يعوقوه فحصبهم فوقعوا، فقال لهم: أقتل يزيد بن معاوية حسين بن علي؟ قالوا: نعم، قال: ثم مات يزيد؟ قالوا: نعم، قال: فكأن حياة بينهما لم يكن. قالك فعلم القوم أن زيداً يريد أمرا.
فرض عليه هشام في دمشق إقامة إجبارية, لمدة (5) أشهر, فجعل من سجنه مدرسة لتعليم السجناء أمور الدين وتوضيح معالم الإسلام الصحيحة, فعن أبي غسان الأزدي قال: قدم علينا زيد بن علي إلى الشام أيام هشام بن عبدالملك, فما رأيت رجلاً كان أعلم بكتاب الله منه, ولقد حبسه هشام خمسة أشهر يقص علينا ونحن معه في الحبس بتفسير الحمد وسورة البقرة يهذو ذلك هذا.
المناظرات التي كانت بينه وبين مخالفيه, حتى من العلماء المحسوبين على السلطة الأموية، ففي أثناء بقائه في الشام اتفق علماؤها على رجل منهم قد انقاد له أهل الشام في البلاغة والبصر بالحجج، فجمعوا بينه وبين زيد بن علي، وعند المناظرة تكلم الشامي واعتمد على أن الجماعة هم حجة اللّه على خلقه، وأن أهل القلة هم أهل البدع والضلالة، وأنه لم تكن جماعة إلا كانوا هم أهل الحق، حتى قتل عثمان فخرج علي بن أبي طالب باغياً مفرقاً للجماعة، حتى هاجت الفتنة فاقتتلوا حتى رُدَّ هذا الأمر إلى أهل بيت هذا الخليفة المظلوم عثمان - يعني بني أمية- قال خالد بن صفوان: فحمد اللّه زيد بن علي وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم تكلم بكلام ما سمعنا قرشياً ولا عربياً، أبلغ في موعظة، ولا أوضح حجة، ولا أفصح لهجة منه, ثم إن الإمام زيداً ذكر لهم جميع ما يتعلق بالقلة والكثرة من الآيات القرآنية، فإذا هي تمدح القلة وتذم الكثرة.
قال خالد بن صفوان: فبئس الشامي فما أحلى ولا أمر، وسكت الشاميون فلم يجيبوا لا بقليل ولا بكثير، ثم قاموا من عنده، فلما خرجوا قالوا لصاحبهم: فعل اللّه بك وفعل، عزرتنا وزعمت أنك لا تدع له حجة إلا كسرتها فخرست فلم تنطق! قال: ويلكم كيف أكلم رجلا إنما حاجني بكتاب اللّه؟ فلم أستطع أن أكذب كتاب اللّه.
قال عطاء بن أبي سلمة: فكان خالد بن صفوان يقول بعد ذلك: ما رأيت رجلا قرشياً ولا عربياً يزيد في العقل والحجج والخير على زيد بن علي.
المسند أول كتاب حديثي
مجموع الإمام زيد بن علي عليه السلام الحديثي والفقهي، والذي حوى ستمائة وسبعة وثمانين خبرا، ما بين حديث نبوي وأثر علوي، غير ما ذكر فيه من أقوال وآراء الإمام زيد عليه السلام الفقهية، يعتبر هذا المجموع أقدم وأول مدونة في الحديث والفقه، جمعه ووطأه الإمام زيد عليه السلام بنفسه، ورواه عنه تلميذه النجيب أبو خالد الواسطي، والذي يظهر من خلال الرواية الآتية أن أبا خالد الواسطي إنما قام ببعض الترتيب لأبواب هذا المجموع، وأما الجمع والتدوين فقد كان من الإمام زيد عليه السلام بنفسه.
قال ﻧﺼﺮ ﺑﻦ ﻣﺰاﺣﻢ اﻟﻤﻨﻘﺮﻱ: ﺳﻤﻌﺖ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎﺏ ﻣﻦ ﺃﺑﻲ ﺧﺎﻟﺪ اﻟﻮاﺳﻄﻲ ﻋﻠﻰ ﻏﻴﺮ ﻫﺬا اﻟﺘﺄﻟﻴﻒ ﺇﻧﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﻤﻠﻲ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻣﺎ ﻛﺘﺒﻨﺎﻩ ﺇﻣﻼء، ﻓﺄﻣﺎ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎﺏ اﻟﺬﻱ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻤﺎﻡ ﻓﻠﻢ ﻳﺮﻭﻩ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﺧﺎﻟﺪ ﻋﻦ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻦ ﺃﺑﻴﻪ ﻋﻦ ﺟﺪﻩ ﻋﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻼﻡ ﻏﻴﺮ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺑﻦ اﻟﺰﺑﺮﻗﺎﻥ, ﻗﺎﻝ: ﺣﺪﺛﻨﻲ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎﺏ ﺃﺑﻮ ﺧﺎﻟﺪ، ﻋﻦ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ، ﻋﻦ ﺃﺑﻴﻪ، ﻋﻦ ﺟﺪﻩ، ﻋﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻼﻡ، ﻭﻛﺎﻥ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺑﻦ اﻟﺰﺑﺮﻗﺎﻥ ﻣﻦ ﺧﻴﺎﺭ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻭﻛﺎﻥ ﺧﺎﺻﺎ ﺑﺄﺑﻲ ﺧﺎﻟﺪ, ﻗﺎﻝ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ: ﺳﺄﻟﺖ ﺃﺑﺎ ﺧﺎﻟﺪ ﻛﻴﻒ ﺳﻤﻌﺖ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎﺏ ﻣﻦ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ؟ ﻗﺎﻝ: ﺳﻤﻌﻨﺎﻩ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺏ ﻣﻌﻪ ﻗﺪ ﻭﻃﺄﻩ ﻭﺟﻤﻌﻪ ﻓﻤﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﻣﻤﻦ ﺳﻤﻌﻪ ﺇﻻ ﻗﺘﻞ ﻏﻴﺮﻱ.
ويرجع تأريخ تدوين مجموع الإمام زيد الحديثي والفقهي تقريبا إلى أواخر القرن الهجري الأول وبدايات الثاني، ولم يكن هناك في هذه الفترة أحد قد جمع مدونة في الحديث غير الإمام زيد "ع"، حيث أن أقدم المدونات في الحديث بعد مجموع الإمام زيد هو موطأ مالك، والذي يرجع تأريخ تدوينه إلى منتصف القرن الثاني الهجري تقريبا، وهو ما يعني تأخره عن مسند الامام زيد عليه السلام بحوالي نصف قرن, إذ يروى أن الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر الدوانيقي هو من ألزم مالكا أن يعمل مدونة في الحديث لكي يحمل الناس عليها ويفرضها على المجتمع بقوة سلطانه فوضع الموطأ.
التهيئة للثورة
عاش الامام زيد عليه السلام حياته في المدينة المنورة، وفي المدة الأخيرة تعرض للكثير من المضايقات من قبل واليها خالد بن عبدالملك بن الحارث، وكان تحت المراقبة الشديدة، لكن لم يمنعه ذلك من المضي في مشروعه.
روي أنه جمع مرة مجموعة من أهل البيت قائلا لهم: (وقد أتاني بعض من أعرف إخلاصه ودينه من أهل العراق يدعوني للخروج إلى العراق والالتقاء بعلمائه، لعل الله يجمع شتاتهم بنا.. وأنا أرى أن نخرج إلى العراق لزيارة قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام والحسين بن علي عليه السلام وأصحابهم.. ومحاورة العلماء العراقيين والإصلاح ما استطعنا).
خروجه إلى الكوفة
وصل الإمام زيد عليه السلام إلى العراق وحضي باستقبال مهيب والتقى بعلمائه وتعرف الأخبار هناك, كتهيئة للثورة والتعرف عن كثب على مدى توفر ظروف انطلاقة الثورة ونجاحها, ثم عاد إلى المدينة وضيق عليه الخناق أكثر.
عودة الإمام إلى مدينة جده
عاد الإمام عليه السلام مع أصحابه إلى مدينة جده رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، ولكن ذلك لم يرق لواليها الأموي، فبعد أن كتب إليه هشام: ((إن زيداً قد أفسد عليك المدينة))، استغل بعض الخلافات بين الإمام زيد(ع) وبين بعض بني عمومته، فأراد أن يؤجج ذلك الخلاف السطحي ليجعل منه فتيل فتنة تثور بين طرفين كلاهما يشكل مصدر رعب وقلق لسلاطين الجور، فيكون كما يقال: (يضرب عصفورين بحجر)، فيقف موقف المتفرج والناصح ويكفى المؤنة, ولكنهم تنبهوا لذلك، فقدموا مشهداً عظيماً في التنازل والإيثار..... بعدها اشتدت الضغوطات والمضايقات من والي المدينة على المستضعفين وعلى الإمام وأهل بيته عليهم السلام.
رحلة الإمام من المدينة إلى الشام
بعد أن واجه الإمام زيد(ع) المضايقات من والي هشام في المدينة المنورة قرر أن يخرج إلى الشام ليُسمع طاغيتها هشام كلمة الحق, وصيحة الصدق, وقبل مغادرته المدينة ذهب ليودع قبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, جاء إلى المسجد النبوي وصلى ما شاء الله، ثم وقف مبتهلاً، فقال: اللَهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أني مُكْرَهٌ مَجْبُورٌ مضطرٌ غيرُ مختارٍ، ولا مالك لنفسي، اللَهُمَّ واكفني كَيْدَهُ وألبِسْنِي جُبَّةَ عِزٍّ لكيلا أخشعَ لسلطانِه، ولا أرهب من جنوده، اللَهُمَّ وابسُط لِساني عليه بإعزازِ الحقِّ ونُصْرَتِه، كي أقولَ قولَ الحقِّ ولا تأخُذنِي لومةُ لائم، ولا إذلالُ الجبَّارِين، اللَهُمَّ واجْمَعْ قَلْبِي عَلَى هِدَايتِكَ، وأرني من إِعزازِكَ إياي ما يَصْغُرُ به عندي مُلْكُه، وتَذِلُّ لي نَخْوَتُه، اللَهُمَّ فاطْرَحِ الهيبة في قَلْبِه وذَلِّلْ لي نفسه، واحْبِسْ عَنِّي كَيْدَهُ.
الوداع الأخير لقبر الرسول
ثم أتى قبرَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فصلى إلى جَنْبِه، ثم انصرف من صلاته فقال: السَّلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا نبي اللّه، السلام عليك يا خيرة الأنبياء وأشرف الرسل، السلام عليك يا حبيب اللّه، هذا آخر عهدي بمدينتك، وآخر عهدي بقبرك ومنبرك، أخْرِجْتُ يا أبَهْ كارهاً، وسِرْتُ في البلاد أسيراً يا رسول اللّه، وإني سائلك الشفاعة إلى اللّه عز وجل، وأن يُؤَيِّدَنِي بِثِقَةِ اليقين، وعِزِّ التقوى، وأن يختم لي بشهادة تلحقني بآبائي الأكرمين وأهلي الطاهرين.
الإمام زيد في الشام
ثم شخص الإمام زيد بن علي إلى دمشق بحجة أن خالد القسري الوالي الأسبق على الكوفة ادعا على الإمام زيد مالاً, ومكث عليه السلام قرابة (5) أشهر تحت الإقامة الجبرية, كان الهدف من فرض تلك الإقامة إذلال الإمام وتحقيره بين الناس، ثم سمح له بعد أن أوصى حضّار مجلسه بمقابلته بالجفاء والاحتقار، وأن لا يردّوا عليه السلام، وأن لا يتركوا له مقعدا يجلس عليه، دخل الإمام زيد عليه السلام، فسلّم على هشام فلم يردّ عليه السلام، والتفت إلى الحاضرين فرأى ما دُبّر له من المكيدة، فوجّه سلاما خاصا إلى هشام قائلا له: السلام عليك يا أحول، فإنّك ترى نفسك أهلا لهذا الاسم، فصاح به: ما يصنع أخوك البقرة؟ فردّ عليه زيد قائلا له: سمّاه رسول الله الباقر، وأنت تسمّيه البقرة، لشدّ ما اختلفتما فيدخل الجنّة وتدخل النار.
فقال هشام: بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمنّاها، ولست أهلا لها لأنك ابن أمة.
فرد عليه الإمام زيد قائلا: إنَّ الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، لقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحاق، فلم يمنعه ذلك أن بعثه الله تعالى نبياً وجعله أباً للعرب، وأخرج من صلبه خير الأنبياء محمّد ففقد هشام بن الحكم صوابه، ولم يطق الردّ على زيد سوى أن أمر شرطته بضرب زيد ثمانين سوطا.
وخرج الإمام زيد عليه السلام من عند هشام بن عبد الملك، وهو يقول: والله لن تراني إلا حيث تكره, وأدلى بما صمّم عليه قائلا: ما كره قوم حرّ السيوف إلاّ ذلّوا. وتميّز هشام غضبا، وراح يقول: ألستم زعمتم أنَّ أهل هذا البيت - يعني البيت العلوي - قد بادوا، فلعمري ما انقرض من مثل هذا - يعني زيدا- خلفهم .
الإمام في الكوفة ثانية
سرح هشام الإمام زيداً عليه السلام إلى والي العراق يوسف بن عمر؛ ليتدبر أمر زيد بن علي، وكتب هشام إلى يوسف بن عمر: إذا قدم عليك زيد بن علي فاجمع بينه وبين خالد، ولا يقيمن قبلك ساعة واحدة، فإني رأيته رجلا حلو اللسان شديد البيان خليقا بتمويه الكلام، وأهل العراق أسرع شيء إلى مثله.
فلما قدم الإمام زيد الكوفة، دخل إلى يوسف فقال: لم أشخصتني من عند هشام؟ قال: ذكر خالد بن عبد الله أن له عندك ستمائة ألف درهم.
قال: فأحضر خالدا! فأحضره وعليه حديد ثقيل، فقال له يوسف: هذا زيد بن علي، فاذكر ما لك عنده! فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما لي عنده قليل ولا كثير، ولا أردتم بإحضاره إلا ظلمه.
حاول يوسف بن عمر بأمر من هشام بن عبدالملك أن يستعجل الإمام زيد على مغادرة الكوفة خوفاً من أن يلتقي بشيعته وأنصاره فقال يوسف بن عمر: إن أمير المؤمنين أمرني أن أخرجك من الكوفة ساعة قدومك! فقال الإمام (ع): فأستريح ثلاثاً، ثم أخرج؟ فقال له يوسف: مالي إلى ذلك سبيل. قال: فيومي هذا، قال: ولا ساعة واحدة.
فخرج الإمام زيد (ع) ومعه رسل وعيون يوسف، وهو يتمثل بهذه الأبيات:
مُنْخَرق الخفّين يشكو الوجى
تنكبه أطراف مَروٍ حداد
شرَّده الخوف وأزْرَى به
كذاك من يكره حَرَّ الجِلاد
قد كان في الموتِ له راحة
والموت حتم في رقابِ العباد
الإمام زيد في القادسية
خرج الإمام زيد عليه السلام إلى القادسية وقد عزم على العودة إلى المدينة, فلحقه أنصاره وشيعته وفيهم نصر بن خزيمة بمنطقة العذيب, وقالوا له: أين تذهب يا ابن رسول اللّه وتذر الكوفة، ولك بها مائة ألف سيف يقاتلون عنك بني مروان؟ ننشدك اللّه إلاّ ما رجعت.
كان برفقة الإمام زيد عليه السلام في رحلته تلك عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب, فقال الإمام زيد لغلمانه, حين سمع كلام أنصاره: اعزلوا متاعي من متاع ابن عمي.
فقال له عبدالله: ولم ذاك أصلحك الله؟
فقال الإمام زيد عليه السلام: أجاهد بني أمية, والله لو أعلم أنه تؤجج لي نار بالحطب الجزل, فأقذف فيها وأن الله أصلح لهذه الأمة أمرها لفعلت.
فقال عبدالله: الله الله في قوم خذلوا جدك وأهل بيتك!
فأنشأ يقول:
فإن أقتل فلست بذي خلود وإن أبقر اشتفيت من العبيد
ثم أخذ متاعه وأنطلق إلى الكوفة.
الثورة العسكرية
عودة الإمام إلى الكوفة
عاد الإمام زيد عليه السلام إلى الكوفة مستخفياً، فنزل في دار نصر بن خزيمة, ثم تحول إلى دار معاوية بن إسحاق في جبانة سالم, وفي مدة قعوده في الكوفة التي استمرت بضعة عشر شهراً بدأ بجمع نخبة من العلماء والفرسان ورؤساء العشائر الذين يتمتعون بمواصفات خلقية رفيعة، وشكل منهم فريق الدعاة الذين نشرهم في الآفاق لدعوة الناس، وأخذ البيعة منهم, وكان تحرك الإمام زيد (ع) في تلك الفترة تحركاً سرياً يهدف إلى تهيئة الثورة للنجاح، كما ذهب الإمام (ع) خلال تلك الفترة إلى البصرة في سبيل تهيئة الأمور، وأخذ البيعة من أهلها، ومع أنه عليه السلام كان في هذا الوقت أحوج ما يكون إلى من ينصره ويعينه في حركته إلا أنه كان يتحاشا أن يأخذ البيعة من حديثي السن، وهذا أبو معمر خير شاهد على ذلك، فقد جاء في التأريخ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻣﻌﻤﺮ ﻗﺎﻝ: ﺃﺗﻴﺖ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: اﺑﺴﻂ ﻳﺪﻙ ﺃﺑﺎﻳﻌﻚ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ: ﻻ, ﻗﻠﺖ: ﻭﻟﻢ؟ ﻗﺎﻝ: ﺇﻧﻚ ﺣﺪﺙ، ﺃﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﺃﺣﻤﻠﻚ ﻣﺎ ﻻ ﺗﻄﻴﻖ ﻓﺂﺛﻢ، ﺃﻭ ﺗﺤﻤﻞ ﻣﺎ ﻻ ﺗﻄﻴﻖ ﻓﺘﺄﺛﻢ. ﻗﻠﺖ: ﺃﺳﺄﻟﻚ ﺑﺤﻖ اﻟﻠﻪ ﻭﺣﻖ ﺭﺳﻮﻟﻪ ﺇﻻ ﺑﺎﻳﻌﺘﻨﻲ، ﻗﺎﻝ: اﺑﺴﻂ ﻳﺪﻙ، ﻓﺒﺴﻄﺖ ﻳﺪﻱ, ﻓﻘﺎﻝ: ﻋﻠﻴﻚ ﻋﻬﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﻣﻴﺜﺎﻗﻪ ﻭﺫﻣﺘﻪ ﻭﻛﻔﺎﻟﺘﻪ، ﻭﻣﺎ ﺃﺧﺬ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺒﻴﻴﻦ ﻣﻦ ﻋﻬﺪ ﺃﻭ ﻣﻴﺜﺎﻕ ﺃﻭ ﺫﻣﺔ ﺃﻭ ﻛﻔﺎﻟﺔ، ﻟﺘﺼﺒﺮﻥ ﻣﻌﻨﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻮﺕ ﻋﻠﻰ ﻗﺘﺎﻝ ﻋﺪﻭﻧﺎ ﻻ ﺗﻮﻟﻲ ﺩﺑﺮاً ﺣﺘﻰ ﻳﺤﻜﻢ اﻟﻠﻪ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻭﺑﻴﻦ ﻋﺪﻭﻧﺎ، ﻭﻫﻮ ﺧﻴﺮ اﻟﺤﺎﻛﻤﻴﻦ. ﻗﻠﺖ: ﻧﻌﻢ؛ ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ: ﻭﻟﻚ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻣﺜﻞ ﺫﻟﻚ، ﺃﻥ ﻧﺼﺒﺮ ﻣﻌﻚ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻮﺕ ﻋﻠﻰ ﻗﺘﺎﻝ ﻋﺪﻭﻧﺎ ﻻ ﻧﻮﻟﻲ ﺩﺑﺮاً ﺣﺘﻰ ﻳﺤﻜﻢ اﻟﻠﻪ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻭﺑﻴﻦ ﻋﺪﻭﻧﺎ، ﻭﻫﻮ ﺧﻴﺮ اﻟﺤﺎﻛﻤﻴﻦ.
وكذلك لم تكن قيم الإمام زيد عليه السلام تقبل أن يأخذ البيعة من المماليك إلا بإذن مالكيهم، وهذا العبد السندي الذي أخبر عن محل قبر الإمام زيد، كان قد أتى إلى الإمام (ع) من أول النهار، في قوم أتوه، ليقاتل معه، فلم يقبله زيد، وقال: لا يقاتل مملوك بغير إذن مولاه، فدل على قبره بعد دفنه.
ثورة الفقهاء
يعرف عن ثورة الإمام زيد أنها ثورة الفقهاء والعلماء, لتأييد الكبير من العلماء لهذه الثورة ومباركتها ونصرتها.
فبعث الإمام زيد الفضلَ بن الزبير وأبا الجارود إلى أبي حنيفة النعمان، فوصلا إليه وهو مريض، فدعياه إلى نصرته، فقال: هو واللـه صاحب حق، وهو أعلم مَنْ نعرف في هذا الزمان، فأقرآه مني السلام وأخبراه أن مرضاً يمنعني من الخروج معه , ثم أرسل معهما بثلاثين ألف درهم للإمام زيد يستعين بها على جهاده، وقال: لئن شفيت لأخرجن معه.
وبعثَ الإمام زيد عليه السلام الحافظ الكبير والمحدث الشهير منصور بن المعتمر السلمي إلى العلماء، فكان يدخل عليهم وهو يعصر عينيه ويبكي ويقول: اجيبوا ابن رسول اللّه.
وبعثَ الإمام زيد عليه السلام عثمانَ بن عمير الفقيه إلى الأعمش ومن يتردد عليه من العلماء، فلما وصل إليه وعرض عليه رسالة الإمام زيد قال: ما أعرفني بفضله, أقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك الأعمش: لست أثق لك ـ جعلت فداك ـ بالناس، ولو أنا وجدنا لك ثلاثمائة رجل نثق بهم لعَفَّرْنا لك حواجبنا, وقال شعبة: سمعت الأعمش يقول: واللـه لولا ضُرة بي لخرجت معه، واللـه ليُسْلِمُنَّه كما فعلوا بجده وعمه.
قال سليمان الرازي: لم أرَ يوما كان أبهى ولا أكثر جموعاً ولا أوفر سلاحاً ولا أشد رجالاً ولا أكثر قرآناً وفقهاً من أصحاب زيد بن علي.
ثورة أمة لا ثورة مذهب
ولأن منطلقات ثورة الإمام زيد عليه السلام منطلقات جامعة, كانت ثورته محل إجماع من الأمة الإسلامية بمختلف مذاهبها, وهذا ما يدلل على أن فكر ونهج الإمام زيد عليه السلام هو نقطة الاجتماع والتوحد التي تلم شمل الأمة الإسلامية وتوحد فرقتها وشتاتها.
قال السيد أبو طالب في كتاب الدعامة: (لما شهر فضله وتقدمه وظهر علمه وبراعته، وعُرف كماله الذي تقدم به أهل عصره اجتمع طوائف الناس على اختلاف آرائهم على مبايعته فلم يكن الزيدي أحرص عليها من المعتزلي، ولا المعتزلي أسرع إليها من المرجي، ولا المرجي من الخارجي، فكانت بيعته عليه السلام مشتملة على فرق الأمة مع اختلافها ولم يشذ عن بيعته إلا هذه الطائفة القليلة التوفيق). يقصد الرافضة
الإمام زيد والرافضة
اجمعت الأمة على أن الرافضة هم الفرقة الناكثة لبيعة الإمام زيد بن علي، أي أنهم كانوا بايعوه ثم نكثوا بيعته، ولكن اختلفت الروايات في سبب نكثهم عليه، والحقيقة في سبب رفضهم ونكثهم أنهم بعد أن سمعوا بملاحقة الخليفة الأموي هشام للمُبايعين للإمام زيد، خافوا على أنفسهم وجبنوا عن المواجهة، فأرادوا التخلّص من البيعة والخروج منها، فالتمسوا المخارج والأعذار فقالوا بالوصية فيما بين الأئمة، فقالوا له: يا زيد لست الإمام، قال: ويلكم فمن الإمام؟ قالوا: ابن أخيك جعفر بن محمد، قال: إن قال هو الإمام فهو صادقٌ.
قالوا: الطريق مقطوع ولا نجد رسولاً إلاَّ بأربعين ديناراً. قال: هذه أربعون ديناراً. قالوا: إنه لا يظهر ذلك تقية منك وخوفاً.
قال: ويلكم إمامٌ تأخذه في الله لومة لائم اذهبوا فأنتم الرافضة، ورفع يديه فقال: اللهم اجعل لعنتك، ولعنة آبائي وأجدادي ولعنتي، على هؤلاء الذين رفضوني، وخرجوا من بيعتي، كما رفض أهل حروراء علي بن أبي طالب عليه السلام حتى حاربوه.
ومن هنا نعرف أن الرافضة هم من رفضوا الإمام زيداً عليه السلام ونكثوا بيعته, ويسري هذا الحكم وهذه التسمية على كل من يرفض الجهاد مع الأخيار من ذرية رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم.
نص بيعته عليه السلام
أقبل المسلمون في الكوفة على الإمام زيد عليه السلام مبايعين, حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة خاصة سوى أهل المدائن، والبصرة، وواسط، والموصل، وخراسان، والري، وجرجان, وكان نص بيعته, أنه يبدأ فيقول: إنا ندعوكم أيها الناس إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وقسم الفيء بين أهله، ورد المظالم، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا الحرب، أتبايعونا على هذا؟
فإن قالوا: نعم؛ وضع يد الرجل على يده فيقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله لتفين ببيعتي ولتقاتلن عدونا، ولتنصحن لنا في السر والعلانية.
فإذا قال: نعم؛ مسح يده على يده ثم قال: اللهم اشهد.
انطلاق الثورة
حدد الإمام زيد عليه السلام غرة صفر من سنة (122هـ) موعداً لانطلاق الثورة, وبسبب أن السلطة الأموية كانت متخوفة من الإمام زيد, وبثت الجواسيس والمخبرين في ذلك، تسربت أخبار الثورة.
فيروي التاريخ أن رجلاً من أهل الكوفة يقال له ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﺳﺮاﻗﺔ اﻟﺒﺎﺭﻗﻲ ذهب ﺇﻟﻰ ﻳﻮﺳﻒ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ فأخبره بخبر الإمام(ع)، ﻓﻘﺎﻝ له ﻳﻮﺳﻒ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ: ﻭﻳﺤﻚ ﻓﻜﻴﻒ ﻋﻠﻤﺖ ﺑﺬﻟﻚ؟ ﻓﻘﺎﻝ: ﻷﻧﻪ ﺧﺒﺮﻧﻲ اﻟﺼﺪﻭﻕ ﺃﻧﻪ ﻗﺪ ﺑﺎﻳﻌﻪ اﻟﻨﺎﺱ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﻭﻭﺟﻪ ﺑﻜﺘﺒﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻞ اﻟﺴﻮاﺩ ﻳﻮاﻋﺪﻫﻢ ﺑﺎﻟﺨﺮﻭﺝ.
أخبر البارقي يوسف بن عمر بأن الإمام زيداً ﻓﻲ ﺩاﺭ ﺭﺟﻠﻴﻦ من الكوفة، ﻓﺒﻌﺚ ﻳﻮﺳﻒ ﻓﻲ ﻃﻠﺐ ﺯﻳﺪ ﻟﻴﻼ، ﻓﻠﻢ ﻳﺟﺪه في تلك الدار فقبضوا على اﻟﺮﺟﻠﻴﻦ وأتي ﺑﻬﻤﺎ ﺇﻟﻰ ﻳﻮﺳﻒ، ﻓﻠﻤﺎ ﻛﻠﻤﻬﻤﺎ تأكد واستبان ﻟﻪ ﺃﻣﺮ الإمام ﺯﻳﺪ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻭﺃﻣﺮ ﺑﻬﻤﺎ ﻓﻀﺮﺑﺖ ﺃﻋﻨﺎﻗﻬﻤﺎ.
فلما علم الإمام زيد عليه السلام بذلك, وأن موعد الثورة قد تسرب إلى بلاط السلطان الأموي, حاول أن ينقذ الثورة من أن تضرب في مهدها, فقرر أن يعلن الثورة قبل موعدها.
المعــــركة
ليلة ويوم الثلاثاء
في ليلة يوم الثلاثاء الموافق 22 محرم أمر يوسف بن عمر قائد شرطته اﻟﺤﻜﻢ ﺑﻦ اﻟﺼﻠﺖ بجمع ﺃﻫﻞ اﻟﻜﻮﻓﺔ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻷﻋﻈﻢ ﻓﻴﺤﺼﺮﻫﻢ ﻓﻴﻪ، حتى يحول بينهم وبين نصرتهم للإمام زيد, ﻓﺒﻌﺚ اﻟﺤﻜﻢ ﺇﻟﻰ اﻟﻌﺮﻓﺎء ﻭاﻟﺸﺮﻁ ﻭاﻟﻤﻨﺎﻛﺐ ﻭاﻟﻤﻘﺎﺗﻠﺔ بأن يجمعوا أهل الكوفة في المسجد، ﺛﻢ ﻧﺎﺩﻯ ﻣﻨﺎﺩﻳﻪ: ﺃﻳﻤﺎ ﺭﺟﻞ ﻣﻦ اﻟﻌﺮﺏ ﻭاﻟﻤﻮاﻟﻲ ﺃﺩﺭﻛﻨﺎﻩ ﻓﻲ رحله الليلة فقد برأت منه الذمة, ائتوا اﻟﻤﺴﺠﺪ الأعظم. وفي يوم الثلاثاء جاء الناس إلى المسجد.
ليلة الأربعاء
في ليلة الأربعاء 23 محرم 122هـ، ومن دار معاوية بن إسحاق في ليلة شديدة البرد خرج الإمام زيد (ع) بين أصحابه راكباً على بغلة شهباء، يلبس قباء أبيض، تحته درع، مُعْتَمّاً بعمامة سوداء، ومعه سيف ودَرَقَة، وبين يديه مصحف، فوقف وقال: ((أيها الناس أعينوني على أنباط أهل الشام، فوالله لا يعينني عليهم أحد إلا رجوت له أن يجيء يوم القيامة آمناً حتى يجاوز الصراط ويدخل الجنة, ثم قال: سلوني، فوالله ما تسألوني عن حلال أو حرام، أو محكم أو متشابه، أو ناسخ أو منسوخ، أو أمثال أو قصص، إلا أنبأتكم به، والله ما وقفت هذا الموقف ولا قمت مقامي هذا حتى قرأت القرآن، وأتقنت الفرائض والأحكام، والسنن والآداب، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل، وفهمت الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والخاص والعام، وأنا أعلم أهل بيتي بما تحتاج إليه الأمة، وأنا على بصيرة من ربي)).
وكان يتمثل بهذين البيتين:
إن المحكم ما لم يرتقب حسداً
لو يرهب السيف أو وخز القنا هتفا
من عاذ بالسيف لاقى فرجة عجبا
موتا على عجل أو عاش فانتصفا
كان أصحاب الإمام زيد يحملون الهرادي (القصب) فيها النيران, ويصيحون بشعار الإمام (يا منصور أمت)، نظر الإمام زيد (ع) إلى أصحابه فوجدهم قلة, فبعث أحد قادته (القاسم بن كثير) ومعه رجل آخر؛ ليناديا في شوارع الكوفة بشعاره: (يا منصور أمت), ليعلن للناس بدء المعركة.
خرج القاسم بن كثير وصاحبه إلى شوارع الكوفة, وظلا يناديان بشعار الإمام زيد، فاعترضته كتيبة من جند الأمويين بقيادة العباس بن جعفر الكندي، فقاتلوهم قتال الأبطال حتى جُرِح القاسم وسقط على الأرض وقتل صاحبه، فأُخِذ القاسم إلى الحكم بن الصلت فأمر بضرب عنقه، فكانا رحمهما اللّه أول شهيدين في المواجهة.
صبيحة يوم الأربعاء
وفي صباح الأربعاء تجمع أنصار الإمام زيد عليه السلام فبلغوا مائتان وثمانية عشر رجلاً، وبدأ بتشكيلة جيشه, فكانت على النحو التالي, نصر بن خزيمة على الميمنة, ومعاوية ين إسحاق على الميسرة, في جيش يقول سليمان الرازي في وصفه: ((لم أرَ يوماً كان أبهى ولا أكثر جموعاً ولا أوفر سلاحاً ولا أشد رجالاً ولا أكثر قرآناً وفقهاً من أصحاب زيد بن علي)).
اكتمال الدين
رفرفت رايات الجهاد على رأس ذلك الجيش القليل العدد, الكثير الإيمان والبصيرة, وبدأ ينظر الإمام زيد (ع) إلى ذلك المشهد الذي طال ما انتظره, فانطلقت شفتاه عليه السلام قائلاً: ((الحمد لله الذي أكمل لي ديني أما والله لقد كنت أستحي من رسول اللّه (ص) أن أَرِدَ عليه ولم آمر في أمته بمعروف ولم أنه عن منكر))، ثم نظر إلى أصحابه، وقال: ((والله ما أبالي إذا أقمت كتاب اللّه وسنة نبيه أن تأجج لي نار ثم قُذفت فيها ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة اللّه، والله لا ينصرني أحد إلا كان في الرفيق الأعلى مع محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.. يا معاشر الفقهاء ويا أهل الحجا أنا حجة اللّه عليكم هذه يدي مع أيديكم على أن نقيم حدود اللّه ونعمل بكتاب اللّه، ونقسم بينكم فيئكم بالسوية...)).
ثم قال: ((اللهم لك خرجت، وإياك أردت، ورضوانك طلبت، ولعدوك نصبت، فانتصر لنفسك ولدينك ولكتابك ولنبيك ولأهل بيتك ولأوليائك من المؤمنين، اللهم هذا الجهد مني وأنت المستعان)).
وقال- والمصحف منشور بين يديه-: (سلوني، فوالله ما تسألوني عن حلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وأمثال وقصص، إلا أنبأتكم به، والله ما وقفت هذا الموقف إلا وأنا أعلم أهل بيتي بما تحتاج إليه هذه الأمة).
ثم نظر عليه السلام إلى أصحابه فوجدهم قليل العدد فقال: سبحان الله!! أين الناس؟ فقيل له: هم محصورون في المسجد، قال: لا، والله ما هذا لمن بايعنا بعذر، وتوجه مع أنصاره لرفع الحصار عن أهل المسجد وفي طريقه إلى المسجد وقعت بينه وبين جند الأمويين مواجهة عنيفة كان النصر فيها حليفه، ولما وصل إلى جوار المسجد نادى أصحابه بشعاره ( يا منصور أمت ) وأدخلوا الرايات من نوافذ المسجد، وكان نصر بن خزيمة رحمه اللّه ينادي: يا أهل الكوفة اخرجوا من الذل إلى العز ومن الضلال إلى الهدى اخرجوا إلى خير الدنيا والآخرة فإنكم لستم على واحد منها، وانتشر أصحاب الإمام زيد في الكوفة وأمرهم الإمام زيد أن ينادوا: من ألقى سلاحه فهو آمن.
واستمرت المواجهة بين المعسكرين، وكان جنود الأمويين يتزايدون بينما كان جند الإمام زيد ينقصون، والتفت الإمام زيد عليه السلام إلى نصر بن خزيمة وقال له: يا نصر أخاف أهل الكوفة أن يكونوا قد فعلوها حسينية! فقال نصر: جعلني اللّه فداك أما أنا فواللـه لأضربن بسيفي بين يديك حتى أموت!!
ثم انطلق الإمام زيد إلى الكناسة, فحمل على من فيها من جند أهل الشام, ثم اتجه إلى الجبانة (جبانة الصائديين)، وفيها 500 من الجند الأموي فحمل عليهم الإمام فهزمهم, ويوسف بن عمر قائد الجيش الأموي على التل, يقول الراوي: فرأيته ـ أي الإمام زيداًـ يشد عليهم كأنه الليث.
ثم دخل الإمام زيد عليه السلام وأصحابه الكوفة, وانجلت معركة يوم الأربعاء عن 2000 قتيل من الجيش الأموي, وكانت معظم المواجهات بين الحيرة والكوفة، فقسم الإمام زيد جيشه إلى فرقتين: فرقة تواجه الجيش الأموي القادم من الحيرة, وفرقة تواجه الجيش الأموي المتواجد في الكوفة.
يوم الخميس
وبعد أن كانت المواجهات طيلة يوم الأربعاء, جاء يوم الخميس لتبدأ المواجهات من جديد، أكثر تضحية واستبسالاً، وفيه كان للإمام زيد عليه السلام وأصحابه مواقف بطولية خلدها التأريخ، فقد قاتلوا قتال المستميت فلم يجرؤ أحد على مواجهتهم أو مبارزتهم.
ليلة الجمعة
مضى يوم الخميس, وكان يوماً دامياً على جيش هشام بن عبدالملك, فقد انجلت معاركه عن 200 قتيل من الجيش الأموي, لكن الجراحة قد كثرت في أصحاب الإمام, أمر الإمام زيد أصحابه أن يحيوا ليلة الجمعة بالصلاة والتهجد وقراءة القرآن والتضرع إلى الله ويقول لهم: وأنا أعلم والله إنه ما أمسى على وجه الأرض عصابة أنصح لله ولرسوله وللإسلام منكم, وأمضى الإمام ليلته تلك في مناجاة وتهجد, وكان يدعو الله تعالى ويقول: اللهم إن هؤلاء يقاتلون عدوك وعدو رسولك ودينك الذي ارتضيته لعبادك فاجزهم أفضل ما جزيت أحداً من عبادك المؤمنين.
يوم الجمعة
فجاء يوم الجمعة وقد كثرت الجراح في أصحاب الإمام زيد عليه السلام, واستبان الفشل, وترك من ضعفت بصيرته المعركة, ودخل المصر, بعد أن عقد الإمام لمن تأخر عنه الأمان, وثبت مع الإمام أهل البصائر, فما زالوا يسقون الأعداء كؤوس الموت دون إمامهم إلى غسق الظلام، وحين شعر جيش الأمويين أنه لا قدرة لهم على المواجهة تحصنوا خلف الكثب والجدران، واستنجد العباس بن سعد بقائد جيش هشام يوسف بن عمر وشكى إليه ما ناله من الزيدية, وسأله أن يبعث إليه بالناشبة (رماة السهام), فبعث إليه سليمان بن كيسان وكان قائداً على كتيبة الناشبة، وكانوا جميعهم من القيقانية وهم بخارية (نسبة إلى بخارى مدينة في خرسان)، وعددهم 2300رامٍ, فجعلوا يمطرون جيش الإمام (ع) بوابل من السهام.
المصاب الأليم
انتهت مواجهات ذلك اليوم بخبر فاجع ومصيبة عظيمة, فمع غروب شمس ذلك اليوم أصاب سهم غادر جبهة الإمام اليسرى، فنزل الإمام (ع) من فرسه جريحاً, ووضع يده على جبهته قائلاً: الشهادة ... الشهادة الحمد لله الذي رزقنيها!
تراجع أصحاب الإمام زيد (ع)، فظن الأمويون أنهم تراجعوا لدخول الليل وحلول الظلام.
وصية الإمام زيد لولده يحيى
جاء يحيى بن زيد إلى أبيه وهو يبكي وأكب عليه والدماء تنزل منه، والسهم نابت في جبينه، فجمع يحيى قميصه في يده ومسح به الدم من وجه أبيه، ثم قال له: ابشر يا ابن رسول اللّه، ترد على رسول اللّه وعلي وفاطمة وخديجة والحسن والحسين وهم عنك راضون.
فقال له الإمام: صدقت يا بني، فأي شيء تريد أن تصنع؟ قال يحيى: أجاهدهم إلا أن لا أجد الناصر. قال: نعم يا بني، جاهدهم، فواللـه إنك لعلى الحق، وإنهم لعلى الباطل، وإن قتلاك في الجنة، وقتلاهم في النار
والتف الأصحاب حول إمامهم، وجيء بطبيب، ولكنه وجد السهم قاتلاً، فالضربة القاسية قد وصلت إلى الدماغ, فانتزع الطبيب السهم، وفاضت روح الإمام عليه السلام إلى بارئها، فصلوات الله وسلامه عليه من قتيل ما أكرمه على الله، وسلامٌ على أصحابه الصابرين من عصابة ما أحبها إلى الله، وأنصحها، وأعرفها بفضل عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولما فرغ من ذلك نزعت النشابة منه، فقضى نحبه سلام الله عليه.
استشهاده عليه السلام
كان استشهاد الإمام زيد عليه السلام في ليلة الجمعة (25) محرم سنة (122هـ)، وله من العمر (46) سنة.
الرأٍس الشريف
عندما ﺗﻮﻓﻲ الإمام زيد ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ اﺧﺘﻠﻒ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﻓﻲ ﺩﻓﻨﻪ، ﺛﻢ اﺗﻔﻘﻮا ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻋﺪﻟﻮا ﻧﻬﺮا ﻋﻦ ﻣﺠﺮاﻩ، ﺛﻢ ﺣﻔﺮﻭا ﻟﻪ ﻭﺩﻓﻨﻮﻩ ﻭﺃﺟﺮﻭا اﻟﻤﺂء ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ اﻟﻤﻮﺿﻊ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻌﻬﻢ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺎﻝ ﻏﻼﻡ ﺳﻨﺪﻱ ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺻﺒﺢ انتشر خبر مقتل الإمام وبلغ يوسف بن عمر ذلك، فأمر منادياً أن ينادي ﻣﻦ ﺩﻝ ﻋﻠﻰ ﻗﺒﺮ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻛﺎﻥ ﻟﻪ ﻣﻦ اﻟﻤﺎﻝ ﻛﺬا ﻭﻛﺬا، ﻓﺪﻟﻬﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﺫﻟﻚ اﻟﻐﻼﻡ، ﻓﺎﺳﺘﺨﺮﺟﻮﻩ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻣﻦ ﻗﺒﺮﻩ ﺛﻢ احتزوا رأسه فبعث به يوسف بن عمر الثقفي إلى الشام، وبعد أن وضع بين يدي هشام أمر أن يطاف به في البلدان لنشر الرعب في نفوس الناس حتى وصل إلى المدينة المنورة، ونصب في المسجد النبوي أمام قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ثم أخذ إلى مصر ونصب في الجامع الأعظم أياماً ومنه أخذ سراً ودفن هنالك.
الجسد الطاهر
أما الجسد الطاهر فقد أمر يوسف بن عمر بصلبه على شجرة الرمان في موضع يعرف بالكناسة في مدينة الكوفة، ﻭﺑﻘﻲ ﺫﻟﻚ اﻟﺠﺴﺪ اﻟﻄﺎﻫﺮ ﻣﺼﻠﻮﺑﺎ ﺑﺎﻟﻜﻨﺎﺳﺔ ﻧﺤﻮ (4) ﺳﻨﻴﻦ، وفي زمن اﻟﻮﻟﻴﺪ ﺑﻦ ﻳﺰﻳﺪ ومع خروج اﻹﻣﺎﻡ ﻳﺤﻴﻰ ﺑﻦ ﺯﻳﺪ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﺑﺨﺮﺳﺎﻥ ﻜﺘﺐ اﻟﻮﻟﻴﺪ ﺇﻟﻰ ﻳﻮﺳﻒ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ:
((ﺃﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﻓﺈﺫا ﺃﺗﺎﻙ ﻛﺘﺎﺑﻲ ﻫﺬا ﻓﺎﻧﻈﺮ ﻋﺠﻞ اﻟﻌﺮاﻕ ﻓﺄﺣﺮﻗﻪ ﻭاﻧﺴﻔﻪ ﻓﻲ اﻟﻴﻢ ﻧﺴﻔﺎ .. ﻭاﻟﺴﻼﻡ)) ﻓﺄﻣﺮ ﻳﻮﺳﻒ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺟﻼ ﻳﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺧﺮاﺵ ﺑﻦ ﺣﻮﺷﺐ ﺑﺈﻧﺰاﻝ ﺟﺜﺔ الإمام ﺯﻳﺪ عليه السلامن ﻓﻘﺎﻡ ﺑﺈﻧﺰاﻝ اﻟﺠﺜﺔ ﺛﻢ ﺃﺣﺮﻗﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﺻﺎﺭﺕ ﺭﻣﺎﺩا، ﺛﻢ ﻧﺴﻔﺖ ﻓﻲ ﻧﻬﺮ اﻟﻔﺮاﺕ، فقال في ذلك أحد الشعراء:
ﻟﻢ ﻳﺸﻔﻬﻢ ﻗﺘﻠﻪ ﺣﺘﻰ ﺗﻌﺎﻭﺭﻩ ... ﻗﺘﻞ ﻭﺻﻠﺐ ﻭﺇﺣﺮاﻕ ﻭﺗﻐﺮﻳﻖ
شيء من كراماته
حاول الأمويون أن يبثوا الرعب في قلوب الناس, وأن يهينوا الإمام زيداً علي السلام فقاموا بقطع رأسه والطواف به في الأمصار كما فعل بجده الحسين بن علي عليهما السلام, وزادوا على ذلك أن صلبوا جسده الطاهر عرياناً, فأمحق الله باطلهم, وخيب آمالهم, وجعل من صلبه محل كرامة له، فأسبل عليه الكرامات، ومنها:
ﻣﺎ ﺭﻭﻱ ﺃﻥ اﻟﻌﻨﻜﺒﻮﺕ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﺴﺞ ﻋﻠﻰ ﻋﻮﺭﺗﻪ ﻟﻴﻼ، ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻟﻌﻨﻬﻢ اﻟﻠﻪ ﺇﺫا ﺃﺻﺒﺤﻮا ﻳﻬﺘﻜﻮﻥ ﻧﺴﺠﻬﺎ ﺑﺎﻟﺮﻣﺎﺡ.
مرت اﻣﺮﺃﺓ ﻣﺆﻣﻨﺔ على موضع صلبه، ﻓﻄﺮﺣﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺧﻤﺎﺭﻫﺎ ﻓﺎﻟﺘﺎﺙ- التف حول عورة الإمام- ﺑﻤﺸﻴﺌﺔ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﻓﺼﻌﺪﻭا ﻓﺤﻠﻮﻩ.
ولما تكرر من حراس خشبة الإمام هتك كل ساتر يستر عورة الإمام، استرخت بطنه ﺣﺘﻰ ﻏﻄﺖ ﻋﻮﺭﺗﻪ, فعن ﺳﻤﺎﻋﺔ ﺑﻦ ﻣﻮﺳﻰ اﻟﻄﺤﺎﻥ ﻗﺎﻝ: ﺭﺃﻳﺖ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻣﺼﻠﻮﺑﺎ ﺑﺎﻟﻜﻨﺎﺳﺔ ﻓﻤﺎ ﺭﺃﻯ اﺣﺪ ﻟﻪ ﻋﻮﺭﺓ اﺳﺘﺮﺳﻞ ﺟﻠﺪ ﻣﻦ ﺑﻄﻨﻪ ﻣﻦ ﻗﺪاﻣﻪ ﻭﻣﻦ ﺧﻠﻔﻪ ﺣﺘﻰ ﺳﺘﺮ ﻋﻮﺭﺗﻪ.
ﺟﺮﻳﺮ ﺑﻦ ﺣﺎﺯﻡ ﻗﺎﻝ: ﺭﺃﻳﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻓﻲ اﻟﻤﻨﺎﻡ، ﻭﻫﻮ ﻣﺘﺴﺎﻧﺪ ﺇﻟﻰ ﺟﺬﻉ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻭﻫﻮ ﻣﺼﻠﻮﺏ، ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ ﻟﻠﻨﺎﺱ: " ﺃﻫﻜﺬا ﺗﻔﻌﻠﻮﻥ ﺑﻮﻟﺪﻱ ؟ ".
ﻣﺮ ﺑﻪ ﺭﺟﻞ ﻓﺄﺷﺎﺭ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺄﺻﺒﻌﻪ ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ: ﻫﺬا اﻟﻔﺎﺳﻖ اﺑﻦ اﻟﻔﺎﺳﻖ ﻓﻐﺎﺑﺖ ﺇﺻﺒﻌﻪ ﻓﻲ ﻛﻔﻪ.
ومنها أنه كانت تفوح من جثته رائحة المسك, فعن ﺷﺒﻴﺐ ﺑﻦ ﻏﺮﻗﺪ ﻗﺎﻝ: ﻗﺪﻣﻨﺎ ﺣﺠﺎﺟﺎ ﻣﻦ ﻣﻜﺔ ﻓﺪﺧﻠﻨﺎ اﻟﻜﻨﺎﺳﺔ ﻟﻴﻼ، ﻓﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﻛﻨﺎ ﺑﺎﻟﻘﺮﺏ ﻣﻦ ﺧﺸﺒﺔ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﺃﺿﺎء ﻟﻨﺎ اﻟﻠﻴﻞ، ﻓﻠﻢ ﻧﺰﻝ ﻧﺴﻴﺮ ﻗﺮﻳﺒﺎ ﻣﻦ ﺧﺸﺒﺘﻪ ﻓﻨﻔﺤﺖ ﺭاﺋﺤﺔ اﻟﻤﺴﻚ ﻗﺎﻝ: ﻓﻘﻠﺖ ﻟﺼﺎﺣﺒﻲ: ﻫﻜﺬا ﺗﻮﺟﺪ ﺭاﺋﺤﺔ اﻟﻤﺼﻠﺒﻴﻦ؟! ﻗﺎﻝ: ﻓﻬﺘﻒ ﺑﻲ ﻫﺎﺗﻒ ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ: ﻫﻜﺬا ﺗﻮﺟﺪ ﺭاﺋﺤﺔ ﺃﻭﻻﺩ اﻟﻨﺒﻴﻴﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﻀﻮﻥ ﺑﺎﻟﺤﻖ ﻭﺑﻪ ﻳﻌﺪﻟﻮﻥ.
ﺭﻭﻱ ﺃﻥ ﺭﺟﻠﻴﻦ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﺿﺒﺔ ﺃﻗﺒﻼ، ﻭﻳﺪ ﻛﻞ ﻭاﺣﺪ ﻓﻲ ﻳﺪ ﺻﺎﺣﺒﻪ ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻣﺎ ﺑﺤﺬاء ﺧﺸﺒﺔ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ، ﻓﻀﺮﺏ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﺑﻴﺪﻩ ﻋﻠﻰ اﻟﺨﺸﺒﺔ، ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ: {ﺇﻧﻤﺎ ﺟﺰاء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺤﺎﺭﺑﻮﻥ اﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﻭﻳﺴﻌﻮﻥ ﻓﻲ اﻷﺭﺽ ﻓﺴﺎﺩا ﺃﻥ ﻳﻘﺘﻠﻮا ﺃﻭ ﻳﺼﻠﺒﻮا ﺃﻭ ﺗﻘﻄﻊ ﺃﻳﺪﻳﻬﻢ ﻭﺃﺭﺟﻠﻬﻢ ﻣﻦ ﺧﻼﻑ ﺃﻭ ﻳﻨﻔﻮا ﻣﻦ اﻷﺭﺽ{، ﻗﺎﻝ: ﻓﺬﻫﺐ ﻟﻴﺤﻨﻲ ﻳﺪﻩ ﻓﺎﻧﺘﺜﺮﺕ ﺑﺎﻷﻛﻠﺔ، ﻭﻭﻗﻊ ﺷﻘﻪ ﻓﻤﺎﺕ ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺎﺭ.
نسبه الشريف
الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
أمه: أم الحسن بنت الحسن بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن.
مولده
ولد بالمدينة المنورة سنة (245هـ)، وحمل إلى جده القاسم -عليه السلام-، فوضعه في حجره المبارك، وعوَّذه ودعا له، ثم قال لابنه: ما سميته؟ قال: يحيى. وقد كان للحسين أخ لأبيه وأمه يسمى يحيى توفي قبل ذلك، فبكى القاسم -عليه السلام- حين ذكره، فقال: والله هو يحيى صاحب اليمن.
أولاده عليه السلام
محمد المرتضى، وأحمد الناصر، وفاطمة، وزينب، وأمهم فاطمة بنت الحسن بن القاسم بن إبراهيم، والحسن، أمه صنعانية.
بعض ما ورد فيه
روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:((يخرج في هذا النهج - وأشار بيده إلى اليمن- رجل من ولدي اسمه يحيى الهادي، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحي به الله الحق ويميت به الباطل)).]الزحيف، مآثر الأبرار ج1/ص[379
عن علي -عليه السلام- أنه قال: (يا أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، أيها الناس إنا أحلم الناس صغاراً، وأعلمهم كباراً، أيها الناس، إن الله تعالى بنا فتح، وبنا ختم. أيها الناس، ما تمر فتنة إلا وأنا أعرف سائقها وناعقها، ثم ذكر فتنة بين الثمانين ومائتين، قال: فيخرج رجل من عترتي اسمه اسم نبي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، يميز بين الحق والباطل، ويؤلف الله بين قلوب المؤمنين على يديه كما تتألف قزع الخريف، انتظروه في الأربع والثمانين ومائتين في أول سنة واردة وأخرى صادرة).
عن علي بن سليمان أنَّه قال: حضرنا إملاء الناصر الحسن بن علي عليه السلام في مصلى آمل فجرى ذكر يحيى بن الحسين عليه السلام، فقال: بعض أهل الرأي ـ وأكثر ظني أنَّه أبو عبد اللّه محمد بن عمرو الفقيه ـ: كان واللّه فقيهاً. قال: فضحك الناصر، وقال: كان ذاك من أئمة الهدى!!
شهادات تأريخيه
الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري، حيث فسر بهم الخبر النبوي المروي في البخاري وغيره، وهو: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان))، فأفاد أنه صدق الحديث ببقاء الأمر في قريش باليمن من المائة الثالثة في طائفة من بني الحسن، قال: ولا يتولى الإمامة فيهم إلا من يكون عالماً متحرياً للعدل.
إلى قوله: والذي في صعدة (ويقصد الإمام الهادي) وغيرها من اليمن، لا شك في كونه قرشياً؛ لأنه من ذرية الحسن بن علي.[ابن حجر, فتح الباري, ج13/ ص117]
وقال العلامة يحيى بن أبي بكر العامري في الرياض المستطابة: "وكان جاء إلى اليمن وقد عم بها مذهب القرامطة والباطنية، فجاهدهم جهاداً شديداً، وجرى له معهم نيف وثمانون وقعة لم ينهزم في شيء منها، وكان له علم واسع، وشجاعة مفرطة". [المؤيدي, التحف, ص194]
وقال نشوان الحميري في كتاب [الحور العين, ص196]: "وأول من دعا باليمن إلى مذهب الزيدية ونشر مذهب أئمتهم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ولقبه الهادي إلى الحق".
وقال ابن حزم صاحب المحلى: "وليحيى هذا الملقب بالهادي رأي في أحكام الفقه قد رأيته لم يبعد فيه عن الجماعة كل البعد.. إلى آخره".
قال المؤرخ أحمد بن محمد القرطبي: "وكان قدوم الهادي يحيى بن الحسين إلى صعدة لستة خلت من صفر سنة أربع وثمانين ومائتي سنة, وكان بين خولان فتنة عظيمة فأصلح بينهم واتفقت كلمتهم, فملكوه بلاد خولان, وساروا معه إلى اليمن حتى ملكها"
وقال المحدث الذهبي: "وتسمي بالهادي أبي الحسن, وملك نجران وتلك النواحي وخطب له بأمير المؤمنين وكان حسن السيرة".[الذهبي, تأريخ الإسلام, ج22/ ص321]
وقال العلامة محمد أبو زهرة: "عكف على الفقه يدرسه من كل نواحيه ومن كل مصادره وقام هادياً مرشداً يدعو إلى الله سبحانه إلى صراط مستقيم, فكان مرجعاً في الدين من كل الطوائف الإسلامية, والأمصار المختلفة يسألونه ويستفتونه وهو يرد عليهم برسائل قيمة أُثرت عنه يدافع فيها عن القرآن والسنة, ويبين الحق الذي يرد زيغ الزائغين".
وقال العلامة محمد أبو زهرة: "وقد سار الهادي في حكم البلاد اليمنية على سنة العدل مما جعل الأهلين يرون فيه مظهراً لحكم الإسلام ومصدراً لعهد الخلفاء الراشدين الأولين". [أبو زهرة, الإمام زيد, ص515]
وقال أحمد صبحي ـ أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الإسكندريةـ: "ولم يكن في حربه يتبع هارباً ولا يجهز على جريح وإن طلب المهزومون الأمان أمنهم ورد إليهم أسلابهم وكان يتشدد على عسكره ألا يدخلوا الزرع ولا يستحلوا لأنفسهم شيئاً من ثمار المزارعين وحينما أغتصب بعض جنده في (أثافت) شيئاً من الخوخ غضب وثار واحتجب عنهم وهم بتركهم وقال لا يحل لي أن أحارب بمثل هؤلاء ولا أكون كالمصباح يحرق نفسه ويضيء لغيره, والله ما هي إلا سيرة محمد أو النار".[صبحي, علم الكلام ـ الزيديةـ ص114]
وقال محمد عمارة: وإلى جانب الثراء الفكري الذي نلمسه عن الإمام يحيى من الكتب والرسائل التي بقيت لنا من آثاره الفكرية, فلقد كان رجل سيف وشجاعة وقتال ..... ولقد كانت مقدرته الحربية تمتاز بجوانبها العملية إذ كان يشارك بنفسه في المعارك والقتال.[عمارة, رسائل العدل والتوحيد, ج2/ ص19]
أخلاقه وشمائله
لقد كان الإمام الهادي يتمثل أخلاق رسول الله ويسير في الناس بسيرته, يكشف مؤلف سيرته عن جانب من جوانب أخلاق الإمام الهادي فيقول: "كان- الإمام الهادي عليه السلام- إذا خرج من منزله لصلاة, أو لغيرها, سلم على جميع من يمر به من شريف أو دني أو فقير أو غني أو عبد أو صبي, وبذلك جاء الأثر عن جده علي بن أبي طالب عليه السلام...... قال الراوي: ورأيته يعود المريض حتى رأيته قد عاد بعض خدم أصحابه".
علمه وفضله
روى ولده المرتضى أنه -عليه السلام-، بلغ من العلم مبلغاً يختار ويصنف وله سبع عشرة سنة.
هذا يدل على علم مبكر واجتهاد عظيم منذ صغره, فقد تلقى الإمام الهادي العلوم على يد أبيه وعمه محمد بن القاسم, حتى بلغ ذلك المبلغ من العلم في سن مبكرة, وللحديث عن علمه وسعته يخرجنا إلى التطويل, ويكفي من يريد أن يعرف ويستفيد عن علم الإمام الهادي أن يراجع مؤلفاته التي تكشف عن عالم مجتهد حوى العلوم واتقنها وتبحر فيها.
مؤلفاته
كانت مؤلفاته تنضح بالعلم والرصانة, وله شروط في قبول الأحاديث تفوق شروط بقية أصحاب الصحاح, ولقيمتها العلمية حظيت بانتشار واسع وقبول بين علماء الإسلام قاطبة حتى شهدوا لها بذلك, قال ابن حزم صاحب المحلى: "وليحيى هذا الملقب بالهادي رأي في أحكام الفقه قد رأيته لم يبعد فيه عن الجماعة كل البعد.. إلى آخره".
ويقول صاحب كتاب موسوعة الأعلام: "يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن ابراهيم (طباطبا) بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب إمام من أئمة الزيدية كتب في الفقه وغيره كتبا قيمة منها كتاب الأحكام على نمط كتاب الموطأ للإمام مالك حيث يذكر اجتهاداته ووجوهها ويربط أكثر المسائل بالأدلة وقلده في اجتهاده كثير من أهل اليمن".[موسوعة الأعلام, ج2/ ص82]
ومع اشتغال الإمام الهادي عليه السلام بالجهاد وترتيب الوضع الداخلي لليمن بعد أن مزقتها الحروب والفتن, إلا أنه ترك لنا تراثاً علمياً عظيماً, سطر مسائله وهو على ظهر الخير كما جاء في الرواية "كان عليه السلام لا يتمكن من إملاء مسألة إلا وهو على ظهر فرسه في أغلب الأوقات", ومن أهم تلك المؤلفات:
(الأحكام في الحلال والحرام) وكتاب (المنتخب) و(الفنون) وكتاب(القياس) و كتاب (التوحيد) وكتاب(المسترشد) وكتاب(الرد على أهل الزيغ) وكتاب(الإرادة والمشيئة) وكتاب(الرد على ابن الحنفية في الكلام على الجبرية) وكتاب(بوار القرامطة) وكتاب (أصول الدين) وكتاب (الإمامة) و(إثبات النبوة والوصية) وكتاب (الرد على الإمامية) وكتاب(البالغ المدرك) وكتاب(تفسير خطايا الأنبياء) وكتاب(الرد على ابن جرير) وكتاب(تفسير ستة أجزاء) و(معاني القرآن) سبعة أجزاء، وكتاب (الفوائد) جزآن، وغير ذلك من الكتب.
الهادي عالم موسوعي
لم يكن علم الإمام الهادي عليه السلام مقتصراً على معرفة أقوال أهل البيت, بل كان عالماً بأقوال علماء الإسلام قاطبة, وهنا يكفي أن نورد شهادة أحد علماء المذاهب الأخرى في وقته، والذي كان يظن أنه أعلم أصحابه بمذهبهم, حتى ورد على الإمام الهادي فإذا هو أعلم منه بمذهبه "روى السيد أبو طالب عن علي بن العباس الحسني: أنه سمع أبا بكر بن يعقوب عالم أهل الري وحافظهم حين ورد عليه اليمن، يقول: قد ضل فكري في هذا الرجل يعني الهادي فإني كنت لا أعترف لأحد بمثل حفظي لأصول أصحابنا، وأنا الآن إلى جنبه جذع بينا [أنا] أجاريه في الفقه وأحكي عن أصحابنا قولاً، فيقول: ليس هذا- يا أبا بكر- قولكم، فأرادده فيخرج إليَّ المسألة من كتبنا على ما حكى وادعى، فقد صرت إذا ادعى شيئاً عنَّا أو عن غيرنا لا أطلب منه أثراً"]الزحيف، مآثر الأبرار, ج1/ص[387
سرعة البديهة
وكما كان الهادي عليه السلام عالماً موسوعياً كما تقدم, فقد آتاه الله سرعة البديهة, واستحضار الجواب المقنع والملزم, قال الإمام المنصور: "إنه لما افتتح صنعاء وافق علماء المجبرة فأرادوا مراجعته، فقالوا: ما تقول يا سيدنا في المعاصي؟ فقال: ومن العاصي؟ فبقوا متحيرين في الفكر إن قالوا: العاصي الباري كفروا، وإن قالوا: العاصي [من] المخلوقين وافقوا كلام الهادي-عليه السلام-، فلما لم يجدوا جواباً دخلوا في مذهبه".
زهده وورعه
الورع والزهد من الصفات اللازمة للحاكم العادل, ولقد كان إمامنا الهادي عليه السلام من أورع وأزهد من رعف بهم الزمان, وهناك حكايات كثيرة رواها الأتباع وشهد بها الخصوم, سنورد منها بعض النماذج الدالة على ذلك:
روى مصنف سيرته عمن سمع الهادي يقول: "والله الذي لا إله إلا هو ما أكلت مما جبيت من اليمن شيئاً، ولا شربت منه الماء"، وروى عمن سمعه يقول: "إلا من شيء جئت به من الحجاز".
وروي عن ابنه محمد أنه قال: "وجهت غلاماً لي إلى [أبي] يحيى بن الحسين أطلب منه قرطاساً أكتب فيه كتاباً، فقال يحيى: القرطاس لا يحل له، فدفع إلى الغلام ورقة قطن".
وروى مصنف سيرته، عن عبيد الله بن حبيب وكان يقوم للهادي بأمره قال: "قال لي يحيى بن الحسين-عليه السلام-: اشترِ لي تبناً أعلفه دوابي، قال: فقلت له: ليس نجد إلا تبن الأعشار، فقال: لا تشترِ لنا منه شيئاً وأنت تقدر على غيره".
قال عبيد الله: "فلم أجد غيره، فأمرت بعض الغلمان ممن يقوم على الخيل يأخذ منه كيلاً معروفاً حتى نشتري ونرد ما أخذنا، فعلم يحيى بن الحسين، فوجه إلى عبيد الله فكلمه بكلام غليظ، فقال [له] عبيد الله: أنا آخذ منه كيلاً معروفاً حتى نرد مكانه، فقال: لست أريد منه شيئاً، مالنا وللعشر خذوا هذا التبن، فاعزلوه حتى يعلفه من يحل له، ولم يعلف منه خيله تلك الليلة شيئاً، وأمر أن يطرح للخيل قصب بلا تبن ليلتين، ثم قال: اللهم، إني أشهدك أني قد أخرجت هذا من عنقي، وجعلته في أعناقهم".
وروي "أنه صاح بغلام له، فسأله عن خرقة؟ فقال له الغلام: قد رقَّعتها فقال للغلام: أخرجها إليَّ، فأخرجها من بين ثياب يحيى بن الحسين -عليه السلام-، وقال له: ويلك!! أنت قليل دين تضع خرقة من الأعشار بين ثيابي!"
ودخل يوماً وقد تطهرَّ للصلاة، فأخذ خرقة فمسح بها وجهه، ثم قال: "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون هذه الخرقة من العشر"، فذكرت له ذلك، فقال: "ما يحل لنا أن نمسح به وجوهنا، ولا أن نستظل به من الشمس".
عبادته
كان الإمام الهادي عليه السلام صوَّاماً قوَّاماً، يصوم أكثر أيامه، ويحيى أكثر لياليه تهجداً وصلاة, فروى السيد أبو طالب "عن سليم، وكان يخدم الهادي في داره قال: كنت أتبعه- حين يأخذ الناس فرشهم- في أكثر الليالي بالمصباح إلى بيت صغير في داره كان يأوي إليه، فإذا دخله صرفني فأنصرف، فهجس [ليلة بقلبي أني] أحتبس [على باب البيت] أنظر ما يصنع، قال: فسهر -عليه السلام- ركوعاً وسجوداً وكنت أسمع وقع دموعه ونشيجاً في حلقه، فلما كان الصبح قمت، فسمع حسي، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا، فقال: سليم، ما عجل بك في غير حينك؟
قلت: ما برحت البارحة جعلت فداك، قال: فرأيته اشتد عليه ذلك، وحرج عليَّ [على] أن لا أحدِّث به في حياته أحداً، فما حدَّث به سليم إلا بعد وفاة الهادي -عليه السلام".
خصائصه
القوة الجسدية
لقد وهب الله الإمام الهادي قوة جسدية أشبه ما تكون بقوة جده علي بن أبي طالب, وقد حكى المؤرخون في ذلك شواهد كثيرة حتى أضحت هذه صفة ملازمة له, ومن ذلك:
أنه كان في حال صباه يدخل السوق، فيقول: ما طعامكم [هذا]؟ فيقولون: حنطة؛ فيدخل يده في الوعاء، فيأخذ منه في كفه ويطحنه بيده، ثم يخرجه فيقول: هذا دقيق.
وكان يأخذ الدينار فيؤثر في سكته بأصبعه ويمحوها.
وكان وهو غلام صغير بالمدينة وكان طبيب نصراني يختلف إلى أبيه الحسين على حمار له يعالجه من مرض أصابه، فنزل عن الحمار يوماً وتركه على الباب، فأخذ يحيى الحمار وأصعده[إلى] السطح، فلما خرج الطبيب لم يجد الحمار، فقيل له: صعد به يحيى السطح، فسأله أن ينزله- فمن المثل السائر: إنما ينزل الحمار من صعد به-، فأنزله وقد دميت بنانه، فبلغ ذلك أباه فزجره، لأنه خاف عليه أن ترميه العيون.
ويحكون من قوته أنه كان يأخذ قوائم البعير المسن القوي، فلا يقدر البعير على النهوض.
كما يروى أنه ضرب رجلاً في باب مِيْنَاس (في إحدى المعارك) فحذف السيف من بين رجليه (أي أنه ضربه في رأسه وأخرج السيف من بين رجليه)، فلما نظر إليه ابن حميد (وكأنه قائد العدو) قال: استروا ضربة هذا العلوي، فوالله لئن رآها الناس لا تناصروا.
وطعن -عليه السلام- رجلاً فأمرقه، وانكسر الرمح.
وبرز له رجل ذات يوم في بعض حروبه، فرفع الرجل يده بالسيف ليضربه، فأهوى عليه بيده فقبض بها على يد الرجل على مقبض السيف، فهشم أصابعه.
شجاعته وجهاده
مما عاين الناس من شجاعته وإقدامه في المعارك نطق أحد الشعراء في عصره فقال:
لو كان سيفك قبل سجدة آدم.... قد كان جُرّد ما عصى إبليس
ويكفي شاهداً على شجاعته واستبساله في الجهاد في سبيل الله أن أوقع بالباطنية نيفاً وسبعين وقعة حضر فيها القتال بنفسه, ومع المتمردين والعصاة (73) وقعة, وهذا العدد من المعارك, ليست كل معاركه التي خاضها, والتي إذا وزعتها على أيام دولته ومدة حكمه الذي استمر قرابة (15) سنة, يتبين لك أنه في أقل التقادير كان يخوض (10) معارك في كل عام ما يعني أن معظم أيامه كانت جهاداً في سبيل الله, ودفاعاً عن دينه.
وكان في كل معركة يخوضها يظهر شجاعة منقطعة النظير, فلم يكن يرضى لنفسه أن يكون في خيمة القيادة وإدارة المعركة, بل كان يقاتل بيده ويضرب بسيفه, بل كان القائد الذي ينشر المعنويات بين جنوده, ويدفعهم إلى الثبات والتضحية, وفي الوقت ذاته كانت ضرباته تقذف الرعب والخوف في قلوب أعدائه, روى مصنَّف سيرته: "أنه كان في بعض أيامه مع بني الحارث، وانتقوا من خيلهم ما يدنو من أربعين فارساً مدججة في السلاح، وأمروهم أن لا يقاتلوا ويقفوا، حتى إذا رأوا الهادي -عليه السلام- حملوا عليه، فبلغ الهادي خبرهم فلم يعبأ بهم، ولما رآهم قصدهم بنفسه، وحمل عليهم فما وقف له منهم فارس واحد، وأدرك منهم فارساً فطعنه، وألقاه هو وفرسه في أراكة، وانهزم القوم وعطف عسكره، وقتل من القوم بيده جماعة كثيرة لم يثبت عددها هو ولا غيره، غير أنه كسر ثلاثة رماح، وضرب بسيفه حتى امتلأ قائم سيفه علقاً، ولصقت أنامله على قائم سيفه بالدم".
ومن فرط شجاعته -عليه السلام- "أنه قال لأصحابه - في بعض أيام حربه لعلي بن الفضل القرمطي- قد لزمنا الفرض في قتال هذا الرجل، فجبن أصاحبه عن قتالهم واعتذروا بقلة عددهم، وكثرة عدد أولئك، وكان المقاتلة من أصحابه ألف رجل، فقال: أنتم ألف، وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم، فقال له أبو العشائر من أصحابه -وكان يقاتل راجلاً-: ما في الرجال أشجع مني، ولا في الفرسان أشجع منك، فانتخب من الجميع ثلاثمائة وسلحهم سلاح الباقي حتى نبيَّتهم، فإنا لا نفي بهم إلا هكذا، فاستصوب رأيه، فأوقعوا بهم ليلاً وهم ينادون بشعاره -عليه السلام- {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:40] ومنحوه أكتافهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغنم منهم شيئاً كثيراً".
عدالته وحكومته
مثلت حكومة الإمام الهادي مظهراً من مظاهر العدالة وكانت دولته مثالاً للدولة الرشيدة, القائمة على العدل والإنصاف والمساواة, يقول الدكتور العلامة محمد أبو زهرة ـ وهو عالم مصري معاصرـ وهو يتحدث عن دولة الإمام الهادي وسيرته: "وقد سار الهادي في حكم البلاد اليمنية على سنة العدل مما جعل الأهلين يرون فيه مظهراً لحكم الإسلام ومصدراً لعهد الخلفاء الراشدين الأولين".
لم تكن هذه هي الشهادة الوحيدة التي تشهد للإمام الهادي بالعدالة وحسن السيرة فهذه الذهبي يقول في ترجمته في كتاب تاريخ الإسلام: " وتسمي بالهادي أبي الحسن, وملك نجران وتلك النواحي وخطب له بأمير المؤمنين وكان حسن السيرة".[الذهبي, تأريخ الإسلام, ج22/ ص321]
لم تكن هذه الشهادات عن الهادي عليه السلام مقصورة على علماء متأخرين عنه, فقد شهد له علماء عصره ممن عايشوه, وسنورد شهادة أحد علماء الشافعية في عصره, "روى السيد أبو طالب بإسناده عن أبي الحسين الهمداني وكان رجلاً فقيهاً على مذهب الشافعي، يجمع بين الفقه والتجارة، قال: قصدت اليمن وحملت ما أتجر فيه هناك ابتغاء لرؤية الهادي -عليه السلام- لما كان يتصل بي من أخباره فلما وصلت صعدة قلت لمن لقيت من أهلها: كيف أصل إليه؟ وبم أصل؟ وبمن أتوسل؟ فقيل لي: الأمر أهون مما تقدَّر، ستراه الساعة إذا دخل الجامع للصلاة بالناس، فإنه يصلي بهم الصلوات كلها، فانتظرته حتى خرج للصلاة فصلى بالناس وصليت خلفه.
فلما فرغ من صلاته تأملته فإذا هو قد مشى في المسجد نحو قوم أعِلاء في ناحية منه فعادهم، وتفقد أحوالهم بنفسه، ثم مشى في السوق وأنا أتبعه فغيرَّ شيئاً أنكره، ووعظ قوماً وزجرهم عن بعض المناكير، ثم عاد إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه من داره للناس، فتقدمت إليه فسلمت فرحبَّ بي، وأجلسني وسألني عن حالي ومقدمي؟ فعرفته أني تاجر، وأني وردت هذا المكان تبركاً بالنظر إليه، وعرف أني من أهل العلم فأنس بي.
وكان يكرمني إذا دخلت إليه إلى أن قيل لي [في] يوم من الأيام هذا يوم الظلامات وإنه يقعد فيه للنظر بين الناس فحضرت فشاهدت هيبة عظيمة ورأيت الأمراء والقواد والرحالة وقوفاً بين يديه على مراتبهم.
وهو ينظر في القصص ويسمع الظلامات، ويفصل الأمور فكأني شاهدت رجلاً غير من كنت شاهدته، وبهرتني هيبته، فادعى رجل على رجل حقاً فأنكره المدَّعى عليه وسأله البينة، فأتى بها فحلَّف الشهود؛ فعجبت من ذلك.
فلما تفرَّق الناس دنوت منه، وقلت له: أيها الإمام، رأيتك حلَّفت الشهود. فقال : هذا رأي آبائي تحليف الشهود احتياطاً عند التهمة، وما تنكر من هذا، وهو قول طاووس من التابعين، وقد قال الله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا}[المائدة:107].
قال: فاستفدت في تلك الحال منه مذهبه، وقول من قال به من التابعين والدليل عليه، وما كنت قد عرفت شيئاً من ذلك، قال: وأنفذ إليَّ يوماً من الأيام يقول: إن كان في مالك حق زكاة فأخرجه إلينا، فقلت: سمعاً وطاعة من لي بأن أخرج زكاتي إليه.
فلما كان بعد يومين بعث إليَّ واستدعاني، وإذا هو يوم العطاء قد جلس [له] والمال يوزن ويخرج إلى الناس، فقال: أحضرتك لتشهد إخراج زكاتك إلى المستحقين.
فقمت وقلت: الله الله أيها الإمام أتظنني أرتاب بشيء من فعلك؟ فتبسم وقال: ما ذهبت إلى ما ظننت، ولكن أردت أن تشهد إخراج زكاتك.
قال: وقلت له يوماً من الأيام: أول ما رأيتك وأنت تطوف على المرضى في المسجد تعودهم، وتمشي في السوق، فقال: هكذا كان آبائي، كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وأنت إنما عهدت الجبابرة والظلمة".
رعايته للفقراء
حكى صاحب السيرة بعض الصور عن اهتمام الإمام الهادي عليه السلام برعيته من المساكين والفقراء فقال: أنه كان يأمر رجلاً ينادي: أين الفقراء, أين المساكين, أين أبناء السبيل, أين من له حاجة, هل من سائل فيعطى أو من طالب حاجة فتقضى.
رعايته لليتامى
وبهذه السيرة سيرة الرحمة والشفقة كان يتعامل مع اليتامى فيروى في السيرة: "أنه أتي يحيى من الحسين يوماً بصبي صغير يتيم فلم يزل يدنيه حتى أجلسه بين يديه, ومسح رأسه وتكلم فيه بكلام وبكى, ثم أمر للصبي بقميص وسراويل".
وفي السيرة: "ورأيته وقد انصرف من المسجد فقام إليه صبيان صغيران فقالا: يا ابن رسول الله نحن يتامى, فوقف معهما طويلاً يمسح رؤوسهما ويدعو لهما ثم أمر لهما بكسوة ونفقة".
الإنصاف
كانت القرابة والمناصب لا تجد لها مكاناً خارج الإنصاف في دولة الهادي، فكان يعامل الضعيف والقائد بالسواء "فهذه امرأة تشتكي إليه من قائد جيشه "أبو العتاهية" وتصيح على بابه فيأمر بإدخالها إليه, فلما دخلت إليه, قالت: يا أمير المؤمنين أنصفني من أبي العتاهية, فأرسل الهادي إلى أبي العتاهية فأحضره, وقال له: أنصف هذه المرأة, ثم قال الهادي للمرأة: ما تدعين عليه؟ فقالت: لي في يده ضيعة غصبها أبوه, فقال أبو العتاهية للهادي: أوجب علي وعليها ما يجب يا أمير المؤمنين. فقال الهادي للمرأة: هل لك شهود؟ قالت: نعم, فمضت فأحضرت شهوداً فشهدوا عند الهادي لها بالضيعة, فحكم الهادي للمرأة بالضيعة وأمرها بقبضها فقبضتها".
تعامله مع أهل الذمة
لم تكن عدالته مقتصرة على المسلمين فحسب بل كانت حتى على اليهود والنصارى فيقول مؤلف سيرته: "رأيته يوما وقد جاءه يهودي استعدى على رجل فقال لي: أنصفه وانظر فيما بينهم, ثم قال لليهود والنصارى: إذا آذاكم أحد فارجعوا إلي حتى أنصفكم منه".
صرامة مع جيشه
كان الخلفاء والظلمة يتسامحون مع جيوشهم وجنودهم في التعدي على أموال الناس حتى لا ينفض الجند من حولهم, بل كانوا يعمدون إلى أن يغروا القبائل في نصرتهم بإباحتهم لهم في أموال الناس ومزارعهم, لكن الإمام الهادي عليه السلام كان يمثل في دولته سيرة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ولذلك نجده يتعامل بصرامة وحزم مع جنده, ويتابعهم في تنفيذ أوامره بعدم التعدي على أموال المواطنين, فقد جاء في سيرته "أنه كان إذا طاف بعسكره في (نجران) أخذ على العسكر أن لا يدخلوا الزرع ولا يفسدوا على الناس ثمارهم ويشدد عليهم فيه ويقول في الليل لبعض أصحابه: هل رأيت من عرض لشيء من ثمار الناس؟
فيقول: لا.
فيقول: الحمد لله كثيراً".
"ولما أتى (بطنة حجور) تلقاه أهلها بالسمع والطاعة ونزل في موضع بالقرب من القرية فجاءه أهل البلد وعرضوا عليه العلف للدواب فامتنع من ذلك؛ فقالوا: نحن نجعل العسكر في حل منه، فأبى ولم يقبل منهم علفاً ولا غيره".
بل كان يعاتبهم، ويصلح أخطاءهم إما وقع خطأ من هذا القبيل, ويهم بترك اليمن واعتزال الدولة "وأوقع عليه السلام بأهل (أثافت) بعد محاربتهم إياه وهربوا؛ فبلغه أن بعض العسكر أخذوا شيئاً من أثاثهم فغضب واحتجب عنهم وهم باعتزال الأمر وقال: (لا يحل لي أن أقاتل بمثل هؤلاء)، فتابوا وردوا جميع ما أخذوا".
وفي بعض الأحيان يرضى أن يركب الخطر هو وجيشه إشفاقاً بالرعية, مع أن الشرع يسوغ له بعض الأفعال فيمتنع عنها, ومن ذلك أنه " لما كان في (صنعاء) في حرب بني يعفر واحتاج إلى نفقات للعسكر طلب من تجار (صنعاء) قرضاً فامتنعوا، فارتحل ولم يكرههم عليه مع تسويغ الشرع له في مثل تلك الحال للاستعانة بخالص المال تورعاً واحتياطاً".
وبلغ بأن اضطر جنده بعد نفاذ علف الخيول أن يؤكلوها العوسج دون أن يفرض على القبائل أي تكاليف أو غرامات, ويمنع نفسه وجنده حتى من النزول عليهم كضيوف, بل يمتنع عن ضيافتهم.
ولم يكن يحجز جنده عن أموال الناس فقط, بل كان يمنعهم حتى من الإجهاز على الجرحى واللحاق بالفارين من المعركة من العدو، ويتوعد من يقتل منهم حال الفرار نفساً أن يقتله به, وهنا يحكي صاحب السيرة قصة للإمام الهادي وفيها فوائد كثيرة, ونماذج رائعة تبين جلالة إدارة الهادي للدولة حتى في أوقات الحروب مع من يقاتله, قال في السيرة: "فخرج الهادي إلى برط فدخله، وليس له إلا ثلاث طرق وأهله دهمه فوقف العسكر في مكانٍ وتقدم في ثمانية فوارس وستة وعشرين راجلاً، فقال للقوم: بيننا وبينكم كتاب الله، فإن لم تطيعوا فخلوا بيننا وبين الماء، فأبوا ورموهم؛ فحمل عليهم، وقتل ثلاثة، وأسر جماعة، وانهزم القوم، فسلبهم العسكر وهموا بقتلهم، فصاح: من قتل قتيلاً فهو به، فسئل عن ذلك؟ فقال: ليس لهم فئة أي أمير، فطلب القوم الأمان والبيعة، فقبل منهم وجمع عسكره، وقال: السلب لكم حلال، لكن هبوه لي أتألفهم به، وأرجو أن أعوضَّكم به ففعلوا، وأقام ثلاثاً لم ينزل على أحد حتى أكلت خيل عسكره العوسج، حتى أن جملاً لبعض عسكره دخل زرع رجل، فقال: لأخبرنَّ الهادي، فقال صاحبه: ليس لي، فتركه وذهب، فناداه الرجل: خذ جملك".
عدم احتجابه عن الناس
أن تجد إماماً تدين له الأصقاع وتخضع له البلدان, ويبلغ خبره ودولته مشارق الأرض ومغاربها، ثم تجده يخرج بين الناس، ويدخل الأسواق، ويعود المرضى حتى من العبيد، فأنت لا شك في محضر الإمام الهادي عليه السلام, يحكى في سيرته أنه: "كان إذا خرج من منزله لصلاة, أو لغيرها, سلم على جميع من يمر به من شريف أو دني أو فقير أو غني, أو عبد أو صبي, وبذلك جاء الأثر عن جده علي بن أبي طالب عليه السلام...... قال الراوي: ورأيته يعود المريض حتى رأيته قد عاد بعض خدم أصحابه".
وبهذا الخلق النبوي أحرق المسافات التي وضعها حكام الجور بينهم وبين المحكومين, ومن القصص النادرة في ذلك أن تجد الرعية تستطيع الوصول إليه في وقت متأخر من الليل, قال مصِّنف سيرته: "رأيته ليلة وقد جاء رجل ضعيف في السحر يستعدي على قوم فدقَّ الباب، فقال: من هذا يدقُّ الباب في هذا الوقت؟
فقال له رجل كان على الباب: هذا رجل يستعدي، فقال: أدخله. فاستعدى فوجه معه في ذلك الوقت ثلاثة رجال يحضرون معه خصومه، فقال لي: يا أبا جعفر، الحمد لله الذي خصَّنا بنعمته وجعلنا رحمة على خلقه، هذا رجل يستعدي إلينا في هذا الوقت لو كان واحداً من هؤلاء الظلمة ما دنا إلى بابه في هذا الوقت مشتكٍ ثم قال: ليس الإمام منَّا من احتجب عن الضعيف في وقت حاجة ماسة".
بل أعظم من ذلك أن الإمام الهادي عليه السلام كان يحاول أن يغالب النوم, ويكابد التعب والإرهاق حتى لا يقصر في أداء مهمة الراعي على رعيته, فيروي السيد أبو طالب بإسناده، عن علي بن العباس أنه قال: "كنَّا عنده يوماً وقد حمى النهار وتعالى وهو يخفق رأسه فقمنا، فقال: أدخل وأغفو غفوة، وخرجت لحاجتي، وانصرفت سريعاً إلى المجلس الذي يجلس فيه الناس، فإذا أنا به في ذلك الموضع، فقلت له: في ذلك، فقال: لم أجسر أن أنام ولعل بالباب مظلوماً فيؤاخذني الله بحقه".
وقد كان هذا دأبه في مخالطة الناس في الأسواق "حتى طمع فيه الفسقة فتبايعوا على غيلته فرموه من الصومعة[بسهم] فدخل المسجد وأخطأه السهم.
فلما صلى بالناس واستقر أخبرهم فخرجوا فلقطوا النبل من باب المسجد. فقال: اللهم، إني أملت أن أسير فيهم سيرة الاختلاط، وأن أتولى أمرهم بنفسي ولا %D
اسمه وكنيته عليه السلام
أبو عبد الله، وقيل: أبو طالب يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- عليهم السلام
شرف تتابع كابر عن كابر * كالرمح انبوب على انبوب
وأمه ريطة بنت أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، وأمها رائطة بنت الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب.
مولده عليه السلام
سنة 97هـ على الأرجح.
صفته عليه السلام
كان قطط الشعر، حسن اللحية، حين استوت، وكان مثل أبيه عليهما السلام في الشجاعة، وقوة القلب، ومبارزة الأبطال وله مقامات مشهورة بخراسان أيام ظهوره بها في حروبه من قتل الشجعان الذين بارزوه، والنِّكَايَةِ في الأعداء الذين قاتلوه.
نشأته عليه السلام
نشأ عليه السلام في بيت من أعظم بيوت الإسلام وفي ظل رعاية وتربية والده الإمام زيد بن علي عليه السلام فسقاه من أخلاقه وعلمه فشب ﻋﻠﻰ ﻣﻜﺎﺭﻡ اﻷﺧﻼﻕ ، ﻭﺣﻤﻴﺪ اﻟﻔﻌﺎﻝ وأقبل ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻠﻢ ﻭاﻧﻄﺒﻌﺖ ﻓﻴﻪ اﻟﺼﻔﺎﺕ النبوية العلوية فكان ﻛﺂﺑﺎﺋﻪ اﻟﻜﺮاﻡ ﻋﺎﻟﻲ اﻟﻬﻤﺔ ﻛﺮﻳﻤﺎ شجاعا مقداما لا يخش في الحق لومة لائم
فضله ومكانته
كان عليه السلام أشبه الناس بأبيه ورغم حداثة سنه فقد كان جامعاً لخصال الإمامة، كاملا في جميع الفنون ومن أجل آثاره العلمية أنه من نقل لنا الصحيفة السجادية رواية عن أبيه الإمام زيد عليهما السلام ومما يدل على فضله ما رواه الإمام المنصور بالله عليه السلام أن قاتل يحيى بن زيد كان قد رأى في منامه قبل قتله ليحيى عليه السلام أنه رمى نبياً فقتله، فلما أصبح أخبر بذلك أناساً ثم غل يده إلى عنقه، وأقام كذلك مدة من الزمان حتى خرج يحيى عليه السلام- واجتمعت الجنود الأموية الطالبة لحربه، فقال له بعضهم: قد قام هذا الخارجي ولا غنى لنا عن رميك، فاخرج معنا فإذا انقضت الحرب عدت بحالك فخرج فكان هو القاتل ليحيى عليه السلام
دوره في الثورة مع أبيه الإمام زيد عليه السلام
عند قيام الإمام زيد عليه السلام في الكوفة خرج الإمام يحيى بن زيد من المدينة ليلحق بابيه في الكوفة فلم يزل ملازماً له وشهد معه الحرب وأبلى بلاء حسناً وعند وفاة الإمام زيد كان من وصيته للإمام يحيى: يا بني عليك باتقاء الله وجهاد أعداء الله، كما أوصاه بقوله: جاهدهم فو الله إنك لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل، وإن قتلاك لفي الجنة وأن قتلاهم لفي النار.
الإمام يقع في الأسر
بعد أن عمل الإمام يحيى على تجهيز أبيه ودفنه
خرج عازماً على تنفيذ تلك الوصية ولم يثنه ما أصاب والده أيام هشام بن عبد الملك من القتل والصلب والإحراق، وإنما دفعه ذلك إلى أن يتمم مسيرة والده بالثورة والخروج على الظلم حتى وصل خراسان وانتهى إلى بلخ ونزل عند الحُرَيش بن عبد الرحمن الشيباني.
فعلم ولاة بني أُميّة بخبره فكتب يوسف بن عمر والي بني أمية على الكوفة يطلبه إلى والي خرسان نصر بن سيار فكتب نصر إلى عامله على بلخ عقيل بن معقل الليثي يطالبه بالقبض على الإمام يحيى فذكر له أنَّه في دار الحُرَيش فقبض على الحريش وطالبه بتسليم الإمام يحيى فأنكر أن يكون عارفاً لمكانه، فضربه ستمائة سوط، فلم يعترف، وفقال له: والله لا أرفع الضرب عنك حتى تسلمه أو تموت.
فقال له الحُرَيش: والله لو كان تحت قَدَمَيَّ هاتين ما رفعتهما عنه، فاصنع ما بدا لك
خشي قريش على أبيه الحريش القتل، فدَسَّ إليه بأنه سيدله على مكان الإمام إن أفْرَج عن أبيه، فدلهم على مكانه فحُمِلَ إلى نصر بن سيار، فقيده وحبسه وكتب بخبره إلى يوسف بن عمر
وكتب يوسف إلى الحاكم الأموي آنذاك الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بذلك، فكتب الوليد يأمره بالإفراج عنه وترك التعرض له ولأصحابه، فكتب يوسف إلى نصر بما أمره به، فدعاه نصر وحَلَّ قيده، وقال له: لا تثر الفتنة، فقال له عليه السلام: وهل فتنة في أمة محمد صلى اللّه عليه وعلى آله أعظم من فتنتكم التي أنتم فيها من سفك الدماء، والشروع فيما لستم له بأهل ، فسكت عنه نصر وخلى سبيله (وعلى قول اليعقوبي: أن الإمام يحيى فرّ من السجن)
شيء من أخباره وأقواله
أثناء تنقلات الإمام عليه السلام عرض عليه أن يتزوج، فقال: هيهات!! وأبو الحسين مصلوب بكناسة الكوفة، ولم أطلب بثأره
وهو هنا يرغب عن ملذات الدنيا ولا زال الظلم والضلال يخيم على الأمة الإسلامية ومن أكبر علامات ذلك الظلم أن الإمام زيد عليه السلام لا يزال مصلوبا ولم يوار الثرى على الأقل
وقد كان عليه السلام كثير التأثر بمنهج أبيه وأهل البيت في الثورة على الظلم
ولذلك كان كثيرا ما ينشد:
يا ابن زيد أليس قد قال زيد.... من أحبَّ الحياة عاش ذليلا
كن كزيد وأنت مهجة زيد.... تتخذ في الجنان ظلاً ظليلا
بل لقد كان عاشقا للجهاد والشهادة في سبيل الله
فكان من أقواله
((لا شرف أشرف من الشهادة وإن أشرف الموت قتل في سبيل الله))
ومن شعره عليه السلام بعث به إلى المدينة
خليليّ عني بالمدينة بلغا .... بني هاشم أهل النُّهى والتجارب
فحتى متى مروان يقتل منكم .... سراتكم والدهر فيه العجائب
لكل قتيل معشرٌ يطلبونه .... وليس لزيد بالعراقين طالب
المعركة في بيهق
بعد إطلاق سراح الإمام ظل ينتقل من منطقة
إلى أخرى عازما على مواصلة الثورة وجهاد الظالمين فأظهر دعوته وبايعه سبعون رجلا فكتب نصر بن سيار إلى عمرو بن زُرَارة بقتاله وكتب إلى قيس بن عباد عامل سرخس وإلى الحسن بن زيد عامل طوس بالانضمام إليه فاجتمعوا وبلغ الجيش الأموي زهاء عشرة آلاف مقاتل وعند المواجهة خرج الإمام عليه السلام مخاطبا عمرو بن زرارة انصرف عني فإني لست أريدك ولا أريد شيئاً من عملك، وإنما أريد بلخاً وناحيتها ولا أريد مرواً فتنح عني.
فقال عمرو بن زرارة: لا والله لايكون ذلك أبداً إلاّ أن تعطي بيدك وتدخل في الأمان، وإلا قاتلتك.
كر الإمام عليهم ومعه زهاء سبعون رجلا وهو ينادي: الجنة.. الجنة.. يامعشر المسلمين الحقوا بسلفكم الشهداء المرزوقين رحمكم الله
فانكشفوا فقاتلهم وهزمهم وقَتَل عمرو بن زرارة واستباح عسكره، وأصاب منهم دواب كثيرة
ثم واصل سيره حتى نزل أرض جوزجان ونزل قرية من قراها يقال لها أرغويه ولحق به جماعة من عساكر خراسان وبايعوه، وبقي بها مدة يسيرة
استشهاده عليه السلام
أنفذ نصر بن سيار لقتال الإمام جيوشا كبيرة بقيادة سلم بن أحوز ولما رأى الإمام يحيى كثرة العدو وقلة أصحابه الذين كانوا قرابة المائة والخمسين مقاتلا قال لهم: (( أنتم في حل من بيعتي فمن شاء أن يثبت معي فليثبت، ومن شاء أن يرجع فليرجع، أما أنا فلست بارحاً هذا الموضع حتى يقضي اللّه أمرا كان مفعولا )).
فقال له أصحابه: (( والله لانفارقك يا ابن رسول اللّه أبداً حتى لايبقى منا أحد )).
فقال: (( جزاكم اللّه خيراً من قوم فلقد قاتلتم ووفيتم )) وعندما بدأت المعركة أقبل الإمام يحيى على أصحابه، فقال: يا عباد الله، إن الأجل محضره الموت، وإن الموت طالب حثيث لا يفوته الهارب، ولا يعجزه المقيم، فاقدموا رحمكم الله على عدوكم والحقوا بسلفكم، الجنة.. الجنة، اقدموا ولا تنكلوا، فإنه لا شرف أشرف من الشهادة، فإن أشرف الموت قتل في سبيل الله، فلتقر بالشهادة أعينكم ولتنشرح للقاء الله صدوركم، ثم نهد إلى القوم وكان أرغب أصحابه في القتال في سبيل الله جل ثناؤه
ورغم الفارق العددي الكبير بين الجيش فقد استطاع الإمام مع جيشه المؤمن الصمود والاستبسال في المعركة واستمر يقاتلهم لثلاثة أيام ولياليها أشد القتال ولم يتمكنوا من الإمام حتى قُتِلَ أصحابه ثم عن طريق الرمي من بعيد أتته نشابة في جبهته، رماه رجل من موالي عَنَزَة يقال له عيسى وقد كان استشهاده في شهر رمضان عشية الجمعة سنة 126 هـ ، وقيل: سنة 125 هـ
وكان له صلوات اللّه عليه يوم قتل ثمان وعشرون سنة
صلبه عليه السلام
بعد مقتل الإمام يحيى وكما هي عادة الجبابرة والظالمين في استخدامهم الأساليب البشعة والإرهاب االنفسي لإثارة الخوف في نفوس الناس لم يكتفوا بقتله فقد احتز رأسه سورة بن محمد الكندي ثم بعثوا برأسه إلى الوليد بن يزيد، وزيادة منهم في الوحشية والإرهاب بعث الوليد برأسه إلى أمه المكلومة في المدينة امعانا منهم في ترويعها بفلذة كبدها الوحيد إلا أنها كانت بإيمانها أقوى منهم فعندما وضع الرأس الشرف في حجرها نظرت إليه قائلةً: (( شردتموه عني طويلا، وأهديتموه إلي قتيلا، صلوات اللّه عليه بكرة وأصيلا ))
أما جسده الشريف فصلبوه على باب مدينة الجوزجان وبقي مصلوبا ست سنين إلى أيام أبي مسلم الخراساني فأنزله وواراه، وصلى عليه، وتتبع قتلته فقتل أكثرهم، ولبس أهل خرسان السواد إذ ذلك فصار شعاراً لبني العباس، وأمر أبو مسلم بإقامة المأتم في بلخ ومرو سبعة أيام، وناح عليه النساء، وروي أنه في تلك السنة ما وُلِد وَلَدٌ ذكر بخراسان إلا سمي يحيى، إعظاما له عليه السلام مما يدل على الحاضنة الشعبية الكبيرة للإمام ولأهل البيت عموما وانتشار فكرهم في تلك المناطق وهو ما يبطل القول بأن أئمة أهل البيت كانوا يثورون وهم قلة وأن المجتمع كان يقف بوجههم.
آثار ثورته
كان لثورة يحيى بن زيد صدى واسعا في خراسان، حيث أخذ الناس وبالخصوص محبي أهل البيت عليهم السلام يتناقلون أخبار ثورته ومقتله وأصحابه وقد استفاد أبو مسلم الخراساني من هذا الغضب والاستياء بين الخراسانيين والمناطق المجاورة لها وأعلن ثورته على الأمويين وزحف بجيوشه حتى قضى على الدولة الأموية.
موضع دفن الإمام يحيى عليه السلام
قبره مشهور مزور في قرية أرغوي التي تقع في جَوزَجان
على مسافة حوالي كيلومتر واحد ونصف الكيلومتر إلى الشرق من مدينة سَربُل ( رأس الجسر ) الحالية، والتي تقع في شمال أفغانستان بين بلخ ومَيمَنة، وهو يُعرف هناك بـ ( إمام خُورد ).
واستمدّت شهرتها من مرقد الإمام يحيى.
وقد ذكر جَوزَجان دعبل بن علي الخزاعي في تائيته الشهيرة ، إذ قال:
قـبـورٌ بكوفانٍ، وأخـرى بطَيبة وأخـرى بفَخٍّ نـالَـهـا صَلَواتي
وأخرى بأرضِ الجَوزَجانِ محلّها، وقـبـرٌ بـباخَمرى لدى القُرُباتِ
بالاضافة الى ذلك فإنه تنسب له مجموعة من المزارات في بعض المدن الإيرانية منها في جرجان وسبزوار و ورامين
أولاده عليه السلام
كان يحيى بن زيد قد تزوج من إبنة عمه محبة بنت عمر بن علي بن الحسين عليه السلام
وذكر أصحاب الأنساب من الطالبيين وغيرهم أنَّه وَلَدَ: أم الحسن، وقال بعضهم : أن له أحمد والحسن، والحسين، درجوا وهم صغار، وأم الحسين درجت صغيرة، وأجمعوا على أن لا بقية للإمام يحيى عليه السلام وأن ولده انقرضوا
اﻹﻣﺎﻡ المهديُّ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ (اﻟﻨﻔﺲ اﻟﺰﻛﻴﺔ) .. [ 93 - 145 ﻫـ / 712 - 762 ﻣ ]
نسبُه الشَّريف :
ﻫﻮ اﻹﻣﺎﻡ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ اﻷﺋﻤﺔ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ اﻟﻜﺎﻣﻞ اﻟﻤﺤﺾ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ اﻟﺴﺒﻂ بن علي بن أبي طالب ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻼﻡ. وُلِد سنة ثلاثة وتسعين للهجرة وقيل مائة وقيل غير ذلك، وكانت قد حملت به أمُّه أربع سنين. كنيتُه ولقبُه : يُكنَّى بأبي عبدالله، وقيل بأبي اﻟﻘﺎﺳﻢ، وكان يقال له ﺻﺮﻳﺢ ﻗﺮﻳﺶ لأنَّه ﻟﻢ يكن هناك ﺃﻡُّ ﻭَﻟَﺪٍ ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺁﺑﺎﺋﻪ ﻭأﻣَّﻬﺎﺗﻪ ﻭﺟﺪَّاﺗﻪ. كما كان يُلقَّبُ باﻟﻤﻬﺪﻱ، لما جاء في الحديث ((اﺳﻤﻪ ﻛﺎﺳﻤﻲ ﻭاﺳﻢ ﺃﺑﻴﻪ ﻛﺎﺳﻢ ﺃﺑﻲ))، ولُقِّبَ أيضاً باﻟﻨَّﻔﺲ اﻟﺰﻛﻴُّﺔ؛ وذلك للخبر الذي جاء عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم ﻋﻦ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ((ﺇﻥَّ اﻟﻨَّﻔﺲ اﻟﺰﻛﻴَّﺔ ﻳُﻘﺘﻞُ ﻓﻴﺴﻴﻞُ ﺩﻣُﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﺣﺠﺎﺭِ اﻟﺰﻳﺖ، ﻟﻘﺎﺗﻠﻪ ﺛﻠﺚُ ﻋﺬاﺏ ﺃﻫﻞ ﺟﻬﻨَّﻢ))، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺑﻨﻮ ﻫﺎﺷﻢ ﻻ ﺗﺪﻋﻮﻩ ﺇﻻ ﺑﺎﻟﻤﻬﺪﻱ.
والِدُه : هُوَ عبدُاللهِ بنُ الحسن المثنى ويُلقّب بالمحض لأنّه أوّل فاطمي يَخرُج صَريحاً محضاً من أبوين فاطمِيّين فوالده الحسن المثنى (ع)، و والدتهُ فاطمة بنت الحسين بن علي عليها وعلى آبائها السلام . وكان يقال: من أجمل النَّاس؟ من أفضل النَّاس؟ من كذا؟ من كذا؟ فيقال: عبدالله، ولذلك لُقِّبَ بالكامل، وقد ظهرت صفات الكَمال في كثيرٍ من أولاده (ع)، فمنهُم الأئمة والفُضلاء، فمِنَ الأئمة محمد النفس الزكيّة، وإبراهيم النفس الرضيّة، ويحيى صاحب الديلَم، وإدريس صاحب المغرب، ومِنَ الفُضلاء موسى الجون، وسليمان وهُو الشهيد مع ابن أخته الإمام الحسين الفخي (ت 169 ) . وعبدُالله الكاملُ هذا هو أحَدُ أولئك النّفر الذين حَبَسَهُم الخليفةُ العبَّاسي أبو جعفر المنصور كافاه الله بصنيعه، فأغلَظَ عليه وعلى بني الحَسن وأثقلَ قيودَهُم، وأجهدَ نفسَهُ في أذيّتهُم، فلا رَحِمَاً هاشميّة نفعَت، ولا رَحِمَاً إسلاميّة أثَّرت.
ﺃﻣُّﻪ : هي ﻫﻨﺪُ ﺑﻨﺖُ ﺃﺑﻲ ﻋﺒﻴﺪﺓ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺯﻣﻌﺔ ﺑﻦ اﻻﺳﻮﺩ ﺑﻦ اﻟﻤﻄﻠﺐ ﺑﻦ اﺳﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻌﺰﻯ ﺑﻦ ﻗﺼﻲ. ﺃﻭﻻﺩُﻩ : ﻋﺒﺪُاﻟﻠﻪ اﻷﺷﺘﺮُ ﻗُﺘِﻞ ﺑـ(ﻛﺎﺑﻞ) ﻭﻟﻪ ﻋَﻘِﺐ، ﻭ ﻋﻠﻲٌّ ﺩَﺭَﺝ ﺃُﺧِﺬَ ﺑـ(ﻣِﺼﺮ) ﻓﻤﺎﺕَ ﻓﻲ ﺣَﺒﺲ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺟﻌﻔﺮ اﻟﻤﻠﻘﺐ ﺑﺎﻟﻤﻬﺪﻱ، ﻭ اﻟﺤﺴﻦُ ﻗُﺘِﻞَ ﺑـ(ﻓَﺦّ). ﻟﻢ ﻳﺬﻛﺮ اﻟﻄﺎﻟﺒﻴﻮﻥ ﻏﻴﺮ ﻫﺆﻻء، ﻭﺫﻛﺮ ﻏﻴﺮﻫﻢ ﺣﺴﻴﻨﺎً. ﻭﺃﺟﻤﻌﻮا ﻋﻠﻰ ﺃﻧَّﻪ ﻭَﻟَﺪَ اﺑﻨﺘﻴﻦ: ﻓﺎﻃﻤﺔ، ﻭﺯﻳﻨﺐ ﺩﺭﺟﺘﺎ، ﻭﺃُﻣُّﻬﻢ ﺟﻤﻴﻌﺎً ﺃﻡُّ ﺳَﻠﻤﺔ ﺑﻨﺖ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ اﻟﺜَّﺎﻧﻲ ﺑﻦ الحسن ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻼﻡ.
نشأتُه وصفتُه :
ﻟﻤَّﺎ ﻭُﻟﺪ محمَّدُ بنُ عبد الله ﺳَﻤَّﺎﻩ ﺃﺑﻮﻩ ﻣﺤﻤﺪاً ﺇﺫ ﺗﺒﺎﺷﺮ ﺑﻪ ﺁﻝُ ﻣﺤﻤﺪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ، لموافقته اﺳﻢَ اﻟﻨَّﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭاﺳﻢَ ﺃﺑﻴﻪ ﻓﺄﻣَّﻠﻮﻩ ﻭﺭﺟﻮﻩ ﻭﻭﻗﻌﺖ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﺤﺒَّﺔ، ﻭﺟﻌﻠﻮا ﻳﺘﺬاﻛﺮﻭﻧﻪ ﻓﻲ اﻟﻤﺠﺎﻟﺲ، ﻓﻘﺎﻝ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺷﺎﻋﺮﻫﻢ:
ﻟﻴﻬﻨـﻜﻢ اﻟﻤــﻮﻟـﻮﺩُ ﺁﻝَ ﻣﺤﻤـﺪ ﺇﻣﺎﻡُ ﻫﺪﻯً ﻫﺎﺩﻱ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔِ ﻣﻬﺘﺪﻱ
ﻳﺴﻮﻡ ﺃﻣﻲ اﻟﺬﻝ ﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﻋﺰﻫﺎ ﻭﺁﻝ اﺑﻲ اﻟﻌـﺎﺹ اﻟﻄﺮﻳﺪ اﻟﻤُﺸَّـﺮﺩِ
ﻓﻴﻘﻠﺘـﻬﻢ ﻗﺘــﻼً ﺫﺭﻳﻌــﺎً ﻭﻫـﺬﻩ ﺑﺸـــﺎﺭﺓُ ﺟـﺪَّﻳــﻪِ ﻋﻠـﻲٍّ ﻭ ﺃﺣﻤـﺪِ
ﻫُﻤـﺎ ﺃنبــآﻧـﺎ ﺃﻥَّ ﺫﻟـﻚ ﻛـﺎﺋـﻦٌ ﺑﺮﻏﻢ ﺃُﻧُــﻮﻑٍ ﻣِـﻦ ﻋـﺪاﺓٍ ﻭ ﺣُﺴَّـﺪِ
ﺃﻣﻴَّﺔُ ﺻﺒﺮاً ﻃﺎﻝَ ﻣﺎ ﺃﻃﺮﺕ ﻟﻜﻢ ﺑﻨـﻮ ﻫـﺎﺷـﻢٍ ﺁﻝُ اﻟﻨَّﺒــﻲِّ ﻣﺤﻤـﺪِ
ﻭﻛﺎﻥ ﻋَﻠَﻴْﻪ اﻟﺴَّﻼﻡ ﻟﺒﻴﺒﺎً ﻓﻲ ﺻﻐﺮﻩ، ﻃﺎﻫﺮاً ﻓﻲ ﻓﻌﻠﻪ ﻭﻧﺸﺄﺗﻪ، ﻣﻌﻈّﻤﺎً ، ﻻ ﻳَﻤُﺮُّ ﺑﻤﻸ ﺇﻻ ﺃﻇﻬﺮﻭا ﺗﻌﻈﻴﻤﻪ، ﻓﺸﺎﻉ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺃﻣﺮ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﺳﺮَّ به ﺁﻝُ ﻣﺤﻤﺪ (ع)، فنشأ ﻣﺄﻣﻮﻻً ﻓﻲ ﺣﺎﻻﺗﻪ، ﻣﺤﻤﻮﺩاً ﻓﻲ ﻣﻨﺸﺌﻪ، ﻓﻬﻴﻤﺎً ﻓﻲ ﺭﺃﻳﻪ، ﻟﺒﻴﺒﺎً ﻓﻲ صِغَره، طاهراً في فعله، ﻣُﻌﻈَّﻤﺎً ﻣُﺒَﺠَّﻼً ﻋﻨﺪ ﺻﺎﻟﺢ اﻟﻤﻸ، ﻭﺃﺑﻮﻩ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﺣﻲٌّ، ﻭاﺳﺘﻘﺎﻡ ﺣﺎﻟُﻪ ﻭﺣﺪﻳﺜُﻪ ﻭﺳَﻤَّﻮﻩ اﻟﻤﻬﺪﻱ، ﻭﻓﻀﻠَّﻪ أبوه ﻋﺒﺪُاﻟﻠﻪ ﺑﻦُ اﻟﺤﺴﻦ ﻭﺃﺟﻠَّﻪ. ﻭﺟﻌﻞ ﺯﻭَّاﺭُ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﻌﺮاﻕ ﻳﺄﺗﻮﻧﻪ ﻟﻠﻨَّﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﻳﺘﺤﺪﺛﻮﻥ ﻓﻴﻪ ﺑﺄﻣﺮﻩ، ﻓﻘﺎﻝ ﻓﻴﻪ ﺑﻌﺾُ ﺷﻌﺮاﺋﻬﻢ:
ﺇﻥِ اﻟﻤﻬﺪﻱُّ ﻗﺎﻡ ﻟﻨﺎ ﻭﻓﻴﻨﺎ ﺃﺗـﺎﻧﺎ اﻟﺨﻴـﺮُ ﻭ اﺭﺗﻔـﻊ اﻟﺒــﻼءُ
ﻭﻗﺎﻡ ﺑﻪ ﻋﻤﻮﺩُ اﻟﺪﻳﻦ ﺣﻘﺎً ﻭﻭﻟَّﻰ اﻟﺠﻮﺭُ ﻭاﻧﻜﺸﻒُ اﻟﻐﻄﺎءُ
ﺑﻨﻔﺴﻲ ﻳﺜﺮﺏ ﻣﻦ ﺩاﺭ ﻫﺎﺩٍ ﻋﻠﻴﻬــﺎ ﻣــﻦ ﺷــﻮاﻫـﺪﻩ ﺑﻬـﺎءُ
ﻧﺮﻯ ﻋِﺰَّ اﻟﺒﻬﺎءِ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﻭﻧـﻮﺭُ اﻟﺤﻖِّ ﻳﺴﻄﻊُ ﻭ اﻟﻀﻴﺎءُ
أمَّا صفاتُه الخَلقِيَّةُ فكان ﺁﺩﻡَ اﻟﻠَّﻮﻥ ﺷﺪﻳﺪَ اﻷﺩَﻣﺔ، ﻗﺪ ﺧﺎﻟﻂ اﻟﺸﻴﺐُ ﻓﻲ ﻋﺎﺭﺿﻴﻪ. كما ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺃﻓﻀﻞِ ﺃﻫﻞِ ﺑﻴﺘﻪ، ﻭأﻛﺒﺮِ أﻫﻞ ﺯﻣﺎﻧﻪ ﻓﻲ ﻋﻠﻤﻪ ﺑﻜﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﻭﺣﻔﻈﻪ ﻟﻪ ﻭﻓﻘﻬﻪ ﻓﻲ اﻟﺪِّﻳﻦ ﻭﺷﺠﺎﻋﺘﻪ ﻭﺟﻮﺩﻩ ﻭﺑﺄﺳﻪ ﻭﻛﻞِّ أﻣﺮٍ ﻳﺠﻤﻞ ﺑﻤﺜﻠﻪ ﺣﺘﻰ ﻟﻢ ﻳﺸﻚَّ أﺣﺪٌ أنَّه اﻟﻤﻬﺪﻱ ﻭﺷﺎﻉ ﺫﻟﻚ ﻟﻪ ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻣَّﺔ ، كما ﻛﺎﻥ ﺧﻄﻴﺒﺎً ﺑﺎﺭﻋﺎً ﻳُﺸَﺒَّﻪُ ﻓﻲ اﻟﻔﺼﺎﺣﺔ ﺑﻌﻠﻲ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ ﻋَﻠَﻴْﻪ اﻟﺴَّﻼﻡ، ﻋﻠﻰ ﺗَﻤﺘَﻤَﺔٍ ﻛﺎﻧﺖ ﺗَﻌﺘﺮﻳﻪ ﺇﺫا ﺗَﻜَﻠَّﻢ، ﻓﺈﺫا ﻋَﺮَﺿﺖ ﻟﻪ ﺿَﺮَﺏَ ﺑﻴﺪﻩ ﺻﺪﺭَﻩ ﻓﻴﻨﻔﺘﺢُ ﻟﺴﺎﻧُﻪ، وكان ﺃَﻳﺪاً ﻗﻮﻳَّﺎً، ﺇﺫا ﺻﻌﺪَ اﻟﻤﻨﺒﺮَ ﻳﺘﻘﻌﻘﻊُ ﻋﻨﻪ اﻟﻤﻨﺒﺮُ، ﻭﺃﻧَّﻪ ﺃﻗﻞَّ ﺻﺨﺮﺓً ﺇﻟﻰ ﻣﻨﻜﺒﻴﻪ ﻓﺤﺰﺭﻭﻫﺎ ﺃﻟﻒ ﺭﻃﻞ. ﻭﻫﻮ ﺃﻭَّﻝُ ﻣﻦ ﻇَﻬﺮَ ﻣﻦ ﺁﻝِ ﺭﺳﻮﻝِ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﻋﻠﻰ ﺁﻟﻪ ﻓﺨُﻮﻃِﺐَ ﺑﺄﻣﻴﺮ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ، ﻭﺑﻌﺪَﻩ ﻣﺤﻤﺪُ ﺑﻦ ﺟﻌﻔﺮ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻼﻡ.
حَيَــاتُه العِلميةُ :
اهتمَّ ﻋﺒﺪُاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ وحَرِصَ على أن يُنشئ جيلاً مفعماً بالعلم، مستشعراً لعظمة الدين، فكان ﻳﺄﻣﺮ اﺑﻨﻪ ﻣﺤﻤﺪاً ﺑﻄﻠﺐ اﻟﻌﻠﻢ ﻭاﻟﺘَّﻔﻘُّﻪ ﻓﻲ اﻟﺪِّﻳﻦ، ﻭﻛﺎﻥ يجيء ﺑﻪ ﻭﺑﺄﺧﻴﻪ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺇﻟﻰ اﺑﻦ ﻃﺎﻭﺱ ﻓﻴﻘﻮﻝ ﻟﻪ: ﺣﺪِّﺛﻬﻤﺎ ﻟﻌَﻞَّ اﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﻳﻨﻔﻌَﻬﻤﺎ. كما لقي ﻣﺤﻤﺪٌ ﻧﺎﻓﻌﺎً ﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﻭﺳَﻤﻊ ﻣﻨﻪ، ﻭلقي ﺃﺑﺎ اﻟﺰِّﻳﺎﺩ ﻭﺳَﻤﻊ ﻣﻨﻪ ﻭﺣﺪَّﺙ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻭﻋﻦ ﻏﻴﺮﻫﻤﺎ، ﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﺳَﻤِﻊ ﻣﻦ ﺁﺑﺎﺋﻪ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴَّﻼﻡ، ﻭﻟَﺰِﻣَﻪ ﻭاﺻﻞُ ﺑﻦ ﻋﻄﺎء ﻭﻏﻴﺮُﻩ ﻣﻦ اﻟﻤﺘﻜﻠﻤﻴﻦ، ﻭﻛﺎﻥ ﺣﺪﻳﺜُﻪ ﻗﻠﻴﻼً، فرُوي ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺪ ﻣﻘﺘﻠﻪ، ﻓﻤﻤَّﻦ ﺣﺪَّﺙ ﻋﻨﻪ ﻋﺒﺪُاﻟﻠﻪ ﺑﻦُ ﺟﻌﻔﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ ﺑﻦ اﻟﻤﺴﻮﺭ ﺑﻦ ﻣﺨﺮﻣﺔ، ﻭﻏﻴﺮﻩ. ومما يدلُّ على فقهه وغزارة علمه أنَّ أبا ﺧﺎﻟﺪ اﻟﻮاﺳﻄﻲ ﻭاﻟﻘﺎﺳﻢَ ﺑﻦ ﻣﺴﻠﻢ اﻟﺴﻠﻤﻲ كانا معه ﻭﻛﺎﻧﺎ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺻﻠﻮاﺕ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ. فقال اﻟﻘﺎﺳﻢُ ﺑﻦ ﻣﺴﻠﻢ ﻟﻤﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ، ﺇﻥَّ اﻟﻨَّﺎﺱ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﺇﻥَّ ﺻﺎﺣﺒﻜﻢ ﻣﺤﻤﺪاً ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﺫﻟﻚ اﻟﻔﻘﻪ. ﻗﺎﻝ ﻓﺘﻨﺎﻭﻝ ﺳﻮﻃَﻪ ﻣﻦ الأرض ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﻗﺎﺳﻢ اﺑﻦ ﻣﺴﻠﻢ، ﻣﺎ ﻳﺴﺮﻧﻲ أﻥَّ الأمَّة اﺟﺘﻤﻌﺖ ﻋﻠﻲَّ ﻛﻤﻌﻼﻕ ﺳﻮﻃﻲ ﻫﺬا ﻭأنِّي ﺳـﺌﻠﺖ ﻋﻦ ﺑﺎﺏ اﻟﺤﻼﻝ ﺃﻭ اﻟﺤﺮاﻡ ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻋﻨﺪﻱ ﻣﺨﺮﺝ ﻣﻨﻪ، ﻳﺎ ﻗﺎﺳﻢ ﺑﻦ ﻣﺴﻠﻢ، ﺇﻥَّ ﺃﺿﻞَّ اﻟﻨَّﺎﺱ ﺑﻞ ﺃﻇﻠﻢَ اﻟﻨَّﺎﺱ، ﺑﻞ ﺃﻛﻔﺮَ اﻟﻨَّﺎﺱ ﻣﻦ اﺩَّﻋﻰ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ الأمَّة، ﺛُﻢَّ ﺳُﺌﻞ ﻋﻦ ﺑﺎﺏ اﻟﺤﻼﻝ ﻭاﻟﺤﺮاﻡ، ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻋﻨﺪﻩ ﻣﻨﻪ ﻣﺨﺮﺝ. أمَّا مؤلفاتُه فله ﻛﺘﺎﺏُ (اﻟﺴِّﻴَﺮ) اﻟﻤﺸﻬﻮﺭ، ﻗﺎﻝ اﻹﻣﺎﻡ ﺃﺑﻮ ﻃﺎﻟﺐ: وﺳﻤﻌﺖ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﻓﻘﻬﺎء ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺃﺑﻲ ﺣﻨﻴﻔﺔ ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﺇﻥ (ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ) ﻧﻘﻞ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﺴﺎﺋﻞ اﻟﺴﻴﺮ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎﺏ، وفيه من غرائب الفقه ما يدل على علوِّ منزلته، ويكشف عن عالي مرتبته. ﻭﻗﺪ ﺧَﺮَّﺝَ ﻟﻪ ﺃﺑﻮ ﺩاﻭﺩ، ﻭاﻟﺘّﺮﻣﺬﻱّ، ﻭاﻟﻨَّﺴﺎﺋﻲّ ﻭﻭَﺛَّﻘَﻪ.
كلامُ بعضِ أهل البيت (ع) فيه :
ﻗﺎﻝ اﻹﻣﺎﻡ اﻟﻬﺎﺩﻱ ﺇﻟﻰ اﻟﺤﻖ ﻳﺤﻴﻰ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﻓﻲ ﺳﻴﺎﻕ اﻷﺋﻤﺔ: ﻭﻣﺜﻞ: ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ، اﻟﺬﻱ ﺟﺎء ﻓﻲ اﻟﺨﺒﺮ ﻋﻦ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺃﻧﻪ ﺧﺮﺝ ﺫاﺕ ﻳﻮﻡ ﺇﻟﻰ ﺑﺎﺏ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﻓﻘﺎﻝ: ((ﺃﻻ ﻭﺇﻧﻪ ﺳﻴﻘﺘﻞ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﻤﻮﺿﻊ ﺭﺟﻞ ﻣﻦ ﺃﻭﻻﺩﻱ، ﻛﺎﺳﻤﻲ، ﻭاﺳﻢ ﺃﺑﻴﻪ ﻛﺎﺳﻢ ﺃﺑﻲ، ﻳﺴﻴﻞ ﺩﻣﻪ ﻣﻦ ﻫﺎﻫﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺃﺣﺠﺎﺭ اﻟﺰﻳﺖ، ﻭﻫﻮ اﻟﻨﻔﺲ اﻟﺰﻛﻴﺔ، ﻋﻠﻰ ﻗﺎﺗﻠﻪ ﺛﻠﺚ ﻋﺬاﺏ ﺃﻫﻞ اﻟﻨﺎﺭ)). ﻗﺎﻝ ﻋﻴﺴﻰ ﺑﻦ ﺯﻳﺪ (ع) : ﻟﻮ ﺃﻥَّ اﻟﻠﻪ ﺃﺧﺒﺮﻧﺎ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻌﺪ ﻣﺤﻤﺪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻧﺒﻲ ﻟﻘﻠﻨﺎ ﺫﻟﻚ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ -يعني النفس الزكيَّة -. وقال ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ وقد ﺳُﺌﻞ ﻋﻦ ﺃﺧﻴﻪ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ ﺃﻫﻮ اﻟﻤﻬﺪﻱ اﻟﺬﻱ ﻳُﺬﻛﺮ؟ ﻓﻘﺎﻝ: اﻟﻤﻬﺪﻱ ﻋِﺪَﺓٌ ﻣﻦ اﻟﻠﻪ ﻟﻨﺒﻴﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﻋﺪﻩ ﺃﻥ ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﺃﻫﻠﻪ ﻣﻬﺪﻳَّﺎ ﻟﻢ ﻳﺴﻤِّﻪ ﺑﻌﻴﻨﻪ، ﻭﻟﻢ ﻳﻮﻗﺖ ﺯﻣﺎﻧﻪ، ﻭﻗﺪ ﻗﺎﻡ ﺃﺧﻲ ﺑﻔﺮﻳﻀﺘﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ اﻷﻣﺮ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﻭاﻟﻨﻬﻲ ﻋﻦ اﻟﻤﻨﻜﺮ، ﻓﺈﻥ ﺃﺭاﺩ اﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﻳﺠﻌﻠﻪ اﻟﻤﻬﺪﻱ اﻟﺬﻱ ﻳُﺬﻛَﺮ ﻓﻔﻀﻞ اﻟﻠﻪ ﻳﻤُﻦُّ ﺑﻪ ﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﻳﺸﺎء ﻣﻦ ﻋﺒﺎﺩﻩ، ﻭﺇﻻ ﻓﻠﻢ ﻳﺘﺮﻙ ﺃﺧﻲ ﻓﺮﻳﻀﺔ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻻﻧﺘﻈﺎﺭ ﻣﻴﻌﺎﺩٍ ﻟﻢ ﻳُﺆﻣﺮ ﺑﺎﻧﺘﻈﺎﺭﻩ. شهادةُ أبي جعفر المنصور ومبايعتُه له : كان أبو ﺟﻌﻔﺮ اﻟﻤﻨﺼﻮﺭ ﻳﻘﻮﻝُ ﻓﻲ ﺃﻳَّﺎﻡ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻴَّﺔ، ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﻧﻔﺮٍ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻴَّﺔ : ﻣﺎ ﻓﻲ ﺁﻝ ﻣﺤﻤﺪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺃﻋﻠﻢُ ﺑﺪﻳﻦ اﻟﻠﻪ ﻭﻻ ﺃﺣﻖّ ﺑﻮﻻﻳﺔ اﻷﻣﺮ ﻣﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ. وقد اجتمع ﺟﻤﺎﻋﺔٌ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﻫﺎﺷﻢ ﺑﺎﻷﺑﻮاء، ثم ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺟﻌﻔﺮ اﻟﻤﻨﺼﻮﺭ ﺑﺄﻱِّ ﺷﻲءٍ ﺗﺨﺪﻋﻮﻥ ﺃﻧﻔﺴَﻜﻢ، ﻓﻮاﻟﻠﻪ ﻟﻘﺪ ﻋﻠﻤﺘﻢ ﻣﺎ اﻟﻨُّﺎﺱ ﺇﻟﻰ ﺃﺣﺪ ﺃﺻﻮﺭ - ﺃﻱ ﺃﻣﻴﻞ - ﺃﻋﻨﺎﻗﺎ، ﻭﻻ ﺃﺳﺮﻉ ﺇﺟﺎﺑﺔ ﻣﻨﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﻫﺬا اﻟﻔﺘﻰ - ﻳﺮﻳﺪ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ -، ﻗﺎﻟﻮا: ﻗﺪ ﻭاﻟﻠﻪ ﺻﺪﻗﺖ ﺇﻥَّ ﻫﺬا ﻟﻬﻮ اﻟﺬﻱ ﻧﻌﻠﻢ ﻓﺒﺎﻳﻌﻮا ﺟﻤﻴﻌﺎ ﻣﺤﻤﺪا، ﻭﻣﺴﺤﻮا ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻳﻪ. ﻭﺑﺎﻳﻊ أبو جعفر المنصور لمحمد بن عبدالله ﻣﺮﺗﻴﻦ ﺇﺣﺪاﻫﻤﺎ ﺑﺎﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻭالأﺧﺮﻯ ﺑﻤﻜﺔ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻟﺤﺮاﻡ ﻓﻠﻤَّﺎ ﺑﺎﻳﻌﻪ ﻗﺎﻡ ﻣﻌﻪ ﺣﺘَّﻰ ﺧﺮﺝَ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻟﺤﺮاﻡ ﻓﺮﻛﺐ ﻓﺄﻣﺴﻚ ﻟﻪ ﺃﺑﻮ ﺟﻌﻔﺮ ﺑﺮﻛﺎﺏ ﺩاﺑِّﺘﻪ ﺛﻢَّ ﻗﺎﻝ ﻟﻪ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ، ﺃﻣﺎ ﺇﻧﻪ ﺇﻥ ﺃﻓﻀﻰ ﺇﻟﻴﻚ ﻫﺬا اﻻﻣﺮ ﻧﺴﻴﺖ ﻫﺬا اﻟﻤﻮﻗﻒ ﻭﻟﻢ ﺗﻌﺮﻓﻪ ﻟﻲ. فانظر ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻲ ﺟﻌﻔﺮ اﻟﻤﻠﻘَّﺐِ ﺑﺎﻟﻤﻨﺼﻮﺭ ﻭﺻﻨﻴﻌﻪ ﺇﻟﻰ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺴﻼﻡ، ﻭﺇﻗﺮاﺭﻩ ﺑﻔﻀﻠﻪ، ﻭﻣﺎ اﻧﺘﻬﻰ ﺇﻟﻴﻪ ﺣﺎﻟُﻪ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺳﻔﻚ ﺩﻣِﻪ ﻓﻲ ﺣَﺮَﻡ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ اﻟﺬﻱ ﺣُﺮِّﻡَ ﻓﻴﻪ ﻋﺾ ﺷﺠﺮﺓ، ﻓﻜﻴﻒ ﺑﻐُﺼﻦٍ ﻣﻦ ﺃﻏﺼﺎنِ المصطفى صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين. كلامُ واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد فيه ومبايعتُهما له : اﺟﺘﻤﻊ ﻭاﺻﻞ ﺑﻦ ﻋﻄﺎء، ﻭﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ ﻓﻲ ﺑﻴﺖ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﻤﺨﺰﻭﻣﻲ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﺒﺼﺮﺓ، ﻓﺘﺬاﻛﺮﻭا اﻟﺠﻮﺭ، ﻓﻘﺎﻝ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ: ﻓﻤﻦ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﻬﺬا اﻷﻣﺮ ﻣﻤﻦ ﻳﺴﺘﻮﺟﺒﻪ، ﻭﻫﻮ ﻟﻪ ﺃﻫﻞ؟ ﻓﻘﺎﻝ ﻭاﺻﻞ: ﻳﻘﻮﻡ ﺑﻪ ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺃﺻﺒﺢ ﺧﻴﺮ ﻫﺬﻩ اﻷﻣﺔ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ، ﻓﻘﺎﻝ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ: ﻣﺎ ﺃﺭﻯ ﺃﻥ ﻧﺒﺎﻳﻊ ﻭﻻ ﻧﻘﻮﻡ ﺇﻻ ﻣﻊ ﻣﻦ اﺧﺘﺒﺮﻧﺎﻩ ﻭﻋﺮﻓﻨﺎ ﺳﻴﺮﺗﻪ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﻭاﺻﻞ: ﻭاﻟﻠﻪ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﻓﻀﻠﻪ ﺇﻻ ﺃﻥ ﺃﺑﺎﻩ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﻓﻲ ﺳﻨﻪ ﻭﻓﻀﻠﻪ ﻭﻣﻮﺿﻌﻪ، ﻗﺪ ﺭﺁﻩ ﻟﻬﺬا اﻷﻣﺮ ﺃﻫﻼ، ﻭﻗﺪﻣﻪ ﻓﻴﻪ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻜﺎﻥ ﻟﺬﻟﻚ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻣﺎ ﻧﺮاﻩ ﻟﻪ، ﻓﻜﻴﻒ ﺑﺤﺎﻝ ﻣﺤﻤﺪ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻓﻀﻠﻪ. ثم خرجت ﺟﻤﺎﻋﺔٌ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﺒﺼﺮﺓ ﻣﻦ اﻟﻤﻌﺘﺰﻟﺔ إلى محمد بن عبدالله ﻣﻨﻬﻢ: ﻭاﺻﻞ ﺑﻦ ﻋﻄﺎء، ﻭﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ ﻭﻏﻴﺮﻫﻤﺎ ﺣﺘﻰ ﺃﺗﻮا ﺳﻮﻳﻘﺔ، ﻓﺴﺄﻟﻮا ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺃﻥ ﻳﺨﺮﺝ ﻟﻬﻢ اﺑﻨﻪ ﻣﺤﻤﺪا ﺣﺘﻰ ﻳﻜﻠﻤﻮﻩ، ﻓﻄﻠﺐ ﻟﻬﻢ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﻓﺴﻄﺎﻃﺎ، ﻭاﺟﺘﻤﻊ ﻫﻮ ﻭﻣﻦ ﺷﺎﻭﺭﻩ ﻣﻦ ﺛﻘﺎﺗﻪ ﺃﻥ ﻳﺨﺮﺝ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ، ﻓﺄﺧﺮﺝ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ، ﻓﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﺛﻨﻰ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﺫﻛﺮ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ، ﻭﺣﺎﻟﻪ، ﻭﺩﻋﺎﻫﻢ ﺇﻟﻰ ﺑﻴﻌﺘﻪ، ﻭﻋﺬﺭﻫﻢ ﻓﻲ اﻟﺘﺄﺧﺮ ﻋﻨﻪ، ﻓﻘﺎﻟﻮا: اﻟﻠﻬﻢ ﺇﻧَّﺎ ﻧﺮﺿﻰ ﺑﺮَﺟُﻞ ﻫﺬا ﺭﺳﻮﻟُﻪ، ﻓﺒﺎﻳﻌﻮﻩ، ﻭاﻧﺼﺮﻓﻮا ﺇﻟﻰ اﻟﺒﺼﺮﺓ. كلُّ هذه الشَّهاداتِ والمبايعاتِ تُنبئ عن المَكانة التِّي وصلَ إليها محمدُ بنُ عبدالله النَّفسُ الزكيَّة، حتى امتلأت قلوبُ النَّاسِ بمحبَّته، واشتغلت أفواهُهم بالحديث عنه وعن أفضليته، فلم يزالوا يرجون قيامه، وينتظرون بفارغ الصبر انتصاب أمره، وهذا أبو خالد اﻟﻮاﺳﻄﻲ من أصحاب الإمام زيد (ع) يشهدُ بذلك حينَ يقولُ ﻟﻘﻴﺖ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺻﻠﻮاﺕ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻗﺒﻞ ﻇﻬﻮﺭﻩ، ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: ﻳﺎ ﺳﻴﺪﻱ ﻣﺘﻰ ﻳﻜﻮﻥ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ؟ ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ: ﻭﻣﺎ ﻳﺴُﺮُّﻙ ﻣﻨﻪ ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﺧﺎﻟﺪ؟ ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: ﻳﺎ ﺳﻴﺪﻱ ﻭﻛﻴﻒ ﻻ ﺃُﺳﺮُّ ﺑﺄﻣﺮٍ ﻳُﺨﺰﻱ اﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﺃﻋﺪاءَﻩ ﻭﻳُﻈﻬﺮُ ﺑﻪ ﺃﻭﻟﻴﺎءَﻩ. ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﺧﺎﻟﺪ، ﺃﻧﺎ ﺧﺎﺭﺝٌ ﻭﺃﻧﺎ ﻣﻘﺘﻮﻝ، ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻳﺴﺮُّﻧﻲ ﺃﻥَّ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺄﺳﺮﻫﺎ ﻟﻲ ﻋﻮﺿﺎً ﻣﻦ ﺟﻬﺎﺩﻫﻢ، ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﺧﺎﻟﺪ، ﺇﻥَّ اﻣﺮﺃً ﻣﺆﻣﻨﺎً ﻻ ﻳﻤﺴﻲ ﺣﺰﻳﻨﺎً ﻭﻻ ﻳﺼﺒﺢ ﺣﺰﻳﻨﺎً ﻣﻤﺎ ﻳﻌﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﺃﻋﻤﺎﻟﻬﻢ ﺇﻧَّﻪ ﻟﻤﻐﺒﻮﻥٌ ﻣﻔﺘﻮﻥ. ﻗﻠﺖ: ﻳﺎﺳﻴﺪﻱ ﻭاﻟﻠﻪ ﺇﻥَّ اﻟﻤﺆﻣﻦَ ﻟﻜﺬﻟﻚ ﻭﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﺑﻨﺎ ﻭﻧﺤﻦ ﻣﻘﻬﻮﺭﻭﻥ ﻣﺴﺘﻀﻌﻔﻮﻥ ﺧﺎﺋﻔﻮﻥ، ﻻﻧﺴﺘﻄﻴﻊُ ﻟﻬﻢ ﺗﻐﻴﻴﺮاً؟ ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﺧﺎﻟﺪ، ﺇﺫا ﻛﻨﺘﻢ ﻛﺬﻟﻚ ﻓﻼ ﺗﻜﻮﻧﻮا ﻟﻬﻢ ﺟﻤﻌﺎً ﻭاﻧﻔﺮﻭاً ﻣﻦ ﺃﺭﺿﻬﻢ. فكانت كلُّ هذه الأحداث واللقاءات كالإرهاصات والمُقدِّمات التي تُشعرُ بقُربِ قيامِ ثورة جديدة لأهل البيت (ع)، وقيام إمامٍ جديدٍ آمراً بالمعروف وناهياً عن المُنكر، لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا وكلمةُ الذين كفروا السُّفلى.
مكاتبــاتُـه و دعـواتُـه :
ﻛﺎﻥ الإمامُ محمدُ بنُ عبدالله ﻳُﻜﺎﺗﺐُ اﻟﻨَّﺎﺱَ قبل ظهوره، ﻓﻜﺘﺐ ﻛﺘﺎﺑﺎً ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻳﺪﻋﻮﻫﻢ ﺇﻟﻰ ﻧُﺼﺮﺓ اﻟﺤﻖًِّ، فقال : ﺑﺴﻢ اﻟﻠﻪ اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﺮﺣﻴﻢ. ﺃﻣَّﺎ ﺑﻌﺪُ ﻓﺈﻥَّ اﻟﻠﻪَ ﺟﻞَّ ﺛﻨﺎﺅُﻩ ﺟﻌﻞَ ﻓﻲ ﻛﻞِّ ﺯﻣﺎﻥٍ ﺧِﻴَﺮَﺓً، ﻭﻣِﻦ ﻛﻞِّ خِيَرَةٍ ﻣﻨﺘﺠﺒﺎً، ﻭاﻟﻠﻪُ ﺃﻋﻠﻢُ ﺣﻴﺚُ ﻳﺠﻌﻞُ ﺭﺳﺎﻻﺗﻪ، ﻓﻠﻢ ﺗﺰﻝ اﻟﺨِﻴَﺮَﺓُ ﻣﻦ ﺧَﻠﻘِﻪ ﺗﺘﻨﺎﺳﺦُ ﺃﺣﻮاﻻً ﺑﻌﺪَ ﺃﺣﻮاﻝ ﺣﺘﻰ ﻛﺎﻥ ﻣﻨﻬﺎ ﺻﻔﻮﺓُ اﻟﻠﻪ ﻣﺤﻤﺪُ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺳﻴِّﺪُ اﻟﻤﺮﺳﻠﻴﻦ، ﻭﺧﺎﺗﻢُ اﻟﻨﺒﻴﻴﻦ؛ اﺧﺘﺼَّﻪ اﻟﻠﻪُ ﺑﻜﺮاﻣﺘﻪ ﻭﺃﺧﺮﺟَﻪ ﻣﻦ ﺧﻴﺮ ﺧﻠﻘﻪ ﻗﺮﻧﺎً ﻓﻘﺮﻧﺎً، ﻭﺣﺎﻻً ﺑﻌﺪَ ﺣﺎﻝ ﻣﺤﻔﻮﻇﺎً ﻣﺠﻨﺒﺎً ﺳﻮء اﻟﻮﻻﺩاﺕ، ﻣﺘَّﺴِﻘﺎً ﺑﺄﻛﺮﻡ اﻵﺑﺎء ﻭاﻷﻣَّﻬﺎﺕ، ﻓﻠﻮ ﺃﻥَّ ﺃﺣﺪَﻧﺎ ﻓﻲ ﻣﻨﺰﻟﺘﻪ، ﻭﻋﻨﺪَ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﻣﺜﻞ ﺣﺎﻟﻪ ﻻﺻﻄﻔﺎﻩ ﻭﻷﺧﺮﺟﻪ ﻣﻦ ﻣﺨﺮﺟﻪ ﺗﺒﺎﺭﻙ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻭﻟﻜﻦ ﻧﻈﺮَ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺮﺣﻤﺘﻪ، ﻭاﺧﺘﺎﺭَﻩ ﻟﺮﺳﺎﻟﺘﻪ، ﻭاستحفظه ﻣﻜﻨﻮﻥَ ﺣﻜﻤﺘﻪ، ﻭﺃﺭﺳﻠَﻪ ﺑﺸﻴﺮاً ﻭﻧﺬﻳﺮاً ﻭﺩاﻋﻴﺎً ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﺑﺈﺫﻧﻪ «ﻭﻗﺎﺋﺪاً إلى الله» ، ﻭﺳﺮاﺟﺎً ﻣﻨﻴﺮاً. ﺛﻢ ﻗﺒﻀﻪ اﻟﻠﻪُ ﺇﻟﻴﻪ ﺣﻤﻴﺪاً ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ، ﻓﺨﻠَّﻒَ ﻛﺘﺎﺑَﻪ اﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻫَﺪﻱٌ ﻭاﻫﺘﺪاءُ، ﻭﺃﻣَﺮَ ﺑﺎﻟﻌﻤﻞ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ، ﻭﻗﺪ ﻧﺠَﻢَ اﻟﺠﻮﺭُ ﻭﺧُﻮﻟِﻒَ اﻟﻜﺘﺎﺏُ اﻟﺬﻱ ﺑﻪ ﻫﺪﻱٌ ﻭاﻫﺘﺪاءُ، ﻭﺃُﻣِﻴﺘﺖ اﻟﺴُّﻨَّﺔُ، ﻭﺃُﺣﻴﻴﺖ اﻟﺒﺪﻋَﺔُ، ﻭﻧﺤﻦ ﻧﺪﻋﻮﻛﻢ -ﺃﻳُّﻬﺎ اﻟﻨَّﺎﺱُ- ﺇﻟﻰ: اﻟﺤُﻜﻢِ ﺑﻜﺘﺎﺏِ اﻟﻠﻪ، ﻭﺇﻟﻰ اﻟﻌﻤﻞِ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ، ﻭﺇﻟﻰ ﺇﻧﻜﺎﺭِ اﻟﻤُﻨﻜﺮ ﻭﺇﻟﻰ اﻷﻣﺮ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﻭاﻟﻨَّﻬﻲ ﻋﻦ اﻟﻤُﻨﻜﺮ، ﻭﻧﺴﺘﻌﻴﻨُﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺃﻣﺮ اﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ، ﻣﻦ اﻟﻤُﻌَﺎﻭﻧﺔِ ﻋﻠﻰ اﻟﺒِﺮِّ ﻭاﻟﺘَّﻘﻮﻯ. ﻭاﻋﻠﻤﻮا ﺃﻳُّﻬﺎ اﻟﻨَّﺎﺱُ ﺃﻧَّﻜﻢ ﻏﻴﺮُ ﻣُﺼﻴﺒﻲ اﻟﺮّﺷﺪ ﺑﺨﻼﻓﻜﻢ ﻟﺬُﺭِّﻳﺔِ ﻧﺒﻴﻜﻢ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ، ﻭﻭﺿﻌﻜﻢ اﻷﻣﺮَ ﻓﻲ ﻏﻴﺮِ ﻣَﺤَﻠِّﻪ، ﻓﻌﺎﺯﺕ ﻷﺣﺪﻛﻢ ﺑﻌﺪ ﺟﻤﺎﺣﻬﺎ، ﻭﺗﻔﺮَّﻗﺖ ﺟﻤﺎﻋﺘُﻜﻢ ﺑﻌﺪَ اﺗِّﺴﺎﻗﻬﺎ، ﻭﺷﺎﺭﻛﺘُﻢ اﻟﻈﺎﻟﻤﻴﻦ ﻓﻲ ﺃﻭﺯاﺭﻫﺎ ﻟﺘﺮﻛﻜﻢ اﻟﺘﻐﻴﻴﺮَ ﻋﻠﻰ ﺃُﻣﺮاﺋﻬﺎ، ﻭﺩﻓﻊِ اﻟﺤَﻖِّ ﻣﻦ اﻷﻣﺮ ﺇﻟﻰ ﺃﻭﻟﻴﺎﺋﻪ، ﻓﻼ ﺳَﻬﻤُﻨﺎ ﻭﻓﻴﻨﺎﻩ، ﻭﻻ ﺗﺮاﺛُﻨﺎ ﺃﻋﻄﻴﻨﺎﻩ، ﻭﻣﺎ ﺯاﻝ ﻳُﻮﻟَﺪُ ﻣﻮﻟﻮﺩﻧُﺎ ﻓﻲ اﻟﺨﻮﻑ، ﻭﻳﻨﺸﺄُ ﻧﺎﺷﺌُﻨﺎ ﻓﻲ اﻟﻘﻬﺮ ﻭﻳﻤﻮﺕُ ﻣَﻴُّﺘﻨﺎ ﺑﺎﻟﺬُّﻝ ﻭاﻟﻘﻬﺮ ﻭاﻟﻘﺘﻞِ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺑﻨﻲ اﺳﺮاﺋﻴﻞ، ﺗُﺬﺑﺢُ ﺃﺑﻨﺎﺅُﻫﻢ ﻭﺗُﺴﺘﺤﻴﺎ ﻧﺴﺎﺅُﻫﻢ، ﻭﻳُﻮﻟﺪُ ﻣﻮﻟﻮﺩُﻫﻢ ﻓﻲ اﻟﻤَﺨﺎﻓﺔ، ﻭﻳﻨﺸﺄُ ﻧﺎﺷﺌُﻬﻢ ﻓﻲ اﻟﻌُﺒُﻮﺩﻳَّﺔ، ﻭﺇﻧَّﻤﺎ ﻓَﺨَﺮَﺕ ﻗﺮﻳﺶ ﻋﻠﻰ ﺳﺎﺋﺮ اﻷﺣﻴﺎء ﺑﻤﺤﻤﺪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﺩاﻧﺖ اﻟﻌﺠﻢُ ﻟﻠﻌﺮﺏ ﺑﺎﺩﻋﺎﺋﻬﺎ ﻟﺤﻘﻨﺎ، ﻭاﻟﻔﺨﺮ ﺑﺄﺑﻴﻨﺎ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺛُﻢَّ ﻣُﻨِﻌﻨَﺎ ﺣَﻘَّﻪ، ﻭﺩُﻓﻌﻨﺎ ﻋﻦ ﻣﻘﺎﻣﻪ، ﺃَﻣَﺎ ﻭاﻟﻠﻪ ﻟﻮ ﺭَﺟُﻮا اﻟﺘَّﻤﻜﻴﻦ ﻓﻲ اﻟﺒﻼﺩ ﻭاﻟﻈُّﻬﻮﺭَ ﻋﻠﻰ اﻷﺩﻳﺎﻥ، ﻭﺗﻨﺎﻭﻝ اﻟﻤُﻠﻚِ ﺑﺨﻼﻑِ ﺇﻇﻬﺎﺭ اﻟﺘﻮﺣﻴﺪ، ﻭﺑﺨﻼﻑ اﻟﺪَّﻋﻮﺓ ﺇﻟﻰ ﻣﺤﻤﺪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭاﻹﺫﻋﺎﻥ ﻣﻨﻬﻢ ﺑﺎﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻻﺗَّﺨﺬﻭا ﺃﺳﺎﻃﻴﺮَ ﻣﺨﺘﻠﻘﺔً ﺑﺄﻫﻮاﺋﻬﻢ، ﻭﻋﺒﺪﻭا اﻷﻭﺛﺎﻥ ﺑﺂﺭاﺋﻬﻢ، ﻭﻻﺗَّﺨﺬﻭا ﻣﻦ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﺯﻋﻴﻤﺎً. ﻓﺎﺗَّﻘﻮا اﻟﻠﻪ ﻋﺒﺎﺩَ اﻟﻠﻪ، ﻭﺃﺟﻴﺒﻮا ﺇﻟﻰ اﻟﺤَﻖِّ، ﻭﻛﻮﻧﻮا ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻋﻮاﻧﺎً ﻟﻤﻦ ﺩﻋﺎﻛﻢ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﻻ ﺗﺄﺧﺬﻭا ﺑﺴُﻨَّﺔ ﺑﻨﻲ ﺇﺳﺮاﺋﻞ ﺇﺫ ﻛﺬَّﺑﻮا ﺃﻧﺒﻴﺎءِﻫﻢ، ﻭﻗﺘﻠﻮا ﺫﺭﻳﺘﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺃﻧَّﻬﺎ ﺳُﻨَّﺔٌ ﻛﺴﻨﺔٍ ﺗﺮﻛﺒﻮﻧﻬﺎ ﻭﻋُﺮﻭﺓٌ ﺑﻌﺪَ ﻋُﺮﻭﺓٍ ﺗﻨﻜﺜﻮﻧﻬﺎ ﻭﻗﺪ ﻗﺎﻝ اﻟﻠﻪ ﺟﻞَّ ﺛﻨﺎﺅﻩ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ: {ﻟﺘﺮﻛﺒﻦ ﻃﺒﻘﺎ ﻋﻦ ﻃﺒﻖ} [ اﻻﻧﺸﻘﺎﻕ:19] . ﻓﺎﻋﺮﻓﻮا ﻓﻀﻞَ ﻣﺎ ﻫﺪاﻛﻢ اﻟﻠﻪُ ﺑﻪ ﻭﺗﻤﺴَّﻜﻮا ﺑﻮﺛﺎﺋﻘﻪ، ﻭاﻋﺘﺼﻤﻮا ﺑﻌُﺮﻭﺗﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻫﺮﺝ اﻷﻫﻮاء، ﻭاﺧﺘﻼﻑِ اﻷﺣﺰاﺏ، ﻭﺗَﻨَﻜُّﺐِ اﻟﺼَّﻮاﺏ، ﻓﺈﻥَّ ﻛﺘﺎﺑﻲ ﺣﺠﺔٌ ﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﺑﻠﻐﻪ، ﻭﺭﺣﻤﺔٌ ﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﻗَﺒِﻠَﻪ. ﻭاﻟﺴﻼﻡ. حِيـلَةُ أبي جعفر مع أهلِ خُرسـان : ﻛﺎﻧﺖ بدايةُ ﺩﻋﻮة الإمام محمد بن عبدالله ﺇﻟﻰ ﻧﻔﺴﻪ، عقِب ﻗﺘﻞِ اﻟﻮﻟﻴﺪ ﺑﻦ ﻳﺰﻳﺪ، ﻭﻭﻗﻮﻉِ اﻟﻔﺘﻨﺔِ ﺑﻌﺪﻩ بين بني أميَّة، فبايعه ﺃﻫﻞُ البيتِ (ع) اﻷﻛﺎﺑﺮُ ﻭاﻷﺻﺎﻏﺮُ، ﻭاﻟﻬﺎﺷﻤﻴُّﻮﻥ ﻛﻠُّﻬﻢ، ودعوا بالبيعة له، وكان قد كاتب النَّاس في كثير من البلدان، فانتشرت دعوته، وبلغت أهلََ الفضلِ والدِّين، فتلقَّوها بالقبول والإجابة لمعرفتهم بفضله وزهده وعلمه، وعندما وصلت دعوتُه خرسانَ وبايعه الجمهورُ من أهلها، اضطربوا على أبي جعفر اضطراباً شديداً، حتَّى هَمُّوا بطرد ولاته ودُعاته، فقَتَلَ أبو جعفر محمدَ بن عبدالله بن عمرو بن عثمان، وأمُّه فاطمة بنت الحسين، وأَمَرَ برأسه مع عدَّةٍ من النَّاس إلى أهل خرسان يحلفون لهم أنَّه محمدُ بنُ عبدالله بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يوهمهم أنَّه الإمام محمد بن عبدالله النَّفس الزكيَّة)، فسكتوا بعد أن كانوا همُّوا بخلع أبي الدوانيق .
قيــامُ الإمِـام محمد بن عبدالله :
ﻟﻤَّﺎ ﻛﺎﻥ ما كان مِن تَجَبُّرِ أبي جعفر المنصور، وإمعانهِ في أذيَّة أهل البيت عليهم السَّلام، وما كان منه من ﺃَﺳﺮِ ﺑﻨﻲ ﺣَﺴَﻦ، وموتِ عبدالله بن الحسن في سجن الهاشميةٍ، وأَمَرَ أبو جعفر رياحاً أن يُنفذَ موسى بن عبدالله إليه، بعد أن كان ضربه ستمائة ضربة بالسوط، وﻋَﻠِﻢَ ﻣﺤﻤﺪُ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ (ع) بذلك ﺷﻬﺮَ ﻧﻔﺴَﻪ، ﻭﻛﺎﻥ ﻇﻬﻮﺭُﻩ ﺑﺎﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺑﻌﺪَ اﺳﺘﺘﺎﺭِﻩ اﻟﺪَّﻫﺮَ اﻷﻃﻮﻝَ، ﻭﺇﻧﻔﺎﺫِﻩ اﻟﺪﻋﺎﺓَ ﺇﻟﻰ اﻵﻓﺎﻕ، وذلك ﻟﻠﻴﻠﺘﻴﻦ ﺑﻘﻴﺘﺎ ﻣﻦ ﺟﻤﺎﺩﻯ اﻵﺧﺮ ﺳﻨﺔ ﺧﻤﺲ ﻭﺃﺭﺑﻌﻴﻦ ﻭﻣﺎﺋﺔ، ﻭﺭُﻭﻱ ﻓﻲ ﻏﺮَّﺓ ﺭﺟﺐ.
(تفريع.. كان من قصة موسى ﺑﻦِ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ أنَّ أبا جعفر المنصور رَدَّه ﻣِﻦ اﻟﺮَّﺑَﺬﺓ ﻟﻴﻜﻮﻥَ ﻋﻴﻨﺎً ﻟﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﺧَﻮﻳﻪ ﻣﺤﻤﺪ ﻭﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ بعدَ أن اشتغلَ ﺑﺄﻣﺮﻫﻤﺎ فصارَ ﻳﻄﻤﻊُ ﻓﻲ ﻛﻞِّ ﻣَﻄﻤﻊ، فأقام إبراهيم مدَّةً في المدينة حتَّى أَمَرَ ﺭﻳﺎﺡٍ - والي أبي جعفر على المدينة - ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻲ ﺟﻌﻔﺮ ﺃﻧَّﻚ ﺃﻣﺮﺕَ ﻣﻮﺳﻰ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ ﺟﺎﺳﻮﺳﺎًً ﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﺃﺧﻮﻳﻪ ﻭﻫﻮ ﻟﻬﻤﺎ ﺟﺎﺳﻮﺱٌ ﻋﻠﻴﻨﺎ، ﻓﻠﻤَّﺎ ﺑَﻠﻎ ﺇﻟﻴﻪ ﻛﺘﺎﺑُﻪ ﺃﻣﺮَ ﺇﻟﻴﻪ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻮﺛﻖَ ﻣﻦ ﻣﻮﺳﻰ ﻭﻳُﻨﻔﺬَﻩ ﺇﻟﻴﻪ ﻓﻔﻌﻞَ ﺫﻟﻚ) .
فَزِعَ النَّاسُ إلى ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻦ ﺃﻧﺲ ليستفتوه ﻓﻲ اﻟﺨُﺮُﻭﺝ ﻣﻊ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ. ﻭﻗِﻴﻞ ﻟﻪ: ﺇﻥَّ ﻓﻲ ﺃﻋﻨﺎﻗﻨﺎ ﺑﻴﻌﺔً لأبي ﺟﻌﻔﺮ. فأفتاهم بوجوبِ الخروج معه، وقال لهم: ﺇﻧَّﻤﺎ ﺑﺎﻳﻌﺘﻢ ﻣﻜﺮﻫﻴﻦ، ﻭﻟﻴﺲ ﻋﻠﻰ ﻣُﻜﺮﻩ ﻳﻤﻴﻦ ﻓﺄﺳﺮﻉ اﻟﻨَّﺎﺱُ ﺇﻟﻰ الإمامِ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ، ولذﻟﻚ ﺗﻐﻴَّﺮ أبو جعفر المنصور على الإمامِ مالك، ﻓﻴُﻘﺎﻝ: ﺇﻧَّﻪ ﺧﻠﻊ ﺃﻛﺘﺎﻓﻪ . خَرَجَ الإمامُ محمد بن عبدالله (ع) ﻓﻲ مائتين وخمسين رَجُلاً، ﻭﻋﻠﻴﻪ ﻗﻠﻨﺴﻮﺓٌ ﺻﻔﺮاء ﻭﻋﻤﺎﻣﺔٌ ﻓﻮﻗَﻬﺎ، ﻣﺘﻮﺷﺤﺎً ﺳﻴﻔﺎً، ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ ﻷﺻﺤﺎﺑﺔ: ﻻ ﺗﻘﺘﻠﻮا ﻻ ﺗﻘﺘﻠﻮا، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺭاﻳﺘُﻪ ﻣﻊ اﻷﻓﻄﺲ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ ﻋَﻠَﻴْﻬﻢ اﻟﺴَّﻼﻡ. ﺣﺘﻰ ﻭﻗﻒ ﻋﻠﻰ ﺳﺠﻦ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻓﺄﺭﺳَﻞَ ﻣﻦ ﻓﻴﻪ ﻭﺷﻌﺎﺭُﻫﻢ: ﺃﺣﺪ ﺃﺣﺪ. وﺃَﻗﺒَﻞَ ﺣﺘَّﻰ ﺩَﺧَﻞَ اﻟﻤﺴﺠﺪَ ﻗﺒﻞَ اﻟﻔﺠﺮِ، ﻓﺼﻌﺪَ اﻟﻤِﻨﺒﺮَ ﻓﺤﻤﺪَ اﻟﻠﻪَ ﻭﺃﺛﻨﻰ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛُﻢَّ ﻗﺎﻝ: ﺃﻣَّﺎ ﺑﻌﺪُ.. ﻳﺎ ﺃﻫﻞَ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔِ ﻓﺈﻧِّﻲ ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺧﺮﺟﺖُ ﻓﻴﻜﻢ ﻭﺑﻴﻦ ﺃﻇﻬﺮِﻛﻢ ﺗَﻌﺰُّﺯاً، ﻭﻟَﻐَﻴﺮُﻛﻢ ﻛﺎﻥ ﺃﻋﺰَّ ﻟﻲ ﻣﻨﻜﻢ، ﻭﻟﻜﻨِّﻲ ﺣَﺒَﻮﺗُﻜﻢ ﺑﻨﻔﺴﻲ ﻣﻊ ﺃﻧَّﻪ ﻟﻢ ﻳﺒﻖ ﻣِﺼﺮٌ ﻣﻦ اﻷﻣﺼﺎﺭِ ﻳُﻌﺒﺪُ اﻟﻠﻪُ ﻓﻴﻪ إلَّا ﻭﻗﺪ ﺃُﺧِﺬَﺕ ﻟﻲ ﻓﻴﻪ اﻟﺒﻴﻌﺔُ، ﻭﻻ ﺑَﻘﻲ ﺃﺣﺪٌ ﻣﻦ ﺷﺮﻕٍ ﻣﻊ ﻏﺮٍﺏ ﺇلَّا ﻭﻗﺪ ﺃﺗﺘﻨﻲ ﺑﻴﻌﺘُﻪ، ﻭﺇﻥَّ ﺃَﺣَﻖَّ اﻟﻨَّﺎﺱِ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎﻡِ ﺑﻬﺬا اﻷﻣﺮِ لَأﺑﻨﺎءُ اﻟﻤﻬﺎﺟﺮﻳﻦ ﻭاﻷﻧﺼﺎﺭ ﻣﻊ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻋﻠﻤﺘُﻢ ﻣﻦ ﺳﻮء ﻣﺬﻫﺐ ﻫﺬا اﻟﻄَّﺎﻏﻴﺔِ اﻟﺬَّﻱ ﻗﺪ ﺑَﻠَﻎَ ﻓﻲ ﻋُﺘُﻮِّﻩ ﻭﻃُﻐﻴﺎﻧﻪ ﺃﻥ اﺗَّﺨَﺬَ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﺑﻴﺘﺎً ﻭﺑَﻮَّﺑَﻪ ﺑﺎﻟﺬَّﻫﺐ، ﻣﻌﺎﻧﺪﺓً ﻟﻠﻪ ﻭﺗﺼﻐﻴﺮاً ﻟﺒﻴﺘﻪ اﻟﺤَﺮَاﻡِ ﻣﻊ ﻣﺎ ﺳَﻔَﻚَ ﻣﻦ اﻟﺪِّﻣﺎء، ﻭﺗﻨﺎﻭﻝَ ﻣﻦ اﻷﺧﻴﺎﺭِ ﻳُﻌﺬِّﺑﻬﻢ ﺑﺄﻧﻮاﻉِ اﻟﻌَﺬاﺏ. اﻟﻠَّﻬُﻢَّ ﺇﻧَّﻬﻢ ﻗﺪ ﺃَﺣَﻠُّﻮا ﺣﺮاﻣَﻚ ﻭﺣﺮَّﻣُﻮا ﺣﻼﻟﻚ ﻭﺃﺧﺎﻓﻮا ﻣَﻦ ﺃﻣَّﻨﺖَ، ﻭﺃﻣَّﻨﻮا ﻣَﻦ ﺃﺧﻔﺖَ، ﻭﻗﺼﺪﻭا ﻟﻌﺘﺮﺓ ﻧﺒﻴِّﻚ اﻟﻠَّﻬُﻢَّ ﻭﻛﻤﺎ ﺃﺣﺼﻴﺘَﻬﻢ ﻋﺪﺩاً ﻓﺎﻗﺘﻠﻬﻢ ﺑﺪﺩاً ﻭﻻ ﺗُﻐﺎﺩِﺭ ﻣِﻨﻬﻢ ﺃﺣﺪاً. ولمَّا ﺣَﻀَﺮَﺕِ اﻟﺼَّﻼﺓُ ﻧَﺰَﻝَ ﻓﺼﻠَّﻰ، ﻭﺑﺎﻳﻌﻪ اﻟﻨَّﺎﺱُ ﻃﻮﻋﺎً ﺇﻻ ﺷﺮﺫﻣﺔٌ، ﻭﻫَﺮَﺏ ﺭﻳﺎﺡُ ﺑﻦ ﻋﺜﻤﺎﻥ اﻟﻤﺮﻱ ﻋﺎﻣﻞ ﺃﺑﻲ ﺟﻌﻔﺮ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﻭﺻﻌﺪَ ﺳﻄﺢَ ﺩاﺭ ﻣﺮﻭاﻥ ﻓﺄَﻣَﺮَ ﺑﻬﺪﻡِ اﻟﺪَّﺭﺟﺔ، ﻓﺼﻌﺪَ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﺧﺬﻩ ﻣﻦ ﻫﻨﺎﻙ، ﻭﺟﺎﺅوا ﺑﻪ ﺇﻟﻴﻪ ﻋَﻠَﻴْﻪ اﻟﺴَّﻼﻡ ﻓﺴﺄﻟﻪ ﻋﻦ ﺃﺧﻴﻪ ﻣﻮﺳﻰ، ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﻧﻔﺬﺗﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻲ ﺟﻌﻔﺮ، ﻓﺒﻌﺚ ﺟﻤﺎﻋﺔً ﻣﻦ اﻟﻔﺮﺳﺎﻥ ﺧﻠﻔَﻪ ﻓﻠﺤﻘﻮﻩ ﻓﺮﺩّﻭﻩ ﺇﻟﻴﻪ. وحَبَسَ رياح، ﻭحَبَسَ ﻣﻌﻪ أخاه اﻟﻌﺒَّﺎﺱ ﺑﻦ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﻭاﺑﻦَ ﻣُﺴﻠﻢ ﺑﻦ ﻋﻘﺒﺔ ﻓﻲ ﺩاﺭ ﻣﺮﻭاﻥ. ﻭكان ممَّن ﺑﺎﻳﻌﻪ ﺟﻌﻔﺮُ ﺑﻦُ ﻣﺤﻤﺪ الصَّادق ﻋَﻠَﻴْﻪ اﻟﺴَّﻼﻡ ﻭﺧَﺮَﺝ ﻣﻌﻪ ﺛُﻢَّ ﺃﻛﺐّ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻪ ﻓﻘَﺒَّﻠﻪ ﻭاﺳﺘﺄﺫﻧﻪ ﻓﻲ اﻟﺮُّﺟﻮﻉ ﺇﻟﻰ ﻣَﻨﺰﻟﻪ ﻟِﺴﻨِّﻪ ﻭﺿﻌﻔِﻪ، ﻭﺧَﺮﺝ ﻣﻌَﻪ ﻭَﻟَﺪاﻩ ﻋﺒﺪُاﻟﻠﻪ ﻭﻣﺤﻤﺪُ اﺑﻨﺎ ﺟﻌﻔﺮ، ﻭﻛﺎﻧﺎ ﺣﺎﺿﺮﻳﻦ ﻣﻌﻪ ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊِ ﺟِﻬﺎﺩِﻩ ﺣﺘَّﻰ ﻗُﺘِﻞ، ﻭﺃﻋﻄﻴﺎﻩ ﺑﻴﻌﺘﻬﻤﺎ ﻣﺨﺘﺎﺭﻳﻦ ﻣﺘﻘﺮِّﺑﻴﻦ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﺗﺒﺎﺭﻙ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻭﻛﺎﻥ ﺃﻭّﻝُ ﻗﺘﻴﻞٍ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﻮﺩﺓ -الذِّ يأتي ذكرُهم - اﻟﻔﺠﺮﺓ ﻗَﺘَﻼﻩ ﻭاﺷﺘﺮﻛﺎ ﻓﻲ ﻗﺘﻠﻪ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻌﻪ ﻋﻴﺴﻰ ﻭاﻟﺤﺴﻴﻦُ اﺑﻨﺎ ﺯﻳﺪ. ثم خَرَجَ الإمامُ محمد بن عبدالله من المدينة ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺔ ﻭﺑُﻮﻳﻊ ﻫﻨﺎﻟﻚ، ﻭﻋﺎﺩ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﻭﻭﺟّﻪ ﺃﺧﺎﻩ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢَ ﺇﻟﻰ اﻟﺒﺼﺮﺓ، ﻭﺑَﻘِﻲ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺮﻩ ﺇﻟﻰ ﺷﻬﺮ ﺭﻣﻀﺎﻥ، ﻭﻗﺪ ﻛﺎﻥ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪ وواصلُ بن عطاء ﻭﺃﻋﻴﺎﻥُ اﻟﻤﺘﻜﻠﻤﻴﻦ ﺑﺎﻳﻌﻮﻩ - كما قدَّمنا -، ﻭﺑﺎﻳﻌﻪ ﻋﻠﻤﺎءُ اﻟﺒﺼﺮﺓ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻭﻗﻔﻮا ﻋﻠﻰ ﻏﺰاﺭﺓ ﻋﻠﻤﻪ ﻭﺳﻌﺔ ﻓﻬﻤﻪ، ﻭاجتمعت ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺰﻳﺪﻳﺔُ ﻭاﻟﻤﻌﺘﺰﻟﺔُ ﻭاﻟﻌﻠﻤﺎءُ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﻔِﻘﻪ ﻭاﻟﻤَﻌﺮﻓﺔ، ﻭﻋَﻠِﻤﻮا ﺩﻋﺎءَﻩ ﺇﻟﻰ اﻟﻌﺪﻝ ﻭاﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﻭﺇﻗﺎﻣﺔ ﻋﻤﻮﺩِ اﻹﺳﻼﻡ. عُمَّـالُـه : اﺳﺘﻌﻤﻞ الإمامُ محمدُ بن عبدالله ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻋﺜﻤﺎﻥَ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺧﺎﻟﺪ ﺑﻦ اﻟﺰﺑﻴﺮ. ﻭﻋﻠﻰ ﻗﻀﺎﺋﻬﺎ ﻋﺒﺪَ اﻟﻌﺰﻳﺰ ﺑﻦَ اﻟﻤﻄﻠﺐ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ اﻟﻤﺨﺰﻭﻣﻲ، ﻭﻋﻠﻰ اﻟﺸُّﺮط ﺃﺑﺎ اﻟﻘﻠﻤﺲ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﻋﺒﻴﺪاﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ اﻟﺨﻄﺎﺏ. كما جَعَلَ ﻋﻠﻰ ﺩﻳﻮاﻥِ اﻟﻌﻄﺎء ﻋﺒﺪَ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺟﻌﻔﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ ﺑﻦ اﻟﻤﺴﻮﺭ ﺑﻦ ﻣﺨﺮﻣﺔ.
جيـشُ أبـي جعفـر وحِيـلةُ المَـرأة العبَّـاسيَّـة :
لمَّا اشتهر ظُهُورُ الإمام محمد بن عبدالله، وبَلَغَ ذلك أبا جعفر المنصور أﺷﻔﻖ ﻣﻨﻪ، وجهَّزَ له جيشاً من أربعة آلاف رَجُل، بقيادة عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، فلمَّا علم الإمامُ محمد بن عبدالله بمسيره إليه خندقَ على المدينة خندقاً على أفواه السِّكك، وعندما جاؤوا قاتلهم وقاد المدافعين عيسى بن زيد بن علي (ع)، وقاتل بنفسه قتالاً شديداً، ومحمدٌ جالسٌ على المُصلَّى ثُمَّ جاء هو فأخَذَ موقعه في مُقَدِّمة الصُّفوفِ وباشرهم القتالَ بنفسه، وكان ذلك يوم الإثنين للنِّصف من شهر رمضان، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﺸﻬﻮﺭاً ﺑﺎﻟﺸَّﺠﺎﻋﺔ، ﻭﻳَﺼِﻔُﻪ ﻣﻦ ﺭﺁﻩ ﺑﺄﻧَّﻪ ﻛﺎﻥ ﻳُﻔﺮﻱ اﻟﻨَّﺎﺱ ﻓﺮﻳﺎً، وﻳُﻘﺎﺗﻞُ ﺑﺎﻟﺴَّﻴﻒ ﻓﻴَﻀﺮِﺏُ ﺿﺮﺏَ ﺟﺪِّﻩ ﻋﻠﻲِّ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ - ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﻓﻀﻞُ اﻟﺼﻠﻮاﺕ ﻭاﻟﺘَّﺴﻠﻴﻢ - ﻭﻗَﺘَﻞَ ﺳﺒﻌَﺔَ ﻋَﺸَﺮَ ﺭﺟﻼً ﻣﻦ ﻋﻔﺎﺭﻳﺖ اﻹﻧﺲ، ونادى ﺣﻤﻴﺪَ ﺑﻦ ﻗﻄﺤﺒﺔ ﻣﻦ ﻗُﻮَّاﺩِ اﻟﺠﻴﺶ اﻟﻌﺒَّﺎﺳﻲِّ: اﺑﺮﺯ ﺇﻟﻲّ ﻳﺎ ﺣﻤﻴﺪ، ﻭﻛﺄﻥَّ الإمامَ ﺃﺭاﺩ ﻧﻬﺎﻳﺔَ اﻟﻤﻌﺮﻛﺔ ﺇﻣَّﺎ ﺑﻘﺘﻞِ ﺃﻛﺒﺮِ ﻗُﻮَّاﺩ اﻟﺠﻴﺶ اﻟﻤُﻌﺎﺩﻱ، ﺃﻭ ﻣﻘﺘﻠﻪ ﻫﻮ، ولكنَّ حميدَ رفضَ، وﻗﺎﻝ: ﻻ ﺃﺑﺮﺯ ﺇﻟﻴﻚ ﻭﺑﻴﻨﻲ ﻭﺑﻴﻨﻚ ﻣﻤَّﻦ ﺗﺮﻯ ﺃﺣﺪٌ، ﻓﻤﺘﻰ ﺃﻧﺠﺤﺘﻬﻢ ﺭﺃﻳﺖُ ﺭﺃﻳﻲ. فلمَّا اقتتلوا ساعةً، ﻭﻗﻌﺖ ﺟﺮاﺣﺎﺕٌ ﻛﺜﻴﺮﺓٌ ﻓﻲ ﺻُﻔُﻮﻑِ ﺃﻫﻞ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﻭﻳَﻈﻬﺮُ ﺃﻥَّ ﻓﺮﻗﺔَ اﻟﺮَّﻣﻲ ﺑﺎﻟﻨَّﺸﺎﺏِ ﻓﻲ اﻟﺠﻴﺶ اﻟﻌﺒَّﺎﺳﻲِّ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻮﻡُ ﺑﺪﻭﺭﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺃكملِ ﻭﺟﻪ، وكان ﻋﺪﺩُ ﺟﻴﺶ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ اﻟﺬِّﻱ ﻳﺪاﻓﻊُ ﻋﻨﻬﺎ قليلاً ﺑﺎﻟﻨِّﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ اﻟﺠﻴﺶ اﻟﻌﺒَّﺎﺳﻲِّ، ﻭﻟﻜﻨَّﻬﻢ بالرَّغمِ من كلِّ هذا ﻋﻮَّﺿﻮا ﻋﻦ ﻫﺬﻩ اﻟﻘِﻠَّﺔ ﺑﺎﻟﺒُﻄُﻮﻟﺔِ اﻟﻔَﺮﺩﻳَّﺔِ، اﻟﺘِّﻲ ﺗﻘﻒُ ﺃﻣﺎﻡَ اﻟﻌﺸﺮاﺕ ﻭﺗﺘﻐﻠَّﺐُ ﻋﻠﻴﻬﻢ، فقاتلوا قتالَ الأبطال، وتماسكوا تماسُكَ الجبال، ولكن لم يستمِرَّ هذا التَّماسُكُ طويلاً، فقد انهزمَ أصحابُ الإمامِ وتفرَّقوا عنه، ﺑﺤِﻴﻠﺔ اﻟﻤَﺮﺃﺓ اﻟﻬﺎﺷﻤﻴَّﺔ اﻟﻌﺒَّﺎﺳﻴِّﺔ اﻟﺘِّﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻲ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ؛ ﻷﻧَّﻬﺎ ﻟﻤَّﺎ ﻗﺎﻣﺖ اﻟﺤﺮﺏُ ﺑﻴﻦَ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ (ع) ﻭﺑﻴﻦَ ﺃﻋﺪاﺋﻪ ﻭﻛﺎﻧﺖ اﻟﻴَﺪُ ﻟﻪ ﺃَﻣَﺮَﺕ ﺧﺎﺩﻣﺎً ﺑﻘﻨﺎﻉ ﺃﺳﻮﺩ ﺭَﻓَﻌَﻪ ﻓﻲ ﻣﻨﺎﺭﺓ ﻣﺴﺠﺪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻَﻠَّﻰ اﻟﻠﻪ ﻋَﻠَﻴْﻪِ ﻭﺁﻟﻪ ﻭَﺳَﻠَّﻢ ﻭﺃَﻣَﺮَﺕ ﺧﺪاﻣﺎً ﻟﻬﺎ ﺁﺧﺮﻳﻦ ﺻﺎﺣﻮا ﻓﻲ اﻟﻌﺴﻜﺮ: اﻟﻬﺰﻳﻤﺔ اﻟﻬﺰﻳﻤﺔ، ﺇﻥَّ اﻟﻤﺴﻮﺩﺓ ﻗﺪ ﺟﺎءﻭا ﻣﻦ ﺧﻠﻔﻜﻢ ﻭﺩﺧﻠﻮا اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ؛ ﻓﺎﻟﺘﻔﺖَ اﻟﻨَّﺎﺱُ ﻓﺄﺑﺼﺮﻭا اﻟﺮَّاﻳﺔَ اﻟﺴَّﻮﺩاءَ ﻋﻠﻰ اﻟﻤَﻨﺎﺭﺓ ﻓﻠﻢ ﻳَﺸُﻜُّﻮا ﻓﻲ ﺫﻟﻚ، ﻓﺎﻧﻬﺰﻡ اﻟﻨَّﺎﺱُ، ﻓﺼﺎﺡَ ﻋَﻠَﻴْﻪ اﻟﺴَّﻼﻡ ﻓﻲ ﺃﺩﺑﺎﺭﻫﻢ ﺇﻟﻰ ﺃﻳﻦ ﻳﺎ ﻗﻮﻡ؟!، ﺇﻟﻰ ﺃﻳﻦ ﻳﺎ ﻧﺎﺱ؟!: اﻟﻨَّﺎﺭُ ﺃﻣﺎﻣَﻜﻢ، ﻭاﻟﺠﻨَّﺔُ ﺧﻠﻔَﻜﻢ، ﻓﻠﻢ ﻳﻠﺘﻔﺘﻮا ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: اﻟﻠَّﻬُﻢَّ ﺇﻧَّﻬﻢ ﻋﺠﺰﻭا ﻋﻦ اﺣﺘﻤﺎﻝِ ﺃﻣﺮﻙ ﻭاﻟﺠﻬﺎﺩِ ﻣﻊ ﻭﻟﺪ ﻧﺒﻴِّﻚ ﻓﺎﺟﻌﻠﻬﻢ ﻓﻲ ﺣِﻞٍّ ﻣﻦ ﺑﻴﻌﺘﻲ. ﺛﻢ ﻋَﻄَﻒَ الإمامُ ﻋﻠﻰ اﻟﻨَّﺎﺱِ ﻓﻲ ﻗِﻠَّﺔ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﺃﻫﻞ اﻟﺒﺼﺎﺋﺮ ﺧﺎﺻﺔً ﻭﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻪ ﻋَﻠَﻴْﻬﻢ اﻟﺴَّﻼﻡ، وبقي الإمامُ يُقاتلُ فكان ﺇﺫا ﺣَﻤَﻞَ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺳُﻤِﻌَﺖْ ﻓﻴﻬﻢ قصفةٌ ﻛﺄﺟﻴﺞ اﻟﻨَّﺎﺭ ﻓﻲ ﺃَﺟَﻤَﺔ اﻟﻘﺼﺐ، فقَتَلَ ﺑﻴﺪﻩ ﻳﻮﻣَﻬﺎ ﺳﺒﻌﻴﻦ ﺭﺟﻼً. مـواقـفُ أصحَــابـِه : ﺷَﻌَﺮَ ﻋﺒﺪُاﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺟﻌﻔﺮ ﺑﻦ اﻟﻤﺴﻮﺭ ﺃﻥَّ اﻷﻣﻮﺭَ ﻻ ﺗﺴﻴﺮُ ﻛﻤﺎ ﻳﺠﺐُ ﻓﺎﻗﺘﺮﺡَ ﻋﻠﻰ ﻣﺤﻤﺪ ﺃﻥ ﻳﺬﻫﺐَ ﺇﻟﻰ ﻣﻜَّﺔَ ﻟﻌﻠَّﻪ ﻳَﺠِﺪُ ﻣَﺨﺮﺟﺎً ﻭﻓُﺴﺤﺔً ﻟﻴُﻌﻴﺪَ ﺗﻨﻈﻴﻢَ ﺃﻣﻮﺭﻩ ﻭﻻ ﻳُﻤَﻜِّﻦ اﻟﻌﺒَّﺎﺳﻴِّﻴِّﻦ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻪ. ولكنَّ الإمامَ رَفَضَ ﻫﺬا اﻻﻗﺘﺮاﺡ ﻭﺗَﺬﻛَّﺮ ﻣﺎ ﻓﻌﻞَ ﻳﺰﻳﺪُ ﺑﺄﻫﻞ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻭﺧﺸﻲَ ﺃﻥ ﺗﻜﺮَّﺭَ ﻧﻔﺲُ اﻟﺤَﺎﺩﺛﺔ، ﻓﻜﻴﻒ ﻳﺘﺮﻛﻬﺎ ﻧﻬﺒﺎً ﻟﻠﺠﻴﺶ اﻟﻌﺒَّﺎﺳﻲِّ، ﻭﻛﻴﻒ ﻳﺘﺮﻙُ ﺃﻫﻠَﻬﺎ ﻓﻲ ﻭﻗﺖ اﻟﻀِّﻴﻖ .
وهذا ﻋﺒﺪُاﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺟﻌﻔﺮ نفسٌ من تِلك النَّفوسِ التِّي تستشعر قيمةَ أهل البيت (ع)، وتحرصُ على سلامتهم، فبعدَ أن اﻧﺼﺮﻑ الإمامُ- ﻗﺒﻞَ اﻟﻈُّﻬﺮ - إلى ﺩاﺭِ ﻣﺮﻭاﻥ ﻓﺎﻏﺘﺴﻞ ﻭﺗﺤﻨَّﻂ، ﺛﻢَّ ﺧَﺮَﺝَ، دنا منه عبدُالله فقال له: ﺑﺄﺑﻲ ﺃﻧﺖ ﺇﻧَّﻪ ﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻤﺎ ﺭﺃﻳﺖ ﻃﺎﻗﺔٌ ﻭﻣﺎ ﻣﻌﻚ ﺃﺣﺪٌ ﻳَﺼﺪُﻕُ اﻟﻘِﺘﺎﻝَ، ﻓﺎﺧﺮﺝ اﻟﺴَّﺎﻋﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﻠﺤﻖ ﺑﺎﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﻤﻜﺔ ﻓﺈﻥَّ ﻣﻌﻪ ﺟُﻠَّﺔُ ﺃﺻﺤﺎﺑﻚ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﺟﻌﻔﺮ ﻭاﻟﻠﻪ ﻟﻮ ﺧَﺮَﺟﺖُ ﻟﻘُﺘِﻞَ ﺃﻫﻞُ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ. ولا ننسى اﺑﻦَ ﺧُﻀﻴﺮ ﻭاﺳﻤُﻪ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺑﻦ ﻣﺼﻌﺐ ﺑﻦ اﻟﺰﺑﻴﺮ، الذِّي مَثَّلَ أرقى النَّفسيَّات التِّي تأبا إلا أن تُحافظَ على أئمَّة الهُدى أعظمَ تمثيل، فها هو ﻳُﻨﺎﺷﺪُ النَّفسَ الزكيَّة ﺃﻥ ﻳﺘﺮﻙ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻭﻳﺬﻫﺐَ ﺇﻟﻰ اﻟﺒﺼﺮﺓ، حيثُ ﻫﻨﺎﻙ ﺃﺧﻮﻩ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ، فيستطيع ﺟﻤﻊَ اﻟﻨَّﺎﺱ ﺣﻮﻟَﻪ ﻣﺮَّﺓً ﺛﺎﻧﻴﺔ، ﻭﻟﻜﻦَّ النَّفس الزكيَّة ﻳﺮﻓﺾُ ﻫﺬا اﻻﻗﺘﺮاﺡَ ﺭﻓﻀﺎً ﻗﺎﻃﻌﺎً ﻛﻤﺎ ﺭﻓﺾ اﻻﻗﺘﺮاﺡ اﻷﻭَّﻝَ ﻟﺬﻫﺎﺑﻪ ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺔ، ﻭكأنَّه ﻛﺎﻥ ﻳﻌﺮﻑُ ﻣﺼﻴﺮَﻩ، ﻭﻟﻜﻨَّﻪ ﻳُﺮﻳﺪُ ﺃﻥ ﺗﻜﺘﻤﻞَ اﻟﻤﺄﺳﺎﺓُ ﻛﻤﺎ اﻛﺘﻤﻠﺖ ﻓﻲ ﻛﺮﺑﻼء، ﻭﻳﻘﻮﻝُ ﻻﺑﻦ ﺧﻀﻴﺮ: (ﻻ ﺗﺒﺘﻠﻮﻥ ﺑﻲ ﻣﺮﺗﻴﻦ). ولم يكتفِ الإمامُ بالمُجاهدة معهم، والتَّضحية بنفسه، بل ﻳﻠﺘﻔﺖُ ﺇﻟﻰ اﺑﻦ ﺧﻀﻴﺮ، ﻭﻳﻄﻠﺐُ ﻣﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﺬﻫﺐَ ﺣﻴﺚُ ﺷﺎء، ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺣِﻞٍّ ﻣﻦ ﻣﺴﺎﻋﺪﺗﻪ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ اﻟﺸِّﺪَّﺓ، ﻭﻟﻜﻦَّ اﻟﻨُّﻔﻮﺱَ اﻟﺸَّﺮﻳﻔﺔَ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊُ ﺃﻥ ﺗﺘﺨﻠَّﻰ ﻋﻦ ﺃﺻﺪﻗﺎﺋﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﻠَّﺤﻈﺎﺕ اﻟﺤَﺮِﺟَﺔ، ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﻳُﻜﻠُّﻔﻬﺎ اﻟﻤَﻮﺕ، ﻓﻴﻘﻮﻝُ ﻟﻪ اﺑﻦُ ﺧﻀﻴﺮ: ﻭﺃﻳﻦ اﻟﻤﺬﻫﺐُ ﻋﻨﻚ. ﻭﻫﺬا ﻣﺎ ﺣﺼﻞ ﻣﻊ الإمامِ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ عليه السَّلام ﺣﻴﻦَ ﻃﻠﺐَ ﻣﻦ اﻟﺬِّﻳﻦ ﺣﻮﻟَﻪ ﺃﻥ ﻳﺘﺮﻛﻮﻩ ﻭﺣﺪَﻩ ﻳﻮاﺟﻪ ﺟﻴﺶَ اﻟﻌِﺮاﻗﻲِّ، ﻭﻟﻜﻨَّﻬﻢ ﺭﻓﻀﻮا. اﺳﺘﺄﺫﻥ اﺑﻦُ ﺧﻀﻴﺮ بعدَ ذلكَ ﻭﺩﺧﻞ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﻭاﺗَّﺠَﻪ ﻣُﺒﺎﺷﺮﺓً ﺇﻟﻰ اﻟﺴِّﺠﻦ ﻓﺄﺧﺮﺝَ ﺃﻣﻴﺮَ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ اﻟﺴَّﺎﺑﻖِ ﺭﻳﺎﺡَ ﺑﻦ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﻭﺃﺧﺎﻩ ﻋﺒَّﺎﺱ ﻭﺫﺑﺤﻬﻤﺎ، ﻭﺃﺣﺮﻕ اﻟﺪِّﻳﻮاﻥَ اﻟﺬِّﻱ ﻓﻴﻪ ﺫِﻛﺮُ ﺃﺳﻤﺎءِ ﺃﺻﺤﺎﺏ الإمامِ محمد بن عبدالله، ﺛُﻢَّ ﺭَﺟَﻊَ ﻭﻗﺎﺗﻞَ ﻣﻊ النَّفس الزكيَّة ﺣﺘَّﻰ قُتِلَ، ﻭﻛﺎﻥ اﻟﺨﺮاﺳﺎﻧﻴﻮﻥ ﺇﺫا ﺭﺃﻭﻩ اﺑﺘﻌﺪﻭا ﻋﻨﻪ ﻭﺗﻔﺮَّﻗﻮا. ﻭﻣِﻦ اﻟﺬِّﻳﻦ ﺻَﻤَﺪﻭا ﻭﺻَﺒَﺮﻭا ﻣﻊ النَّفسِ الزكيَّة ﻗﻮﻡٌ ﻣﻦ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺟﻬﻴﻨﺔ ﻳُﻘﺎﻝُ ﻟﻬﻢ: ﺑﻨﻮ ﺷﺠﺎﻉ، ﻛﺴﺮﻭا ﺃﻏﻤﺎﺩَ ﺃﺳﻴﺎﻓﻬﻢ، ﻭﻗﺎﺗﻠﻮا ﺣﺘَّﻰ ﻗُﺘِﻞَ ﺃﻛﺜﺮُﻫﻢ. استشهــادُ الإمـامِ محمـدِ بـنِ عبـد اللـه : لم يزﻝ الإمامُ محمدُ بن عبدالله ﻳُﻘﺎﺗِﻞُ ﺇﻟﻰ ﺁﺧﺮِ اﻟﻨَّﻬﺎﺭ، فلمَّا ﻗُﺘِﻞَ ﺃﺻﺤﺎﺑُﻪ، وأُحِيط ﺑﻪ ﻣﻦ ﻛﻞِّ ﺟﺎﻧﺐٍ، مالَ ﺇﻟﻰ ﺷﻖِّ ﺣﺎﺋﻂٍ، ﻓﻄﻌﻨﻪ ﺣﻤﻴﺪُ ﺑﻦ ﻗﺤﻄﺒﺔ ﻓﻲ ﺻﺪﺭﻩ ﻭﺿﺮﺑَﻪ ﺁﺧﺮُ ﻋﻠﻰ ﺃﺻﻞِ ﺃﺫﻧﻪ، ﻓﻠﻤَّﺎ ﺃﺣﺲَّ اﻟﻤَﻮﺕَ ﺭﻛﺰَ ﺳﻴﻔَﻪ ﻓﻲ ﻋﺮﺽِ اﻟﺤﺎﺋﻂِ، ﻓﺎﻋﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻜﺴﺮﻩ ﻓﺤﺰّﻭا ﺭﺃﺳَﻪ، فاستشهدَ عليه الصلاةُ والسَّلامُ ﻓﻲ اﻟﻤَﻮﺿﻊ اﻟﺬِّﻱ ﺃﺧﺒﺮَ ﺟﺪُّﻩ اﻟﺮَّﺳﻮﻝُ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺃﻧَّﻪ ﻳُﻘﺘﻞُ ﻓﻴﻪ، ﻓﻲ اﻟﺤَﺮَﻡِ اﻟﺸَّﺮﻳﻒِ ﻣﻦ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ اﻟﻤُﻄَﻬَّﺮﺓ، وكان ذلك ﻳﻮﻡَ اﻻﺛﻨﻴﻦ لأربعَ ﻋَﺸﺮَﺓَ ﻟﻴﻠﺔٍ ﺧﻠﺖ ﻣﻦ ﺷﻬﺮ ﺭﻣﻀﺎﻥ، ﺳﻨﺔ ﺧﻤﺲٍ ﻭﺃﺭﺑﻌﻴﻦ ﻭﻣﺎﺋﺔ، ﻭﻟﻪ ﻣﻦ اﻟﻌُﻤﺮ: اﺛﻨﺘﺎﻥ ﻭﺧﻤﺴﻮﻥ ﺳﻨﺔ، ﻭاﺳﺘﻮﻫﺒﺖ ﺃﺧﺘُﻪ ﺯﻳﻨﺐ ﺟﺴَﺪﻩ ﻓﺪُﻓِﻦَ ﺇﻟﻰ ﺟﻨﺐِ اﻟﺤﺴﻦِ اﻟﺴِّﺒﻂِ ﺻﻠﻮاﺕُ اﻟﻠﻪ وسلامُه عليهم أجمعين.
وصــولُ خبـرِ استشهاده إلى أخيـه اﻹﻣـﺎﻡ ﺇبراﻫﻴﻢ ﺑـﻦ ﻋﺒـﺪاللـه (ع ) :
ﻟﻤَّﺎ استشهدَ الإمامُ محمد بن عبدالله (ع) ﺑَﻠَﻎَ اﻟﻌﻠﻢُ ﺇﻟﻰ ﺃﺧﻴﻪ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻠﻪ (ع) ﻭهو ﺩاﻋﻴﺔُ ﺃﺧﻴﻪ ﻓﻲ اﻟﺒﺼﺮﺓ، ﻭﻗﺪ اﺳﺘﻮﻟﻰ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻋﻠﻰ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻤَّﺎ ﻭاﻻﻫﺎ، ﻳﻮﻡَ اﻟﻌﻴﺪ ﻏﺮَّﺓ ﺷﻮاﻝ ﺳﻨﺔ ﺧﻤﺲ ﻭﺃﺭﺑﻌﻴﻦ ﻭﻣﺎﺋﺔ، ﻓﺼﻠَّﻰ ﺑﺎﻟﻨَّﺎﺱ ﺻﻼﺓ اﻟﻌﻴﺪ ﺛﻢ ﺭﻗﺎ اﻟﻤﻨﺒﺮ ﻭﺧﻄﺐ ﻭﺫﻛﺮ ﻗﺘﻠﻪ ﻭﻧﻌﺎﻩ ﺇﻟﻰ اﻟﻨَّﺎﺱ ﻭﺑﻜﻰ ﻭﺑﻜﻰ اﻟﻨَّﺎﺱ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: اﻟﻠﻬَّﻢ ﺇﻥَّ ﻛﻨﺖَ ﺗﻌﻠﻢ ﺃﻥَّ ﻣﺤﻤﺪاً ﺇﻧَّﻤﺎ ﺧﺮﺝ ﻏﻀﺒﺎً ﻟﺪﻳﻨﻚ ﻭﻧﻔﻴﺎً ﻟﻬﺬﻩ اﻟﻨّﻜﺘﺔ اﻟﺴﻮﺩاء ﻭﺇﻳﺜﺎﺭاً ﻟﺤﻘِّﻚ؛ ﻓﺎﺭﺣﻤﻪ ﻭاﻏﻔﺮ ﻟﻪ، ﻭاﺟﻌﻞ اﻵﺧﺮﺓ ﻟﻪ ﺧﻴﺮاً ﻣﺮَّﺩاً ﻭﻣﻨﻘﻠﺒﺎً ﻣﻦ اﻟﺪُّﻧﻴﺎ، ﻭﺗَﻤَﺜَّﻞَ بقول الشَّاعر: ﺃﺑﺎ اﻟﻤُﻨﺎﺯِﻝ ﻳﺎ ﻋﺒﺮ اﻟﻔﻮاﺭﺱ ﻣﻦ ﻳﻔﺠﻊ ﺑﻤﺜﻠﻚ ﻓﻲ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻓﻘﺪ ﻓُﺠﻌﺎ اﻟﻠﻪ ﻳﻌﻠﻢ ﺃﻧﻲ ﻟﻮ ﺧﺸﻴﺘﻬﻤﻮ ﺃﻭ ﺃﻭﺟﺲ اﻟﻘﻠﺐ ﻣﻦ ﺧﻮﻑٍ ﻟﻬﻢ ﻓﺰﻋﺎ ﻟﻢ ﻳﻘﺘﻠﻮﻩ ﻭﻟﻢ ﺃُﺳْﻠِﻢ ﺃﺧﻲ ﻟﻬﻤﻮ ﺣﺘـﻰ ﻧﻤـﻮﺕَ ﺟﻤﻴﻌـﺎً ﺃﻭ ﻧﻌﻴـﺶ ﻣﻌـﺎ ﺛﻢ ﺟَﺮَﺽَ ﺑﺮﻳﻘﻪ ﻟﻌِﻈَﻢِ ﻣﺎ ﻭﺭﺩ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﺗﺮﺩَّﺩَ اﻟﻜﻼﻡُ ﻓﻲ ﻓﻴﻪ، ﻓﻠﻤَّﺎ ﻧﺰﻝ ﺑﺎﻳﻌﻪ ﺑﺎﻹﻣﺎﻣﺔ ﻋﻠﻤﺎءُ اﻟﺒﺼﺮﺓ ﻭﻓﻘﻬﺎﺅﻫﺎ ﻭﺯﻫّﺎﺩﻫﺎ، ﻭﺑﺎﻳﻌﻪ اﻟﻤﻌﺘﺰﻟﺔُ ﻣﻊ اﻟﺰَّﻳﺪﻳَّﺔ، ﻭﻟﻢ ﻳﺘﺄﺧّﺮ ﻋﻨﻪ عليه السَّلام ﻣﻦ ﻓﻀﻼء اﻟﺒﺼﺮﺓ ﺃﺣﺪ. فصلواتُ الله وسلامُه على الإمامِ النَّفسِ الزكيَّةِ يومَ وُلِدَ ويومَ استشهدَ ويومَ يُبعثُ حيَّا .