النسب المبارك
❁هو الإمام أبو الحسين يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام؛ يُلقّب بـ(صاحِب الدَّيلم)؛ نظراً لاستقراره حقبةً من الزَّمن في بلاد الدَّيلم.
الده: شيخ العترة الإمام الكامل عبدالله بن الحسن المثنى وقد لُقِبَ بالمحض؛ لأنّه أوَّلُ فاطمي وُلِدَ من أبوين فاطميَين، فوالده الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ووالدتهُ فاطمة بنت الحسين بن علي عليهم السلام. ويُلقّب أيضاً بالكامل.
أمََّه: قُرَيْبَة بنت عبدالله (يُعرَف بربُيح) بن أبي عبيدة بن عبدالله بن زمعة بن الأسود بن المُطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي.
أولاده
محمد، (وله العقب، أمُّه: خديجة بنت إبراهيم بن محمد بن طلحة)، وعيسى (وله إناث)، وإبراهيم دَرَجَ، وعبد الله دَرَجَ، وصالح دَرَجَ، وقُرَيْبَة.
صفته
❁كان الإمام يحيى بن عبدالله عليه السلام آدم اللون حَسَن الوجه، خفيف اللحية، أقرب إلى القِصَر، تُعرف سلالة الأنبياء في وجهه، وكان فارساً شجاعاً، له مقامات مشهورة في مبارزة الأعداء وقتل صناديد الظالمين، تجلى ذلك في معركة فخ مع الإمام الحسين بن علي الفخي عليهما السلام، وكان عليه السلام في زمانه مقدَّمَ جماعة أهل بيته في العلم والفضل.
ولمكانته السامية والرفيعة في أسرة أهل البيت جعله الإمام جعفر الصادق من أوصيائه على أمواله وأولاده القاصرين؛ وهذه المكانة الرفيعة لم تختلف عند علماء المسلمين؛ فقد كان كبار علماء المسلمين في زمانه - كالإمام الشافعي، وشيخه إبراهيم بن أبي يحيى- من دعاته وأنصاره؛ ولقد نال الإمام يحيى بن عبدالله شهرة كبيرة من خلال تنقلاته بين اليمن، والحبشة، وبلاد الترك، والديلم، ومصر، وغيرها من البلدان، التي قابله أهلها بالإجلال والتعظيم.
نشأته
❁نَشأ الإمام يحيى بن عبدالله (ع) في بلادِ بني الحسن في قرية "سويقَة" من قُرى المدينة المنورة، وبها عاصرَ مَشيخَة بني الحسن عليهم السلام، متنقلاً في أحضان الفضل والعلم والتقى، مكتسباً منهم جليل الصفات، وعظيم الأخلاق.
ولقد عاين مُنْذُ نعومة أظفاره الأحداث التي حلَّت بأهل البيت عليهم السلام، فعاصر صلب وتحريق الإمام زيد، كما عاصر مصيبة الإمام يحيى بن زيد، وما نال بعدها أباه وبني عمومته من السجن والقتل والتعذيب في سجن بني العباس، الذي اشتهر بمحبس الهاشمية؛ وقد عبر عليه السلام عن هذه الأحداث في رسالته لهارون الملقب بالرشيد: ((وكَيفَ لا أطلُبُ بِدِمَائهِم وأنَامُ عَن ثَأرِهِم؟ والمَقتُولُ بالجوعِ والعَطَش والنّكَال، فِي ضِيق المحَابس، وثِقَل الأغلال، وعدو العَذاب، وتَرادُف الأسواط، أبِي عَبدالله بن الحسن النفس الزكيَّة والهمَّة السنيَّة، والدَّيانَة المرضيَّة، والخشيَة والبَقيَّة، شَيخُ الفَواطِم وسَيَّد أبَناء الرّسُل طُرَّاً، وأرفَعُ أهل عَصرهِ قَدراً، وأكرَمُ أهل بِلاد الله فِعلاً؛ ثمّ يَتلوهُ إخوَتُه وبَنوا أبيه، ثم إخوَتي وبَنوا عُمومَتي، نجومُ السّماء، وأوتَاد الدّنيا، وزينَة الأرض، وأمَان الخَلق، ومَعدِنُ الحِكمَة، ويَنبوعُ العِلم، وكَهفُ المظلوم، ومَأوى الملهُوف، مَا مِنهُم أحَدٌ إلا مَن لَو أقسَمَ عَلى الله لبرّ قَسَمه... إلى قوله: ... فَما أنْسَ مِن شَيء فَلا أنسَى مَصَارِعَهُم، ومَا حَلَّ بِهِم مِن سُوء مَقدِرَتِكُم، ولُؤم ظَفَرِكُم، وعَظيم إقدَامِكُم، وقَسوَةَ قُلوبِكُم، إذْ جَاوزتُم قتْلَة مَن كَفَر بالله إفرَاطاً، وعَذابَ مَن عَانَدَ الله إسرَافاً، ومُثلةَ مَن جَحَد الله عُتواً)).
وقد شهد بعد تلك المآسي استشهاد أخويه محمد وإبراهيم عليهم السلام؛ فكانت كل هذه الأحداث كفيلةً بأن تبني شخصية الإمام يحيى عليه السلام، وأن تغرس في نفسه حبَّ البذل والعطاء والتضحية في سبيل الله والفداء.
علمه
❁كان الإمام يحيى بن عبدالله عليهما السلام على طريقة آبائه الأطهار السادة الأبرار جامعاً بين العلم والعمل، والإمام يحيى هو كبير أهل زمانه في العلم والفضل، ومن عيون العترة عليهم السلام.
وعلى الرغم مما ناله في سبيل الله إلا أنه روى حديثاً كثيراً عن أبيه الكامل، وأخيه الإمام النفس الزكية، والإمام جعفر الصادق، وعن أبان بن تغلب، وغيرهم؛ وأخذ عنه العلم كثير من علماء المسلمين كالإمام الشافعي، ومُخَوَّل بن إبراهيم، وبكار بن زياد، ويحيى بن مُسَاور، وعمرو بن حماد.
عبادته
❁سار الإمام يحيى بن عبدالله عليه السلام في الذكر والعبادة بسيرة آبائه، فكان واحداً من عباد الله المنقطعين إليه؛ وقد روي أنه كان إذا فرغ من صلاة العشاء الآخرة سجد سجدة إلى قرب السَّحر، ثم يقوم فيصلي، ولما كان في سجن الخليفة العباسي هارون، وكان هارون يشرف عليه من قصره، فقال ليلة ليحيى بن خالد البرمكي، وهو عنده: انظر؛ هل ترى في ذلك الصحن شيئاً؟ وأشار إلى الموضع الذي كان يسجد فيه فقام ونظر. فقال: أرى بياضاً، ثم قال له قرب طلوع الفجر: انظر هل ترى ذلك البياض؟ فنظر فقال: لست أراه. فقال: ذلك يحيى بن عبد الله إذا فرغ من صلاة العَتَمَة يسجد سجدة يبقى فيها إلى آخر الليل. قال يحيى البرمكي: فقلت في نفسي: انظر ويلك ألا تكون المبتلى به.
الإمام يحيى في معركة فخ
❁في سنة 169هـ ثار الإمام الحسين بن علي الفخِّي ضدَّ الخلافة العباسية، فتسابق إلى نصرته أهل البيت عليهم السلام والمؤمنين المخلصين من غيرهم، وكان الإمام يحيى بن عبدالله أحد أركان تلك الثورة وأعظم رجالاتها، وهو رسول الإمام الفخي إلى ابن عمه الإمام موسى الكاظم، وله مواقف بطولية سجلها التأريخ منذ اليوم الأول للثورة.
ويظهر أنه كان يقوم بدور التوجيه المعنوي لجيش الإمام، وقد نقل لنا التاريخ عدداً من خطبه في تلك الثورة، منها خطبته البليغة التي خطبها في أنصار الإمام قبل أن تقرع طبول المعركة, قال فيها: "أبْشِروا مَعشَر مَن حَضرَ مِنَ المُسلمِين ، فإنَّكم أنصَارُ الله وأنصَارُ كِتَابِه، وأنْصَارُ رَسولِه وأعوانُ الحق، وخِيارُ أهلِ الأرض، وعَلى مِلّة الإسلامِ ومِنهَاجِه الذي اختَارَه لأنبيَائهِ المُرسَلين، وأوليائه الصّابرين، أوَ مَا سَمِعتُم الله يَقول:{إنَّ اللَّه اشْترَى مِن المؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُم بأنَّ لهُم الجنّةَ يُقاتلونَ في سبيلِ الله فَيقتُلونَ ويُقتَلون وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومَن أوفَى بعهدِه من الله فاستبشروا بِبَيعِكم الذي بَايَعتُم به وذلكَ هُو الفوزُ العظيم، التّائبون العابدونَ الحامدونَ الرّاكعونَ السّاجدونَ الآمرونَ بالمعروف والنّاهونَ عن المُنكَر والحافِظونَ لحدودِ الله وَبشِرِ المُؤمِنِين}.
ثم قال: والله مَا أعرِفُ عَلى ظَهرِ الأرضِ أحَداً سِواكُم، إلا مَن كَانَ على مِثلِ رأيِكُم حَالَت بَينَكُم وَبينَه المعَاذِير، إمَّا فَقيراً لا يَقدرُ على مَا يَحتَمِلُ بهِ إلينَا فَهُو يَدعُو الله في آناءِ لَيلِه ونَهَارِه، أو غَنيَّاً بَعُدَتْ دارُه مِنَّا فَلم تُدركهُ دَعوتُنا، أو مَحبوسٌ عِند الفَسَقَة وقَلبُه عِندنَا، ممَّن أرجُو أن يَكونَ ممَّن وفَّى لله بما اشترى مِنه، فَمَا تَنتظرونَ عِبادَ الله بِجهادِ مَن قَد أقبلَ إلى ذُرِّيَة نبيكم لِيَسبُوا ذَرَارِيهم ويجتاحوا بقيتهم؟
ثم قال: اللهم احْكُم بينَنَا وبينَ قَومِنا بالحق وأنتَ خيرُ الحاكمِين"
ثم قاتل قتال الأبطال حتى جرح عليه السلام جراحات كثيرة، ولقد شبهه البعض لكثرة ما أصابه من الرماح والسهام بالقنفذ، كانت معركة فخّ يوم التروية من شهر ذي القعدة سنة 169هـ.
هجرة الإمام إلى الحبشة
❁بعد معركة فخٍّ أخذ رجلٌ من خزاعة الإمامَ يحيى بن عبدالله، ومعه أخوه إدريس وابن عمه إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا، وطبَّبّ جراحاتهم حتى تشافت، ولأن الدولة العباسية كانت جادة في البحث عنهم قرروا الهجرة إلى الحبشة، فأكرمهم ملكها وأحسن في استقبالهم وتعظيمهم, وفي أثناء إقامتهم في الحبشة كان يتنامى إلى أسماعهم ما يناله أهل البيت من ويلات العذاب، فكتب الإمام يحيى عليه السلام إلى علماء المسلمين وعامتهم يحثهم على النصرة للحق والإجابة لداعي أهل البيت، فأجابوه وواعدوه موسم الحج، فلمَّا عاد الإمام يحيى وأخوه إدريس من الحبشة كتب إلى الناس وواعدهم موسم الحج في مِنَى، فلما وافى الموسم إلتقى في شِعب الحضارمة بمنى بسبعين عالماً ممَّن واعدوه.
لقاء الإمام بأنصاره
❁عندما اجتمع الإمام يحيى في موسم الحج بمن وافاه، تشاوروا في أمر الجهاد والثورة، فأجمع الحاضرون على أن جهاد بني العباس من أعظم أعمال البر؛ وأنه لا شيء يعدله عند الله تعالى، وكان الرأي أن يكاتب الإمام إلى المسلمين في مختلف الأمصار في نصرته، فأرسل ثلاثة من أنصاره إلى العراق، وأرسل أخاه إدريس مع رجلين إلى المغرب، كما وجَّه ثلاثة آخرين إلى مصر، لكن جواسيس الخليفة العباسي هارون الملقب بالرشيد كانت تتعقب تلك التحركات؛ فتتبعت رسل الإمام وأتباعه، وعرضتهم للعذاب والتنكيل، مما اضْطرَّ الإمام إلى التخفي من جديد، فقصد بغداد فعلمت الخلافة العباسية بذلك، فشددت الحراسة على مداخلها واستنفرت جنودها للبحث عنه، فاحتال الإمام في خروجه من بغداد على هيئة عامل البريد، فتمكن بذلك من النجاة.
الإمام يحيى في صنعاء
❁بعد أن خرج الإمام يحيى بن عبدالله من بغداد توجَّه إلى اليمن، وقصد صنعاء، وقصد زكريا بن يحيى بن عمر بن سابور وهو رجل من الأبناء، ومكث في صنعاء ثمانية أشهر، التقى فيها بعلمائها وعقد فيها جلسات العلم، وممَّن أخذ عنه العلم في صنعاء الإمام الشافعي، ثم لمَّا اشتدَّ به الطلب خرج منها إلى شعاب مكة ومنها إلى الديلم.
الهجرة إلى بلاد الديلم
❁خاف الإمام يحيى أن يقع في أيدي السلطات العباسية التي ظلت تلاحقه وتتعقب تحركاته في مكة، فتوجه للبحث عن بلد منيع لا يصل إليه العباسيون؛ حتى تتهيأ له الأمور؛ فكاتب الإمام يحيى ملكَ طبرستان (شروين) وطلب منه أن يؤويه ثلاث سنين، فأبدا شروين استعداده على أن يؤويه الدهر كلَّه؛ لكنه اعتذر أن بلاده غير منيعة إن طلبته الجنود العباسيون، واقترح عليه الذهاب إلى بلاد الديلم، وواعده الذهاب معه إلى ملك الديلم، فتوجه الإمام إلى الديلم ومعه ملك طبرستان، فاستقبلهم ملكها جستان بكل حفاوة وترحاب، وفي الديلم أسلم كثير من أهلها على يدي الإمام يحيى وتعلموا شرائع الإسلام منه.
وبلغ المسلمين في النواحي والبلدان دخولُ الإمام يحيى إلى بلاد الديلم، وانتشر خبره، وكان خروجه إلى الديلم دينمو لتحريك الثورة، حتى أنه قيل: "أنه كثر الدعاة إليه، وسارعوا إليه، وقصده كل من له رغبة في الدين".
محاولة استمالة هارون لملك الديلم
❁لما تناهت الأنباء إلى مسامع هارون العباسي عن ظهور الإمام يحيى بن عبدالله في بلاد الديلم، جُنَّ جنونه، وأقلع عن شرب الخمر، وتظاهر بالعبادة، وترك الأغاني والمجون، وبدأ يخطط ويدبر لطريقة يتخلص بها من الإمام يحيى عليه السلام، فكلَّف قائد جيشه و وزيره الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي بأن يتدبر أمر الإمام، وجهز له جيشاً قوامه سبعون ألف مقاتل من صناديد رجاله ووجوه قواده، وأمره بأن يغدق على جستان الهدايا، وأن يجزل له العطاء؛ بغرض استمالته إلى تسليم الإمام، لكن جستان رفض كلَّ الإغراءات، وقاله له: لو أعطيتني جميع ما تملكه ملوك الدنيا لم أسلمه إليكم فاعمل ما بدا لك أن تعمله، وأمام امتناع جستان حاول هارون أن يستميل الإمام ويغريه بترك الديلم، فكتب أماناً تضمن عدم التعرض للإمام، وأن يعطيه أموالاً كثيرة وأراضي واسعة مقابل أن يعود إليه.
نفس أبية وعزيمة علوية
❁رفض الإمام يحيى عليه السلام أمان هارون وإغراءاته وكتب إليه كتاباً جاء فيه: "أما بعد فقد فهمتُ ما عرضت عليَّ من الأمان على أن تبذل لي أموال المسلمين، وتقطعني ضياعهم التي جعلها الله لهم دوني ودونك، ولم يجعل لنا فيها نقيراً ولا فتيلا، فاستعظمت الاستماع له فضلاً عن الركون إليه، واستوحشت منه تنزهاً عن قبوله؛ فاحبس أيها الإنسان عني مالك وإقطاعك وقضاءك حوائجي، فقد أدبتني أمي أدباً ناقصاً وولدتني عاقاً قاطعاً، فوالله لو أنَّ من قتلتم من أهلي تُرْكَاً ودَيَالِمَ على بُعدِ أنسابهم مني وانقطاع رحمهم عني لوجَبَتْ عليَّ نصرتُهم، والطلب بدمائهم؛ إذ كان منكم قتلهم ظلماً وعدواناً، والله لكم بالمرصاد لما ارتكبتم من ذلك، وعلى الميعاد لما سبق فيه من قوله ووعيده، وكفى بالله جازياً ومعاقباً وناصراً لأوليائه ومنتقماً من أعدائه.
إلى أن قال عليه السلام ـ مبيناً أسباب جهاده للخليفة العباسي ـ :" ولِمَ لا تجَاهد وأنت معتكف على معاصي الله صباحاً مساءً، مغتراً بالمهلة، آمناً من النقمة، واثقاً بالسلامة؟!"
ثم قال عليه السلام: " ووالله ما أكلي إلا الجشب، وما لباسي إلا الخشن، ولا شعاري إلا الدرع، ولا صاحبي إلا السيف، ولا فِراشي إلا الأرض، ولا شهوتي من الدنيا إلا لقاؤكم والرغبة إلى الله في مجاهدتكم، ولو موقفاً واحداً؛ انتظار إحدى الحسنين في ذلك كله من ظفر أو شهادة".
حيلة أبي البحتري
❁لمَّا وصل كتاب الإمام يحيى عليه السلام إلى هارون، زاد غمُّه وضاقت به خلافته، فجمع بطانته واستشارهم، فأشاره أبو البحتري بحيلة مفادها أن يذهب إلى جستان بصفته قاضي القضاة، ومعه من يقدر من العلماء، ويشهدوا عند جستان أن يحيى بن عبدالله عبدٌ لهارون، وينكروا نسبه من فاطمة بنت رسول الله.
فتوجه أبو البحتري ومعه سليمان بن فليح وجمعوا من علماء ووجهاء أهل دسينا، وقزوين، وزنجان، وأبهر، والري، وهمذان، ما يقارب 1300 رجل, وفعلاً ذهب هؤلاء الشهود مجرَّدين عن الدين والمروءة وشهدوا عند ملك الديلم أن يحيى بن عبدالله عبدٌ لهارون، وأنه ليس من نسل فاطمة الزهراء، فانطلت الحيلة على جستان، وعزم على تسليم الإمام لأبي البحتري.
بين الخديعة والخذلان
❁لما رأى الإمام يحيى أن جستان قد مال إلى الدنيا، وأنَّه مُسَلِمُهُ إلى هارون، وجده نفسه بين خديعة هارون وخذلان جستان حينها لم يجد بدا من أعمال الفكر في الخروج من ذلك الواقع، فطلب من جستان أن ينظره حتى يطلب الأمان له ولأصحابه، فكتب نسخة الأمان إلى هارون، والتي اشتملت على طلب الأمان له ولسبعين رجلاً من أصحابه هم دعاته وخلص أصحابه.
قال الإمام القاسم بن إبراهيم الرسِّي عليهما السلام : "لما بعث يحيى بالأمان - كتب إلى هارون أن يجمع الفقهاء والعلماء ويحلف بطلاق زبيدة (زوجة هارون) باسمها واسم أبيها، وعِتْق كل ما ملك من السراري، وتسبيل كل ما ملك من مال، والمشي إلى بيت الله الحرام، والأيمان المحرجات، وأن يُشِهد الفقهاء على ذلك كله. قال: فأسرع هارون إلى أمانه وأعطاه الشروط التي اشترط له كلها، والأيمان التي طلب والإشهاد عليها".
فخرج الإمام يحيى عليه السلام من الديلم، فلمَّا قرب من عسكر الفضل بن يحيى البرمكي استقبله وترجل له وقبَّل ركابه، وذلك بعين جستان، وبذلك أمره هارون.
فلمَّا رأى جستان ما فعل الفضل بالإمام يحيى بن عبدالله جعل ينتف لحيته ويحثو التراب على رأسه ندامةً على ما فعل، وجعل يدعو بالويل والثبور، ويتأسف على يحيى كيف خذله وأسلمه، وعلم أنهم مكروا به، وأنهم شهدوا زورا.
عودة الإمام يحيى إلى المدينة
❁عاد الإمام يحيى (ع) إلى المدينة، بعدَ أن أخذ ميثاق الله وأمانه من هارون العباسي، فصار الإمام إلى منزله، وكان هارون قد أعطاه مبلغاً من المال، فوزعه بين كل من له به نسبٌ أو خؤولة أو محبة، فكثر اختلاف الناس إليه وتعظيمهم له، فأثارت تلك المنزلة غضب هارون، وأحيت فيه مخاوفه، وزاد تلك المخاوف وشايةُ بكار بن مصعب الزُّبيري - وكان عاملاً لهارون على المدينة- وذلك أنه كتب إلى هارون أن بالحجاز خليفة يُعَظِمُه النَّاس ويختلفون إليه من جميع الآفاق، ولا يصلح خليفتان في مملكة واحدة. وذكر أن الإمام يحيى يكاتب أهل الآفاق.
فاستدعى هارون الإمام يحيى بن عبدالله (ع) من المدينة إلى بغداد؛ فضيّقَ عليه وحبسَه في أضيق الحبوس.
مساومة رخيصة
❁عرض هارون على الإمام يحيى الخروج من السجن مقابل أن يخبره بأسماء السبعين الذين أخذ لهم الأمان، فكان جواب الإمام يحيى جواب المؤمن التقي الراسخ في عقيدته ودينه، فقال له: "يا هارون إلهَ عن ذكر أولئك؛ فإنَّك لو قَطَّعتني إرباً إرباً لم يرني الله أشركك في دمائهم، ولو أعطيتني جميع ما في الأرض ما أنبأتك باسم واحد منهم، فاصنع ما بدا لك، فإنَّ الله بالمرصاد."
اليمين الزبيرية وعاقبة خاسرة
❁في يوم من الأيام أحضر هارونُ الإمام يحيى عليه السلام من السجن وأحضر معه بكار بن مصعب الزبيري, وتداعى في الوشاية التي وشى بها الزبيري على الإمام يحيى, وفي ذلك المجلس ادَّعا الإمامُ يحيى على الزبيري أنه سبق وحرض ضدَّ هارون, وذَكَر أبياتاً للزبيري تشهد بذلك, فأنكر الزبيري حصول ذلك.
فاستأذن الإمام يحيى من هارون أن يستحلفه، فأذن له, فأقبل الإمامُ على الزبيري فقال: "قل بَرَأك الله من حَولِه وقوته وَوَكلَكَ إلى حَولكَ وَقوتِك، إن كنت قلت هذا الشعر"، فحلف الزبيري بذلك فلمَّا حلف قال الإمام يحيى: "قتلته والله يا هارون"، فخرج الزبيري من عند هارون فأصيب بمرض يسمَّى الفالج فمات من ساعته. وهكذا نال الزبيري غبَّ ما أضمره من بغض الإمام يحيى، وهي صفقة خاسرة ونهاية وخيمة.
استشهاد الإمام يحيى
❁بعد ذلك، رُدَّ الإمام يحيى (ع) إلى السجن، ثم أرسل هارون من يسقيه السُّم، فمات عليه السلام في حبسه ببغداد، وقيل: إنَّه خُنِقَ، وقيل: قتل جوعاً، وأياً تكن الوسيلة التي قُتل بها عليه السلام فقد شقي بدمه الزكي قاتله هارون الغوي.
نعم رحل الإمام يحيى عليه السلام بعد عمر زاخر بالخير والعلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكنه بقي للأجيال درساً خالداً في التضحية والفداء والبطولة في قول الحق والنضال في سبيل أعلاء كلمة الله وتحقيق العدل والخير بين البشرية.
¤ النسب المبارك
هو الإمام أبو محمد عيسى بن زيد بن علي بن الحسين السبط بن أبي طالب عليهم السلام؛ كان يلقب بـ"مؤتم الأشبال".
والده: الإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام، عرف بحليف القرآن لملازمته كتاب الله؛ قال فيه اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ الله ﻋﻠﻴﻪ ﻭآله ﻭﺳﻠﻢ: ((ﺧﻴﺮ اﻷﻭﻟﻴﻦ ﻭاﻵﺧﺮﻳﻦ اﻟﻤﻘﺘﻮﻝ ﻓﻲ الله، اﻟﻤﺼﻠﻮﺏ ﻓﻲ ﺃﻣﺘﻲ اﻟﻤﻈﻠﻮﻡ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ سمِيُّ ﻫﺬا، ﺛﻢ ﺿﻢّ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﺣﺎﺭﺛﺔ ﺇﻟﻴﻪ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﺯﻳﺪ ﻟﻘﺪ ﺯاﺩﻙ اﺳﻤﻚ ﻋﻨﺪﻱ ﺣُﺒَّﺎً، سَمِيُّ اﻟﺤﺒﻴﺐ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ)).
وأمُّه: أمُّ ولد تسمى "سكن"، وهي نوبية [والنوبيون هم شعب يسكنون في أجزاء من مصر والسودان].
¤ صفته
كان الإمام عيسى بن زيد عليه السلام مربوعاً من الرجال، عريض ما بين المنكبين، صبيح الوجه، أعلم أهل زمانه، وأزهدهم، وأورعهم، وأفقههم، وأسخاهم، وأشجعهم، لا يتمارى في فضله، ولا يشك في شدة ورعه ونبله.
قال عنه أخوه الحسين بن زيد عليهم السلام - وقد وصفه لولده يحيى بن الحسين-: فإنه سيُقبل عليك عند الغروب كهل، طويل، مصفر، قد أثر السجود في جبهته، عليه جبة صوف، لا يضع قدماً ولا يرفعها إلا ذاكراً لله عز وجل، ودموعه تنحدر.. إلى آخر كلامه.
وقال محمد بن عمرو الفقمي الرازي: سمعت علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب العابد وهو أبو الحسين بن علي صاحب فخ، يقول: لقد رأيتنا ونحن متوفرون وما فينا أحدٌ خيرٌ من عيسى بن زيد.
¤ أولاده
البنون: جعفر، والحسن، والإمام الفقيه أحمد، وزيد، ومحمد، والحسين، وعمر، ويحيى.
البنات: رقية الكبرى، ورقية، وزينب، وفاطمة.
¤ علمه وروايته
كان الإمام عيسى بن زيد عليهما السلام ورعاً ديِّناً، مع علم غزير، ورواية للحديث وطلب له في صغره وكبره، فروى عن أبيه زيد وجعفر الصادق وعبدالله ابني الباقر عليهم السلام، وسفيان بن سعيد الثوري، والحسن بن صالح بن حي، وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن أبي زياد، والحسن بن عمارة، ومالك بن أنس، وعبد الله بن عمر العمري، وغيرهم.
وكان عليه السلام يروي الناس الأحاديث ويفتيهم، فروى عنه ابنه الحسين بن عيسى، وغيره من الناس.
¤ مؤتم الأشبال
عن أبي نعيم، قال: حدثني من شهد عيسى بن زيد لما انصرف من واقعة باخمرى، وقد خرجَتْ عليه لبوة معها أشبالها؛ فعرضَتْ للطريق وجعلَتْ تحمل على الناس، فنزل عيسى فأخذ سيفه وترسه ثم نزل إليها فقتلها، فقال له مولى له: أيتمتَ أشبالها يا سيدي، فضحك فقال: نعم أنا ميتم الأشبال.
فكان أصحابه بعد ذلك إذا ذكروه كنَّوا عنه وقالوا: قال مؤتم الأشبال كذا، وفعل مؤتم الأشبال كذا، فيخفى أمره.
¤ جهاده مع أئمة أهل البيت
خرج الإمام عيسى بن زيد مع محمد بن عبدالله النفس الزكية، وقاد المدافعين عن المدينة في اليوم الأول للمعركة، ثم قاتل مع النفس الزكية في الأيام التالية؛ وقد قال عليه السلام في محمد بن عبدالله النفس الزكية: لو أنَّ الله أخبرنا في كتابه أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي لقلنا ذلك محمد بن عبدالله.
كما خرج الإمام عيسى عليه السلام مع النفس الرضية الإمام إبراهيم بن عبدالله عليهما السلام، وكان أحد قادته فقد كان على ميمنة جيشه، وفي كتاب مطلع البدور أنه كان حامل رايته.
¤ تَخَفِّيه
بقي عيسى بن زيد مع الإمام إبراهيم بن عبدالله عليهم السلام، فلما استشهد استتر عيسى بالكوفة في دار علي بن صالح بن حي، وكان أصحابه يصيرون إليه حالَ خوف، وربما صادفوه في الصحراء يستقي الماء على جمل لرجلٍ من أهل الكوفة، فيجلس معهم ويحدثهم.
وكان يقول لهم: والله لوددت أني آمن عليكم هؤلاء فأطيل مجالستكم فأتزود من محادثتكم والنظر إليكم، فوالله إني لأتشوقكم وأتذكركم في خلوتي وعلى فراشي عند مضجعي، فانصرفوا لا يشهر موضعكم وأمرُكم، فيلحقكم معرة وضرر.
عاش عيسى بن زيد عليهما السلام خلال هذه الفترة شريداً طريداً متخفياً، تبحث عنه السلطة العباسية في كل مكان، ويبين حاله عليه السلام ما رواه محمد بن منصور المرادي قال: قال يحيى بن الحسين بن زيد عليهم السلام: قلت لأبي: يا أبة، إني أشتهي أن أرى عمي عيسى بن زيد، فإنه يقبح بمثلي أن لا يلقى مثلَه من أشياخه، فدافعني عن ذلك مدةً وقال: إن هذا أمرٌ يثقل عليه، وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهيةً للقائك إياه فتزعجه.
فلم أزل به أداريه وألطف به حتى طابت نفسه لي بذلك فجهزني إلى الكوفة وقال لي: إذا صرتَ إليها فاسأل عن دُوُر بني حيٍّ، فإذا دُلِلْتَ عليها فاقصدها في السكة الفلانية، وسترى في وسطِ السِّكة داراً لها بابٌ صفتُه كذا وكذا فاعرفه واجلس بعيداً منها في أوَّل السكة، فإنَّه سيُقْبِل عليك عند المغرب كهلٌ طويلٌ مسنونُ الوجه قد أثَّر السجود في جبهته، عليه جُبَّةُ صوف، يستقي الماء على جمل، وقد انصرف يسوق الجمل لا يضع قدماً ولا يرفعها إلا ذَكَرَ اللهَ - عز وجل - ودموعُه تنحدر، فقُمْ وسلِّم عليه وعانقه، فإنه سيُذْعَرُ منك كما يُذْعَرُ الوحش، فعرِّفه نفسَك وانتسب له، فإنه يسكنُ إليك ويحدَّثُك طويلاً، ويسألك عنَّا جميعاً، ويخبرُك بشأنه، ولا يضجر بجلوسك معه، ولا تُطِلْ عليه وودِّعْه، فإنه سوف يستعفيك من العودة إليه فافعل ما يأمرك به من ذلك، فإنك إن عُدتَ إليه توارى عنك واستوحش منك وانتقل عن موضعه وعليه في ذلك مشقة.
فقلت: أفعل كما أمرتني.
ثم جهَّزَني إلى الكوفة وودَّعْتُه وخرجت، فلما وردتُ الكوفةَ قصدتُ سكَّة بني حيٍّ بعدَ العصر، فجلست خارجها بعد أنْ تعرَّفتُ الباب الذي نَعَتَهُ لي، فلمَّا غَرَبَتِ الشمس إذْ أنَا به قد أقبلَ يسوقُ الجَمَل وهو كما وَصَفَ لي أبي لا يرفع قدماً ولا يضعها إلا حرَّك شفتيه بذكر الله ودموعُه ترقرقُ في عينيه وتذرفُ أحياناً، فقمتُ فعانقته فذُعِر منِّي كما يذعر الوحش من الإنس فقلت: يا عمِّ أنَا يحيى بنُ الحسين بن زيد بنُ أخيك، فضَمَّنِي إليه وبكى حتى قلتُ قد جاءت نفسُه، ثم أناخَ جملَه وجلس معي فجعل يسألني عن أهله رجلاً رجلاً، وامرأةً امرأةً، وصبيَّاً صبيَّاً، وأنا أشرح له أخبارهم وهو يبكي، ثمَّ قال: يا بُنَيَّ أنا أستقي على هذا الجمل الماء، فأصرفُ ما أكتسب- يعني من أجرة الجمل- إلى صاحبه وأتقوَّتُ باقيه، وربما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلى البَرِّيَّة- يعني بظهر الكوفة- فألتقط ما يَرْمِي الناسُ به من البقول فأتَقَوَّتُه.
...... إلى قوله كما جاء في الرواية ....
ثم أَقَسَمَ عليَّ أنْ أنصرفَ ولا أعودُ إليه وودَّعَنِي.
فلما كان بعد ذلك صرتُ إلى الموضع الذي انتظرتُه فيه لأراه فلم أره، وكان آخرَ عهدي به.
¤ إخافة الظالمين
بقي عيسى بن زيد عليه السلام متخفِّياً مخيفاً للظالمين؛ رغمَ أنَّ المهدي العباسي قد أعطاه الأمان وبذل له العطايا الجزيلة، وقد روي أنَّ عيسى بن زيد حجَّ ومعه الحسن بن صالح، فسمعا منادياً ينادي: "لِيُبَلِّغَ الشاهدُ الغائبَ أنَّ عيسى بن زيد آمِنٌ في ظهورِه وتواريه"، فرأى عيسى بنُ زيدٍ الحسنَ بنَ صالح قد ظهر فيه سرورٌ بذلك فقال له: كأنَّك قد سُرِرْتَ بما سمعت؛ فقال: نعم.
فقال له عيسى عليه السلام: واللهِ لإِخَافَتِي إياهم ساعةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كذا وكذا.
وروى عتبةُ بنُ المنهال قال: كان جعفر الأحمر، وصباح الزعفراني ممَّن يقوم بأمر عيسى بن زيد، فلمَّا بَذَلَ المهدي لعيسى بنِ زيد من جهةِ يعقوبَ بنِ داود ما بَذَلَ له من المال والصِّلَة، نُودِيَ بذلك في الأمصار لِيَبْلُغَ عيسى بنَ زيد فيأمنْ، فقال عيسى لجعفر الأحمر وصباح: قد بَذَلَ لي من المال ما بَذَلَ وواللهِ ما أردتُ حين أتيتُ الكوفةَ الخروجَ عليه، ولأنْ أبيتُ خائفاً ليلةً واحدةً أَحَبُّ إليَّ من جميعِ ما بَذَلَ لي ومن الدنيا بأسرها.
وروي أن الحسن بن صالح بن حيٍّ قال لعيسى بن زيد عليهما السلام: متى تدافعُنا بالخروج وقد اشتمل ديوانُك على عشرة آلاف رجل؟ فقال له عيسى: ويحك، أتُكَثِّرُ على العَدَدِ وأنا بهم عارف، أما والله لو وجدتُ فيهم ثلاثمائةَ رجل أعلمُ أنهم يريدون الله عز وجل، ويبذلون أنفسهم له، ويَصْدُقُون للقاءِ عدوِّه في طاعته، لخرجتُ قبلَ الصباح حتى أبلى عندَ الله عذراً في أعداء الله، وأجري أمرَ المسلمين على سنَّتِه وسنةِ نبيِّه صلى الله عليه وآله، ولكنْ لا أعرفُ موضعَ ثقةٍ يفي ببيعتِه لله عز وجل، ويثبتُ عند اللقاء.
فلما سمع ذلك الحسن بن صالح بكى حتى سقط مغشيَّاً عليه.
¤ صورة من صور الوفاء
يروى أن حاضراً صاحب عيسى بن زيد لما جيء به إلى المهدي العباسي، قال له: أين عيسى؟ قال: وما يدريني، أخذتني فحبستني، وأخفته فطردته، فكيف أعلم مكان طريد منك وأنا محبوس؟ قال: ليس هكذا، متى فارقته، وعند من آخر عهدك به، وما عندك من علمه؟ قال: ما لقيته منذ توارى، ولا علمت له خبراً، قال: والله لتدلني على خبره أو لأقتلنك، قال: أدلك عليه تقتله، وألقى جده وقد شَرَّكت في دمه، والله لو كان بين ثوبي وجسدي لما كشفت عنه، فاقض ما أنت قاض، أمر الخليفة بضرب عنق حاضر فضربت رحمه الله، لا لذنب إلا مراعة حرمة رسول الله الله صلى الله عليه وآله وسلم وحفظه حفيد رسول الله من القتل، وهذا يكشف صورتين مختلفتين صورة وفاء المؤمنين، والحالة التي وصل إليها الظالمون من التجبر والطغيان، والله الحاكم بين العباد.
¤ بيعته
بعد أن استشهد الإمام إبراهيم بن عبدالله عليهما السلام في سنة خمس وأربعين ومائة، بايع الناس ابنه الحسن بن إبراهيم بن عبد الله سراً، ولكن لم يتمَّ أمرُه فتوارى، فلما كانت سنة 156هـ بايع الناس عيسى بن زيد عليه السلام بالإمامة، وهو متوارٍ بالعراق، بايعه أهل الكوفة، والسواد، والبصرة، والأهواز، وواسط، كما وردت عليه بيعة أهل الحجاز، ومكة، والمدينة، وتهامة، كما وجَّه دعاته إلى مصر والشام.
فلما علم بذلك أبو الدوانيق اشتد طلبه للإمام عيسى عليه السلام، وأخذ الناس على الظِّنة والتهمة وحبسهم، ودسَّ إليه الرجال سراً، وبذل الأموال الكثيرة لهم، وحاول الخليفة العباسي أن يميل الإمام عيسى بن زيد بالمال فكتب إليه كتاباً: إذا أظهرتَ نفسَك أعطيتُك من الدنيا, في كلام نحو هذا.
فكان جواب الإمام عيسى بن زيد: ((فإذاً أنا لئيم الأصل ودنيء الهمَّة أبيع آخرتي بالدنيا الفانية، وأكون للظالمين ظهيراً، والعجب منك ومن فعلك تطمع فيَّ وأنت تعرفني)), وبهذا الجواب يرسم الإمام عيسى بن زيد منهج المؤمن العالم العامل المجاهد, وهو المنهج الذي ترجمه عليه السلام في كل مواقفه وتحركاته وكلماته فلقد كان عليه السلام يقول: ((ما أحبُّ أن أبيتَ ليلة وأنا آمِنٌ منهم، وهم آمنون مني)).
وقد همَّ عليه السلام بالخروج غيرَ مرَّة، فلم يتيسر له ذلك، إلى أن مات أبو الدوانيق في سنة 159هـ، ثم تولى الخلافة ابنه محمد بن أبي الدوانيق، فهمَّ عيسى بن زيد بالخروج عليه، ولكن دون جدوى، فقد اشتد طلب محمد ابن أبي الدوانيق له بالكوفة والبصرة، وبذل الأموال الكثيرة، ودسَّ إليه الرجال، وحبس خلقاً كثيراً من الشيعة.
فلمَّا رأى عيسى بن زيد اشتداد الطلب عليه عزم الخروج إلى أرض خراسان، فوافى بلاد الريِّ، فلم يتهيأ له أمره وانصرف إلى الأهواز، وكان أكثر مقامه بها، وانصرفت دعاته ببيعة الناس في كل بلد، وأخذ من أصحابه الميعاد ليوم كذا وكذا، وكان عزمه عليه السلام على الخروج في غرة شهر رمضان، وهو يومئذ ابن خمس وأربعين سنة، وكان قد بويع وهو ابن ثلاثين سنة.
¤ استشهاده
سعى الملقب بالمهدي - وهو محمد بن أبي الدوانيق العباسي- جاهداً للنيل من الإمام عيسى بن زيد عليهما السلام، فدسَّ إليه رجلاً من أصحابه، وبذل له مقدار مائتي ألف درهم، وضمنَ له نفيسَ الضياع، وعجَّلَ المال، فأنفذ إليه شربةَ سُمٍّ فجعله في طعامِه وهو بِسَوَادِ الكوفة مما يلي البصرة، فسقاه، فمات من ذلك صلوات الله عليه في اليوم الثالث من شعبان، ودفن سراً لا يُعْلَمُ قبره، وذلك في سنة 166هـ، وعمره حين توفي 45 سنة, وبالرغم من أن المهدي العباسي قد نجح أخيراً وبعد محاولات عدة في قتل الإمام عيسى بن زيد؛ حفاظاً على ملكه من الانهيار إلا أن الله لم يمهله طويلاً فما هي إلا أشهراً معدودة حتى مات لعنه الله في سنةِ 167هـ، وهكذا تدور الأيام على الظالمين وتنقضي السنون ويبقى العمل والأثر الطيب وبين السيرتين بون شاسع كما بين السماء والأرض؛ بين من أمضوا أعمارهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين من عاشوا أيامهم في المنكرات والمعاصي والقتل والغيلة بأهل البيت المطهرين، وعند الله تجتمع الخصوم.
* النسب الشريف
هو الإمام موسى بن جعفر (الصادق) بن محمد (الباقر) بن علي (زين العابدين) بن الحسين السبط بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، كان يلقب بالكاظم، ويكنى بأبي الحسن، وأبي إبراهيم.
والده هو: أبو عبدالله الإمام جعفر بن محمد، الملقب بالصادق، وقد عرف عن الإمام جعفر الصادق بعمود الشرف؛ ولم يعقب الإمام الباقر إلا منه.
وأمُّه: أمُّ ولد كانت تسمى حميدة.
وُلِد الكاظم عليه السلام بالمدينة المنورة، سنة 129هـ.
* أولاده
للإمام الكاظم عليه السلام الكثير من الأولاد، منهم من أعقب ومنهم من لم يعقب؛ ومن أشهرهم: علي بن موسى المشهور بالإمام الرضا، وإبراهيم، والعباس، وإسماعيل، ومحمد، وعبد الله، والحسن، وجعفر، وإسحاق، والحسين، وزيد.
* عبادته
كان موسى الكاظم يدعى "العبد الصالح" لكثرة عبادته واجتهاده في طاعة الله تعالى؛ فقد روي أنه دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسجد سجدة في أولِّ الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: "عظيمُ الذنبِ عندي، فليحسن العفو عندك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة". فجعل يرددها حتى أصبح.
وعن عمار بن أبان قال: حُبِس أبو الحسن موسى بن جعفر عند السندي، فسألته أختُه أن تتولى حبسه، وكانت تتدين، ففعل، فكانت تلي خدمته، فحكى لنا أنها قالت: كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجده ودعاه، فلم يزل كذلك حتى يزول الليل، فإذا زال الليل قام يصلي حتى يصلي الصبح، ثم يذكر قليلاً حتى تطلع الشمس، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثم يتهيأ ويستاك ويأكل، ثم يرقد إلى قبل الزوال، ثم يتوضأ ويصلي حتى يصلي العصر، ثم يذكر في القبلة حتى يصلي المغرب، ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة؛ فكان هذا دأبه، فكانت أخت السندي إذا نظرت إليه قالت: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل، وكان عبداً صالحا.
* بعض من شمائله
اشتهر الإمام الكاظم عليه السلام بالخلق الرفيع، والقيم النبيلة، حتى كان شعلة يهتدي بها الناس إلى سبيل الفضائل، ويرقون بها إلى معارج المناقب والمحامد؛ فمن ما يروى عنه:
أن الخليفة العباسي هارون الملقب بالرشيد لما حج لقيه الكاظم على بغلة، فقال له الفضل بن الربيع: ما هذه الدابة التي تلقيت عليها أمير المؤمنين؟ فأنت إن طَلَبْتَ عليها لم تُدْرِك وإن طُلِبْتَ لم تَفُتْ.
قال: إنها تطأطأت عن خُيَلاء الخيل، وارتفعت عن ذلة العير، وخير الأمور أوسطها.
ولقد ظهرت كرامات الإمام موسى الكاظم عليه السلام وزاده الله تشريفاً وتعظيماً، قال أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي: سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال يقول: ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به الا سهل الله تعالى لي ما أحب.
* كرمه وكظمه للغيض
كان الإمام موسى الكاظم عليه السلام كريم اليد، سخياً بما يملك، فكان عليه السلام إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرَّة فيها ألف دينار، وكان يصر الصُّرَرَ ثلاثمائة دينار وأربعمائة دينار ومائتي دينار ثم يقسمها بالمدينة، حتى كانت صرار الإمام موسى الكاظم مضرباً للمثل، إذا جاءت الإنسانَ الصرةُ فقد استغنى.
وروي أن رجلاً من آل عمر بن الخطاب كان يشتم علي بن أبي طالب عليه السلام إذا رأى موسى بن جعفر، ويؤذيه إذا لقيه فقال له بعض مواليه وشيعته: دعنا نقتله، فقال: لا، ثم مضى راكباً حتى قصده في مزرعة له فتواطأها بحماره، فصاح لا تدس زرعنا، فلم يصغ إليه وأقبل حتى نزل عنده فجلس معه وجعل يضاحكه، وقال له: كم غرمت على زرعك هذا؟ قال: مائة درهم.
قال: فكم ترجو أن تربح؟ قال: لا أدري.
قال: إنما سألتك كم ترجو. قال: مائة أخرى.
فأخرج موسى عليه السلام ثلاثمائة دينار فوهبها له فقام فقبل رأسه، فلما دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري فسلم عليه وجعل يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته، فوثب أصحابه عليه وقالوا: ما هذا؟ فشاتمهم، وكان بعد ذلك كلما دخل موسى خرج يسلم عليه ويقوم له.
فقال الكاظم لمن قال ذلك القول: أيهما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت؟
وجاء عن محمد بن عبد الله البكري قال: قدمت المدينة أطلب بها ديناً فأعياني، فقلت: لو ذهبتُ إلى أبي الحسن موسى بن جعفر فشكوت ذلك إليه؛ فأتيته بنقمي في ضيعته، فخرج إليِّ ومعه غلام له معه منسف فيه قديد مجزع، ليس معه غيره، فأكل وأكلتُ معه، ثم سألني عن حاجتي، فذكرتُ له قصتي، فدخل، فلم يقم إلا يسيراً حتى خرج إليَّ، فقال لغلامه: اذهب ثم مد يده إليَّ. فدفع إليَّ صرة فيها ثلاثمائة دينار، ثم قام فولى، فقمت فركبت دابتي وانصرفت.
* مروياته
للإمام موسى الكاظم عليه السلام مرويات متصلة بآبائه عليهم السلام، وأسانيد ذهبية لا تنفك عن العترة الطاهرة، وهي بحق السلسلة التي لو ألقيت على أعمى لارتد إليه بصره، كما روى عنه أولاده عليهم السلام وغيرهم؛ ولنذكر هنا عدداً من هذه المرويات:
عن موسى بن على[ الرضا] عن أبيه[موسى الكاظم] عن آبائه عن علي عليه السلام، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن، فقال لي وهو يوصيني: ((يا علي ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار. يا علي عليك بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار. يا علي اغد بسم الله فان الله بارك لأمتى في بكورها)).[تاريخ بغداد ج2/ ص6].
عن موسى بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((خُلِقْتُ أنا وهارون بن عمران ويحيى بن زكريا وعلي بن أبي طالب من طينة واحدة)).[تاريخ بغداد ج6/ ص58].
عن علي بن موسى حدثني أبي موسى بن جعفر، حدثني أبي جعفر بن محمد، حدثني أبي محمد بن علي، حدثني أبي علي بن الحسين، حدثني أبي الحسين بن علي، حدثني أبي علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان)).[تاريخ بغداد ج9/ ص385].
عن موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد حسن وحسين قال: ((من أحبني وأحبَّ هذين وأباهما وأمَّهما كان معي في درجتي يوم القيامة)).[تاريخ بغداد ج6/ ص78].
* جهاده
كان الإمام موسى الكاظم وأخوه عبدالله عليهما السلام ممن خرج مع الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية، وأعطياه بيعتهما مختارين متقربين إلى الله تبارك وتعالى، وقد اشتركا في قتل أولِّ قتيل من المسودة، وكانا حاضرين معه في جميع جهاده حتى استشهد الإمام النفس الزكية عليه السلام.
ولما دعا الإمام الحسين الفخي عليه السلام كان الكاظم عليه السلام ممن بايعه، وخرج معه.
*حبسه في سجن المهدي العباسي
لما تولى المهدي العباسي الخلافة أمر بإحضار الإمام موسى الكاظم إلى بغداد وحبسه في سجنه، ثم رأى المهدي في المنام علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو يقول: يا محمد {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}.
فأرسل ليلاً إلى رجل يدعى الربيع، قال الربيع: فراعني ذلك، فجئته، فإذا هو يقرأ هذه الآية، وكان أحسن الناس صوتاً، وقال: عليَّ بموسى بن جعفر. فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جانبه، وقال: يا أبا الحسن إني رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في النوم يقرأ عليَّ كذا، فتؤمنني أن تخرج عليَّ أو على أحد من ولدي؟ فقال: آلله لا فعلت ذاك، ولا هو من شأني.
فقال المهدي لربيه: أعطه ثلاثة آلاف دينار، ورده إلى أهله إلى المدينة. قال الربيع فأحكمت أمره ليلاً، فما أصبح إلا وهو في الطريق خوف العوائق.
*الكاظم مع هارون عند قبر النبي
جاء عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي أنه قال: حج هارون الرشيد فأتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم زائراً له، وحوله قريش وأفياء القبائل، ومعه موسى بن جعفر، فلما انتهى[هارون] إلى القبر قال: السلام عليك يا رسول الله، يا بن عمي. افتخارا على من حوله. فدنا موسى بن جعفر، فقال: السلام عليك يا أبة. فتغير وجه هارون وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن حقا.
*حبسه في سجن هارون واستشهاده
عاد الإمام موسى الكاظم في المدينة المنورة فبقي بها إلى أيام هارون المسمى بالرشيد؛ وذلك أن هارون قدم للحج، فلما كان منصرفاً أمر بموسى الكاظم عليه السلام فأخذ من المسجد، فأدخل إليه فقيده، وأخرج من داره بغلان عليهما قبتان مغطاتان هو في إحديهما، ووجه مع كل واحد منهما خيلا، فأخذوا بواحدة على طريق البصرة، والأخرى على طريق الكوفة، ليعمى على الناس أمره، وكان موسى في التي مضت إلى البصرة، وكان على البصرة حينئذ عيسى بن جعفر بن المنصور، فحبسه عنده سنة ثم كتب إلى الرشيد: أن خذه مني وسلمه إلى من شئت، وإلا خليت سبيله، فقد اجتهدتُ أن آخذ عليه حجة، فما أقدر على ذلك، حتى إني لأتسمع عليه إذا دعا؛ لعله يدعو عليَّ أو عليك فما أسمعه يدعو إلا لنفسه، يسأل الله الرحمة والمغفرة.
ثم بعد ذلك حمل عليه السلام إلى بغداد وحبس بها، وروي أن موسى بن جعفر عليهما السلام بعث إلى الرشيد من الحبس رسالة قال فيها: ((إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون)).
ثم إنه عليه السلام قتل في الحبس؛ وقد روي أنه اشترك في قتله السندي بن شاهك ويحيى بن خالد البرمكي، بأمر ورغبة من هارون، فلما مات عليه السلام أدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد، فنظروا إليه لا أثر به، وشهدوا على ذلك، وأخرج فوضع على الجسر ببغداد، فنودي: هذا موسى بن جعفر قد مات، فانظروا إليه، فجعل الناس يتفرسون في وجهه وهو ميت.
*مكان دفنه
بعد ذلك أمر بحمل جثمان الإمام الكاظم عليه السلام، فدفن في بغداد في مقابر قريش، ومشهده فيها مشهور مزور, وكانت وفاته عليه السلام لخمس بقين من رجب، سنة 183هـ؛ فسلام الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيا.
✒️ النسب المبارك
هو أبو عبدالله الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب عليهم السلام؛ فكل آبائه نجباء بررة أزكياء، فروع شجرة طيبة مباركة.
لقبه: يلقب الإمام الحسين (بالفخي) نسبة إلى موضع قريب من مكة المكرمة وهو الموضع الذي استشهد فيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والده: السيد التقي علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
كان علي بن الحسن يسمى بعلي العابد، وعلي الخير، وعلي الأغر؛ وقد حبسه الخليفة العباسي المعروف بأبي الدوانيق في محبس الهاشمية مع من حبس من أهل البيت عليهم السلام، وكان محبس الهاشمية مكانا مظلما، لا يميزون فيه لشدة ظلمته بين ليل ونهار، فكانوا يعرفون أوقات الصلوات بتسبيح علي العابد وتلاوته للقرآن التي كان قد اعتاد عليها من قبل، ولقد استشهد علي العابد في ذلك السجن مع مجموعة من أهل البيت عليهم السلام بأفظع أنواع التعذيب كما هو مذكور في كتب التاريخ.
أمُّه: السيدة العابدة زينب بنت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام, وكان يعرف أبوه علي وأمُّه زينب بالزوج الصالح لصلاحهما وفضلهما.
✒️ مولده وصفته
ولد الإمام الحسين الفخي سنة 128هـ، واستشهد سنة 169هـ.
وكان عليه السلام أسود الرأس واللحية لم يخالطه الشَّيب، وكان بطلاً شجاعاً، قد نشأ على السداد وطرق الرشاد، جامعاً بين العلم والعمل حتى اعتلى ذروة الشرف، جارياً على طريقة آبائه الأخيار السادة الأبرار عليهم السلام.
✒️ كرمه وبسطة يده
للإمام الحسين الفخي عليه السلام فضل في نفسه وصلاح وسخاء وكرم لم يعرف مثله عن أحد من الناس، فكان رضوان الله عليه لا يكترث بالأموال، ويفرق جميع ما يحصل في يده ويتصدق به، حتى باع في ذلك ما ورثه من أبيه من ضياع وأموال، وقد روي أنه قدم على المهدي العباسي في قصة لا يتسع المقام لإيرادها، فأعطاه المهدي عشرين ألف دينار، ففرقها ببغداد والكوفة على قرابته ومواليه ومحبيه.
وروي أنه لما عاد من الكوفة إلى المدينة نزل بقصر ابن هبيرة في خان، فقيل لصاحب الخان: هذا رجل من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ له سمكاً فشواه وجاء به ومعه رقاق، وقال له: لم أعرفك يا بن رسول الله، فقال الإمام الحسين الفخي لغلامه: ما بقي معك من ذلك المال؟، قال: شيء يسير، والطريق بعيد. قال: ادفعه إليه.
وقد عوتب الحسين بن علي الفخي فيما يعطي، فقال: والله ما أظن أن لي فيما أعطي أجراً، وذلك أن الله تعالى يقول: ((لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ))، ووالله ما هي عندي وهذا الحصى إلا بمنزلة، يعني الأموال.
وما أجدره بقول القائل:
وما مزبد من خليج البحو ... ر يعلو الآكام ويعلو الجسورا
بأجود منه بما عنده ... فيعطي المئين ويعطي البدورا
✒️ الإخبار بموضع استشهاده
كان الموضع الذي استشهد فيه الإمام الحسين الفخِّي معروفاً عند أهل البيت عليهم السلام؛ فقد مرَّ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلى فيه، فلما كان في الركعة الثانية بكى، فبكى الناس، فلما أتم صلاته، قال: ما يبكيكم؟ قالوا: لما رأيناك تبكي بكينا يا رسول الله، قال: نزل عليَّ جبريل - لما صليت الركعة الأولى - فقال: ((يا محمد إن رجلاً من ولدك يقتل في هذا المكان، وأجر الشهيد معه أجر شهيدين)).
وعن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: يأتيكم صاحب الرعيلة، قد شد حقبها بوضينها، لم يقضِ تفثاً من حج ولا عمرة، يقتلونه فتكون شر حجة حجها الأولون والآخرون .
وعن يعقوب بن نصر بن أوس قال: أكريت من جعفر بن محمد عليه السلام من المدينة إلى مكة، فلما ارتحلنا من بطن مرّ، قال لي: يا نصر، إذا انتهينا إلى (فخ) فأعلمني، قال: قلت: أوليس تعرفه؟ قال: بلى، ولكني أخشى أن تغلبني عيني.
قال: فلما انتهينا إلى (فخ) دنوت من المحمل، فإذا هو نائم فتنحنحت، فلم ينتبه، فحركت المحمل فانتبه، فجلس، فقلت: قد بلغت، فقال: حل محملي، فحللته، ثم قال: حل القطار، قال: فنحيت به عن الجادة، وأنخت بعيره، فقال: ناولني الإدواة والركوة، قال: فتوضأ للصلاة وأقبل ثم دعا، ثم ركب، فقلت: جعلت فداك رأيتك صنعت شيئاً، أفهو من المناسك؟
قال: لا ولكن يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي، في عصابة تسبق أرواحهم أجسادهم إلى الجنة.
✒️ سبب خروج الإمام الفخي
كان سبب خروج الإمام الحسين الفخي عليه السلام هو الظلم العباسي الذي تفشى، والتسلط والتجبر على أهل بيت النبوة خاصة والمسلمين عامة، بالإضافة إلى الانحراف الكبير عن تعاليم الإسلام، وأحكام الدين الحنيف.
كل هذه الأسباب ينضاف إليها التضييق الذي مارسه الولاة على أهل البيت عليهم السلام في المدينة المنورة؛ فقد كان على المدينة خليفةٌ لإسحاق بن عيسى بن علي، وهو عبد العزيز بن عبد الله العُمَري من ولد عمر بن الخطاب، وكان إسحاق يليها من قِبَل الخليفة العباسي موسى الملقب بالهادي، فأساء العمري معاملة الأشراف من آل الرسول صلى الله عليه وعلى آله، وكان يجفوهم ويشدد عليهم، ويطالبهم بالعرض في كل يوم، فإذا غاب واحد منهم لحاجة له طالب أقرباءه.
وكان الحسن بن محمد بن عبد الله غاب، فطالب [العمري] الحسين بن علي الفخي، ويحيى بن عبد الله عليهم السلام به، وجرى بينهما وبينه خطب طويل، فاجتمع جماعة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وكثير من الشيعة إلى الإمام الحسين بن علي الفخي، وقالوا له: أنت أحقنا بالأمر وبايعوه.
✒️ دعوته
ظهر الإمام الحسين الفخِّي عليه السلام بالمدينة بعد عودته من الكوفة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة 169هـ.
وكان عليه السلام قد جاءه عدة من الشيعة في جماعة كثيرة، وهو بالكوفة، فبايعوه ووعدوه الموسم للوثوب بأهل مكة، وكتبوا بذلك إلى ثقاتهم بخراسان والجيل وسائِر النواحي.
ولما ظهر الإمام الحسين الفخِّي دخل المسجد فصلى بالناس صلاة الفجر، ثم رقى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: أيها الناس أنا ابن رسول الله، على منبر رسول الله، في مسجد رسول الله، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أيها الناس أتطلبون أثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحجر والعود وهذا - ثم مد يده - من لحمه ودمه؟!
ثم بايعه الناس، وكان يقول عند المبايعة: أبايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أن يُطاع الله ولا يُعصى، وأدعوكم إلى الرِّضا من آل محمد، وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله والعدل في الرعية، والقسم بالسَّوية، وعلى أن تقيموا معنا وتجاهدوا عدونا، فإن نحن وفينا لكم وفيتم لنا، وإن لم نفِ لكم فلا بيعة لنا عليكم.
✒️ بعض من بايعه
بايع الإمام الحسين الفخي من رؤساء أهل البيت: الإمام موسى الكاظم، وعبدالله بن الحسن الأفطس بن علي بن علي بن الحسين، وأخوه عمر، والإمام يحيى والإمام إدريس، وسليمان أبناء عبدالله الكامل، وإبراهيم بن إسماعيل والد الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، والحسن بن الإمام النفس الزكية، وعلي بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وعبدالله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وغيرهم.
وخرج معه من فضلاء الناس: سعيد بن خثيم، وعلي بن هاشم المعروف بالبريد، ويحيى بن يعلى، وعامر السراج، ونصر الخفاف، وكان من الصالحين، وكان من حديثه، قال: أصابتني ضربة فبرت اللحم والعظم، فبت ليلتي أعوي منها، وأنا أخاف أن يجيئوني فيأخذوني إذا سمعوا الصوت، فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد جاء، فأخذ عظماً فوضعه على عضدي، فأصبحت وما أجد من الوجع قليلاً ولا كثيراً.
✒️ خروج الإمام إلى (فخٍّ)
خرج الإمام الحسين الفخي عليه السلام إلى مكة في عصابة من آل محمد، وهم ستة وعشرون رجلاً، وتوافوا هم وشيعتهم إلى ثلاثمائة وبضع عشرة وهو عدد أهل بدر، وكانوا محرمين، داعين إلى الله، عاملين بكتابه، لا تأخذهم في الله لومة لائم، واستخلف الإمام الحسين على المدينة رياشاً الخزاعي، فلما صاروا بمنطقة (فخ) لقيتهم جيوش الضلال وأحزاب بني العباس، وقد كان قصد الحج في تلك السنة من العباسية: العباس بن محمد، وموسى بن عيسى، وجعفر ومحمد ابنا سليمان، ومن الجند مبارك التركي، وابن يقطين، وغيرهما؛ فقصدوه بأجمعهم.
فالتقوا في يوم التروية، وقت صلاة الصبح ورتبوا الميمنة والميسرة والقَلْب، وكان عدد الجيش العباسي أربعين ألفاً أنفذهم موسى الملقب بالهادي العباسي.
✒️ خطبة الإمام في أصحابه
وقبل بدأ المعركة اجتمع أصحاب الإمام وكانوا جميعهم في ثياب الإحرام، فقام الإمام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد يا إخوتي ويا إخواني ويا شيعة جدي وشيعة أبي، ومحبي جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد تبين لكم ظلم هؤلاء القوم وفسقهم وفجورهم وعداوتهم لله ولرسوله، وسيرتهم في أمة محمد، وارتكابهم المحارم، وتعطيلهم الحدود، وشربهم الخمور، وارتكابهم الشرور، وهتكهم الستور، واستئثارهم بالفيء، وأمرهم بالمنكر، ونهيهم عن المعروف.
دعاهم الشيطان فأجابوه، واستصرخهم فاتبعوه يسيرون فيكم بسيرة القياصرة والأكاسرة، يقتلون خياركم، ويستذلون فقهاءكم، يقضون بالهوى، ويحكمون بالرشا، ويولون السفهاء، ويظاهرون أهل الريب والردى، يقلدون أمر المسلمين اليهود والنصارى، جبابرة عتاة، يلبسون الحرير، وينكحون الذكور، فكيف لا يغضب أولو النهى؟! أم كيف يسيغ الطعام لأهل البر والتقوى؟!، قد درس الكتاب فأُوِّل على غير تأويله، وغُنِّي به على المعازف فحُرِّف عن تنزيله، فلم يبقَ من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، فلو أن مؤمناً تقطعت نفسه قطعاً أما كان ذلك لله رضاً، بل كان بذلك عندي جديراً.
اخرجوا بنا إلى الله واصطبروا فوالله إن الراحة منهم ومن المقام معهم في دارهم لراحة، والجهاد عليكم فريضة، فقاتلوهم، الله قد فرض عليكم جهادهم، واصبروا أنفسكم فإن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، وكونوا ممن أحب الله والدار الآخرة، وباين أعداءه وأحب وآثر لقاءه. عصمنا الله وإياكم.
وقد خطب فيهم خطبة أخرى قال فيها:
يا أهل القرآن ، والله إنَّ خصلتين أدناهما الجنة لشريفتان، وإن يبقيكم الله ويظفركم لنعملَنَّ بكتاب الله وسنة نبيه، ولنشبعنَّ الأرملة، وليعيشنَّ اليتيم، ولَنَعِزنَّ من أعزه كتاب الله وأوليائه، ولنذلنَّ من أذله الحق، والحكم من أعدائه، وإن تكن الخصلة الأخرى فأنتم تبعاً لسلفكم الصالح تُقْدِمُونَ عليهم وأنتم داعون إليهم: رسول الله ، وحمزة ، وعلي، وجعفر، والحسن والحسين، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد ، وعبدالله بن الحسن، ومحمد وإبراهيم أبناء عبدالله. فمن أي الخصلتين تجزعون؟ فوالله لو لم أجد غيري لحاكمتهم إلى الله حتى ألحق بسلفي.
✒️ حال أصحاب الإمام قبل المعركة
كان أبو العرجاء يهتم بجمال قائد الجيش العباسي موسى بن عيسى، وقد روي عن أبي العرجاء أنه قال: لما وصلنا بستان بني عامر فنزل (أي موسى بن عيسى)، فقال: اذهب إلى عسكر الحسين حتى تراه وتخبرني بكل ما رأيت.
قال أبو العرجاء: فمضيت فدرت فما رأيت خللاً ولا فللاً، ولا رأيت إلا مصليا أو مبتهلاً، أو ناظراً في مصحف، أو معداً لسلاح، قال: فجئته، فقلت: ما أظن القوم إلا منصورين.
فقال: كيف ذلك يا بن الفاعلة؟ فأخبرته، فضرب يداً على يد وبكى حتى ظننت أنه سينصرف، ثم قال: هم والله أكرم عند الله، وأحق بما في أيدينا منا، ولكن الملك عقيم، ولو أن صاحب القبر – يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم – نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف.
✒️ عرض الأمان على الإمام
أمر الإمام الحسين رجلاً من أصحابه فركب جملاً ومعه سيف فنادى: يا معشر المسودة هذا حسين بن رسول الله يدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله، فلم يجيب جيش العباسيين دعوة الإمام بتحكيم كتاب الله وسنة رسول الله، ووجهوا موسى بن عمر إليه وإلى جميع أصحابه يعرض عليهم الأمان، فقال الإمام عليه السلام: وأيُّ أمان لكم يا فجرة؟ المغرور من غررتموه بأمانكم وكيف وأنتم تغرونه عن دينه بحياة يسيرة تطمعونه فيها، فإذا ركن إليها قتلتموه، أليس من وصية آبائكم زعمتم قتل كل متهم ومن سأل الأمان عند الظفر به.
✒️الإمام والإغراءات الدنيوية
حاول العباسيون أن يغروا الإمام بإعطائه ما يشاء من الأموال والضياع محاولة منهم في ثنيه عن ثورته فأرسلوا إليه محمد بن سليمان بن علي وكانت أمُّه حسنية وهي زينب ابنة جعفر بن الحسن بن الحسن، فعرض على الإمام ما يشاء، وقال له: والله يا خال ما أشخصني إلى هذا البلد إلا الشفقة عليك والظن بك، ورجاء أن يحقن الله دمك.
فقال له الإمام الحسين: ما أعرفني بما تحاول من خديعتي من ديني ودنياي؟ إليك عني.
فقال له: يا خال لا تفعل. أقْبَل نصيحتي ولا تُعَرِّض نفسك للهلكة، فإنَّ معي كتاباً قد أخذته لك من ابن عمك الخليفة موسى الهادي ابن محمد المهدي بأمانك، وجعل إليَّ أنْ أعرض عليك كل ما أحببت، فصر إلى أيِّ بلد من البلدان شئت، وسمِّ ما شئت من الأموال والقطائع والضياع.
فأقبل الحسين عليه السلام، فقال له: يا عبد خيزران وخالصة، أتظن أنِّي إنَّما خرجت في طلب الدنيا التي تعظمونها، أو للرغبة فيما تعرضون عليَّ من أموال المسلمين؟! ليس ذلك كما تظن، إنَّما خرجتُ غضباً لله ونصرة لدينه وطلباً للشهادة، وأن يجعل الله مقامي هذا حجة على الأمة، واقتديت في ذلك بأسلافي الماضين المجاهدين، لا حاجة لي في شيء مما عرضت عليَّ، وأنا نافذ فيما خرجت له، وماض على بصيرتي حتى ألحق بربي.
✒️وقعة (فخٍّ)
لما يئسوا من خديعة الإمام الحسين بأمانهم شدوا عليه وعلى أصحابه، فحمل عليهم الإمام عليه السلام، وحملت معه الطائفة الصادقة، فقاتلوا قتالاً شديداً حتى كثر القتل في الفريقين؛ وكان قد تأخر قوم بايعوا الإمام الحسين عليه السلام، فلما فقدهم في وقت المعركة أنشأ يقول:
وإني لأنوي الخير سراً وجهرة .... وأعرف معروفاً وأنكر منكرا
ويعجبني المرء الكريم نجاره .... ومن حين أدعوه إلى الخير شمرا
يعين على الأمر الجميل وإن يرى .... فواحش لا يصبر عليها وغيرا
فصبر الإمام وأصحابه حتى استشهد أكثرهم، وأثخن الإمام عليه السلام، فقيل له: فقد أعذرت، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله ليبغض العبد يستأسر إلا من جراحة مثخنة)).
وقال لبني عمه: يا بني عمي انحازوا وامضوا إلى أي النواحي فعسى أن تدركوا بثأرنا يوماً من الدهر، فإني غير مفارقهم حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
فأبوا وصبروا حتى قتلوا قدامه واحداً واحداً، أغرقوا الأرض من دمائهم، وأصابت الإمام يحيى بن عبدالله سبعون نشابة بين درعه، وكثر حتى صار كالقنفذ، وجرح أخوه إدريس بن عبدالله حتى انصبغ قميصه، وجرح الحسن بن محمد بن عبدالله وفقئت عينه بنشابة.
فثبتوا يناجزون القوم حتى استشهد الإمام الحسين بعد أن أثخن بالجراح، وقتل معه من أهل البيت سليمان بن عبدالله الكامل، وعبدالله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وغيرهم؛ سلام الله عليهم أجمعين.
ومن مواقف البطولة للإمام عليه السلام ما رواه الإمام القاسم الرسي عمن ذكره من أصحابه، قال: رأيت الحسين والناس في المعركة اعتزل فدفن شيئاً فأُتْبع ذلك الدفين فإذا هو بعض وجهه، ضُرِبَ في وجهه ضربة برَت عامته فاعتزل حتى دفنه، ثم تلثم على وجهه وعاود الحرب.
✒️استشهاده
كان استشهاد الإمام الحسين الفخي رضوان الله عليه يوم التروية من شهر ذي الحجة سنة 169هـ، وكان له من العمر إحدى وأربعين سنة، وبعد شهادته تعمد المجرمون إلى قطع رأسه الشريف وحمله إلى الخليفة العباسي موسى الهادي، ودفن بدنه الطاهر بمنطقة(فخ).
وروى الإمام المنصور بالله أن الذين حضروا قتله اسودت وجوههم قاطبة.
وقد روي أنه لما حضرت محمدَ بنَ سليمان الوفاةُ جعلوا يلقنونه الشهادة، فلم يُفصح بها لسانُه إلا أنه يقول:
ألا ليت أمي لم تلدني ولم أكن .... شهدتُ حسيناً يوم (فخٍّ) ولا الحسن
فلم يزل يردد هذا البيت حتى مات.
وقد سُمِع على مياه غطفان كلها ليلة قتل الحسين بن علي هاتف يهتف ويقول:
ألا يا لقومي للسواد المصبح .... ومقتل أولاد النبي (ببلدح)
ليبكِ حسيناً كل كهل وأمرد .... من الجن إذ لم تبكه الأنس نُوح
وإني لجني وإن معرسي لبـ .... لبرقة السوداء من دون زحرح
فسمعها الناس لا يدرون ما الخبر حتى أتاهم قتل الإمام الحسين الفخي عليه السلام.
✒️ النسب الشريف
هو الإمام أبو الحسن إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، كان يلقب بالنفس الرضية؛ وهو شقيق الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية.
والده: أبو الأئمة عبد الله بن الحسن، الملقب بالكامل؛ كان يُقال: من أجمل الناس؟ من أفضل الناس؟ من كذا؟ من كذا؟ فيقال: عبدالله بن الحسن؛ فسمي الكامل لذلك.
وأمُّه هي: هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي.
مولده عليه السلام: سنة95 هـ.
✒️ صفته
كان إمامنا إبراهيم بن عبدالله عليهما السلام سائل الخدين، خفيف العارضين، أقنى الأنف، حَسَن الوجه، قد أثَّر السجود في جبهته وأنفه، وكان تلو أخيه محمد النفس الزكية في العلم والدِّين، وكان عالماً فاضلاً خطيباً مصقعاً شاعراً مفلقاً شجاعاً بحيث لا يبالي دخل على الموت أو خرج إليه، جَيِّد النقد للشعر، حسن البديهة، ذكر المفضل الظبُّي: كان إبراهيم بن عبد الله بن الحسن متوارياً عندي، فكنت أخرج وأتركه، فقال لي: إنك إذا خرجت ضاق صدري، فأخرج إلي شيئاً من كتبك أتفرج به، فأخرجت إليه كتاباً من الشعر، فاختار منها السبعين قصيدة التي صدرت بها اختيار الشعراء ثم أتممت عليها باقي الكتاب.
قال الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام: ومثل محمد بن عبدالله وإبراهيم أخيه المجتهدين المصممين في أمر الله الذين لم تأخذهما في الله لومة لائم، الذين مضيا قدماً قدماً صابرين محتسبين، وقد مثل بآبائهما وعمومتهما أقبح المِثَل، وقتلوا أفحش القِتَل، فما ردعهما ذلك عن إقامة أمر خالقهما، والاجتهاد في رضا خالقهما، فصلوات الله على أرواح تلك المشايخ وبركاته، فلقد صبروا لله واحتسبوا وما وهنوا وما جزعوا، بل كانوا كما قال تعالى، وذكر عمن مضى من آبائهم حين يقول: ((فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)).
✒️ما جاء فيه من الأخبار
حكى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة أن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أخبر عن استشهاد الإمام إبراهيم بن عبد الله، فقال في تعداد أخبار أمير المؤمنين: "وكإخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة، وقوله: إنه يقتل عند أحجار الزيت، وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباب حمزة: يقتل بعد أن يظهر، ويقهر بعد أن يقهر، وقوله فيه أيضا: يأتيه سهم غرب يكون فيه منيته فيا بؤسا للرامي! شلت يده، ووهن عضده".
✒️ من مناقبه
روي أن إبراهيم بن عبدالله كان جالساً مع أصحابه ذات يوم فسأل عن رجل من أصحابه، فقال له بعض من حضر: هو عليل، والساعة تركته يريد أن يموت، فضحك القوم منه، فقال إبراهيم عليه السلام: لقد ضحكتم منها وهي عربية، قال الله عز وجل: ((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه))، بمعنى: يكاد أن ينقض، فوثب أبو عمرو بن العلاء وهو أحد القراء السبعة فقبل رأس الإمام، وقال: لا نزال بخير ما كان مثلك فينا.
وقد قيل لإبراهيم بن أبي يحيى المدني: قد رأيت محمداً و إبراهيم ابني عبد الله بن الحسن صلوات الله عليهما، فأيُّهما كان أفضل؟
فقال: والله لقد كانا فاضلين شريفين كريمين عابدين عالمين زاهدين، وقد كان إبراهيم يقدّم أخاه محمداً عليه السلام ويفضله، وكان محمد عليه السلام يعرف لإبراهيم فضله، وقد مضيا شهيدين صلوات الله عليهما.
وقد قال الشاعر بشار بن برد من قصيدته الميمية التي مدح فيها الإمام:
أقول لبسام عليه جلالة غدا أريحياً عاشقاً للمكارم
من الفاطميين الدعاة إلى الهدى جهاراً ومن يهديك مثل ابن فاطم
سراج لعين المستضيء وتارة يكون ظلاماً للعدو المزاحم
✒️نُبَذ من سيرته
- كان الإمام إبراهيم بن عبدالله يقول: هل هي إلا سيرة علي أو النار.
- وأخذ عليه السلام عاملاً لأبي جعفر فقال له بعض أصحابه سَلِّمه مني، قال له: وما تصنع به؟ قال: أعذبه ليخرج المال الذي عنده. فقال: لا حاجة لي في مال لا يستخرج إلا بالعذاب!!
- وأتاه قوم من أصحاب الصباغ فقالوا: يا ابن رسول الله إنا قوم من غير العرب، وليس لأحد علينا عَقْدٌ ولا ولاء، وقد أتيناك بمال فاستعن به. فقال: من كان عنده مال فليعن أخاه فأما أنْ آخذه فلا!!
- وكان يقول متى أراد أن ينزل عن المنبر: ((اتَّقُوْا يَوْماً تُرْجَعُوْنَ فِيْهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُوْنَ)).
- وكان محمد بن عطية مولى باهلة وَلِيَ بعض أعمال فارس لأبي جعفر؛ فظفر به أصحاب الإمام إبراهيم عليه السلام وحملوه إليه، فقال: هل عندك مال؟ قال: لا. قال: الله. قال: الله. فقال: خلوا سبيله. فخرج ابن عطية وهو يقول بالفارسية: ليس هذا من رجال أبي جعفر. يعني أنَّه كان ينبغي له أن لا يقتصر منه على اليمين وأن يستخرج منه المال بالقوة والتهريب والتعذيب كما يفعل خلفاء بني العباس.
- ووجد الإمام إبراهيم عند دخوله البصرة في بيت المال ألف ألف درهم، ففرق ذلك في عسكره، فأصاب كل واحد منهم خمسين خمسين، وكانوا يأخذون ذلك ويقولون: خمسون والجنة.
✒️بعض من كلامه
- قال عليه السلام يوماً وهو على المنبر بعدما خطب: "اللهم إن ذكرت اليوم أبناء بآبائهم وآباء بأبنائهم، فاذكرنا عندك بمحمد صلى الله عليه وعلى آله، يا حافظ الآباء في الأبناء والأيتام للآباء، احفظ ذرية نبيئك".
- وخطب يوماً على المنبر فقال: "أيها النَّاس إني وجدت جميع ما يطلب العباد من جسيم الخير عند الله في ثلاثة: في المنطق، والنظر، والسكوت، فكُلُّ منطق ليس فيه ذِكْرٌ فهو لغو، وكل سكوت ليس فيه فِكْرٌ فهو سهو، وكل نظر ليس فيه اعتبار فهو غفلة، فطوبى لمن كان منطقه ذكراً، ونظره اعتباراً، وسكوته تفكراً، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وسلم المسلمون منه".
✒️الإمام داعية أخيه محمد
عندما قام الإمام النفس الزكية بدعوته إلى الله بعث أخاه إبراهيم إلى البصرة داعية له، فاستولى عليها وعلى كثير مما والاها، ولما استشهد الإمام النفس الزكية وكان ذلك في الخامس عشر من رمضان سنة مائة وخمسة وأربعين، بلغ استشهاده أخاه إبراهيم بن عبدالله عليهم السلام، وكان ذلك يوم العيد غرة شوال سنة خمس وأربعين ومائة للهجرة، فصلى بالناس صلاة العيد، ثم رقى المنبر وخطب وذكر استشهاد أخيه ونعاه إلى الناس، وبكى، وبكى الناس، ثم قال: "اللهم إن كنت تعلم أن محمداً إنما خرج غضباً لدينك ونفياً لهذه النكتة السوداء، وإيثاراً لحقك، فارحمه واغفر له واجعل الآخرة له خيراً مرداً ومنقلباً من الدنيا، وتمثل:
أبا المنازل يا عُبر الفوارس مَن .... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أني لو خشيتهمو .... أو أوجس القلب من خوفٍ لهم فزعا
لم يقتلوه ولم أسلم أخي لهمو .... حتى نموت جميعاً أو نعيش معا
وبعدما تمثل بهذه الأبيات، غصَّ بريقه، وتراد الكلام في فيه، وتلجلج ساعة، ثم انفجر باكياً منتحباً، وبكى الناس، قال أحد من حضر: فوالله لرأيت عبد الواحد بن زياد اهتز له من قرنه إلى قدمه، ثم بلت دموعه لحيته.
وقد قال إبراهيم بن عبدالله في أخيه النفس الزكية: "ما أتى عليَّ يوم بعد قتل محمد إلا استطلته حباً للحاق به".
✒️دعوته
دعا الإمام إبراهيم بن عبدالله بعد استشهاد أخيه محمد عليهما السلام سنة 145هـ، فأسرع الناس إليه، وبايعته المعتزلة مع الزيدية، وفضلاء الأمة، ولم يبق أحد من أهل العلم والحديث إلا بايعه، حتى انطوى ديوانه عليه السلام على مائة ألف مقاتل، فبسط نفوذه واستولى على واسط والأهواز وكورها وعلى أعمال فارس.
وكان أبو حنيفة (إمام المذهب الحنفي) يدعو الناس إليه سراً ويكاتبه، وقد سئل عن الخروج مع إبراهيم بن عبدالله، فقيل له: أيهما أحب إليك بعد حجة الإسلام الخروج إلى هذا الرجل أو الحج؟ قال: غزوة بعد حجة الإسلام أفضل من خمسين حجة.
وكان شعبة (المحدث المشهور) يقول للناس إذا سألوه عن نصرة إبراهيم بن عبدالله: ما يقعدكم؟ هي بدر الصغرى.
وقال أبو إسحاق الفزاري- وكان أخوه الأصبغ بن زيد الفزاري قد خرج واستشهد مع الإمام إبراهيم عليه السلام: جئت إلى أبي حنيفة، فقلت له: ما اتقيتَ اللهَ حيث أفتيتَ أخي بالخروج مع إبراهيم بن عبدالله بن الحسن حتى قتل، فقال: قَتْلُ أخيك حيث قُتِل يعدل قَتْلَه لو قُتِل يوم بدر، وشهادته مع إبراهيم خيرٌ له من الحياة، قلت له: ما منعك أنت من ذاك، قال: ودائع الناس كانت عندي.
وكان الأعمش (وهو أحد علماء الحديث) يدعو إليه ويقول: ما يُقْعِدُكم عنه، أما إني لو كنت بصيراً لخرجت.
✒️ بعض أنصاره
أسرع الناس إلى نصرة الإمام والخروج للقتال معه والبيعة له، واجتمع معه من الزيدية والمعتزلة وأصحاب العلم والحديث ما لم يجتمع مع أحد من أهل بيته عليهم السلام، فخرج إليه هارون بن سعد من الكوفة في نفر من أصحاب زيد بن علي عليهما السلام، منهم: حمزة التركي، وسالم الحذاء، وخليفة بن حسان.
ومن العلماء الذين خرجوا معه: إبراهيم بن نميلة، الملقب بالكامل علماً وعملاً وشجاعةً، والمضَّا بن القاسم الثعلبي، ومعاوية بن حرب بن قطن العالم الزاهد، ومؤمل بن إسماعيل، وحنبص وكان جليل الخطر، وعبَّاد بن منصور الشامي، ومطر الوراق، وحكم المعتزلي، وإسحاق بن يوسف الأزرق، ومسلم بن سعيد، وبشير الرحال.
ولقد قيل لبشير الرحال: لِمَ خرجتَ على أبي جعفر؟ قال: أدخلني ذات يوم بعض البيوت، فنظرت إلى عبدالله بن الحسن (الكامل) مسموراً بالمسامير إلى الحائط، فخررت مغشياً عليَّ إعظاماً لما رأيت، وأعطيت الله عهداً لا يختلف عليه سيفان إلا كنتُ مع الذي عليه.
وخرج معه من أصحاب الحديث: شعبة بن الحجاج، وهشيم بن بشير، وعباد بن العوام، ويزيد بن هارون، وعمرو بن عون، وكان من خيار أصحاب الحديث، وأبو خالد الأحمر، وأبو داود الطهوي، وهو الذي روى عنه أبو نعيم.
✒️ الإمام في أرض المعركة
لما انتظم أمر إبراهيم بن عبدالله وقويت شوكته وعلا في الآفاق صيته، جهز الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور جيشاً عظيماً وانفذه إلى البصرة بقيادة عيسى بن موسى، وضم إليه سلم بن قتيبة، فبلغ ذلك الإمام إبراهيم عليه السلام، فأجمع للمسير إليهم، فقال له المضاء بن القاسم: لا تفعل، وأقم مكانك ووجه الجنود، فأبى وسار نحوهم بنفسه، واستخلف ابنه الحسن بن إبراهيم على البصرة.
خرج الإمام إبراهيم عليه السلام من البصرة، ومعه أحد عشر ألفاً وسبعمائة فارس والبقية رجَّالة، وكان شعارهم (أحد أحد)، والتقوا بجيش العباسيين بـ"باخمرى" وهي منطقة تقع بين البصرة والكوفة، فرتَّب الإمام جيشه، فكان على ميمنته الإمام ابن الإمام عيسى بن زيد، وعلى ميسرته برد بن لبيد اليشكري، وكان عليه السلام في القلب في الفقهاء والعلماء وأهل البصائر، ثم اقتتلوا قتالاً شديداً، ودارت معركة رهيبة ولحقت الهزيمة بقوات الجيش العباسي، وفرَّ جنوده حتى قيل أن أوائل الجند الفارين وصلوا أبواب الكوفة، وتبعهم جند الإمام فأمر الإمام منادياً أن ينادي على الجنود: ألا تتبعوا مدبراً، فامتنعوا عن تتبع الجند العباسي وعطفوا عائدين إلى مواضعهم، فظن جيش العباسيين أن الهزيمة قد لحقت جند الإمام المنسحبين، ثم إن قائدا من قادة العباسين اسمه جعفر بن سليمان حمل على أصحاب الإمام من خلفهم، فانهزم أصحاب الإمام وأخذوا يمنة ويسرة، فجاء بشير الرحال إلى الإمام، فقال: ما ترى؟ فقال الإمام: قد ذهب الناس، ومن رأيي مصابرة القوم إلى أن يحكم الله فيَّ أمره، ونادى أصحابه، فاجتمع إليه نفر من أصحابه، فاقتتلوا أشد قتال.
ثم كرَّ الإمام عليه السلام عليهم فطعن رجلاً وطعنه آخر، فقال له أحد من كان معه: جعلني الله فداك! تباشر الحرب بنفسك والعسكر منوط بك؟! فقال رضوان الله عليه: إليك عني يا أخا بني ضبة ، كأن عويفاً أخا بني فزارة كان ينظر إلينا في يومنا هذا، وأنشد:
ألمت سعاد وإلمامها .... أحاديث نفس وأسقامها
يمانية من بني مالك .... تطاول في المجد أعمامها
وإن لنا أصل جرثومة .... ترد الحوادث أيامها
ترد الكتيبة مذمومة .... بها أفنها وبها ذامها
ثبت الإمام عليه السلام في القلب وثبتت الميسرة، واشتد القتال حتى إذا كان آخر النهار رفع عليه السلام المغفر من شدة الحر، فجاءه سهم غائر فأصاب جبينه الطاهر، فاعتنق فرسه واحتوشته الزيدية، وأنزلوه عن فرسه وأخذه بشير الرحال، وأسنده إلى صدره، حتى قضى نحبه عليه السلام، وبشير يردد: ((وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوْراً)).
في هذه الأثناء اجتمع حول الإمام خلص أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه وشد عليهم الجيش العباسي الهجوم حتى أحصوا من أصحاب الإمام حوله أربعمائة شهيد فيهم عالم البصرة وعابدها بشير الرحال رضوان الله عليه وعلى رفاقه الشهداء.
بعد أن استشهد معظم أصحاب الإمام حول جسده تقدم مولى للقائد العباسي عيسى بن موسى وحزَّ رأسه.
✒️ من ملاحم البطولة
من ملاحم البطولة في واقعة باخمرى أن الإمام إبراهيم بن عبدالله أمر بعض قوَّاده أن يحمل الراية، وقال له: لا تبرح، فأخذها ولم يزل يقاتل حتى قتل الإمام، فما انثنى عن الموضع الذي أمره الإمام أن يقف فيه، فقيل له: قد قتل الإمام، فقال: إنه قال: لا تبرح، فقاتل رحمه الله حتى عُقِر فرسه، فقاتل راجلاً حتى قُتِل.
✒️ خبر استشهاده
لقد تلقى المسلمون نبأ استشهاد الإمام بكل حسرة وحزن، واعتبر علماؤهم أن ذلك خطبا هُدَّ به ركن من أركان الإسلام ونال مصابه من شريعة سيد المرسلين، ولقد عبر عن ذلك سفيان الثوري بقوله: ما أظن الصلاة تقبل إلا أن الصلاة خير من تركها.
ولما وصل خبر استشهاده عليه السلام إلى أهل المدينة، قال الطالبيون: مضى والله على منهاج آبائه، ونزل منازلهم.
✒️ رأس الإمام
استشهد الإمام عليه السلام يوم الاثنين في أول ذي الحجة من سنة 145هـ، وقيل: لخمس بقين من ذي القعدة
ولقد أُخِذ رأس الإمام وحُمِل إلى الخليفة العباسي أبي جعفر، فلما وضع بين يديه تمثل:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
فلما كان صباح اليوم الثاني أمر برأس إبراهيم عليه السلام فنصب في السوق.
أما بدن الإمام عليه السلام فقد دفن بباخمرى، وهو مشهور مزور
فصلوات الله وسلامه على إمامنا يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيا.