تمهيد
الجامع الكبير هو أول جامع إسلامي عُمِرَ في اليمن, وثالث جامع عُمِرَ على وجه البسيطة بعد البعثة النبوية, فقد بني بعد مسجد قبا والمسجد النبوي, ويحظى الجامع الكبير بمكانة عليَّة، ويحتل أهمية بالغة في الموروث الإسلامي والمعماري والحضاري, يزيده قدراً وأهمية أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله هو من أمر ببنائه وحدد قبلته, ولم يقتصر دوره ـ في مراحل التاريخ ـ على الدور العبادي فقط, بل كان جامعة إسلامية ومدرسة علمية, تخرج منها كبار الأئمة والعلماء, وآلاف الحفاظ والقراء, ولقد استطاع الجامع الكبير بما يتمتع به من مؤهلات حضارية وفنية ودينية أن يسجل حضوره القوي والمتميز, حتى بات لزاماً على أي كاتب أو مؤرخ يريد الحديث عن صنعاء ـ مع ما فيها من مظاهر الحضارة والآثار الضاربة في أعماق التاريخ ـ أن يطوف عليه؛ ليعطيه حظه من يراعه، ولا يستطيع أن يتجاهله.
أسماء الجامع
تعددت في المصادر التاريخية الأسماء التي أطلقت على الجامع الكبير, فقد أطلق عليه:
مسجد الجماعة, والمسجد الجامع, ومسجد صنعاء, والمسجد النبوي الصنعاني, وجامع صنعاء الكبير المقدس, ومسجد الجامع الكبير, ومسجد الجامع, والجامع الكبير.
الموقع والمساحة
حدد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الساحة التي يبنى عليها الجامع الكبير كما رواه ابن هشام في السيرة: "أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر ببناء جامع صنعاء بين الحجر الململم وبين غمدان", والحجر الململم هو الحجر المغروز في الصرح الغربي للجامع وقصر غمدان هو القصر المعروف الواقع في الجهة الشرقية, وهذه المساحة واقعة في النصف الجنوبي لمدينة صنعاء، والذي كان يسمى تاريخياً "القطيع", وهو يتوسط المدينة الأثرية والأقدم من بين المدن اليمنية صنعاء حاضرة التاريخ وربيبة الحضارة, وتبلغ مساحة الكتلة الخارجية للجامع 65م ×77م وارتفاع الجناحين الشرقي والغربي 10م بينما ارتفاع الجناحين الشمالي والجنوبي7م تقريباً. [الحداد, مسجد صنعاء, ص43].
وصف الجامع الكبير
الجامع الكبير عبارة عن كتلة مكعبة الشكل، مربعة المساحة، استخدم في بنائها أحجار الحبش الأسود، التي كما قيل أخذت من أطلال قصر غمدان, ولا يوجد للجامع الكبير أي نوافذ تطل على الخارج, يعرف التخطيط الذي صمم به الجامع "بالتخطيط الإيواني" والذي يقوم على وجود مساحة مفتوحة في وسط الجامع تعرف بالصحن الداخلي أو الصوح الشماسي، ومساحة الصحن الداخلي للجامع الكبير تقدر بـ 38.5م × 39م و يحيط به من الجهات الأربع أجنحة الجامع (الأروقة), وفيها 19 فتحة من جهة القبلة والشرق والغرب تنفذ إلى الشماسي, وهي عبارة عن فتحات واسعة على شكل عقود مبنية على أسطوانات (دعائم), جعلت المسافة بين كل أسطوانتين 3.5م .
أروقة الجامع
يحيط بالصوح الشماسي للجامع أربعة أروقة (أجنحة):
الرواق القبلي وتقدر أبعاده بحوالي (61م × 19.5م).
والرواق الجنوبي ويقدر (60م × 15م)، وأما الرواق الغربي فيقدر (39.75م × 11م) والرواق الشرقي (11م × 41.5م).
خشب السقف
سقف الجامع يتكون من قطع خشبية مصندقة، ذات زخارف فنية وإسلامية بديعة نفذت بطريقة الحفر البارز والغائر، ويوجد تحت السقف المنحوت حزام خشبي محفورة عليه بالخط الكوفي البسيط والمورق آيات القرآن الكريم وغيرها من العبارات.
والسقف من خشب الساج، وكان يعتقد أن عمر هذا الخشب يرجع إلى عصر بني يعفر, غير أن هذا الاعتقاد السائد يفنده ما توصلت إليه التجارب المخبرية؛ حيث أخذت عينات من خشب الجامع وارسلت إلى المعامل في إيطاليا، فتبين أن سقف الجامع هو من خشب الساج, وأنه حين سقف به الجامع لم يكن جديداً بل كان عمره يتراوح بين (250 ـ 450) سنة, كما ذكر الباحث الحداد في كتابه "مسجد صنعاء", ثم خلص الحداد إلى أن الأخشاب التي سقف بها الجامع أخذت من مباني تهدمت، ورجح أن تكون من كنيسة القليس وقصر غمدان، اللذين هُدما أثناء الغزو الحبشي الثاني لليمن بين عامي (753م ـ 775م).
ومن الملاحظ أن خشب سقف الجناح الشرقي للجامع يختلف عن خشب سقف بقية الأجنحة من حيث الجودة والزخارف، وهو ما يرجح أن يكون الجناح الشرقي عمر في وقت متأخر عن بناء بقية الأجنحة، وأنه كان في عصر أسعد بن يعفر.
أسطوانات الجامع
ويبلغ عدد الأسطوانات "الدعائم" في الجامع الكبير (180) أسطوانة تتوزع على الشكل التالي:
(75) في المقدم، و(30) في الجناح الشرقي، و30)) في الجناح الغربي، و((45 في المؤخر.
أبواب الجامع
للجامع الكبير (13) باباً موزعة على الشكل التالي:
ثلاثة في الجهة الشمالية، اثنان منسدان، أحدهما يستخدم من الداخل خزانة للمصاحف يوم الجمعة والأخر يستخدم خزانة يومية بينهما باب ثالث يعرف بـ"الباب القبلي"، والذي يفتح لدخول الخليفة أو الوالي أو الرئيس عندما يحضر لصلاة الجمعة, ويقع هذا الباب عن يمين المحراب, وهو كما يذكر المؤرخ الحجري من الأبواب الأثرية الحميرية قيل: إنه من أبواب قصر غمدان، وفيه صفائح فولاذية متقنة الصنعة، ومن ضمنها لوحان مكتوبان بالمسند الحميري.
وباب وحيد في الجهة الجنوبية يطلق عليه "الباب العدني".
وخمسة أبواب من الجهة الشرقية، وهي: "الباب المنسد" والذي يستخدم من الداخل كخزانة للكتب، وهو من الجنوب، يليه "باب الدحاح" وبعده مباشرة "الباب الأوسط" و"الباب المفتوح" و"باب الرعد".
وأربعة أبواب من الجهة الغربية، وهي من الجنوب على التوالي "باب المطاهير" و"الباب الطويل" و"باب الكرع" و"باب الكشك", وبعض هذه الأبواب مفتوح باستمرار، وبعضها لا يفتح إلا في المناسبات الدينية كالجمعة ورمضان ونحوهما.
المنارتان
للجامع الكبير منارتان:
الشرقية، وتقع في الركن الجنوبي الشرقي من الصوح الداخلي، ويبلغ ارتفاعها 35.8)م)، وهي عبارة عن أربعة أجزاء:
الجزء الأسفل، وهو مربع الشكل يبلغ ارتفاعه (13.65م)، وينتهي بالدوار الأسفل.
والجزء الأوسط، وهو أسطواني الشكل، ويبلغ ارتفاعه (11م)، وينتهي بالدوار الأعلى.
والجزء الأعلى، وهو مضلع سداسي الشكل، يبلغ ارتفاعه (8.15م).
والقبلة يبلغ ارتفاعها نحو 2.90)م).
الغربية، وتقع في الركن الجنوبي الغربي من المقصورة الغربية, ويبلغ ارتفاعها (36م)، وهي أربعة أجزاء:
الجزء الأسفل، وهو مربع الشكل يبلغ ارتفاعه (13.65م)، وينتهي بالدوار الأسفل.
الجزء الأوسط، وهو أسطواني الشكل، ويبلغ ارتفاعه (8.61م)، وينتهي بالدوار الأعلى.
الجزء الأعلى، وهو مضلع سداسي الشكل ارتفاعه (7م).
القبلة يبلغ ارتفاعها نحو (2م).
مكتبة الجامع الكبير
مكتبة الجامع الكبير تعد من أعظم المكاتب الإسلامية من حيث احتواءها على نفائس الكتب العلمية وأشهر المخطوطات القيمة.
التراث الفكري اليمني غني بالكتب النافعة والمؤلفات الجليلة, ولقد ضمت مكتبتا الجامع الكبير - الشرقية والغربية - نفائس المؤلفات، وجليل الموسوعات في مختلف العلوم والفنون، ويقدر عدد المخطوطات الموجودة في المكتبتين بأكثر من 10 آلاف مخطوطة، كما ذكر ذلك الأكوع في كتابه "مصاحف صنعاء", وتتميز مكتبة الجامع الكبير بـ:
احتوائها على أندر المخطوطات العالمية، كـ"مصحف الإمام علي" الذي كتب في زمن الصحابة كما يعتقد بعض الباحثين.
وكتاب "ديوان ذي الرمة"، والذي كتب في القرن الثالث من الهجرة, والجزء الرابع والثامن من "كتاب سيبويه".
احتوائها على مخطوطات كتبت بخط مؤلفيها، كالقسم الآخير من كتاب "العقد الفاخر الحسن" للمؤرخ الخزرجي, وكتابي "الإيجاز" و"الانتصار" للإمام يحيى بن حمزة، وبعض أجزاء "فتح الباري" لابن حجر، وغير ذلك من المخطوطات التي كتبت بخط مؤلفيها.
احتوائها على مؤلفات لا توجد في أي مكتبات العالم, وهي نسخة كتاب "المغني" للقاضي عبدالجبار.
احتوائها على مخطوطات محجوبة بماء الذهب، ككتاب "القاموس" للفيروز أبادي, وكتاب "الإسعاف في شرح شواهد الكشاف" للشيخ خضر بن عطا الله.
القبور
ضم الجامع الكبير عدداً من القبور، وهي على النحو التالي:
1- قبر النبي حنظلة بن صفوان، وهو ملاصق للجدار الشمالي للمئذنة الغربية.
2- قبران أحدهما للشريف "محمد" بن موسى، ويصل نسبه إلى العباس بن علي بن أبي طالب، ونقل من خط القاضي العلامة يحيى بن إسماعيل الجُباري المتوفي سنة (1102هـ) أنه قبر الشريف الحسن بن عبد الله بن الحسن بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن العباس بن عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
والأخر لشريف من ذرية الحسن بن علي، ويقع القبران بجوار الجدار الغربي للمئذنة الشرقية.
3- قبة العوسجة، وتقع هذه القبة في الركن الغربي الجنوبي للجامع، قال الدرسي في دليل الزائر: "وفيه قبة كانت قديماً يطلق عليها (العوسجة) وقد ادخلت في الجامع الكبير، ولكن للأسف الشديد كثير من الناس لا يعلمون البتة أن هناك قبور أئمة، والسبب في ذلك هو إغلاق القبة، وبتعبير أوضح سد أبوابها ونوافذها حتى لا يعلم من فيها، وهي في الطريق الداخل إلى الجامع من جهة المطاهير على جهة اليمين".
وقد ضمت القبة قبوراً لعدد من الأئمة والعلماء، وهم:
- الإمام المهدي محمد بن المطهر بن يحيى المتوفي (728هـ).
يعد الإمام المهدي من أئمة الزيدية الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ حيث قام بالإمامة في سنة (701هـ)، ولقد ملك اليمن ومكن الله له فيها، فامتدت دولته إلى شمالها وجنوبها حتى عدن وأبين, ولقد أقام العدل والحق، وتعتبر دولته من غرر الدول التي حكمت اليمن، حتى عده الإمام مجد الدين المؤيدي سلام الله عليه ممن جدد الله بهم الدين.
ترك الإمام المهدي عدداً من المؤلفات النافعة، منها: "المنهاج الجلي شرح مجموع الإمام زيد بن علي"، وهو في أربعة مجلدات، و"عقود العقيان في الناسخ والمنسوخ من القرآن"، ويحوي من علوم التفسير فرائد ثمينة، وله في العربية "الكواكب الدرية شرح الأبيات البدرية"، وله "مجموع المهدي".
توفي الإمام المهدي عليه السلام في 22 ذي الحجة من سنة 728هـ، وعمره 70 سنة.
- الإمام المطهر بن المهدي المتوفي سنة (802هـ).
قال في التحف شرح الزلف في ترجمته: "الإمام الواثق بالله المطهر بن الإمام المهدي محمد بن المطهر، كان من علماء العترة الزكية، وهو صاحب الأبيات الفخرية التي مستهلها:
لا يستزلك أقوام بأقوال
ملفقات حَرِيات بإبطال
لا ترتضي غير آل المصطفى وزراً
فالآل حقاً وغير الآل كالآل
فآية الود والتطهير أنزلتا
فيهم كما قد رووا من غير إشكال
وهل أتى قد أتى فيهم فما لهم
من الخلائق من ند وأشكال
وهم سفينة نوح كل من حملت
أنجته من أَزْل أهواء وأهوال
والمصطفى قال إن العلم في عقبي
فاطلبه ثم وخل الناصب القالي
وكان في أيام المؤيد بالله يحيى بن حمزة، وتخلى عن الإمامة في عصر الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد.
وفاته: سنة اثنتين وثمانمائة عن تسع وتسعين سنة، وله الرسالة المشهورة المتضمنة لأنواع العلوم المسماة: بـ"الدر المنظوم".
- يحيى بن الحسين بن يحيى صاحب "الياقوته" المتوفي سنة (729هـ).
قال في ترجمته في كتاب مطلع البدور: "السيد العماد حافظ الشريعة يحيى بن الحسين بن يحيى بن علي بن الحسين وله الياقوتة، والجوهرة، وكتاب في الفقه يسمى اللباب، توفي وعمره نيف وستون".
- محمد بن إدريس الحمزي صاحب "غلة الصادي" المتوفي سنة (714هـ).
جاء في ترجمته في مطلع البدور: "أبو القاسم محمد بن إدريس بن علي بن عبد الله بن الحسن بن حمزة بن سليمان، كان شمساً مضيئة الأنوار، وعلماً من أعلام العترة الأطهار.
صنف في التفسير كتباً، أحدها (التيسير)، والآخر (الإكسير الإبريز في تفسير القرآن العزيز)، وله (التحرير)، وله (الحسام المرهف تفسير غريب المصحف)، وله (الدرة المضية في الآيات المنسوخة الفقهية)، وله في الفقه (شفاء غلة الصادي في فقه الهادي)، وله (النور الممطور في فقه المنصور)، وله (الذخرة الزاخرة في مناقب العترة الطاهرة)، وله شرح على (اللمع)، وله في التفسير أيضاً (المنهج القويم في تفسير القرآن الكريم)، ثم فرغ منه في عام أربع وثلاثين وسبعمائة بقرية (بيت بوس)".
الجامع الكبير مراحل البناء وتاريخ العمارة
يرجع بناء الجامع الكبير إلى صدر الإسلام، وبالتحديد في السنة السادسة للهجرة النبوية, ومن ذلك الحين حتى يومنا هذا تعاقبت على الجامع الكبير الزيادات والاصلاحات والأحداث, وتناولته أيدي الزمان هدماً وتعميراً, وكان في كلها شامة العلم ومنارة العبادة, عاش في ظله الفضلاء, ونبغ من سوحه العلماء, وتخرج من مدرسته الأئمة.
أول من بناه
مع الاتفاق على أن بناء الجامع الكبير بصنعاء كان في السنة السادسة للهجرة بأمر من الرسول صلوات الله عليه وعلى آله, إلا أن المؤرخين اختلفوا حول الشخصية التي قامت ببنائه, وقد أوردوا أربع شخصيات، وهي: (وبر بن الأحنس الأنصاري, وفروة بن مسيك المرادي, وأبان بن سعيد بن العاص, والمهاجر بن أمية المخزومي شقيق أم المؤمنين أم سلمة), ومن الملاحظ أن هؤلاء الصحابة تعاقبوا على ولاية صنعاء في عهد النبي, ويرجح بعض الباحثين أن يكون وبر بن الأخنس الأنصاري هو من قام ببنائه, وقد أورد المؤرخ الحجري في كتابه مساجد صنعاء كلام المؤرخ العلامة أحمد بن عبدالله الرازي في كتابه تأريخ صنعاء: "إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر وبر بن الأحنس الأنصاري حين أرسله إلى صنعاء والياً عليها فقال له ادعهم إلى الإيمان فإن أطاعوا لك به فاشرع لهم الصلاة فإن أطاعوا لك بها فأمر ببناء المسجد في بستان باذان ما بين الصخرة الململمة إلى غمدان، قيل إن الصخرة المشار إليها هي الموجودة الان في الصوح الغربي في أصل أساس الجدار الغربي من الجامع".[الحجري, مساجد صنعاء, ص27].
التوسيع الأول للجامع الكبير
يذكر الرازي في كتابه (تاريخ مدينة صنعاء, ص136): "ولما أفضت الخلافة إلى الوليد بن عبدالملك بن مروان الأموي في آخر المائة الأولى من الهجرة النبوية، كتب الوليد لأيوب بن يحيى الثقفي بالولاية على صنعاء واليمن، وأمره أن يزيد في الجامع الكبير ويبنيه بناء جيداً محكماً، فبناه أيوب بن يحيى وزاد فيه من نحو قبلته الأولى إلى موضع قبلته اليوم، وحضر وهب بن منبه ذلك، وقال لهم إن أردتم أن تنصبوا قبلته فاستقبلوا به ضين (الجبل المشهور شمال صنعاء)"[الحداد, مسجد صنعاء, ص139].
التوسيع الثاني للجامع الكبير
يذكر المؤرخون أن الجامع الكبير مر بإصلاحات وتوسيع في عهد العباسيين, وبعض المؤرخين يرجعون تلك الاصلاحات إلى والي صنعاء عمر بن عبد المجيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب, وهو أول من ولي صنعاء لبني العباس، ويذكرون أنه أول من بوب أبواب الجامع الكبير, قال السيد العلامة المؤرخ محمد بن إسماعيل الكبسي في تأريخه إن الأمير علي بن الربيع أحد من تولى لبني العباس جدد عمارة الجامع الكبير في سنة 136هـ" [الحجري, مساجد صنعاء, ص29].
ويوجد في جدار مكتبة الجامع الكبير لوح من البلق حفر عليه بالخط الكوفي ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم, لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول الله, أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون, أمر المهدي عبدالله أمير المؤمنين أكرمه الله بإصلاح المساجد وعمارتها على يد الأمير علي بن الربيع أصلحه الله في سنة ستة وثلاثين ومائة أعظم الله أجر المهدي وقبل عمله".
والخليفة المهدي العباسي خلافته بعد خلافة السفاح، فعلى ذلك يكون الجامع الكبير قد مر في بداية العصر العباسي بعمليتي اصلاح، في عهد السفاح بمساعي عامله عمر بن عبدالمجيد، وفي عهد المهدي بواسطة عامله علي بن الربيع.
عمارة الجامع في زمن بني يعفر
تعرضت صنعاء لسيل عظيم في سنة 265هـ، وقيل قبل ذلك, عرف بسيل "يعمد" فدمر جزءاً كبيراً من مدينة صنعاء بما في ذلك جامعها الكبير, حتى بلغ عدد الدور التي تخربت 1200 دار, كما نقله الحداد عن ابن جرير الصنعاني في كتابه تأريخ صنعاء.
ويذكر المؤرخون أن الأمير اليعفري محمد بن يعفر الحوالي قام في سنة 265هـ بإعادة بناء الجامع الكبير بعد أن خربه سيل "يعمد"، وقد بناه على ما هو عليه اليوم بهذه السقوف المتقنة والصنعة المحكمة، وقد جعل جميع أخشابه التي في السقف سواء في الجانب القبلي أو العدني أو الغربي من الساج.
ويذكر المؤرخ الحبيشي أن جملة ما أنفقه بنو يعفر في بناء الجامع الكبير 350000 دينار يعفري, والدينار اليعفري كان يساوي في ذلك الوقت ثلاثة دنانير ملكية. [الحداد, مسجد صنعاء, ص43].
عمارة الجناح الشرقي
يَذكرُ الحجري في كتابه [مساجد صنعاء, ص31] نقلاً عن المؤرخ يحيى بن الحسين في تاريخه (أنباء الزمن) أنَّ الملكة أروى بنت أحمد سنة (525هـ / 1130م) قامت بزيادة الجناح الشرقي للجامع الكبير, لكن المؤرخ ابن أبي الرجال ذكر في كتابه مطلع البدور في ترجمة إبراهيم بن محمد ما نصه: " ونسب هذا العلامة يلتقي بنسب أسعد بن أبي يعفر الذي عمر مجنب (جامع صنعاء الشرقي) في سنة نيف وستين ومائتين" [ابن أبي الرجال, مطلع البدور, ج1/ ص94].
وهذا يخالف ما ذكره الحجري عن صاحب أنباء الزمن, وهو ما أكده الحداد نقلاً عن المؤرخ السياغي في كتابه معالم الآثار اليمنية.
ويؤيد ما جاء في كلام صاحب مطلع البدور ما ذكره الباحث الحداد نقلاً لكلام المؤرخ والرحالة المسعودي في كتابه "مروج الذهب" ما نصه: "دخلت صنعاء في حدود ثلاث وثمانين ومائتين يعني من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام فرأيت الشريف يحيى بن الحسين يعني الهادي إلى الحق صاحب صعدة واليمن, قاعداً على رأس غمدان وعنده ابن يعفر, وهو يأمره وينهاه, والحجارة تنقل من غمدان لعمارة الجامع"[الحداد, مسجد صنعاء, ص43].
والمراد بابن يعفر في كلام المسعودي الملك اليعفري أسعد بن يعفر, وكلام المسعودي والذي يحكي فيه مشاهداته يدل على أن أسعد بن يعفر قام بإصلاحات في سنة 283هـ في الجامع الكبير, وأن الذي أشرف على تلك الإصلاحات الإمام الهادي يحيى بن الحسين سلام الله عليه, وهو يؤيد ما جاء في مطلع البدور, لكن التاريخ الذي أورده في مطلع البدور وهو سنة مائتين ونيف وستين يخالف التاريخ الذي ذكره المسعودي من أن ذلك كان في سنة 283هـ, وكلام المسعودي أدق وأصح للآتي:
أولاً: يحكي المسعودي عن مشاهداته, بينما صاحب مطلع البدور المتوفي سنة 1092هـ ينقل عن كتب التاريخ أو من محفوظات الشيوخ.
ثانياً: أسعد بن يعفر إنما تولى ملك بني يعفر عام 279هـ, بينما في سنوات الستين بعد المائتين كان المتولي لملك بني يعفر محمد بن يعفر.
ثالثاً: يكاد يجمع المؤرخون أن محمد بن يعفر قام بعمارة الجامع الكبير في سنة 263هـ وهي السنة التي ذكر صاحب مطلع البدور أن أسعد بن يعفر قام فيها بعمارة الجامع الكبير.
وهنا يجب أن ننبه أنه ربما ذهب البعض إلى أن الجناح الشرقي من عمارة بني يعفر لكنه يرد ذلك إلى الملك اليعفري محمد بن يعفر, لكن رواية المسعودي تدل على أن أسعد بن يعفر هو من قام بعمارته, وعلى الرغم من أن هذا البعض لا يستند في كلامه على حقائق تاريخية وإنما استنتاجات، فهناك قرينة تدل على صحة كلام المسعودي، وهي أن الزخارف الموجودة في سقف الجناح الشرقي تختلف عن الموجودة في الأجنحة الأخرى التي اتفق المؤرخون على أن محمد بن يعفر أو ولده إبراهيم هما من قاما بعمارتها، وهو ما يؤكد صحة الرأي الذي يقول أن أسعد بن يعفر هو من عمر الجناح الشرقي.
عمارة المنارتين الغربية والشرقية
في جدار المنارة الغربية للجامع الكبير يوجد لوح حجري أبيض، في الجهة الشرقية منها، كتب عليه بالخط العربي أن الأمير وردسار بن بنامي الشاكاني أحد قواد الأيوبين، والذين حكموا صنعاء قد قام في سنة 603هـ، بإصلاح المنارة الغربية للجامع, كما ذكر ذلك الحجري في كتابه [مساجد صنعاء, ص31].
كما أن الأمير نفسه قام بإصلاح المنارة الشرقية, واستناداً لما أورده الباحث الحداد نقلاً عن القاضي العرشاني المتوفي (626هـ) في كتابه الاختصاص، والذي كان شاهد عيان؛ إذ كان قاضي صنعاء، أن وردسار الشاكاني هو من قام بإصلاح المنارتين الشرقية والغربية بعد أن كانتا تهدمتا.[الحداد, مسجد صنعاء, ص157]
ويستنتج الحداد استناداً إلى كلام العرشاني أن الانتهاء من بناء المنارة الشرقية في 7 صفر603هـ, بينما كان الفراغ من بناء المنارة الغربية في 16 رمضان من نفس العام.
ويذكر المؤرخ الحجري في كتابه "مساجد صنعاء" أنه حصل خلل في المنارة الشرقية في أول القرن 14 الهجري، فقام بإصلاحها والي الأوقاف القاضي حسين بن علي العمري من أموال الحاج محمد بن علي صبره؛ إذ أوصى بثلث ماله في المحاسن.
تجديد المطاهير والبركة
يذكر المؤرخ الحجري أن الإمام الناصر صلاح الدين محمد ابن الإمام المهدي علي بن محمد المتوفى سنة 739هـ, قام بتجديد عمارة المطاهير والبركة على ما هي عليه في وقت المؤلف أي حوالي سنة 1358مـ.
بناء منبر الجامع
في سنة 984هـ أمرَ الوزير مراد باشا ببناء منبر للجامع ونحت اسمه على المنبر فوق بابه على أصله إلا أن وضعه كما يذكر القاضي الحجري كان حائلاً دون إكمال الصف الأول, فأمر الإمام المتوكل على الله يحيى حميد الدين سنة 1338هـ بإصلاحه وتعديله, ويذكر الحداد أن المنبر الحالي صنع في سنة 1410هـ.
عمارة الصوح الواسط (الشماسي)
في عهد الوزير العثماني سنان باشا حدثت عدة إصلاحات للجامع الكبير، منها رصف صرح الجامع المعروف بالشماسي بالحجر الحبش على ما هو عليه, وكان ذلك في مطلع القرن الحادي عشر الهجري، وقد اختلف في أي سنة، فقيل: سنة 1012هـ، وقيل: 1016هـ.
كما قام الوزير المذكور ببناء القبة الواقعة في وسط الصرح، والتي يطلق عليها "قبة الصليط"، وهي تتكون من طابقين، الأعلى للمصاحف، والأسفل للزيت والصليط الذي يستخدم في إضاءة المسجد.
ويذكر المؤرخ الحجري أن الجدار المحيط بالصوح من محاسن الحاج أحمد عطا في سنة 1326هـ.
عمارة المنازل
عرفت مدارس اليمن العلمية بالمنازل التي تعتبر سكناً لطلبة العلم، ولما كان الجامع الكبير يعتبر كجامعة علمية تحظى بإقبال كبيرة من طلبة العلم، فقد بنيت حوله منازل في سنة 1250هـ، أمر بعمارتها المهدي عبدالله بن المتوكل, وتقع في جهة الغرب للجامع وعددها 50 غرفة.
كما قام المهدي المذكور بتوسعة الساحة الواقعة أمام باب القبلة.
المكتبة الشرقية
في سنة 1355هـ أمر الإمام المتوكل على الله يحيى حميد الدين ببناء المكتبة الشرقية للجامع، لحفظ نفائس الكتب الموقوفة على الجامع, وكانت الكتب توضع قبل بناء المكتبة في خزانة داخل الجدار الشرقي لمؤخر الجامع تعرف "بخزانة الوزير".
كما كان للإمام المتوكل عدد من الإصلاحات في الجامع، والتي منها:
* عمارة السقفين الواسطين في الجناحين "الشرقي والغربي" للتخفيف من زحمة الناس يوم الجمعة، وقد عمرا من الأخشاب الجاوية والألواح الهندية, وقد أزيلا في عام 1972م.
* عمارة الدرج من الجنوب الغربي في صوح الجامع إلى سطح المؤخر.
* حفر البئر الغربية للجامع وعمارتها وعمارة سواقيها إلى مطاهير الجامع.
* عمارة سبيل الماء؛ ليغترف منها الناس للشرب.
المكتبة الغربية
في عهد الإمام أحمد حميد الدين، وفي عام 1380هـ بالتحديد أمر الإمام نائبه على صنعاء علي بن علي زبارة ببناء المكتبة الغربية.
وكان للإمام أحمد عدد من الإصلاحات في الجامع، منها:
* في عام 1368هـ أمر الإمام بتوصيل الماء من بئر الحميدي إلى الجامع الكبير عبر أنابيب من الفخار.
* في عام 1370هـ أمر الإمام ناظر الأوقاف قاسم حسين أبو طالب بتجديد عمارة الجزء الشرقي من الجدار الجنوبي للجامع.
* وفي عام 1373هـ أمر الإمام ببناء جدار مقابل للمطاهير بين الدعامتين المواجهتين لباب المطاهير وباب الصوح الغربي, كما قام بعدها بسنة أي عام 1374هـ بترميمات واسعة في سطح الجامع.
* في عام 1380هـ أمر الإمام ببناء توسعة في الساحة الواقعة جنوب الجامع.
الجامع الكبير مدرسة علمية وجامعة عالمية
ظل الجامع الكبير ولا زال مدرسة علمية رائدة، وجامعة عالمية مجددة، تخرج منها الآلاف من الأئمة والعلماء والحفاظ والقراء, وهو لا يقل أهمية عن جامع الأزهر بمصر والزيتونة بالمغرب, ولقد وفد إليه منذ فجر الإسلام العلماء وطلاب العلم من مختلف الأقطار, ويكاد يقطع الباحث أن حلقات العلم والدرس لم تنقطع عنه من يوم الإسلام الأول حتى يومنا هذا.
"وقد كان هذا الجامع من الجوامع العامرة بشيوخ الفقه والتلاميذ من العاصمة وخارجها؛ لأن حول الجامع سوراً من الغرف المكونة من طابقين أو ثلاثة، وذلك لإيواء الطلاب الوافدين من الأرياف".[المدن والآثار الإسلامية في العالم, أحمد الخالدي].
"ومن أهم تلك الجوامع الجامع الكبير بصنعاء الذي يعد مقصداً لجميع طلبة العلم لاحتوائه على منازل عديدة يأوي إليها المهاجرون من طلبة العلم، ولتعدد الحلقات العلمية به لتعدد الأساتذة المدرسين، الذي بلغ عددهم في منتصف فترة حكم الإمام يحيى حوالي ستة عشر شيخاً مدرساً، وبلغ عدد الطلاب الملتحقين بهم قرابة الأربعمائة طالب منتظم [د. زيد علي الفضيل, الحركة الثقافية في اليمن وإنعكاساتها السياسية].
ولقد كانت تدرس في سوح الجامع الكبير كل العلوم, وتقام حلقات الدرس في مختلف الفنون, ومن العلوم التي لم ينقطع الدرس فيها عن الجامع الكبير علم القراءات، وعلم الحديث، والعقيدة، والفقه، والسيرة، وعلم اللغة بأقسامه, وغيرها من العلوم, ولقد كان لعلم القراءات الحظ الأوفى حفظاً وإتقاناً, ولقد احتفظ المشائخ والقراء بهذا العلم وتوارثوه ونقلوه بالإجازة المسندة بالحفاظ إلى زمن الرسول الأكرم, ومن أشهر القراء الذين سكنوا صنعاء منذ بدايات الاسلام أبو خليفة القارئ عبدالله بن خليفة الهمداني المتوفي في القرن الثاني, وعطاء بن مركيوذ, وعبدالله بن مرثد بن يزيد, وطاووس بن كيسان (106هـ), وعبدالله بن صالح بن غسان الكوفي والذي وفد إلى صنعاء وتوفي بها في القرن الثالث الهجري.
وهكذا ظل الجامع الكبير يزخر بعلماء القراءات وحفاظ القرآن الكريم إلى يومنا هذا، والذي يعتبر تعدادهم في هذا المقال نوعاً من المحال؛ لكثرتهم وغزارة أسمائهم عبر التاريخ الاسلامي.
ولم يكن الدور العلمي للجامع الكبير مقتصراً على علم القراءات فقط، بل كان دوره شاملاً لجميع العلوم, وكان التلقي فيه لمختلف الفنون, وعلى هذا النسق حافظ الجامع الكبير على مكانته بين جامعات الدنيا ومؤسسات العالم العلمية.
المراجع/
مسجد صنعاء للأستاذ عبدالرحمن محمد حسين الحداد
مساجد صنعاء عامرها وموفيها للقاضي محمد بن أحمد الحجري
مطلع البدور للقاضي العلامة محمد صالح أبو الرجال
التحف شرح الزلف للمولى العلامة مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي
تاريخ صنعاء منذ فجر الإسلام وحتى أواخر القرن الرابع الهجري, للدكتور طارق أبو الوفا محمد
الحركة الثقافية في اليمن وإنعكاساتها السياسية, د. زيد علي الفضيل