.
 
31-37-2019

(1)
خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الإسلام؛ وإلى عبادة الله الواحد، فلاقاه أهلها بالصدِّ وسفهوه، وكذبوه، وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم، فرجموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه، بعد ذلك ناداه ملك من الملائكة، ﻓﺴﻠﻢ عليه، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﻣﺤﻤﺪ ﺇﻥَّ اﻟﻠﻪ ﻗﺪ ﺳﻤﻊ ﻗﻮﻝ ﻗﻮﻣﻚ ﻟﻚ، ﻭقد ﺑﻌﺜﻨﻲ ﺭﺑﻲ ﺇﻟﻴﻚ ﻟﺘﺄﻣﺮﻧﻲ ﺑﺄﻣﺮﻙ، ﻓﻤﺎ ﺷﺌﺖ، ﺇﻥ ﺷﺌﺖ ﺃﻃﺒﻘﺖ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻷﺧﺸﺒﻴﻦ، عند ذلك ﻘﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ وآله ﻭﺳﻠﻢ: ((ﺑﻞ ﺃﺭﺟﻮ ﺃﻥ ﻳﺨﺮﺝ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺃﺻﻼﺑﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻌﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ ﻻ ﻳﺸﺮﻙ ﺑﻪ شيئاً)).
وروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شقاً شديداً وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: ((إنِّى لم أبعث لعاناً ولكني بعثت داعياً ورحمة، اللهم اهدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون))
مرَّ أعرابيٌ ورسولُ الله يُقبِّلُ ولديه الحسن والحسين، فقال الأعرابي: إنَّ لي عشرة من الأبناء ما قَبَّلتُ واحداً منهم، فقال له النبي الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم: ((وما أدراني لعل الله نزع الرحمة من قلبك)).
قال رجلٌ لرسول الله: اعدل فإنَّ هذه قسمة ما أريد بها وجه الله, فلم يزده في جوابه أنٍْ بين له ما جهله, فقال: ((ويحك فمن يعدل إن لم أعدل ؟ خبت وخسرت إن لم أعدل)).
استعز بأمامة بنت أبي العاص فبعثت زينب بنت رسول الله إلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم تقول له: إن ابنتي قد استعز بها فبعث إلى ابنته: ((لله ما أخذ وله وما أبقى))، واستعزت الثانية، فبعثت إليه: إن ابنتي قد استعز بها، فبعث إلى ابنته: ((لله ما أخذ وله ما أبقى))، ثم كانت الثالثة، فجاءها النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فأخرجت الصبية إليه فإذا نفسها تقعقع في صدرها ومع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناس من أصحابه فذرفت عيناه حتى قبض على لحيته ففطن بهم وهم ينظرون إليه, فقال: ((ما لكم تنظرون ؟)), قالوا: يا رسول الله رأيناك رققت, قال : (( رحمة الله يضعها الله عز و جل حيث يشاء وإنما يرحم الله غدا من عباده الرحماء))
(2)
كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وعلى آله يجلس بين أصحابه كأحدهم، حتى إنَّ الغريب إذا جاء كان يسأل: أيُّكم رسول الله؟
أرسل الله ﻣﻠﻜﺎً ﻣﻦ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻭﻣﻌﻪ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﻤﻠﻚ ﻟﺮﺳﻮﻝ الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ﺇﻥ الله ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﻳﺨﻴﺮﻙ ﺑﻴﻦ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻋﺒﺪاً ﻧﺒﻴﺎً، ﻭﺑﻴﻦ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻣﻠﻜﺎً ﻧﺒﻴﺎً، ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ الله ﻋﻠﻴﻪ ﻭآله ﻭﺳﻠﻢ ﺇﻟﻰ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻛﺎﻟﻤﺴﺘﺸﻴﺮ ﻟﻪ، ﻓﺄﺷﺎﺭ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﺃﻥ ﺗﻮاﺿﻊ، ﻓﻘﺎﻝ ﺻﻠﻰ الله ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ﻻ، ﺑﻞ ﺃﻛﻮﻥ ﻋﺒﺪاً ﻧﺒﻴﺎً، ﻗﺎﻝ: ﻓﻤﺎ ﺃﻛﻞ ﺻﻠﻰ الله ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺑﻌﺪ ﺗﻠﻚ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻃﻌﺎﻣﺎً ﻣﺘﻜﺌﺎً ﺣﺘﻰ ﻟﻘﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ))
وروى أبو أمامة: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم متوكئاَ على عصا فقمنا له، فقال: ((لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً، وقال: إنَّما أنا عبد آكلُ كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد)).
وعن عائشة: ما ضرب رسول الله خادماً قط ولا امرأة, ولا ضرب بيده شيئاً الا أن يجاهد في سبيل الله, وما خير بين شيئين الا كان أحبهما إليه أيسرهما الا أن يكون إثماً, ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله عز وجل.
(3)
جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفار قريش, فقال لهم: ((ﺃﺭﺃﻳﺘﻜﻢ ﻟﻮ ﺃﺧﺒﺮﺗﻜﻢ ﺃﻥ ﺧﻴﻼً ﺑﺎﻟﻮاﺩﻱ ﺗﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﺗﻐﻴﺮ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﺃﻛﻨﺘﻢ ﻣﺼﺪﻗﻲ؟))، ﻗﺎﻟﻮا: ﻧﻌﻢ، ﻣﺎ ﺟﺮﺑﻨﺎ ﻋﻠﻴﻚ ﺇﻻ ﺻﺪﻗﺎً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ﻓﺈﻧﻨﻲ ﻧﺬﻳﺮ ﻟﻜﻢ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ ﻋﺬاﺏ ﺷﺪﻳﺪ)).
(4)
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مكة يوم فتح مكة: ((يا قريش ما تظنون أني فاعل بكم))، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال الرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
(5)
أعطى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﺭﺟﻼً مالاً ﻓﺮﺟﻊ اﻟﺮﺟﻞ ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻣﻪ، ﻭﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﻗﻮﻣﻲ ﺃﺳﻠﻤﻮا ﻓﺈﻥ ﻣﺤﻤﺪاً ﻳﻌﻄﻲ ﻋﻄﺎء من ﻻ ﻳﺨﺸﻰ اﻟﻔﺎﻗﺔ.
جاءه رجل فسأله فقال ما عندي شيء ولكن ابتع علىَّ فإذا جاءنا شيء قضيناه، فقال له عمر بن الخطاب: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وآله سلم ذلك القول من عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسَّم صلى الله عليه وآله وسلم وعرف البِشرُ في وجهه وقال بهذا أمرت.
في الرواية أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان معه عشرة دراهم، فأتاه صاحب بز، فاشترى منه قميصا بأربعة دراهم, فخرج وهو عليه فإذا رجل من الأنصار، فقال : يا رسول الله اكسني قميصاً كساك الله من ثياب الجنة، فنزع الرسول الأعظم القميص فكساه إياه، ثم رجع الرسول الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم إلى صاحب الحانوت فاشترى منه قميصاً بأربعة دراهم وبقي معه درهمان، فاذا هو بجارية في الطريق تبكي فقال: ((ما يبكيك ؟))، فقالت: يا رسول الله دفع إلي أهلي درهمين أشتري بهما دقيقاً فهلكا، فدفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها الدرهمين الباقيين، ثم ولَّت وهي تبكي فدعاها، فقال: ((ما يبكيك وقد أخذت الدرهمين؟)), قالت: أخاف أن يضربوني، فمشى صلى الله عليه وآله وسلم معها إلى أهلها، فسلم، فعرفوا صوته ثم عاد فسلم ثم عاد فسلم ثم عاد فثلث فردوا، فقال: ((أسمعتم أول السلام؟))، قالوا: نعم لكن أحببنا أن تزيدنا من السلام, فما أشخصك بأبينا وأمنا؟، فقال صلوات الله عليه وآله: ((أشفقت هذه الجارية أن تضربوها))، قال صاحبها: فهي حُرَّةٌ لوجه الله لممشاك معها, فبشرهم نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخير والجنة, ثم قال: ((لقد بارك الله في العشرة كسا الله نبيه قميصاً ورجلاً من الأنصار قميصاً وأعتق الله منها رقبة وأحمد الله هو الذي رزقنا هذا بقدرته)).
(6)
اﻟﺘﻔﺖ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذات مرة ﺇﻟﻰ جبل ﺃٌﺣُﺪ ﻭﻗﺎﻝ: ((ﻭاﻟﺬﻱ ﻧﻔﺴﻲ ﺑﻴﺪﻩ ﻣﺎ ﻳﺴﺮﻧﻲ ﺃﻥ ﺃﺣُﺪا ﻳﺘﺤﻮﻝ ﻵﻝ ﻣﺤﻤﺪ ﺫﻫﺒﺎً ﺃﻧﻔﻘﻪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﻣﻮﺕ ﻳﻮﻡ ﺃﻣﻮﺕ ﻭﻋﻨﺪﻱ ﻣﻨﻪ ﺩﻳﻨﺎﺭاﻥ ﺃﺭﺻﺪﻫﻤﺎ ﻟﺪﻳﻦ ﺇﻥ ﻛﺎﻥ))
(7)
ﻛﺎﻥ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ﻳﺮﻛﺐ اﻟﻔﺮﺱ، ﻭاﻟﺒﻌﻴﺮ، ﻭاﻟﺤﻤﺎﺭ، ﻭاﻟﺒﻐﻠﺔ، ﻭﻛﺎﻥ ﻛﺜﻴﺮ اﻟﺤﻴﺎء، ﻭﻛﺎﻥ ﺇﺫا ﻛﺮﻩ ﺷﻴﺌﺎ ﻋﺮﻑ ﻓﻲ ﻭﺟﻬﻪ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﺤﺐ اﻟﺴﺘﺮ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﺘﻮﻛﻞ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﺣﻖ ﺗﻮﻛﻠﻪ، ﻭﻳﻜﺜﺮ اﻟﺬﻛﺮ، ويديم اﻟﻔﻜﺮ، ﻭﻳﻘﻞ اﻟﻠﻐﻮ.
(8)
وﻣﺎ ﻋﺎﺏ صلى الله عليه وآله وسلم ﻃﻌﺎﻣﺎً ﻗﻂ، بل كان ﺇﻥ اﺷﺘﻬﺎﻩ ﺃﻛﻠﻪ، ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﺸﺘﻬﻪ ﺗﺮﻛﻪ، ﻭﻳﺄﻛﻞ ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎﻡ اﻟﻤﺒﺎﺡ ﻣﺎ ﺗﻴﺴﺮ ﻭﻻ ﻳﺘﻜﻠﻒ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ.
(9)
وكان ﻳﻘﺒﻞ اﻟﻬﺪﻳﺔ ﻭﻳﻜﺎﻓﺊ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻭﻻ ﻳﻘﺒﻞ اﻟﺼﺪﻗﺔ، ﻭكان ﻳﺨﺼﻒ ﻧﻌﻠﻴﻪ ﻭﻳﺮﻗﻊ ﺛﻮﺑﻪ، ﻭﻳﺨﺪﻡ ﻓﻲ ﻣﻬﻨﺔ ﺃﻫﻠﻪ، ﻭﻳﺤﻠﺐ ﺷﺎﺗﻪ، ﻭﻳﺨﺪﻡ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﻛﺎﻥ ﺃﺷﺪ اﻟﻨﺎﺱ ﺗﻮاﺿﻌﺎً، ﻳﺠﻴﺐ اﻟﺪاﻋﻲ ﻣﻦ ﻏﻨﻲ ﺃﻭ ﻓﻘﻴﺮ، ﺃﻭ ﺩﻧﻲء ﺃﻭ ﺷﺮﻳﻒ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﺤﺐ اﻟﻤﺴﺎﻛﻴﻦ ﻭﻳﺸﻬﺪ ﺟﻨﺎﺋﺰﻫﻢ ﻭﻳﻌﻮﺩ ﻣﺮﺿﺎﻫﻢ، ﻭﻻ ﻳﺤﻘﺮ ﻓﻘﻴﺮاً ﻟﻔﻘﺮﻩ، ﻭﻻ ﻳﻬﺎﺏ ﻣﻠﻜﺎً ﻟﻤﻠﻜﻪ.
(10)
ﻭﻛﺎﻥ ﺃﻛﺜﺮ اﻟﻨﺎﺱ ﺗﺒﺴﻤﺎً، ﻳﻤﺰﺡ ﻭﻻ ﻳﻘﻮﻝ ﺇﻻ ﺣﻘﺎً، ﻭﻻ ﻳﺠﻔﻮ ﺃﺣﺪاً، ﻭﺇﺫا ﺗﻜﻠﻢ فأنه يتكلم ﺑﻜﻼﻡ ﺑﻴٍّﻦ ﻓﺼﻞ، ﻳﺤﻔﻈﻪ ﻣﻦ ﺟﻠﺲ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﻳﻌﻴﺪ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﺛﻼﺛﺎ ﺇﺫا ﻟﻢ ﺗﻔﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﺗﻔﻬﻢ ﻋﻨﻪ، ﻭﻻ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺣﺎﺟﺔ، ﻭﻗﺪ ﺟﻤﻊ اﻟﻠﻪ ﻟﻪ ﻣﻜﺎﺭﻡ اﻷﺧﻼﻕ ﻭﻣﺤﺎﺳﻦ اﻷﻓﻌﺎﻝ، ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻣﻌﺎﺗﺒﺘﻪ ﺗﻌﺮﻳﻀﺎً، ونصحه تلميحاً، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﺄﻣﺮ ﺑﺎﻟﺮﻓﻖ ﻭﻳﺤﺚ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭينهى ﻋﻦ اﻟﻌﻨﻒ، ﻭﻳﺤﺚ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻔﻮ ﻭاﻟﺼﻔﺢ.
(11)
جاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفدٌ من النجاشي، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك يا رسول الله خدمتهم، فقال النبي الوفي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وأحب أن أكافئهم))
اشترى رسول الله من أحد الباعة شيئاً وبقي للبائع بعض دراهم، فانتظره النبي صلوات الله عليه وعلى آله وسلم ثلاث ليالٍ، وكان يذهب فيقيم في مكانه الذي غادره فيه، حتى لا يضل فلا يهتدي إليه، فيضيع حقه الثابت له.
(12)
عن أنس بن مالك: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه أعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، ثم قال: يا محمد احمل لى على بعيريَّ هذين من مال الله الذى عندك فإنك لا تحمل لى من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: ((المال مال الله وأنا عبده))، ثم قال: ((ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بى))، قال الأعرابي: لا، فقال النبي الإنسان: ((لم؟))، قال الأعرابي: لأنك لا نكافي بالسيئة السيئة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر.
(13)
قال ابن إسحاق: حدثني عبدالملك بن عبدالله بن أبي سفيان الثقفي وكان واعية قال: قدم رجل من إراش - قال ابن هشام: ويقال: إراشة - بإبل له مكة فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها، فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ناحية المسجد جالس، فقال: يا معشر قريش من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام فإنِّي رجل غريب ابن سبيل وقد غلبني على حقي؟، قال: فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس - لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يهزؤون به لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة - اذهب إليه فإنه يؤديك عليه، فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا عبدالله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله، وأنا رجل غريب ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه يأخذ لي حقي منه فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقي منه يرحمك الله، قال: انطلق إليه وقام معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فلما رأوه قام معه، قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع.
قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: محمد فاخرج إليَّ، فخرج إليه وما في وجهه من رائحة قد انتقع لونه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعطِ هذا الرجل حقه، قال: نعم لا تبرح حتى أعطيه الذي له، قال: فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه 
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال للإراشي: الحق بشأنك، فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيراً فقد والله أخذ لي حقي، قال: وجاء الرجل الذي بعثوا معه، فقالوا: ويحك ماذا رأيت؟، قال: عجباً من العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه، فقال له: أعط هذا حقه، فقال: نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إياه 
قال: ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا له: ويلك ما لك؟!، والله ما رأينا مثل ما صنعت قط، قال: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي وسمعت صوته فملئت رعباً ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلاً من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحلٍ قط، والله لو أبيت لأكلني.
(14)
تصدى غوث بن الحارث ليفتك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو نائم تحت شجرة قائلاً، والناس قائلون فلم ينتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا وهو قائم، والسيف مصلت على رأسه في يد الرجل، وهو يقول: ما يمنعك مني؟ فقال عليه وآله السلام بقلب مؤمن ولسان صادق: الله، فسقط السيف من يد الرجل، فأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: ما يمنعك مني؟ فقال كن خير آخذ, فعاد غوث بن الحارث إلى قومه وهو يقول: جئتكم من عند خير الله.
(15)
وصفت بلاغته أم معبد فقالت: اذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق, فصل لا نزر ولا هذر، وكان منطقه خرزات نظم يتحدرن.

;

31-29-2019

*مولده
ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل سنة 571م، و882 من تأريخ الإسكندر ذي القرنين عليه السلام.
لم تكن ليلة ميلاد الهدى محمد صلوات الله عليه وعلى آله كسائر الليالي، ولا يوم مولده كبقية الأيام, بل كان يوماً استثنائياً على مستوى العالم والكون, فهو يومٌ فارقٌ بين الظلمة والنور، والحق والباطل، والهدى والضلال.
لقد ولد صلوات الله عليه وعلى آله في أيمن طالع، فَقَدِمَ قدومُ الغيث إلى الأرض المجدبة, وأطل فجره بعد ليل أليل من الجاهلية, مؤذناً بتمزيق ظلام الشرك والباطل بنور الحق والخير والإسلام.
وقد سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم يوم الاثنين فقال: ((يومٌ ولدتُ فيه، ويومٌ بُعثت فيه، ويومٌ أُنزل عليَّ فيه)).
وقد قالت أمُّه آمنة عن حمله وولادته: "إني حملتُ به فوالله ما حملت حملاً قط كان أخفَّ منه عليّ ولا أيسر، ثم رأيت حين حملته أنه خرج مني نور أضاء منه أعناق الإبل ببصرى، أو قالت: قصور بصرى، ثم وضعته حين وضعت, فوالله مَا وقع كما يقع الصبيان، لقد وقع معتمداً بيده على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء".
ومن مزيد إكرام الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن ولد نظيفاً مختوناً مسروراً, ووقع على الأرض ساجداً رافعاً رأسه إلى السماء, قد خرج منه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب.
وحقيقٌ بيومٍ ولد فيه المصطفى صلى الله عليه وآله سلم أن يُتَّخَذ عيداً؛ بل أفضل الأعياد, وأن تفرح بقدومه الأنام، فهو من نعم الله العظيم، وبذلك فليفرح المؤمنون, ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
ولما ولد صلى الله عليه وآله وسلم اضطربت الأصنام ونكست، وانطفأت نار المجوس، وقوِّضت الشياطين، وسمع تكبير عالٍ يقول: الله أكبر الله أكبر رب محمد المصطفى و إبراهيم المجتبى، ألا إن ابن آمنة الغراء قد ولد وقد انكشفت عنا سحائبُ الغمَّة إلى الرحمة، ثم اضطربت الأصنام وخرت على وجوهها.

*النبي في البادية
بعد مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قَدِمَتْ حليمةُ السعدية في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن الرضاع بمكة، فأخذتْ كل واحدة منهن رضيعاً، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نصيب حليمة، وما أن حملته حتى بدأت بركته تصب عليها وعلى زوجها، وقد قالت في ذلك: "فخرجنا [يعني من مكة]، فما زال يزيدنا الله في كل يوم خيراً حتى قدمنا والبلاد سنهة، فلقد كان رعاؤنا يسرحون ثم يروحون فتروح أغنام بني سعد جياعاً، وتروح غنمي شباعاً حُفْلاً، فنحتلب ونشرب، فيقولون: مَا شأن غنم الحارث بن عبد العزى وغنم حليمة تروح شباعاً بطاناً حُقلاً، وتروح غنمكم بشرٍ جياعاً؟! ويلكم اسرحوا حيث تسرح رعاتهم فيسرحون معهم فما ترجع إلاَّ جياعاً كما كانت".
قالت حليمة: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشب شباباً مَا يشبهه أحد من الغلمان، يشب في اليوم شباب الغلام في الشهر وفي الشهر شبابه في السنة.

*طفولته
بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة مع أمِّه آمنة بنت وهب، فلمَّا بلغ سنَّ السادسة قدمتْ به أمُّه المدينة لزيارة قبر والده عبدالله والذي توفي ورسول الله في بطن أمِّة، وماتت أمُّه آمنة في أثناء عودتهم إلى مكة بمنطقة الأبواء، ودُفنت هناك، ليتربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك في كنف جدِّه عبدالمطلب، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظلِّ الكعبة، وكان بنوه يجلسون حوله حتى يخرج إليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي وهو غلام فيجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه, فيقول لهم عبد المطلب: دعوا ابني فوالله إن له لَشأنا.
ولما حضرت عبدالمطلب الوفاة، وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذٍ ثمان سنين، فجمع بنيه وبناته، وأوصاهم به، وقضى عبد لمطلب نحبه، وكفل رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم عمُّه أبو طالب وزوجته فاطمةُ بنت أسد بن هاشم أم علي عليه السلام.
ولما بلغ سنَّ التاسعة خرج مع عمِّه أبي طالب إلى الشام، وفي الطريق كان ما كان من قصة بحيرى النصراني مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وحضر صلى الله عليه وآله وسلم في صغره مع أعمامه حرب الفجار قبل أن يبلغ مبالغ الرجال.
وهكذا بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عمِّه أبي طالب حتى قام أتمَّ قيام، ونشأ أعظم نشأة، وألطافُ الله ورعايته تحوطه من كل جانب.

*شبابه
اشتغل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شبابه بالتجارة مع خديجة رضي الله عنها، وكان قد عُرِف بالأمانة والصدق وكمال الخلق حتى حكَّمته قريشٌ عند اختلافها فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه عند بناء الكعبة، فحكم بحكمٍ أرضى الجميع، وشارك في إعادة بناء الكعبة.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة يذهب إلى غارِ حراء لتعبد الله سبحانه وتعالى، وينعزل بنفسه عن المشركين، ويبقى فيه شهراً كاملاً من كل سنة، وكان ينفر عن الأصنام وعبادتها والذبح لها وما يلحق بذلك من الشرك.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتعبد الله تعالى بالتوحيد والذكر والتفكر وبما بقي من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام مثل الحج والطواف وغيرها.
وخلال هذه الفترة اشترك صلى الله عليه وآله وسلم في حلف الفضول الذي شكِّل لنصرة المظلومين.
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنَّ الخامسة والعشرين تزوج من خديجة رضي الله عنها.

*النبي بعد البعثة
نزل روح القدس جبريل الأمين عليه السلام بالوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، وفي بعض السير أنه في شهر رمضان, وعمره صلوات الله عليه وعلى آله (40) سنة.
وبعدها أقام صلوات الله عليه وعلى آله بمكة (13) سنة يدعوا الناس إلى عبادة الله وحده، فكانت دعوته في الثلاث السنوات الأولى سرَّاً لعشيرته، فقد أمره الله تعالى بقوله: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، ثم نزل قول الله تعالى:{فاصدع بما تؤمر..}، فجهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة.
وبسبب ذلك لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشدَّ الأذى من مشركي قريش وعتاولتهم، ولم يُؤمن معه إلا قلَّة من الناس المستضعفين، فصبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن معه على ذلك، حتى فُرض عليهم الحصار في شعب بني هاشم، الذي استمر قرابة ثلاث سنوت، وعُذِّب من عذِّب من أصحابه، كبلال بن رباح، وعمار بن ياسر، وأبيه ياسر وأمِّه سميَّة.
وفي السنة العاشرة من البعثة النبوية كان وفاة زوجته المعينة له خديجة رضي الله عنها، ثم توفي في نفس السنة عمُّه المحامي عنه أبو طالب رضوان الله عليه، ليكون ذلك العام هو عام الحزن كما سُمِّي، وليزيد بعد ذلك مؤاذاة مشركي قريش له صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلَّة المؤمنين، واضطهادهم، وضعف الاستجابة للدعوة، عزم صلوات الله عليه وعلى آله على الخروج إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الإسلام، ولكن لم يلقَ منهم إلا تسليط صبيانهم ومجانينهم وسفهائهم عليه، فعاد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة، ليلتقي بعد ذلك بحجاج بيت الله الوافدين من شتَّى البلدان، ويكلمهم عن دين الله سبحانه وتعالى، ويدعوهم إلى الدخول في الإسلام، حتى استجاب له نفر من أهل يثرب، وبايعوه البيعة الأولى (بيعة العقبة الأولى)، ثم عادوا إلى قومهم لينذروهم ويدعمهم إلى دين الإسلام، فجاؤوا في العام القادم وقد زاد عددهم، فبايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيعة العقبة الثانية، ولما عادوا إلى المدينة أرسل معهم صلى الله عليه وآله وسلم سفيره مصعب بن عمير؛ ليعلمهم أمور دينهم، وينشر دعوة الإسلام، فكان سبباً في إسلام سكان المدينة من الأوس والخزرج قاطبة.

*هجرة النبي
بعد أن أسلم أهل يثرب، وصاروا أنصاراً لدين الله، عزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الهجرة إلى المدينة المنورة، فأعد لذلك العدة واستخلف علياً عليه السلام على الأمانات التي كانت عنده، وأمره بالمبيت في فراشه، فخرج صلى الله عليه وآله وسلم هو وأبو بكر متخفيين، فلما علمت قريش بخروجهما أرسلت خلفهما، ووعدت بجائزة عظيمة لمن يأتي بمحمد، ولكن رعاية الله وحفظه كانت تحوطهما، فقد حدثت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم العديد من المعجزات في هذه الهجرة، كما حدث لخيل سراقة بن مالك، وقصته مع صاحبه في غار ثور، وما كان من نسج العنكبوت على الغار، ووضع الحمامة لبيضها عليه، وغيرها من المعجزات.

*النبي في المدينة
بعد أيام من المسير وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة ليستقبله أهلها بالفرح والسرور والاحتفال، فكان أول عمل قام به صلى الله عليه وآله وسلم بناء المسجد النبوي الشريف، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار.
ومن المدينة المنورة بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خوض المعارك مع مشركي قريش وغيرهم ممن يكيدون للمسلمين، ونشر دين الإسلام إلى أنحاء الأرض، وأقام العدل، وجسَّد الحكم الإلهي، فراسل ملوك الفرس والروم ومصر والبحرين وغيرها، كما راسل زعماء القبائل، فآمن من آمن، وجحد من جحد.
وخلال هذه السنوات فتح صلى الله عليه وآله وسلم مكة المكرمة، وكسر شوكة المشركين، وأرغم أنوف اليهود في المدينة وخيبر وغيرها، وخضعت له الكثير من البلدان، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وفي السنة العاشرة من الهجرة النبوية حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجةَ الوداع، فخطب في الحجيج خطبة دونتها كتب التأريخ، وفي عودته من هذه الحجة استوقف الناس في منطقة غدير خمٍّ؛ ليكمل الدين، ويتم النعمة، ويعلن ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام.

*وفاة النبي
رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد حجة الوداع إلى المدينةِ المنورة، فأقام بها بقية ذي الحجة والمحرم والنصف من صفر لا يشتكي شيئاً، ثم ابتدأ به الوجع الذي توفي فيه صلى الله عليه وآله وسلم.
جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجد الوجع والثقل في جسده حتى اشتد به الوجع في أول شهر ربيع الأول، واجتمع إليه أهل بيته ونساؤه، فلما رأت فاطمة أباها قد ثقل دعت الحسن والحسين، فجلسا معها إلى رسول الله، ووضعت خدّها على خد رسول الله، وجعلت تبكي حتى أخضلت لحيته ووجهه بدموعها، فأفاق صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان أغميَ عليه، فقال لها: ((يا بنية لقد شققت على أبيك))، ثم نظر إلى الحسن والحسين عليهما السلام فاستعبر بالبكاء، وقال: ((اللهم إني أستودعكهم وصالح المؤمنين، اللهم إن هؤلاء ذريتي أستودعكهم وصالح المؤمنين))، ثم أعاد الثالثة، ووضع رأسه.
فقالت فاطمة: واكرباه لكربك يا أبتاه.
فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم))
فقبض الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم صبح يوم الاثنين من شهر ربيع الأول سنة 63 من عام الفيل، و23 من البعثة، و11 من الهجرة، وكان عمره 63 سنة، ودفن صلى الله عليه وآله وسلم في حجرته المباركة في موضع وفاته.
"فكان مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته وهجرته ودخلوله المدينةَ ووفاته يوم الاثنين".

فصلوات الله وسلامه على خاتم النبيين، وسيد المرسلين، أبي الطيب والطاهر والقاسم، محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، صلاةً وسلاماً لا منتهي لعددهما، ولا غاية لأمدهما.

 

;

22-36-2019

للإمام زيد بن علي عليهما سلام الله أربعة من الأولاد وهم: يحيى، وعيسى، ومحمد، والحسين، وعقب الإمام زيد من عيسى ومحمد والحسين، ولقد كانوا جميعاً من أعلام الإسلام الخالدة وأقطاب العلم العظيمة، تحكي سيرتهم جانباً من مؤهلاتهم العلمية والدينية والمعرفية، ولهم مواقف جليلة في الجهاد والبذل في سبيل الله ، كما كانوا من أكثر الناس عبادة وأشدهم ورعاً وزهداً، وهنا سنورد تراجم مختصرة لأشهرهم:

يحيى بن زيد

هو الإمام أبو طالب يحيى بن زيد عليهما السلام، وأمُّه ريطة بنت أبي هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية؛ كان مولده بالمدينة المنورة سنة 97هـ، وهو أكبر أولاد الإمام زيد (ع).

صفته عليه السلام: كان قطط الشعر، حسن اللحية حين استوت، وكان مثل أبيه عليهما السلام في الشجاعة، وقوة القلب، ومبارزة الأبطال، كما كان شديد العبادة والزهد، وهو أحد أعلام الآل العظام.

وهو القائل:

 

يا بن زيد أليس قد قال زيد
 

 

من أحب الحياة عاش ذليلا
 

كن كزيد فأنت مهجة زيد
 

 

تتخذ في الجنان ظِلاً ظليلا
 

 

قاتل يحيى بين يدي والده الإمام زيد عليهما السلام أشدَّ قتال، وكان عمره 25 سنة, فلمَّا أصيب والده عليه السلام جاء يحيى، فأكبَّ على والده وهو يبكي، والدماء تنزل على وجه الإمام، والسهم نابت في جبينه، فجمع يحيى قميصه في يده ومسح به الدم من وجه أبيه، ثم قال له: أبشر يا بن رسول الله، تَرِد على رسول الله وعلي وفاطمة وخديجة والحسن والحسين وهم عنك راضون.

قال الإمام: صدقت يا بني، فأيُّ شيءٍ تريد أن تصنع؟

قال يحيى: أجاهدهم إلا أن لا أجد الناصر.

قال: نعم يا بني، جاهدهم، فوالله إنك لعلى الحق، وإنهم لعلى الباطل، وإن قتلاك في الجنة، وقتلاهم في النار.

وبعد استشهاد الإمام زيد خرج ابنه يحيى عليهما السلام من العراق إلى خرسان، باحثاً عن موطن يستطيع منه ترتيب الثورة من جديد, وتنفيذ وصية والده، فقاد من خرسان ثورةً جديدة على الحكم الأموي.

حظيت ثورة الإمام يحيى عليه السلام بتأييد كبير من أهل خرسان, وهو ما قض مضاجع الخليفة الأموي الوليد بن يزيد بن عبدالملك, والذي عرف عنه استهانته بالدين والقرآن؛ فهو الذي مزق المصحف الشريف بالسهم حين افتتح المصحف, فكان أول حرف منه: {واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد}, فأنشد:

 

أتوعدني بجبار عنيد
      

 

فهاأنا ذاك جبار عنيد
 

إذا ما جئت ربك يوم حشر
 

 

فقل يا رب مزقني الوليد
 

 

عمل الخليفة الأموي على إفشال ثورة الإمام يحيى، واستنفد لأجل ذلك طاقاته، وسخر إمكانيته، وأرسل الجيوش تلو الجيوش لقتاله؛ فاستشهد الإمام يحيى عليه السلام بعد معارك كبيرة، ومواقف بطولية عظيمة؛ وذلك يوم الجمعة من شهر رمضان سنة 126هـ, فعم الحزن أهل خرسان، وسموا من ولد لهم في تلك السنة بيحيى؛ وقبر عليه السلام في مدينة الجوزجان، وهو معروف مزور إلى يومنا هذا.

عيسى بن زيد

علمٌ من أعلام الإسلام الخالدين، وواحد من عظماء أهل البيت الطاهرين؛ وُلِدَ عليه السلام في شهر محرم، سنة 109هـ.

وكان عليه السلام طويل القامة، قد أثر السجود في جبهته، كثير الذكر لله تعالى والخشية منه, ممن يُضرب بهم المثل في العلم والفقه والعبادة والورع والزهد.

عرف بفقيه العترة، وبمؤتم الأشبال؛ وسبب ذلك أنه لمَّا انصرف من وقعة باخمرا، التي استشهد فيها الإمام إبراهيم بن عبدالله، خرجت لبوة معها أشبالها فعرضت في الطريق، وجعلت تحمل على الناس، فأخذ عيسى بن زيد - عليهما السلام - سيفه وترسه, ثُمَّ نزل إليها فقتلها، فقال له مولىً له: أيتمت أشبالها يا سيدي؟! فضحك عيسى فقال: نعم، أنا مؤتم الأشبال.

عاش عيسى بن زيد مجاهداً في سبيل الله, وكانت له مواقف في الشجاعة والبطولة تقصر عنها مواقفُ الأبطال, فقد شارك في ثورة الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله، كما كان صاحب راية أخيه الإمام إبراهيم بن عبدالله عليهم السلام في وقعة باخمرا.

عاش عليه السلام ثلاثين عاماً، متخفياً من الظالمين, مخيفاً لهم, وتعرض في سبيل ذلك لأنواع من البلاء, حتى توفاه الله في الكوفة، سنة 169هـ.

الحسين بن زيد

الإمام الحسين بن زيد بن علي, هو أحدُ أعلام العترة المطهرين، وُلِدَ عليه السلام سنة 115هـ, واستشهد والده وعمره سبع سنوات, فكفله الإمامُ جعفر الصادق عليه السلام، فقعد في رحابه سنين، وأخذ العلم عنه.

عُرِفَ الحسينُ بذي الدمعة؛ لكثرة بكائه، و قد روي عن ولده يحيى بن الحسين أنه قال: قالت أمي لأبي: ما أكثر بكاك؟! فقال: (وهل ترك لي السهمان والنار سروراً يمنعني من البكاء)، يعني بالسهمين السهم الذي قُتِلَ به أبوه زيد، والسهم الذي قُتِلَ به أخوه يحيى عليهما السلام.

كان للحسين عليه السلام مشاهد عظيمة من الشجاعة والاستبسال في ثورة الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله، وثورة أخيه الإمام إبراهيم بن عبدالله عليهما السلام.

ولمكانته العظيمة، وتحركه الجاد ظلت السلطات العباسية الظالمة تترصده وتبحث عنه، فعاش زمناً متخفياً عن الناس، حتى توفي عليه السلام سنة 191هـ.

 

;

22-34-2019

من أعظم ما ابتلي به الإسلام حكام بني أمية الطغاة وولاتهم المتجبرون, فقد تناسلوا وتناسخوا الشر والطغيان, وتنافسوا في الفحش والبغي, والظلم والإسراف, فكان كل خليفة أسوأ من سابقيه, وهكذا حتى تدحرجت الخلافة إلى طاغية غشوم, ومجرم ظلوم, يدعى هشام بن عبدالملك, وكان ذلك في عام 105هـ, وفي فترة خلافة هذا العتل الزنيم ثار الإمام زيد عليه السلام على دولته, وخرج ضد طغيانه, ووقف صارخاً في وجه جبروته وانحرافه.

ومن المهم - ونحن نريد التعرف على عظمة ثورة الإمام زيد (ع), وأبعادها على المستوى الديني والإنساني- أن نقف لنقرأ حول شخصية هشام بن عبدالملك, ونتعرف إلى أي حد بلغ في ظلمه وبغيه وانحرافه عن تعاليم الدين الحنيف.

هشام بن عبدالملك بن مروان بن الحكم بن العاص تولى الخلافة في 24 شعبان سنة 105هـ, وكانت وفاته بالرصافة في 6 ربيع الآخر 125هـ, وقد حكى التأريخ أن هشاماً كان ظالماً، متغطرساً، مسرفاً، منتهكاً لأحكام الله, كما كان أحْولَ، خشناً، فظاً، غليظاً، يَجْمَع الأموال متخذاً لمال الله دولا, ولعباده خولا، ويستجيد الخيل حتى أقام الحلْبَة فاجتمع له فيها من خيله وخيل غيره أربعة آلاف فرس، ولم يُعْرَفْ ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس، وقد ذكرت الشعراء ما اجتمع له من الخيل، واستجاد الكُسَي والفُرَشَ، وعُدَد الحرب ولآمتها.

فحش وفجور

لم يكن هشام ـ كافأه الله ـ يُعِير مقدسات المسلمين أي اعتبار, يسمع يهودياً في مجلسه يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فلا يعترض عليه بكلمة, بل ينهر الإمام زيداً (ع) حين ينكر عليه, وقد بلغ به الحال من الغرور الذي استحوذ عليه أن خطب على منبر مكة، فتهدد بالقتل كلَّ من يأمره بتقوى الله.

ولم يكن خلفاء الدولة الأموية - بما فيهم هشام بن عبدالملك- يتحرزون من مخالفة الله في أوامره, وانتهاك حرمه, فقد كانوا يقتلون، ويأخذون أموال الناس، ويسطون على ممتلكاتهم, ومما اشتهر عنهم ولعهم بشرب الخمر ومعاقرته, حتى أن بعضهم صنع له بركة من الخمر, وكان هشام ممن يشرب الخمر كما يُروى في كتب التأريخ، وكان يدخل عليه المسلمون وهو سكران، وينشدهم الشعر فيطرب حتى يسقط من فوق سريره.

أحكام جائرة

كانت فترة حكم هشام بن عبدالملك حافلة بالمشاهد الظالمة, والأحكام الجائرة, وليس أدل على ذلك من الظلم الذي مارسه مع الإمام زيد (ع)، من قتله، وصلبه عارياً، وحمل رأسه في الأمصار، والطواف به في البلدان, ثم قتل كل من ناصره أو تعاطف معه من رجال ونساء بأبشع الصور, فقد كان يؤتى بالجرحى والأسرى من أنصار الإمام (ع) فيأمر بضرب أعناقهم، بل كان هشام فظاً متجبراً مع كل من خالفه في الرأي, أو الاعتقاد, فقد قام بقتل الجعد بن درهم في يوم عيد الأضحى من دون ذنب إلا اعتقاده في مسألة خلق القرآن بخلاف قول هشام, فأخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري، وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فحبسه خالد، فلما صلى العيد يوم الأضحى قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا يقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، ثم نزل وذبحه.

وبالصورة نفسها قتل غيلان الدمشقي, فقد ذكر المؤرخون أن غيلان كان يقول أن معاصي العباد منهم, وليست من الله, فأمر بجلده مع أحد رفاقه سبعين جلدة, ثم أمر هشام بإخراج ألسنتهما من أقفيتهما، فلم يلبثا أن ماتا وألقيا على مزبلة يراهما الناس مصلوبين.

وبتهمة أنْ نَظَمَ الشاعرُ الكميت قصيدةً في مدح أهل البيت (ع) أَمَرَ بقطع يديه ورجليه ولسانه.

لقد أسرف هشام في القتل، واسترخص دماء الناس, وكانت كل أحكامه في القتل تُرْتَجَل في المجلس من دون أي محاكمات عادلة أو شكلية, ومن أندر ما يقف عليه القارئ وهو يطالع في تأريخ هشام وأحكامه الجائرة, أن يجده أمر بقتل أحد الشهود لمخالفته لشهادات بقية الشهود.

 ونختم هذه الفقرة بهذا الموقف الذي نجزم أن صاحبه لعن فيه عرقه وأصله, فقد روى التأريخ أن شاعراً من العجم قال قصيدة في مدح قومه (العجم) في مجلس هشام, فغضب هشام غضباً شديداً, ثم أمر برميه في بركة ماء حتى قارب على الموت, ثم أمر بنفيه من بلده وطرده إلى أرض الحجاز.

تعيين ولاته

هناك قصص كثيرة عن طبيعة تعيينه للولاة وعزلهم، من دون معايير تقوم على الصدق والنزاهة والكفاءة, فقد عين رجلاً من أجل أنه أهدى لامرأته قلادة أعجبته, وقد عزل والياً من أجل وشاية.

جرأة على الله

كان هشام يحاول أن يصبغ كل تلك الجرائم بصبغة الشريعة، ويسعى أن يرسخ في الرعية أن له من الله حصانة شرعية يمارس في ظلها كل ظلم وفحش من دون أن يؤاخذه الله, وهذا بلا شك تأسيس للاعتقاد الفاسد الذي يقول أن الخلفاء ظِلُّ الله الذي لا يجوز مخالفته, ولا انتقاده, ولا الخروج عليه, فقد خطب هشام حين ولي الخلافة، فقال: الحمد الله الذي أنقذني من النار بهذا المقام.[انساب الأشراف, ج3/ ص147]

جهل بالدين

هل يستطيع العقل أن يتخيل حاكماً للمسلمين على أنفسهم وأموالهم، يمثل بزعمه ظل الله في الأرض, وهو جاهل لأبسط تعاليم الدين، فيذهب إلى الحج, لا يعلم شيئاً عن مناسكه, ولا يجيد منها فرضاً؟!

وهل يؤمَّن حاكمٌ بهذا المستوى من الجهل ليدير شؤون المسلمين، ويطبق فيهم شرع الله، وينفذ فيهم أحكامه؟! لقد كان هذا هو هشام بن عبدالملك, وليس جهله بأحكام الحج إلا مثالاً بسيطاً، وإلا فإننا نجزم أنه كان لا يعلم كثيراً من ضروريات الدين, ومن أين له أن يعلم بشرع الله؟ وقد نشأ على الخمر والمعاصي والظلم والقتل, في بيئة ملطخة بأنواع المعاصي والذنوب.

ثراء فاحش

في حين أن التأريخ يحكي عن معاناة شديدة كانت تعصف بالسواد الأعظم من المسلمين في تلك السنين المظلمة، والتي عبر عنها أعرابي في مجلس هشام بسنين "أكلت اللحم، وأتت على العظم", فقد روى التأريخ مع تلك المعاناة صوراً عن ثراء الطاغية هشام, وعبثه, وغناه الفاحش، وكأنه أحد الفراعنة المترفين, فقد كان يجمع الأموال، حتى قيل: إنه جمع من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبله.

فلم يكن ذلك الفقر وتلك الحاجة المنتشرة في أوساط الناس إلا نتيجةً طبيعيةً لممارسات هشام وولاته, وسياساتهم الإقصائية, واستحواذهم على الأموال، وما ذلك إلا مصداق لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اتخاذهم مال الله دولا.

وقد حكى أحد الوافدين على هشام في وصف عرشه، فقال: دخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالزحام وهو في مجلس مفروش بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب ذهب، وحيطانه كذلك، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب خز حمر، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب يقلبه بيده فتفوح روائحه.

ومع هذا الغناء الفاحش ترى الناس يفدون إليه وفيهم ذرية الصحابة, بعد أن أجهدهم العناء والخصاصة, فيمنعهم من مال الله، ويردهم صفر اليدين, في حين أنه يرصف الذهب على اسطوانة مجلسه وحيطانه, ويصنع منه أواني أكله, قال البلاذري: قدم على هشام وفد وفيهم ابن عمار بن ياسر، فقال له هشام: من أنت؟ فأخبره, فقال:

 

ترجو الصغير وقد أعياك والده
 

 

وفي أرومته ما ينبت العود
 

 

لا والله ما نال مني خيراً أبداً ما بقيت.

وفي جواب هشام هذا وتبريره لرد ابن الصحابي الجليل عمار بن ياسر وجه آخر من أوجه القبح الذي كان عليها هشام بن عبدالملك.

ومن مظاهر ثرائه وإسرافه في أموال الله ما رواه أصبغ بن الفَرج: لم يكن في بني مَرْوان من مُلوكها أعطرَ ولا ألبس من هشام، خَرج حاجًّاً فحَمل ثيابَ طُهره على ستمائة جَمل.

وقال الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي: ولما علم [هشام بن عبدالملك] سيرة عمر بن عبدالعزيز في تراث سليمان وصرفه إلى بيت المال إلا ملابسه جعل مال الله ملابس, ونافس في الطراز حتى ضرب به المثل فقيل: طراز هشام, وقطع وقر عشرة آلاف بعير بزاً, ولم يدرِ أن الوليد بن يزيد يأتي لا يميز؛ حتى لقد تعسر عليهم كفنه.

مزاج فرعوني

روى المدائني عن يزيد بن الحارث قال: كان هشام وبنو مروان كلهم لا يكسون الناس الخز الأحمر والأصفر ويكسونهم ما وراء ذلك من الألوان، ويدخرون الأحمر والأصفر لكسوتهم.[أنساب الأشراف, ج3/ ص137]

وهذه الرواية تكشف وجهاً قبيحاً لهذه الأسرة المسرفة, فلا يكفي أن يستغلوا كل ثروة المسلمين, ويلهفوها في جيوبهم, وخزاناتهم؛ لإشباع رغباتهم وشهواتهم, بل يفرضوا على الناس ما يلبسون, ويَصْطَفُوا لهم أضخم الأنواع، ويحرِّموها على سائر الناس؛ فأي عنجهية تلك, وأي تسلط ذاك؟!

تربية المجرمين

يفترض أن يكون الأب دالاً لأبنائه على الخير، ومربياً لهم على البر والصلاح, ولكنْ أنَّى لهشام أن يكون ذلك الأب وهو الغارق في الموبقات؟!

ولنقرب لكم صورة هشام في حكاية ذكرتها بعض كتب التأريخ، والتي تدل على أبوته، وتظهر طريقته في النصح لأبنائه؛ وذلك أن ولده سعيد بن هشام بن عبد الملك كان عاملاً لأبيه على حِمْص، وكان يُرْمَى بالنساء والشراب، فقَدِم حِمصيُّ إلى هشام، فلقيه أبو جعد الطائي في الطريق، فقال له: هل تَرى أنْ أعطيَك هذه الفرس، فإني لا أعلم بمكانٍ مثلَها على أنْ تُبلِّغ هذا الكتابَ أميرَ المؤمنين، ليس فيه حاجة بمسألة دينار ولا درهم، فأخذها وأخذ الكتابَ، فلما قدم على هشام سأله: ما قِصة هذه الفرس؟ فأخبره، فقال: هاتِ الكتاب، فإذا فيه:

 

أبْلِغ إليك أميرَ المُؤمِنين فقدْ
 

 

أمدَدتَنا بأميرِ ليس عِنِّينَا
 

عَوْراً يُخالف عمراَ في حَليلتِه
 

 

وعند ساحته يُسْقَى الطِّلا دِينا
 

 

فلما قرأ الكتاب بعث إلى سَعيد فأشخصه، فلما قدمِ عليه عَلاه بالخَيْزرانة، وقال: يا بن الخبيثة، تَزني وأنت ابن أمير المؤمنين؟! ويلك! أعجزت أن تَفْجُر فجور قريش؟ أوَتدري ما فُجور قريش لا أمَّ لك؟ قتْلُ هذا، وأخْذُ مال هذا؛ والله لا تلي لِي عملاً حتى تموت.[العقد الفريد, ج2/ ص165]

هذه قطرة من ظلم هشام، وما خفي وما تركناه أعظم وأطم, ولكم أن تتساءلوا كيف شُوِّه التأريخ وحُرِّفَت الحقائق؟ وكم حاولت السلطات وعلماء السلطان أن يصوروا هشاماً وبني أبيه على أنهم حمائم السلام, ونماذج الوداعة والبراءة؟

وكيف لمسلم يحمل روح المسؤولية أن يطيب له قرار أو يهدأ له بال؟! وهو يشاهد قمة المسلمين ورأس الهرم فيهم بهذا المستوى من السقوط والانحلال.

وهو ما عبر عنه الإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام بقوله: ((والله ما يسعني أن أسكن, وقد خولف كتاب الله تعالى, وتحوكم إلى الجبت والطاغوت)).

;

22-30-2019

للوفاء صورٌ مضيئة، ونماذج متألقة؛ وأهل الوفاء في كل زمان هم حماة الدين ورجال الإنسانية ومشاعل التضحية, لا يخافون من إظهار مواقفهم، ولا يترددون في حماية مبادئهم, وثورةٌ كثورة الإمام زيد (ع) لن تجد أنصارها ورجالها إلا من أطهر العباد وأزكى البشر.

لقد كانت ثورة الإمام الشهيد زيد بن علي عليهما السلام مشهداً من أجلى مشاهد العظمة، وصورة من أعظم صور التضحية، ووقعة من أجل وقعات البطولة؛ وفيها وقف مع الإمام زيد عليه السلام رجال أعادوا للإيمان قيمته في سجل المراتب، وبعثوا الوفاء من جديد، بعد أن دُفن بين الأصلاب والترائب.

لقد حمل أنصار الإمام زيد بين جوانهم أرواحاً تشبَّعت بحُبِّ الله وهامت في حبِّ رسوله ومحبة آهلِ بيته صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فسطرت أروع الملاحم البطولية في التضحية والفداء؛ ليصبحوا فيما بعدُ رموزاً خلَّدَها التأريخُ، وأمثلةً ماثلة لكلِّ حُرٍّ لا تسمح له نفسه بالاستكانة والخضوع، أرواحٌ نفضَت عن الأمة الإسلامية العارَ الذي تلطَّخت به عند تخلُّفها المشؤومِ عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يقول عنهم إمامهم زيد بن علي عليه السلام: ((وأنا أعلم والله إنه ما أمسى على وجه الأرض عصابة أنصح لله ولرسوله وللإسلام منكم)), ويصفهم سليمان الرازي: ((لم أرَ يوماً كان أبهى ولا أكثر جموعاً ولا أوفر سلاحاً ولا أشد رجالاً ولا أكثر قرآناً وفقهاً من أصحاب زيد بن علي)). وهنا نقف على نماذجَ مشرقةٍ من هذه التضحيات، ونقرأ في ثنايا سيرة بعض من عظمائهم دروس التضحية والفداء:

معاوية بن إسحاق الأنصاري

معاويةُ بن إسحاق بن زيد بن حارثةَ الأنصاري نموذجُ وفاءٍ وفداء، لم يرضَ بحياته أن تضيع في مغريات فانية، دون أن يعززها بمواقف خلدها في صفحات التأريخ، فها هو يضع لمسته الأخيرة في هذه الحياة في مُجابهةِ الظالمينَ تحتَ لواءِ الحقِّ، مُتفانياً مع أهلِ البيت(ع) في النُصرةِ والتلبية دونَ مبالاةٍ لعِظَيمِ صَلَفِ المتجبرين، وشديدِ بغيهم، جازماً ألا خيرَ في عيشةٍ تحت عباءة الظالمين.

انطلقَ معاويةُ بنُ إسحاقَ مع الإمام زيدٍ عليه السلام خلالَ تحركِهِ الثوريِّ، فكان له خيرَ ناصرٍ ومعين، وقد كان الإمامُ (ع) متخفياً في دارهِ أيام التحضير للثورة، وكان رضي الله عنه من دعاة الإمام إلى الآفاق يأتي العلماء, يدخلُ على النَّاسِ ويطوفُ البلدان داعياً إلى نصرة الإمام, بأحسنَ بيان.

لقد لازمَ معاوية بن إسحاق الإمام زيد عليه السلام في كل منعطفات الثورة، وشاركه في جميع أيامه, وكان معه خير ناصر وأجل صاحب, وحين بدأت المواجهةُ, قاتل أشدَّ قتال، وظلَّ مدافعاً عن مبادئه مجاهداً عن إمامه حتى نال رضوانُ الله عليه شرفَ الشهادة بعدَ صولاتٍ وجولاتٍ واستبسالٍ فذٍّ خاضهُ ضدَّ جيشِ هشامٍ، حتى عجزوا أن يبرزوا لهُ إلا اغتيالاً وبغتة؛ وما تلكَ إلا تجارةٌ فُتحت أبوابُها, فكان من السابقينَ لها في تفانٍ صادقٍ لنُصرةِ الدين، ولم يكتف الظالمون في قتل معاوية بن إسحاق بل عمدوا إلى جسدِه الطاهر ونصبُوهُ مصْلوباً معَ إمامِه زيد, وكأنَّ الأحداثَ أرادَتْ أنْ تقولَ بلسانِ ابن إسحاق: والله ما تركتك يا أبا الحسين حياً ولا مصلوباً بكناسة كوفان.

وهكذا هو حالُ أهلِ بيتِه الذين سِيقوا بعد ذلكَ الى قصر الإمارة؛ ليُحاكَموا على جُرمِهم في نُصرةِ الإمام زيدِ(ع)، وهم ليسوا أكثرَ من نساءٍ وأطفال، ولكنَّ ثباتَهم يصعقُ قائدَ الجيش الأموي ويجعلُه يشتاطُ غضباً ويزدادُ حقداً، فيأمرُ بزوجةِ ابن إسحاق لقطعِ يديها، الواحدة تلو الأخرى، لتلاقي ربَّها بعد ساعاتٍ من مُكابدة الألمِ، مُعاناةٌ لا توصفُ، لكنَّ التضحية بالنفس والمال عند النفوسِ المؤمنةِ أهونُ عليها من خذلانِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم في ابنه وسليله في مثل هكذا مواقف.

وفي معاوية بن إسحاق ورفيقه في البطولة نصر بن خزيمة يقول الشاعر:

ترى الخيل تبكي أن ترى الخيل لا ترى               معاوية الهندي فيها ولا نصرا

نصر بن خزيمة العنسي

نصر بنُ خُزيمةَ العنسي من أوائلِ الأوفياءِ وأشدِّهم صدقاً، وأمضاهم عزيمة مع الإمام زيد عليه السلام، وإن كان الوفاء رجلاً لكان نصرَ بن خزيمةَ, جبل من المعاني الكريمة, وكتاب من الصفحات النبيلة, سجلَّ تأريخاً حافلاً بمعارضة الظالمين منذ شبابه, يأبى الظلم ويكره الفسادَ ولا يخافُ في سبيلِ الحق صولةَ جبارٍ ولا سيفَ طاغية, ففي تاريخ دمشق لابن عساكر, قال: "عن سليمان بن زياد عن أخيه يحيى بن زياد قال: كان يوسف وفد أبي إلى هشام بن عبدالملك, فقدم علينا أبي من الشام ليلاً، فقال لنا: هل عندكم خبر؟ قلنا: لا. قال: على ذلك. فقلنا: لا؛ إلا أن زيداً مختفي بالكوفة، يقولون إنه يريد الخروج. قال: فمن صاحبُ أمره؟ قال: نصر بن خزيمة العبسي. قال: قاتل الله العباس بن الوليد. قلنا: وكيف ذكرت العباس بن الوليد؟ قال: أتيته مودعاً فقال لي: يا أبا يحيى اتقوا رجلاً من أخوالي بني عبس بالكوفة يقال له نصر بن خزيمة العبسي لا يجني عليكم حرباً."

وكان نصر يرجو في الإمام زيد عليه السلام الخروج ضد هشام، والثورة عليه، ويدعوه (وهو بمكة) للقدوم نحو الكوفة؛ ويحثه على التصميم على الثورة, يعيش أيامه منتظراً لداعي الحق, وما إن قدمَ الإمامُ زيد عليه السلام الكوفة حتى أنزله في داره, فكان نصر بن خزيمة سبَّاقاً في نُصرته، مقاتلاً بين يديه، لم يُزعزعهُ خذلانُ الخاذلين, ولا تَخلُّف المبايعين؛ فإنه رضوان الله عليه لما رأى تخاذل من بايع الإمام زيداً عليه السلام عن نصرته، وبقاءهم في جامع الكوفة، قامَ فيهم من خلفِ المسجدِ هاتفاً يستحثُّهم على الجهادِ، ويقول: "أن يا أهل الكوفةِ اخرجوا من الذلِ الى العزِ وإلى نعيمِ الدنيا والآخرة"؛ ولكن كان كلامه لهم دونَ جدوى؛ فالنفوسُ النائمةُ عن الحق نادراً ما تستيقظ.

نظر الإمامُ زيدُ بن علي عليهما السلام إلى نصر بن خزيمة الذي كان يحبه حباً شديداً، فقال له: (( يا نصر بن خزيمة, أخاف أهل الكوفة أن يكونوا قد فعلوها حسينية)), فنظر نصر بن خزيمة إلى إمامه وقال: (جعلني الله فداك, أما أنا فوالله لأضربن بسيفي حتى أموت), بعد ذلك انطلق نصر في ثنايا معركةٍ مفتوحةٍ مع جيشِ يوسف بن عمر، مُخترقاً لصفوفهم جنباً إلى جنبٍ مع الإمامِ زيد(ع)؛ مبلياً في سبيل ذلك أحسن البلاء.

ومن مواقف نصر بن خزيمة المشرفة أنه لما رأى المبايعين للإمام زيد (ع) في صبيحة اليوم الأول للمعركة قد تخلفوا, ذهب إلى قوم من قيس فحثهم على الجهاد وعاب عليهم التخاذل, فاستجابوا لدعوته وعادوا معه إلى إمامهم وقاتلوا بين يديه.

كما كان له رضوان الله عليه في أيام المعركة مواقف عظيمة, فقد قتل في اليوم الأول للمعركة أحد أبرز قادة العدو، وهو عمر بن عبدالرحمن صاحب شرطة الحكم بن الصلت, وقد حمل في يومها حملات على جيش يوسف بن عمر وهزمهم هزيمة قال عنها التاريخ أنها فضيحة.

زرع استبسال نصر بن خزيمة في قلوب العدو رعباً وهلعاً, فاستدعى يوسف بن عمر فارساً من فرسانه يقال له نائل بن فروة, وأعطاه سيفاً لا يمر بشيء إلا قطعه, فلما أبصر نائل نصراً ضربه على فخذه حتى قطعها, فضربه نصر حتى أرداه قتيلاً, وهنا يطوي نصر آخر صفحات الوفاء؛  ليترأسَ قافلةَ الاستشهاديينَ بعد عظيمِ تنكيلٍ بجيوشِ المجرمين, فلم يشفِ قتله يوسف بن عمر حتى بحث عن جثته وأمر بصلبها بجوار خشبة الإمام زيد عليه السلام؛ ليكون هو ومعاوية بن إسحاق رفيقي الإمام زيد (ع) في الاستشهاد والصلب والجنة، كما كانا رفيقيه في الدنيا.

القاسم بن كثير التنعي الحضرمي

القاسم بن كثير التنعي الحضرمي نسبة إلى حضرموت, فارس بقامة الشجاعة, ومقدام بحجم الاستبسال, وهو أوَّلُ شهيدٍ في المعركة, انتدبه الإمامُ زيد في لحظات المعركة الأولى لمهمة جليلة هي أشبه بمهمة الفداء, فحين فرض جيشُ بني أُمية حظرَ تجوالٍ على مدينة الكوفة, حتى يقطعوا سبل التواصل بين الإمام وأنصاره, كان لا بدَّ للإمام زيد أن يعلن لأنصاره عن بداية المواجهة, فكانت المهمة أن ينطلق فرسان الإمام إلى أحياء الكوفة وأسواقها لينادوا على الناس ببدء المعركة ويكسروا الحظر المفروض من قبل جيش هشام, وهي بالطبع مهمةٌ تحفُّها المخاطر, فلم ير الإمام زيد أحداً جديراً بتلك المهمة إلا القاسم بن كثير, فخرج القاسم إلى أحياء الكوفة وأسواقها ونادى بشعار الثورة "يا منصور أمت"، وهو شعار رسول الله في معركة بدر, إنه العبث بالموت وعدم الاكتراث بالمخاطر في سبيل الأهداف النبيلة والغايات السامية التي تجسَّدت في أنصار الإمام زيد وإنه عمق الإيمان الراسخ بالله إذا ما تمكن من النفوس.

اعترضت القاسم بن كثير كتيبةٌ من فرسان العدو بقيادة جعفر بن عباس الكندي, فشدُّوا عليه فقتل من أصحاب القاسم رجل, ونالت القاسمَ جراحاتٌ حتى ارتثَّ، فأُخِذ جريحاً إلى دار الإمارة, فأمر يوسف بن عمر أن تضرب عنقه على باب القصر.

فخرجت ابنته تبكيه وتقول:

 

عين جودي لقاسم بن كثير
   

 

بدرور من الدموع غزير
 

أدركته سيوف قوم لئام
     

 

من أولي الشرك والردى والثبور
 

سوف أبكيك ما تغنى حمام
     

 

فوق غصن من الغصون نضير
 

 

لم يكن القاسم الحضرمي الوحيد الذي أخذ جريحاً فقتل, فقد أُخِذ ضرام بن عبدالرحمن وبه جراحة في كفه، فأمر يوسف بن عمر بضرب عنقه, كما أخذ عيسى بن عتبة وبه جراحة، فأمر به فضربت عنقه, وهكذا كانت سياسة هشام بن عبدالملك, فبدلاً من أن يأمر بمداواة الجرحى ويعتبرهم أسرى حرب, كان يأمر أن يجهز على كل جريح؛

معمر بن خثيم

العلامة الراوي، والفاضل الفقيه معمر بن خثيم, من علماء العراق وفقهائها, وهو من رواة الحديث الموثوقين, ولقد جسَّد معمر بن خثيم العلم في ميدان العمل, فكان من أوائل المجاهدين بين يدي الإمام زيد, وهو من فرسان زيد ودعاته وكان رفيقه في الكوفة ورافقه إلى البصرة, ولقد بعثه الإمام إلى العلماء وإلى بعض المناطق يدعوهم إلى نصرته ويبين لهم أسباب ثورته, وكان هو وعبدالله بن الزبير الأسدي يُدخلان الناس على الإمام في مكان تخفيه في الكوفة قبل بداية المعركة.

عامر بن ربيع العذري

ومن رجال الوفاء رجل من عذرة, كان له مع الإمام زيد عليه السلام من عظيم الوفاء ما سطَّره التاريخ؛ فهو من قام إلى الإمام زيد عليه السلام, ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺃﺭﺃﻳﺖ ﺇﻥ ﻛﻨﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺤﻖ ﺃﻟﺴﺖ ﺃﻋﻈﻤﻨﺎ ﺃﺟﺮا؟!

 ﻗﺎﻝ: ﺑﻠﻰ، ﻗﺎﻝ: ﺃﺭﺃﻳﺖ ﺇﻥ ﻛﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺑﺎﻃﻞ ﺃﻟﺴﺖ ﺃﺛﻘﻠﻨﺎ ﻇﻬﺮا؟!

 ﻗﺎﻝ: ﺑﻠﻰ، ﻭاﻟﺬﻱ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ ﻫﻮ ﻳﺎ ﺃﺧﺎ ﻋﺬﺭﺓ ﻗﺎﺗﻞ ﻓﺈﻧﺎ ﻭالله ﻟﻌﻠﻰ ﺃﻫﺪﻯ اﻟﻬﺪﻯ، ﻭﺇﻧﻬﻢ ﻟﻌﻠﻰ ﺃﺑﻄﻞ اﻟﺒﺎﻃﻞ. فسلَّ عامرٌ ﺳﻴﻔﻪ، ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ:

 

نضرب عن زيد بكل صارم
 

 

ذي رونق يفري شئون الظالم
 

لست لكم ما كنت بالمسالم
 

 

يا نصرة الكفرة ذي المآثم
 

وجند عات ذي شفاة غاشم
 

 

أهل على الحبر ذي المكارم
 

وذي التقى والبر والمقاوم
 

 

أول من صلى لرب راحم
 

بعد النبي خير هذا العالم
 

 

ﺛﻢ ﺿﺮﺏ ﺑﺴﻴﻔﻪ وقاتل قتال الأبطال حتى نال وسام الشهادة رضوان الله عليه.

 

سلام بن المنير

سلام بن المنير من أنصار الإمام زيد عليه السلام وفرسانه الشجعان وخلص شيعته، وكان كاسمه "سلام على المؤمنين، ومنير لدروب أهل الوفاء"؛ خرج رضوان الله عليه بين يد الإمام زيد (ع)، وهو يرتجز:

 

أضربهم بالصارم الحذام
 

 

ضرب غلام أيما غلام
 

ضرب غلام ماجد قمقام
 

 

متوج بالجود والوسام
 

أشد شد الباسل الضرغام
 

 

على علوج نذل طغام
 

من أهل كوفان وأهل الشام
 

 

دون التقي السيد الهمام
 

زيد الحجا والبر والإقدام
 

 

ابن رسولٍ جا إلى الأنام
 

بالصدق من عند أولي الإنعام
 

 

لم يحفظوا إلاً ولا ذمام
 

 

 

القاسم الأزدي

أمر القائد الأموي الغشوم يوسف بن عمر بالبحث عن كل أنصار الإمام زيد (ع)، والنيل منهم بالحبس أو التعذيب أو القتل, كعقاب لهم على مواقفهم المشرفة, فكان ممن قبض عليهم القاسم الأزدي, فلما أحضر إلى مجلس يوسف بن عمر سأله يوسف: أكنت في من خرج مع زيد بن علي؟!

وقد ظن الطاغية يوسف أن أنصار زيد بن علي عليهما السلام يهابون الموت, أو ينكرون الفضيلة.

فأجابه القاسم بكل فخر واعتزاز: نعم, فأمر الطاغية أن يُضرب بالسياط, فضرب حتى ظن أنه ميت, فقال له: يا يوسف ما تقول لربك إذا التقيتُ أنا وأنت عنده غداً؟! هل تُقتل نفسٌ إلا بنفس؟ ألست سامعاً مطيعاً لك على حجة تستحل بها قتلي؟ الله الله يا يوسف فإن القصاص غداً, فلم يزد كلامه الطاغية إلا عتواً، وجرأة على الله عز وجل, فصرخ في جنوده "اقتلوه اقتلوه", فما زالوا به يضربونه حتى انتقل إلى ربه شهيداً رضوان الله عليه.

سلام الجعفي

سلام الجعفي أحد خلص أنصار الإمام زيد (ع)، وكانت له قصة قبل استشهاده, قصة قد تكون سبقت زمنياً ثورة الإمام زيد, لكنها بيان على عظيم تلك الثورة وسلامة منهجها, فيروى أنه رضوان الله عليه قال: قلت لأبي جعفر يعني الإمام الباقر: فداك أبي إني رجل أحبكم أهل البيت، فقال الإمام الباقر: رحمك الله, فقال سلام: ادع الله لي, فرفع الباقر يديه حيال الكعبة ثم قال: اللهم أحيه محيانا, وأمته مماتنا, واسلك به سبيلنا.

فلما كانت ثورة الإمام زيد عليه السلام خرج سلام الجعفي معه، فقاتل بين يديه حتى قتل رضوان الله عليه، فحقق الله رغبته، واستجاب لدعاء الإمام الباقر عليه السلام.

ربيعة بن حديد

لقد قدم ربيعة بن حديد نموذجاً فريداً للبصيرة في الجهاد في سبيل الله حين قام إلى الإمام زيد عليه السلام فقال: والله يا أبا الحسين لأقاتلن معك عدوك, فإن عدوك عدونا, ونحن والله أشد عليه حنقاً وعداوة, لما ارتكبوا من دمائكم, ومنعوا من حقوقكم, واستأثروا بالأمر دونكم, فنحن لهم مفارقون, ولأعمالهم مبغضون, فانهض بنا إليهم إذا شئت وعلى الله فليتوكل المتوكلون.

ثم نهض وجاهد جهاد الأبطال، وكان من الفرسان الشجعان, وهو يقول:

 

والله لا أرجع حتى أعذرا
 

 

أو أقتل المرء اللئيم الكافرا
 

 

ما كنت يا  بن الطاهرين أغدرا
 

 

أو أسقي الصعدة مني أحمرا
 

 

من شيعة الكفر أرجِّي الظفرا
 

 

وأنصر المتوج المطهر
 

 

ابن رسول الله ذاك الأزهرا
 

 

أفضل من هلل ربي الأكبرا
 

 

حتى أموت دونه وأقبرا

 

 

خباب السلمي

خرج الخباب السلمي مع الإمام زيد عليه السلام، وكان من فرسان العراق وأبطالها، وهو يقول:

 

إن تنكروني فأنا خباب
 

 

أذود بالسيف عن الأحباب
 

عن عترة التالي للكتاب
 

 

نبي صدق طاهر مجاب
 

معظم عند العلي الوهاب
 

 

خلفتموه يا بني الأوشاب
 

خلافة في معشر أياب
 

 

بني بنيه وبني الأصحاب
 

     

في أهله خلافة الذئاب
 

 

فأبشروا بالخزي والعقاب
 

 

 

حسان بن قايد البارقي

ومن أهل الوفاء حسان بن قايد البارقي، وهو الذي يقول:

 

لنا المصاص من صميم بارقي
 

 

أضرب فوق الرأس والمفارق
 

بصارم للهام منهم فالق
 

 

دون التقي ذي الحجى المصادق
 

وخير ذي سكت نعم وناطق
 

 

وخير من ينطق بالمناطق
 

أرجو رضا الله العلي الخالق
 

 

أضرب أنصار العتي المارق
 

جند كفور خاتر منافق
 

 

لست لكافريكم موافق
 

 

 

 

مواقف جماعية

لقد تعددت صور التضحية في أصحاب الإمام زيد عليه السلام, وأشرقت شمس العظمة من أنحاء الكوفة, وكأنَّ أنصار الإمام زيد (ع) أرادوا أن يوثقوا بمواقفهم الثمينة كل قيم الإنسانية ومعاني الوفاء، فكما كانت التضحية فرديةً فقد كانت جماعية أيضاً، فكان يخرج من الأسرة الواحدة الاثنان والثلاثة؛ لينصروا الإمام زيداً عليه السلام، ثم يستشهدوا بين يديه؛ وكان من أولئك العظماء الأخوة الثلاثة الذين جاهدوا واستبسلوا حتى نالوا الشهادة جميعاً، وهم: علي ومحمد وبشر, لقد بخل التاريخ بالحديث عن هؤلاء الأخوة كما بخل عن غيرهم إلا بذكر أسمائهم, لكنها صورة كافية وافية شافية تحكي عظيم الوفاء وجليل الفداء.

 ولم تكن هذه صورة وحيدة للعظمة, بل شهدت تلك الملحمة الجليلة أن يتقدم الأب والابن معاً، كما هو حال أبي حازم وابنه حازم, وكحال الحجاج ووالده اللذين حين لم يفلح العدو في قتلهما في المعركة, سارع لأخذهما بعد انتهاء المعركة، فقتلهما صبراً بجرم نصرة الإمام زيد (ع)، والثورة معه.

كما قدمت أسرة سالم العبسي اثنين من أبنائها، وهما: عوف وبشر؛ وعوف هو القائل في المعركة:

 

إن تعرفوني فأنا ابن عبس
 

 

أشجع من ليث حمى عن عرس
 

ليث هزبر الشدق خمر الخلس
 

 

يفترس الأعداء أي فرس
 

أفدي زيداً بأبي ونفسي
 

 

وطارفي وتالدي وعرسي
 

ياقوم جدوا في قتال النجس
 

 

فإنهم حقاً شرار الإنس
 

 

 

صميمُ إرادةٍ وعُنفوانُ ثباتٍ تقلدهما أصحابُ الإمام زيدٍ عليه السلام رغمَ قلتهم، وما كُلُ ذاكَ إلا حُب للهِ ولرسولهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وطمعاً في نعيمٍ أبديٍّ دونما اكتراث لشديدِ مُعاناةٍ جزموا بأنها لن تُقعدهم وبينَ أكُفهم أمثال عليٍ والحسين وزيد، و يبقى ذلكَ وفاء لا تُجاريهِ أرتالُ، وفداء لا تقوم له جبال.

;