سيرة تتضوع منها أصقاع الأرض، ومسيرةٌ تمضي تحتَ راية العلم والجهاد، ونَفْسٌ تطوي المسافات وتجتاز الصعوبات لتصل إلى مكامن الفضيلة ومواطن المجد.
إنها سيرة العلامة المجاهد والقاضي العادل محمد بن سليمان الكوفي رضوان الله عليه؛ والذي ينتهي نسبه إلى أسد بن خزيمة.
ولد رضوان الله عليه بأرضِ العراق، وأخذ العلم وطلب الحديث عند كبار علمائها، وكان من أبرز مشائخه في الكوفة شيخُ الإسلام وحافظ السنة الشريفة الإمامُ محمد بن منصور المرادي.
لقد كان في العلامة محمد بن سليمان الكوفي - منذ صباه- شغف كبيرٌ بالعلم وطلب الفقه والأخذ عن العلماء، ولتحقيق هذه الغاية السامية تنقل ورحل لطلب العلم إلى مختلف البلدان الإسلامية، فدخل مصر والشام والحجاز وغيرها، حتى صار واحداً من أبرز أعلام الإسلام، وحافظاً متمكناً من طرق الرواية والدراية، ومناظراً لا يبارى في مسائل الدين، وموسوعياً في شتى الفنون؛ وتشهد له بكثرة الرواية العدد الهائل من مروياته؛ فقد نَقَلَ أهمَّ كتب التاريخ وأخبار الإسلام، كأخبار صفين، وأخبار النهروان، ومقتل الحسين، وغيرها.
قال عنه الإمام مجد الدين المؤيدي: إمام الشيعة على الإطلاق، المهاجر إلى إمام اليمن من العراق، العالم الولي، محمد بن سليمان الكوفي.
وقال ابن أبي الرجال في ترجمته: علامة العلماء وسيدهم، الفاضل المحدِّث الجامع للكمالات الربانية.
ولقد علا شرفُه في العلم والفقه والرواية بانتقاله أخيراً إلى اليمن بعد قيام دولة الإمام الهادي عليه السلام، وملازمته له وأخذه للعلم عنه؛ ويروى أن من مشائخه أيضاً محمد بن زكريا العلائي.
وإن يكنْ قد غُمِطَ جانبُ هذا العالمِ الرباني، وأُهمِل الحديثُ عن جوانبَ كثيرةٍ من حياته إلا أن المؤرخين لم يستطيعوا تجاوزه، وسجَّلوا إقرارَهم بعظمته علماً وتأليفاً وقضاء وولاء لأهل البيت عليهم السلام؛ وكتابُه في مناقبِ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أعظم شاهدٍ على أنه من العلماءِ القلائل الذين نالوا نواصي الرواية وحازوا أسباب الدراية بتمكن منقطع النظير، وقد قال المحقق محمد باقر المحمودي في سياق حديثه عن كتاب فضائل أمير المؤمنين، بعد تحسُّرٍ على تأخر إخراج هذا الكتاب، وعدم اهتمام علماء الزيدية في طباعته ونشره: "ثم إن كتاب المناقب هذا من أفخم ما صنف في إثبات معالي الصادقين وإيراد مزايا الصديقين، وهو مع نقصه في مواضع منه - كما نشير إليه في مظانها - هو الغالي الذي ما وجدنا مثله ولا يسع لمُثمِّن أن يثمِّنه؛ ومن خواص هذا الكتاب أن أكثر مواضيعه مما اشترك في روايته الشيعة والسنة، وكثير من مواضيعه إما متواتر عند المسلمين أو رووه بنحو الاستفاضة، وأكثر رواة مواضيعه من رواة صحاح أهل السنة كما نبهنا على ذلك في كثير من تعليقاتنا عليه، وفي كثير من المواضيع علقنا عليه وذكرنا حرفياً ما رواه أهل السنة في صحاحهم وكتبهم الموثوقة." ثم قال عنه: "أنه تفرد بمزايا لا توجد في غيره".
ولمحمد بن سليمان الكوفي كتاب البراهين في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لم يطبع بعد.
وإن كان كتاب المناقب قد كشف عن تمكن الكوفي في علم الرواية وسعة روايته، فقد دلَّ كتابا المنتخب والفنون - الذين هما أجوبة لمسائل سأل عنها الإمامَ الهادي عليه السلام- أنه كان من سلاطين الفقه وأئمته.
ويكفي شاهداً على فضله وعلمه رضوان الله عليه أنه لما قدم إلى اليمن ولاه الإمام الهادي عليه السلام على منصب القضاء مع وجود الكثير من كبار العلماء بين يدي الهادي، كمحمد بن عبيد الله العلوي، وأحمد بن موسى الطبري، وهذا دليل جلي على مكانته السامية ومرتبته العالية في العلم والفقه والورع؛ وما ظنكم بمن ارتضاه الإمام الهادي قاضياً.
ولم يكن الحافظ محمد بن سليمان الكوفي مبرزاً في ميادين العلوم والقضاء فقط، فقد كان له حضوره أيضاً في ميادين الجهاد والثورة على منهج الإمام الأعظم زيد بن عليٍّ عليه السلام، فشارك في الجهاد قبل مجيئه إلى اليمن، وذلك في ثورة الإمام علي بن زيد بن الحسين بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عَلَيْهم السَّلام رضوان الله عليه في الكوفة، وقد أبلى بلاءً حسناً، وجاهد جهاد الأبطال مع مائتين من المجاهد إلى جنب الإمام، فأشعلوا ثورة أقضت مضاجع الظالمين والمتجبرين؛ وقد تحدَّث محمد بن سليمان عن هذه الثورة وحكى أنهم لقنوا الجنود الظالمة هزيمة موجعة في الكوفة، بإيمانهم ووعيهم وثباتهم، وكان قد جعلهم الإمام في حِلٍّ منه، وأمرهم بالانصراف عنه والذهابِ إلى منازلهم، إلا أنهم أبوا إلا الثبات معه والاستبسال بين يديه؛ ليعيدوا مشهد أنصار الإمام الحسين عليه السلام يوم الطف.
لم يُكتب لتلك الثورة النجاح فتخاذل الناس، واستبسل الكثيرون في نصرة الظالمين، وانتهى الأمر بوأد الثورة، ولكن العلامة الكوفيَّ لم يتوقف هنا، فظلَّ يرقب الأرجاء وينتظر وهجَ حركة ثورية جديدة، وما إن وصل إلى سمعه خبرُ خروج الإمام الهادي عليه السلام إلى اليمن، حتى خرج من العراق متوجهاً إلى اليمن يشدو به حبُّ العدل والحق، ويحدو به حادي العلم والهدى، وفي صعدة استقر به النوى وحطَّ عصا الترحال في رحاب إمامه الهادي عليه السلام.
وبعد أن توفي الإمام الهادي عليه السلام تولى محمد بن سليمان القضاءَ لولده الإمام الناصر، وكان أحد خواصه الذين يثق بهم ويطلب مشورتهم.
وهكذا ظل الحافظ محمد بن سليمان الكوفي رضي الله عنه في رحاب أهل البيت عليهم السلام، يناضل معهم ويذود عنهم بعلمه وسيفه، حتى توفاه الله سعيداً كريماً، بعد أن ترك لنا الأثر البالغ علماً وعملاً، وأضاف إلى المكتبة الإسلامية كتبه القيمة؛ فسلام الله عليه ما لمح نور العلم وما قام علم الجهاد، وعلى أهل الولاء والولاية ومن سماهم الله خير البرية من الشيعة الكرام من يومنا هذا إلى يوم الدين.