من أعظم ما ابتلي به الإسلام حكام بني أمية الطغاة وولاتهم المتجبرون, فقد تناسلوا وتناسخوا الشر والطغيان, وتنافسوا في الفحش والبغي, والظلم والإسراف, فكان كل خليفة أسوأ من سابقيه, وهكذا حتى تدحرجت الخلافة إلى طاغية غشوم, ومجرم ظلوم, يدعى هشام بن عبدالملك, وكان ذلك في عام 105هـ, وفي فترة خلافة هذا العتل الزنيم ثار الإمام زيد عليه السلام على دولته, وخرج ضد طغيانه, ووقف صارخاً في وجه جبروته وانحرافه.
ومن المهم - ونحن نريد التعرف على عظمة ثورة الإمام زيد (ع), وأبعادها على المستوى الديني والإنساني- أن نقف لنقرأ حول شخصية هشام بن عبدالملك, ونتعرف إلى أي حد بلغ في ظلمه وبغيه وانحرافه عن تعاليم الدين الحنيف.
هشام بن عبدالملك بن مروان بن الحكم بن العاص تولى الخلافة في 24 شعبان سنة 105هـ, وكانت وفاته بالرصافة في 6 ربيع الآخر 125هـ, وقد حكى التأريخ أن هشاماً كان ظالماً، متغطرساً، مسرفاً، منتهكاً لأحكام الله, كما كان أحْولَ، خشناً، فظاً، غليظاً، يَجْمَع الأموال متخذاً لمال الله دولا, ولعباده خولا، ويستجيد الخيل حتى أقام الحلْبَة فاجتمع له فيها من خيله وخيل غيره أربعة آلاف فرس، ولم يُعْرَفْ ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس، وقد ذكرت الشعراء ما اجتمع له من الخيل، واستجاد الكُسَي والفُرَشَ، وعُدَد الحرب ولآمتها.
فحش وفجور
لم يكن هشام ـ كافأه الله ـ يُعِير مقدسات المسلمين أي اعتبار, يسمع يهودياً في مجلسه يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فلا يعترض عليه بكلمة, بل ينهر الإمام زيداً (ع) حين ينكر عليه, وقد بلغ به الحال من الغرور الذي استحوذ عليه أن خطب على منبر مكة، فتهدد بالقتل كلَّ من يأمره بتقوى الله.
ولم يكن خلفاء الدولة الأموية - بما فيهم هشام بن عبدالملك- يتحرزون من مخالفة الله في أوامره, وانتهاك حرمه, فقد كانوا يقتلون، ويأخذون أموال الناس، ويسطون على ممتلكاتهم, ومما اشتهر عنهم ولعهم بشرب الخمر ومعاقرته, حتى أن بعضهم صنع له بركة من الخمر, وكان هشام ممن يشرب الخمر كما يُروى في كتب التأريخ، وكان يدخل عليه المسلمون وهو سكران، وينشدهم الشعر فيطرب حتى يسقط من فوق سريره.
أحكام جائرة
كانت فترة حكم هشام بن عبدالملك حافلة بالمشاهد الظالمة, والأحكام الجائرة, وليس أدل على ذلك من الظلم الذي مارسه مع الإمام زيد (ع)، من قتله، وصلبه عارياً، وحمل رأسه في الأمصار، والطواف به في البلدان, ثم قتل كل من ناصره أو تعاطف معه من رجال ونساء بأبشع الصور, فقد كان يؤتى بالجرحى والأسرى من أنصار الإمام (ع) فيأمر بضرب أعناقهم، بل كان هشام فظاً متجبراً مع كل من خالفه في الرأي, أو الاعتقاد, فقد قام بقتل الجعد بن درهم في يوم عيد الأضحى من دون ذنب إلا اعتقاده في مسألة خلق القرآن بخلاف قول هشام, فأخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري، وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فحبسه خالد، فلما صلى العيد يوم الأضحى قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا يقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، ثم نزل وذبحه.
وبالصورة نفسها قتل غيلان الدمشقي, فقد ذكر المؤرخون أن غيلان كان يقول أن معاصي العباد منهم, وليست من الله, فأمر بجلده مع أحد رفاقه سبعين جلدة, ثم أمر هشام بإخراج ألسنتهما من أقفيتهما، فلم يلبثا أن ماتا وألقيا على مزبلة يراهما الناس مصلوبين.
وبتهمة أنْ نَظَمَ الشاعرُ الكميت قصيدةً في مدح أهل البيت (ع) أَمَرَ بقطع يديه ورجليه ولسانه.
لقد أسرف هشام في القتل، واسترخص دماء الناس, وكانت كل أحكامه في القتل تُرْتَجَل في المجلس من دون أي محاكمات عادلة أو شكلية, ومن أندر ما يقف عليه القارئ وهو يطالع في تأريخ هشام وأحكامه الجائرة, أن يجده أمر بقتل أحد الشهود لمخالفته لشهادات بقية الشهود.
ونختم هذه الفقرة بهذا الموقف الذي نجزم أن صاحبه لعن فيه عرقه وأصله, فقد روى التأريخ أن شاعراً من العجم قال قصيدة في مدح قومه (العجم) في مجلس هشام, فغضب هشام غضباً شديداً, ثم أمر برميه في بركة ماء حتى قارب على الموت, ثم أمر بنفيه من بلده وطرده إلى أرض الحجاز.
تعيين ولاته
هناك قصص كثيرة عن طبيعة تعيينه للولاة وعزلهم، من دون معايير تقوم على الصدق والنزاهة والكفاءة, فقد عين رجلاً من أجل أنه أهدى لامرأته قلادة أعجبته, وقد عزل والياً من أجل وشاية.
جرأة على الله
كان هشام يحاول أن يصبغ كل تلك الجرائم بصبغة الشريعة، ويسعى أن يرسخ في الرعية أن له من الله حصانة شرعية يمارس في ظلها كل ظلم وفحش من دون أن يؤاخذه الله, وهذا بلا شك تأسيس للاعتقاد الفاسد الذي يقول أن الخلفاء ظِلُّ الله الذي لا يجوز مخالفته, ولا انتقاده, ولا الخروج عليه, فقد خطب هشام حين ولي الخلافة، فقال: الحمد الله الذي أنقذني من النار بهذا المقام.[انساب الأشراف, ج3/ ص147]
جهل بالدين
هل يستطيع العقل أن يتخيل حاكماً للمسلمين على أنفسهم وأموالهم، يمثل بزعمه ظل الله في الأرض, وهو جاهل لأبسط تعاليم الدين، فيذهب إلى الحج, لا يعلم شيئاً عن مناسكه, ولا يجيد منها فرضاً؟!
وهل يؤمَّن حاكمٌ بهذا المستوى من الجهل ليدير شؤون المسلمين، ويطبق فيهم شرع الله، وينفذ فيهم أحكامه؟! لقد كان هذا هو هشام بن عبدالملك, وليس جهله بأحكام الحج إلا مثالاً بسيطاً، وإلا فإننا نجزم أنه كان لا يعلم كثيراً من ضروريات الدين, ومن أين له أن يعلم بشرع الله؟ وقد نشأ على الخمر والمعاصي والظلم والقتل, في بيئة ملطخة بأنواع المعاصي والذنوب.
ثراء فاحش
في حين أن التأريخ يحكي عن معاناة شديدة كانت تعصف بالسواد الأعظم من المسلمين في تلك السنين المظلمة، والتي عبر عنها أعرابي في مجلس هشام بسنين "أكلت اللحم، وأتت على العظم", فقد روى التأريخ مع تلك المعاناة صوراً عن ثراء الطاغية هشام, وعبثه, وغناه الفاحش، وكأنه أحد الفراعنة المترفين, فقد كان يجمع الأموال، حتى قيل: إنه جمع من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبله.
فلم يكن ذلك الفقر وتلك الحاجة المنتشرة في أوساط الناس إلا نتيجةً طبيعيةً لممارسات هشام وولاته, وسياساتهم الإقصائية, واستحواذهم على الأموال، وما ذلك إلا مصداق لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اتخاذهم مال الله دولا.
وقد حكى أحد الوافدين على هشام في وصف عرشه، فقال: دخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالزحام وهو في مجلس مفروش بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب ذهب، وحيطانه كذلك، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب خز حمر، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب يقلبه بيده فتفوح روائحه.
ومع هذا الغناء الفاحش ترى الناس يفدون إليه وفيهم ذرية الصحابة, بعد أن أجهدهم العناء والخصاصة, فيمنعهم من مال الله، ويردهم صفر اليدين, في حين أنه يرصف الذهب على اسطوانة مجلسه وحيطانه, ويصنع منه أواني أكله, قال البلاذري: قدم على هشام وفد وفيهم ابن عمار بن ياسر، فقال له هشام: من أنت؟ فأخبره, فقال:
ترجو الصغير وقد أعياك والده |
وفي أرومته ما ينبت العود |
لا والله ما نال مني خيراً أبداً ما بقيت.
وفي جواب هشام هذا وتبريره لرد ابن الصحابي الجليل عمار بن ياسر وجه آخر من أوجه القبح الذي كان عليها هشام بن عبدالملك.
ومن مظاهر ثرائه وإسرافه في أموال الله ما رواه أصبغ بن الفَرج: لم يكن في بني مَرْوان من مُلوكها أعطرَ ولا ألبس من هشام، خَرج حاجًّاً فحَمل ثيابَ طُهره على ستمائة جَمل.
وقال الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي: ولما علم [هشام بن عبدالملك] سيرة عمر بن عبدالعزيز في تراث سليمان وصرفه إلى بيت المال إلا ملابسه جعل مال الله ملابس, ونافس في الطراز حتى ضرب به المثل فقيل: طراز هشام, وقطع وقر عشرة آلاف بعير بزاً, ولم يدرِ أن الوليد بن يزيد يأتي لا يميز؛ حتى لقد تعسر عليهم كفنه.
مزاج فرعوني
روى المدائني عن يزيد بن الحارث قال: كان هشام وبنو مروان كلهم لا يكسون الناس الخز الأحمر والأصفر ويكسونهم ما وراء ذلك من الألوان، ويدخرون الأحمر والأصفر لكسوتهم.[أنساب الأشراف, ج3/ ص137]
وهذه الرواية تكشف وجهاً قبيحاً لهذه الأسرة المسرفة, فلا يكفي أن يستغلوا كل ثروة المسلمين, ويلهفوها في جيوبهم, وخزاناتهم؛ لإشباع رغباتهم وشهواتهم, بل يفرضوا على الناس ما يلبسون, ويَصْطَفُوا لهم أضخم الأنواع، ويحرِّموها على سائر الناس؛ فأي عنجهية تلك, وأي تسلط ذاك؟!
تربية المجرمين
يفترض أن يكون الأب دالاً لأبنائه على الخير، ومربياً لهم على البر والصلاح, ولكنْ أنَّى لهشام أن يكون ذلك الأب وهو الغارق في الموبقات؟!
ولنقرب لكم صورة هشام في حكاية ذكرتها بعض كتب التأريخ، والتي تدل على أبوته، وتظهر طريقته في النصح لأبنائه؛ وذلك أن ولده سعيد بن هشام بن عبد الملك كان عاملاً لأبيه على حِمْص، وكان يُرْمَى بالنساء والشراب، فقَدِم حِمصيُّ إلى هشام، فلقيه أبو جعد الطائي في الطريق، فقال له: هل تَرى أنْ أعطيَك هذه الفرس، فإني لا أعلم بمكانٍ مثلَها على أنْ تُبلِّغ هذا الكتابَ أميرَ المؤمنين، ليس فيه حاجة بمسألة دينار ولا درهم، فأخذها وأخذ الكتابَ، فلما قدم على هشام سأله: ما قِصة هذه الفرس؟ فأخبره، فقال: هاتِ الكتاب، فإذا فيه:
أبْلِغ إليك أميرَ المُؤمِنين فقدْ |
أمدَدتَنا بأميرِ ليس عِنِّينَا |
|
عَوْراً يُخالف عمراَ في حَليلتِه |
وعند ساحته يُسْقَى الطِّلا دِينا |
فلما قرأ الكتاب بعث إلى سَعيد فأشخصه، فلما قدمِ عليه عَلاه بالخَيْزرانة، وقال: يا بن الخبيثة، تَزني وأنت ابن أمير المؤمنين؟! ويلك! أعجزت أن تَفْجُر فجور قريش؟ أوَتدري ما فُجور قريش لا أمَّ لك؟ قتْلُ هذا، وأخْذُ مال هذا؛ والله لا تلي لِي عملاً حتى تموت.[العقد الفريد, ج2/ ص165]
هذه قطرة من ظلم هشام، وما خفي وما تركناه أعظم وأطم, ولكم أن تتساءلوا كيف شُوِّه التأريخ وحُرِّفَت الحقائق؟ وكم حاولت السلطات وعلماء السلطان أن يصوروا هشاماً وبني أبيه على أنهم حمائم السلام, ونماذج الوداعة والبراءة؟
وكيف لمسلم يحمل روح المسؤولية أن يطيب له قرار أو يهدأ له بال؟! وهو يشاهد قمة المسلمين ورأس الهرم فيهم بهذا المستوى من السقوط والانحلال.
وهو ما عبر عنه الإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام بقوله: ((والله ما يسعني أن أسكن, وقد خولف كتاب الله تعالى, وتحوكم إلى الجبت والطاغوت)).