في رحاب الهادي إلى الحقِّ عليه السلام يعجز اللسان، ولا يفي المقام، وتبقى الكلمات تقدِّم وتؤخِّر، لا تشككاً وارتياباً، ولكن هيبةً ورهبة؛ كيف لا؟! وهي بروضةٍ غنَّاء، وجَنَّة ذات أفنان، قد حوت بديعاً يجِلُّ وصفُه، وبهاءً يصعب نيلُه.
هنا حيثُ نطقت الأخلاق، وفاح أريجها، وطابت الأرومات، وباهت فروعُها، في مقام الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام، سيدِ الخُلُق، وممثِّلِ الفضائل، من نبت من بذرة الدين، ونَهَلَ من معين المتقين، وتربَّى في رحاب الطاهرين، فنشأ مؤمناً برَّاً تقيَّاً، متحلِّياً بمكارم الصفات، وعظيم السجايا، قد تشرَّبَ العلم، ونطق بالهدى، واتشح بالنور الذي لا يبلى.
ذلك الهادي إلى الحق {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
لقد جمع عليه السلام الخصال الحميدة، والمناقب الكريمة، فكان إماماً سابقاً فاضلاً فقيهاً عالماً بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عاملاً بهما، ورعاً ديناً زاهداً ناصحاً جواداً سخياً كريماً مبرِّزاً في جميع الخصال المحمودة المقربة إلى الله جل جلاله.
لين الجانب
أن تجِدَ إماماً تدينُ له الأصقاع، وتخضع له البلدان, ويبلغ خبره ودولته مشارق الأرض ومغاربها، ثم تجده يخالطُ الناس، ويمشي في الأسواق، ويعود المرضى حتى من العبيد، فأنت بلا شك في حضرة الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام؛ وفي سيرته وتعامله يتجلى الفرق بين أئمة الحق وأئمة الجور الذين اتخذوا مال الله دولاً، وعبيده خولاً، وشتان ما بين الفريقين.
وليس ذلك مبالغة أو مزايدة أو انتصاراً للهادي عليه السلام، بل هو عين الحقيقة، وشهادة التاريخ، فهو من جسَّد بتعامله مع الناس خُلُقَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتمثل آدابه، وسار بسيرته، فكل مسكين يستطيع أن يصل إليه، وكلُّ ذي حاجة لا يصعب عليه إبلاغه حاجته، فهو مَلِك بغير حُجَّاب، وسلطانٌ لا تحول بينه وبين الرعية أستار ولا أبواب، يأكل كما يأكل الفقراء أو أقلَّ من ذلك، ويمشي بين الناس كأنه واحد منهم دونَ حشمٍ ولا جنود، ومن غير تكبر ولا تجبر.
لقد جعل عليه السلام التواضع دثاره، فإذا كان في مجلسه أدنى منه الضعيف والفقير والصبي، ويأمر بذلك، وإذا خرج من منزله للصلاة أو لغيرها سلَّم على جميع من يمرُّ به من شريف أو دني أوفقير أو غني أو عبدٍ أو صبي، وكذلك كان جدُّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد روي أنه خرج عليه السلام ذاتَ مرة من المسجد بعد أن صلى بالناس، فاجتمع حوله جماعة من المساكين فصاحوا، فوقف ساعة معهم ثم أمر لهم بشيء، ففُرِّقَ بينهم.
وليس هذا فحسب، بل كان عليه السلام يبحث عن أهل الفاقة والحاجة، ويأمر من ينادي في الناس: أين الفقراء؟ أين المساكين؟ أين ابن السبيل؟ أين من له حاجة؟ هل من سائل فيعطى أو من طالب فتقضى حاجته؟
فيقضي عليه السلام لمن وَجَدَ منهم حاجاتِهم وسؤولهم.
وهكذا شمل ذلك الخُلق الرفيع سائر أفعال الهادي عليه السلام وأقواله، حتى كأنه جرى في دمه الطاهر، فهو من يعود الجرحى والمرضى ويمرِّضهم بنفسه، وهو المُعين للمظلوم المنتصف له، وفي الكرم هو الجواد بمعروفه، الباذل ما في يده، الذي يرى الضيافة من أسرِّ الأشياء إليه، ويتعهد ضيوفه بنفسه، حتى روي أنه كان إذا وضعت مائدته لم يبقَ خلق ممن يحظر في ذلك الوقت إلا دعاه إليها.
وقد روى محمد بن سعيد قال: رأيته يفتُّ الطعام للأيتام بيده ويثرده بالسمن، ثم يقول: أدخلوهم. ثم ينظر فمن كان منهم ضعيف المأكل قال: هذا مغبون. فيأكل مع المساكين ثم يعزل له، وكان لا يأكل طعاماً حتى يطعم المساكين منه، ثم يأكله بعد ذلك.
وروي أنه ذات مرة صلى العصر في المسجد فلما انصرف استقبلته امرأة فصاحت به: يا ابن رسول الله. فوقف، ودنت إليه فإذا هي عجوز، وأمسكت بثوبه، فزجرها بعض خدمه وانتهرها، فقال له يحيى بن الحسين: دعها.
فجعلت العجوز تكلمه وتشكوا إليه أنها مظلومة، وهو واقف معها حتى فرغت من كلامها، ثم صاح بأبي جعفر محمد بن سليمان الكوفي أن يمضي معها، ويستقضي في الحق لها فنفذ معها حتى أحضر خصمها وقطع ما بينه وبينها.
وبهذا الخلق النبوي العظيم تمكَّن الإمام الهادي عليه السلام من حرق المسافات التي وضعها حكام الجور بينهم وبين المحكومين، لدرجة أن الرعية تستطيع الوصول إليه في وقت متأخر من الليل، فيلبِّيهم، وينظر في حاجاتهم برحابة صدر، دون تكاسل منه أو تهاون؛ ومن القصص النادرة في ذلك ما حكى مصِّنف سيرته؛ قال: "رأيته ليلة وقد جاء رجل ضعيف في السحر يستعدي على قوم فدقَّ الباب، فقال: من هذا يدقُّ الباب في هذا الوقت؟
فقال له رجل كان على الباب: هذا رجل يستعدي، فقال: أدخله. فاستعدى فوجه معه في ذلك الوقت ثلاثة رجال يحضرون معه خصومه، فقال لي: يا أبا جعفر، الحمد لله الذي خصَّنا بنعمته وجعلنا رحمة على خلقه، هذا رجل يستعدي إلينا في هذا الوقت لو كان واحداً من هؤلاء الظلمة ما دنا إلى بابه في هذا الوقت مشتكٍ ثم قال: ليس الإمام منَّا من احتجب عن الضعيف في وقت حاجة ماسة".
ولقد حكى عنه بعض أصحابه، فقال: "ورأيته في مجلسه حليماً وقوراً لا يغضب من الكلام إذا كثر، ولا يضجر من المسائل إذا وردت إليه بل يرد جواب كل سائل بسكون وحلم وعلم".
وقال أيضاً: "ورأيته في مجلسه يدير بصره بين جلسائه يَمَنَةً ويسرة حتى يفهم كلُّ من حظر المجلسَ ما يقول، لا يخصُّ أحداً بجميع كلامه، صائناً لنفسه في مجلسه قليل الحركة لا يتكئ بين جلسائه ولا يستخف بهم، حسن الصمت إذا صمت بين الكلام، إذا نطق لا مهذراً في الكلام ولا عيياً في الجواب، ولا سكوتاً عما يحتاج إليه، إن تكلم ببيان، وإن سكت فبحفظ اللسان، لا يقوم عن جلسائه حتى يقوموا، وإن عرضت له حاجة صبر معهم حتى ينصرفوا، فعلمتُ بذلك أنه كان إذا لم يبقَ في مجلسه أحد قام لقضاء حاجته، فكنتُ أعلم أنه كان يحتاج للقيام قبل ذلك، فيمنعه من ذلك الكرم والأدب، وكذلك جاء في الأثر عن رسول الله (ص) أنه كان لا يقوم عن جلسائه حتى يتفرقوا".
وبهذه البساطة وهذا التواضع تملَّك الهادي عليه السلام القلوب، وأنس به القريب والبعيد، واطمأن بحضرته جميع الخلق؛ وكيف لا؟! وهو الشفيق على الخلق، الرفيق بهم، من يؤثر رعيته على نفسه، ويكرم نزلهم، ويتلطف بهم، ويعرف قدرهم، ويوصيهم بالتراحم والتواصل، وينهاهم عن البغي والتحاسد؛ فصلاة الله وسلامه عليه.
علمه
الهادي إلى الحقِّ عليه السلام من أئمة الهدى وأعلام التقى، الذين أورثهم الله علم الكتاب وأودع في صدورهم فهم أسرار القرآن. ((ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)) ((بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم))
وعلمية الإمام الهادي بقدر عالميته، ولهذا لا نستطيع أن نقيس علم الإمام الهادي بعدد مروياته ولا بكراريس مؤلفاته فحسب؛ لأنه فوق هذا قد شمله الحديث النبوي ((اللهم اجعل العلم في عقبي وعقب عقبي)) فهي دعوة نبوية ووراثة من ذي الخبير العليم.
كان الإمام الهادي منذ صباه وهو في خضمِّ حلقات العلم، ومجالس الذكر، مقبلاً على الدرس، مواظباً على النظر في الفقه، مثابراً على ذلك، تحوطه أسرةٌ علويَّة قد جعلت العلم زادها، فكان أفرادها بين أئمة وعلماء مجتهدين، فارتوى عليه السلام من علومهم، واقتبس من أنوارهم، حتى "بلغ من العلم مبلغاً يختار عنده ويصنف وله سبع عشرة سنة" كما حكاه ولده المرتضى عليهما السلام.
وكان بداية أخذه للعلم على يدي والده وعمه محمد بن القاسم عليهما السلام؛ وقد رأى جميعُ أهل بيت القاسم الرسيِّ في ذلك الوقت أن لهذا الفتى المُجِدِّ شأناً عظيماً ومكانة عالية، وظلَّتِ العيون ترمقه وهو يترقى في العلم من درجةٍ إلى أخرى، حتى بلغ مرتبة الاجتهاد وهو في سنٍّ مبكرة، وأصبح ممن يشار إليه بالبنان، وبلغت شهرته مشارق البلدان ومغاربها، وصار مقدَّماً عند كبراء أهل البيت في عصره.
وقد شهد له عليه السلام بسعة العلم كبار علماء المسلمين في مختلف الأقطار، كأبي خازم عالم أهل العراق، فحين قدم الهادي عليه السلام إلى العراق حضر مجلس أبي خازم، وجلس في غمار الناس، فلم تَعرِض مسألة إلا خاض فيها، وناقش أدلتها، وسرد الحجج لرأيه فيها، فدهش الحضور لِمَا رأوا من براعته وتمكنه وسعة علمه، فجعلوا يعتذرون إليه من التقصير.
وكذلك لمَّا خرج عليه السلام إلى طبرستان، واستقر في خان العلا أقبل إليه العلماء والفضلاء حتى امتلأ الخان وفاض بالناس، وليس ذلك إلا للمكانة العالية التي كان قد بلغها.
وقد روي عن علي بن سليمان أنَّه قال: حضرنا إملاء الناصر الحسن بن علي عليه السلام في مصلى آمل فجرى ذكر يحيى بن الحسين عليه السلام، فقال: بعض أهل الرأي ـ وأكثر ظني أنَّه أبو عبد الله محمد بن عمرو الفقيه ـ: كان والله فقيهاً. قال: فضحك الناصر، وقال: كان ذاك من أئمة الهدى!!
ولو نظرنا إلى طلب أهل اليمن منه عليه السلام القدومَ إليهم لتخليصهم مما هم فيه من البلاء والفتن، فسنعرف أنهم لم يقصدوه إلا لاشتهاره، وذيوع صيته، فندرك أن علمه وفضلَه وعلوَّ شأنه كانت قد وصلت إلى الآفاق.
إذن فقد كان الإمام الهادي عليه السلام من أوعية العلم، متبحراً في شتى الفنون، عارفاً بمختلف المذاهب والفرق، وقد سطر لنا التاريخ الكثير من الشهادات على ألسنة كبار العلماء، ومن أبرزهم أبو بكر بن يعقوب عالم أهل الري وحافظهم، فإنه سُمِع يقول حين ورد على الهادي باليمن: "قد ضل فكري في هذا الرجل ـ يعني يحيى بن الحسين عليه السلام ـ فإني كنتُ لا أعترف لأحد بمثل حفظي لأصول أصحابنا، وأنا الآن إلى جنبه جَذَع، بينا أجاريه في الفقه وأحكي عن أصحابنا قولاً، إذ يقول: ليس هذا يا أبا بكر قولكم، فأَرَادُّه، فيُخرج إليَّ المسألة من كتبنا على ما حكى وادعى، فقد صرت إذا ادعى شيئاً عنَّا أو عن غيرنا لا أطلب معه أثراً.
وفي مناظرة الإمام الهادي عليه السلام للمجبرة لمَّا افتتح صنعاء خيرُ شاهد على قوة حجته وتمكنه في العلم، وسرعة بديهته، وذلك أن علماء المجبرة أرادوا مراجعته، فقالوا: ما تقول يا سيدنا في المعاصي؟ فقال: ومن العاصي؟ فبقوا متحيرين في الفكر إن قالوا: العاصي الباري كفروا، وإن قالوا: العاصي من المخلوقين وافقوا كلام الهادي -عليه السلام-، فلما لم يجدوا جواباً دخلوا في مذهبه بتسعة أحرف، وقال مناظرهم: غلبني بأوجز من كلامي.
وقد شهدت له بغزارة علمه، وتبحره في العلوم، مؤلفاته الجمَّة ورسائله الكثيرة في جميع الفنون، والتي أصبحت عمدة عند العلماء، ومرجعاً لهم، ومنها: (كتاب الأحكام)، و(المنتخب)، و(الفنون)، و(كتاب التوحيد)، و(كتاب القياس)، وغيرها.
ولو أردنا الاسترسال في الحديث عن علم الإمام الهادي عليه السلام، لصعب علينا ذلك، ولما وجدنا لبلوغ الختام طريقاً، ولكن نجتزي بالقليل الذي ينبئ عن الكثير، ونكتفي بقطرة من الماء الغزير.
عبادته
لقد جمع الإمام الهادي في صفاته ما لا يجتمع في غيره في الظروف العادية، تماماً كجده علي بن أبي طالب عليهم السلام، والذي كان كما وصفه الشاعر:
هو البكاء في المحراب ليلاً *** هو الضحاك إن آن الضرابُ
فبينما تجده في ساحات الجهاد الفارس الشجاع الذي ترتعد منه فرائص أعدائه، والبطلَ المجرَّب الذي تجبن عن لقائه سيوف أهل الباطل، تجده في نفس الوقت العابد المتنسك الخاشع الخاضع بين يدي الله تعالى، الذي يصوم أكثر أيامه، ويحيي أكثر لياليه تهجداً وصلاة وذكراً لله
والإمام الهادي كأئمة أهل البيت العظام علي وزين العابدين وزيد عليهم السلام، الذين جعلوا كل نفس وحركة في حياتهم عبادة لله تعالى، ويعتبرونها متنفساً لهم من كدر الحياة ولحظات وصل بينهم وبين معشوقهم سبحانه وتعالى.
حكى سليم وقد كان يلي خدمة الإمام الهادي، فيقول: كنتُ أتبعه حين يأخذ النَّاس فراشهم في أكثر لياليه بالمصباح إلى بيت صغير في الدار كان يأوي إليه، فإذا دخله صرفني فأنصرف، فهجس ليلة بقلبي أن أحتبس، وأتيت على باب المسجد أنظر ما يصنع.
قال: فسهر عليه السلام الليل أجمع ركوعاً وسجوداً، وكنت أسمع وقع دموعه صلى اللّه عليه ونشيجاً في حلقه، فلما كان الصبح قمت فسمع حسي، فقال: من هذا. فقلت: أنا. فقال: سليم ما عجل بك في غير حينك؟! قلت: ما برحت البارحة جعلتُ فداك.
قال: فرأيتُه اشتدَّ ذلك عليه وحَرَّج عليَّ أن لا أحدث به في حياته أحدا.
فأيُّ ملِك هذا الذي جعل الحبل ما بينه وبين خالقه جلَّ وعلا موصولا؟! فلم تلهه ولايته عن العبودية، ولم يشغل قلبه النفوذ ولا السلطان عن الارتباط الوثيق بمدبر الأمور؛ ما أحوجنا لمثل هذا الإمام العظيم، الذي يكون لنا خير قدوة في الطاعة لله والخضوع والاستسلام له، ويحيي فينا الحبَّ الإلاهي الذي طالما افتقدناه.
زهده وورعه
في شخصية الإمام الهادي عليه السلام يتجلى الزهد والورع في أبهى صورهما، كتجلي الشمس في الضحى، لا تحجبها غيوم، ولا يغطي عليها بجناحيه طائر، فهو كما قال عنه الإمام المؤيد بالله عليه السلام: "فأما الزهدُ والورع فمما لا يحتاج إلى وصفه به، لظهور الحال فيه عند الخاص والعام، والموافق والمخالف، ولأن الزهد أمر شامل لبيت القاسم بن إبراهيم عليه السلام عام في أولاده وأسباطه إلى يومنا هذا، لاسيما من لم يتَغَرَّب منهم ولم يختلط بأمراء هذه البلدان".
ولقد كان عليه السلام يجتزئ بالقليل من الطعام، حتى يَعْجَب من ذلك من يراه، فكيف لمن تُجمَع إليه الأموال من الخراج وغيرها أن يرضى بما لا يرضى به من لا يملك إلا القليل؟!
وقد بلغ عليه السلام من الزهد والورع ما جعله يترك ما يحل له فضلاً عن غيره، ويرددُ مع ذلك على مسامع الناس: "والله الذي لا إله إلا هو ما أكلت مما جبيت من اليمن شيئاً، ولا شربت منه الماء، إلا من شيء جئت به من الحجاز"، وهذا ورع شحيح؛ لأنه تعفف عن الحلال إذ كان يجوز له أن يتناول من الجزية وأخماس الغنائم.
وتراه عليه السلام يلبس ثياب الهيبة أو ثياب الحرب اضطراراً لإبراز هيبة الدين، ويقول: "والله لو كنت بين مؤمنين ما لبست مثل هذا ولا هذا من لباسي، وما أشتهي إلا أن ألبس الغليظ من الثياب، ولو لبسته لاستخف الناس موضعي فقد ميزت أمورهم فرأيتهم لا يطيعون إلا من كان عليه مثل هذا الثوب، ولكأن على جلدي من لباسه الشوك".
وليس ذلك الطبع فيما هو له فقط، بل يتجلى أيضاً في تشديده على أولاده فيما يخص أموال بيت المال، ومن ذلك ما روي عن ابنه محمد أنه قال: "وجهت غلاماً لي إلى أبي يحيى بن الحسين أطلب منه قرطاساً أكتب فيه كتاباً، فقال يحيى: القرطاس لا يحل له، فدفع إلى الغلام ورقة قطن".
وروي: "أنه صاح بغلام له، فسأله عن خرقة؟ فقال له الغلام: قد رقَّعتها فقال للغلام: أخرجها إليَّ، فأخرجها من بين ثياب يحيى بن الحسين عليه السلام، فقال له: ويلك!! أنت قليل دين تضع خرقة من الأعشار بين ثيابي!"
ودخل عليه السلام يوماً وقد تطهرَّ للصلاة، فأخذ خرقة فمسح بها وجهه، ثم قال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون هذه الخرقة من العشر، فذكرت له ذلك، فقال: ما يحل لنا أن نمسح به وجوهنا، ولا أن نستظل به من الشمس.
وقد كان يترك بعض ما يحل له تورعاً عنه وتنزهاً منه، ومن ذلك امتناعه عن الأكل والشرب من الخمس الذي يؤخذ من جزية النصارى واليهود.
ولقد كان الإمام الهادي دقيقاً في إصابة الحق والقيام بالشرع لا يستغل منصبه في أخذ ما ليس له بحق فقد كان يأمر علي بن أبي عنبسة الصعدي وكان يشتري ليحيى بن الحسين حوائجه من السوق: "يا علي اتق الله تعالى، وأنظر فيما بينك وبينه فيما يشترى به لي، ولا تأخذنَّ من أحد شيئاً إلا بثمن كما يشتري الناس، ولا تزداد لي شيئاً فتأثم. وذات مرة جاء رجل من أصحابه إليه فقال له: جعلت فداك هاهنا قومٌ يعطون بطيب أنفسهم أكثر مما يجب عليهم فنأخذ منهم ما يصلحهم؟ فقال يحيى بن الحسين: والله لا أصلحتكم بفساد نفسي.
ومن قصص ورعه ما حدث عنه علي بن محمد بن سليمان: مررنا في سفرنا مع يحيى بن الحسين بدوم وهو النبق، فمضى بعض من كان معه فأخذ حبات يسيرة فصاح به وأغلظ عليه ، ثم أمرنا أن نعطي صاحب ثمنه من دقيق كان معنا، فمضينا إلى صاحبه فقال: لست أريد به ثمناً، إنما يأخذ هذا من مر به ، فأبى أن يأخذه ، فرجعنا إلى يحيى بن الحسين فأعلمناه بمقالة الرجل، فقال : إذهبوا بالدقيق فاجعلوه تحت الشجرة ففعلنا ذلك.
وجاء في السيرة للهادي: ورأيته إذا وضعت مائدته لم يبق خلق ممن يحظر في ذلك الوقت إلا صاح به، فلما كان ذات يوم أتيت فإذا الناس يأكلون وهو معتزل ليس يأكل معهم، فأردت أن أسأله، فابتدأ هو بالكلام فقال : لم يمنعني الا أن هذا الطعام لا يحل لنا لأنه من الأعشار.
وحدث علي بن محمد بن سليمان: كنت أقبض ليحيى بن الحسين زكاة أموال التجار ، فيكون في البلد تجاراً غرباء يتجرون ويقيمون الأشهر فقلت له: جعلت فداك نأخذ منهم زكاة أمولهم ؟ فقال : إن أخذنا منهم زكاة أموالهم وجب علينا أن نحوطهم حيث كانوا في بلادنا وغيرها ، فلم يأخذ منهم شيئاً.
والمقام أعظم من ذلك، وهناك الكثير والكثير من القصص التي حكت عن زهده وورعه لا يسع المقام لسردها، يجدها من أراد في سيرته وغيرها من كتب التاريخ.
شجاعته
لا نبالغ إن قلنا أن الشجاعة والبأس قد تمثلتا في شخصية الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام، وكانتا من أبرز سماته منذ صغره، فهو الشبل العلوي الذي لم يعرف إطلالة الجُبن، ولم تُكبِّلْه حبائل الخوف، حتى صار يُضرب به المثل، ويُحكى عن معاركه وضرباته، وليس ذلك إلا في سبيل الله عز وجل؛ لإعلاء دينه، وكان يقول في حروبه ويصيح: "كيف رأيتم قتال أهل العدل والتوحيد؟".
وقد قال عنه صاحب مآثر الأبرار: "فإنه كان إذا التقت الأبطال، وتداعت نزال، ألفيتَه القطب التي يدور عليها رحى القتال، وكم له من يوم أغر عاود فيه الكر، واستحيا من الفر، إذا حمي الوطيس كان أمام جنوده يضرب كبش الكتيبة، ويشاهد له كل حملة عجيبة".
ونجده في معاركه مع القرامطة وغيرهم في مقدمة الجيش، يصول ويجول ويحتز الرؤوس، غير ناكل عن قُدُمٍ، ولا واهٍ في عزم، يضرب ضربَ جدِّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن ذلك أنه ضرب رجلاً في أحد معاركه فقَّده نصفين، فلما نظر إليه قائد العدوِّ، قال: استروا ضربة هذا العلوي، فوالله لئن رآها الناس لا تناصروا.
ولتلك الشجاعة المفرطة التي تحلى بها الهادي عليه السلام، قال عنه أحد شعراء عصره:
لو كان سيفُك قبلَ سجدة آدم *** قد كان جُرِّد ما عصى إبليسُ
وقد روى مصنِّف سيرته: "أنه كان في بعض أيامه مع بني الحارث، وانتقوا من خيلهم ما يدنو من أربعين فارساً مدججة في السلاح، وأمروهم أن لا يقاتلوا ويقفوا، حتى إذا رأوا الهادي -عليه السلام- حملوا عليه، فبلغ الهادي خبرهم فلم يعبأ بهم، ولمَّا رآهم قصدهم بنفسه، وحمل عليهم فما وقف له منهم فارس واحد، وأدرك منهم فارساً فطعنه، وألقاه هو وفرسه في أراكة، وانهزم القوم وعطف عسكره، وقتل من القوم بيده جماعة كثيرة لم يثبت عددها هو ولا غيره، غير أنه كسر ثلاثة رماح، وضرب بسيفه حتى امتلأ قائم سيفه علقاً، ولصقت أنامله على قائم سيفه بالدم".
ومن فرط شجاعته عليه السلام أنه لمَّا همَّ علي بن الفضل القرمطي بقصد الكعبة ليخربها، فبلغ ذلك الهادي عليه السلام، فجمع أصحابه وقال لهم: قد لزمنا الفرض في قتال هذا الرجل، فَجَبُن أصحابُه عن قتالهم واعتذروا بقلة عددهم وكثرة عدد أولئك، وكان أصحابه في ذلك الوقت المقاتلة منهم ألف رجل، فقال لهم الهادي إلى الحق عليه السلام: تفزعون وأنتم ألفا رجل؟ فقالوا: إنما نحن ألف، فقال: أنتم ألف، وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم.
ولقد روي أن الإمام الهادي قاتل بسيف جده علي بن أبي طالب عليه السلام المشهور بذي الفقار، وأعاد لذلك السيف أمجاده وعرف الحاضرين بماضي صاحبه الأول علي بن أبي طالب، وكفى بقوله الهادي عليه السلام شاهداً لنفسِه:
الخيل تشهد لي وكل مثقف.... بالصبر والإبلاء والإقدام
حقاً ويشهد ذو الفقار بأنني.... أرويت حدَّيه نجيع طغامي