.
 
21-47-2020

 

إن التوبة إلى الله والإنابة إليه لهي من أعظم الحالات النفسية، وأدلِّها على صفاء السريرة، وهي بابٌ جعله الله مشرعاً أمام كل من أراد الاستقامة بعد الوقوع في الخطأ، وفيها تجسدت رحمة الله التي يلجأ إليها المذنبون، بل إنه سبحانه وتعالى رغَّب فيها وحثَّ عليها، فما أقبل مذنبٌ إلى الله ذراعاً إلا أقبل العفوُّ الرحيم إليه باعاً؛ وفي هذا السياق نجد أن التاريخ الإسلامي قد قدَّم لنا عبر العصور نماذجَ مشرقة من سير الأوابين خليقةً بأن نتوقف عندها، ونأخذ منها العظةَ والقدوةَ في مسيرة الحياة؛ لقد نطقت تلك النماذج أن القلب السليم حتى وإن تلبس بالمعاصي أو أخطأ الوجهة أو تعثر للحظة، تنفعه الذكرى وتزجره المواقف، وأنه متى سمع نداء الله أناب وتاب، وصحح الاتجاه، وأخلص العمل لمولاه؛ لتحلَّ عليه أسباب الهداية وتغمره سحب الرعاية الإلهية.

وهنا لن نذهب بعيداً نحو شرق الأرض أو غربها، بل سنتحدث عن الملك اليمني أبي العتاهية عبدالله بن بشر رضوان الله عليه, الذي كانت قصته تجسيداً حقيقياً للتوبة في أسمى نماذجها؛ فمن هو أبو العتاهية؟ وأين عاش؟ وكيف ختم حياته؟!

هو أبو العتاهية عبدالله بن بشر، أحد ملوك اليمن ووجاهاتها، عاش في أواخر القرن الثالث الهجري، وكان من أسرة ذات سيادة وسلطان، وقد حكم أجزاء واسعة من اليمن منها صنعاء، وإن كان ذلك الحكم تحت مسمَّى الدولة العباسية التي لم يكن للعباسيين فيها إلا الذكر في الخطبة.

وقد حدث مع أبي العتاهية موقف غيَّر مجرى حياته وحياة اليمنيين، ففي ذات مساء وبينما كان أبو العتاهية ينادم أحد وزرائه، إذ عطش فطلب الماء فأتاه الوزير بالماء، وكان حكيماً وصاحب فطنة، وقال له: لو مُنِعتَ هذه الشربةَ بكم كنتَ تشتريها؟ فقال: بنصف مملكتي. فشربها.

ثم قال له: لو لم تخرج من جسدك بكم كنت تشتري خروجها؟ قال: بالنصف الآخر، فقال الوزير: ما ملكتَ لا يساوي شربة.

حرَّكتْ كلماتُ الوزير جرسَ إنذار بداخل أبي العتاهية، فقال لوزيره: فما نصنع؟ فقال: نبعث إلى شريف ينزل بالرس يقال له: يحيى؛ فلعل الله ينجيك به. فراسله.

ولا شك لم يكن ذلك التأثير ليقع في نفس صاحب النفوذ والسلطان لو لم تكن نبتة الخير مغروسةً في داخله، لكنها سلامة القلب ونقاوته "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم" هي من حركت فكرة التصحيح والإنابة، وأثارت روح التوبة والعودة، فتحوَّل المُلْكُ في نظره إلى ذنبٍ يجب التخلصُ منه، وعبءٍ من الضروري طرحه، ولكن بالوسيلة التي تكون فيها النجاة ويحصل بها التغيير؛ ذلك التوجه ظل يردده على جلسائه كثيراً، فقد روى مؤلف سيرة الإمام الهادي أن أبا العتاهية كان يقول: "والله لو خرجتُ من هذا الأمر الذي كنتُ فيه بمِسْحٍ ألبَسُهُ لرأيتُ أنه أصلح لي".

وفعلاً أرسل أبو العتاهية إلى الإمام الهادي عليه السلام رُسُلَه يطلب منه الوصولَ إلى اليمن، وبذل له مملكته وأمواله وسلطانه، وما إن وصل الإمام الى صعدة حتى صدقت نيَّةُ الملك اليماني أبي العتاهية، فكان يمد الإمام الهادي بالمال والرجال معيناً له في تثبت مداميك العدالة في شمال اليمن صعدة ونجران، ويترقب طالع الإمام ليشرق من سماء صنعاء، وما إن استتب الأمر بصعدة ونجران حتى استجاب الإمام لدعوة أبي العتاهية ومراسلاته فتوجه إلى صنعاء، وفي منطقة حدقان كان أبو العتاهية في الانتظار، وما إن أطلَّ الإمام الهادي حتى رمى أبو العتاهية برمحه وكشف رأسه، ونزل عن فرسه، فلما نظر إليه الهادي نزل عن فرسه، وأقبل أبو العتاهية يحتضنه ويقبل رأسه ويديه، وجثا بين يديه، ثم جلسا معاً، فقال له أبو العتاهية: استحلفني يا أمير المؤمنين. فاستحلفه الإمام الهادي وأخذ بيعته على القيام معه بالحق وعلى الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم مضى معه إلى صنعاء.

صدقت توبة أبو العتاهية وأخلص في إنابته وأعطى الإمامَ الهادي كلَّ ما يملك، وتنازل عن مملكته، ودعا وزراءه وقادته إلى مبايعة الهادي والتسليم له.

في ليلة وضحاها خرج الإنسانُ من ملكه وتنازل عن السلطان الذي هو أعظم رغبة إنسانية تمتلك المرء وتسيطر عليه.

فإن زهدت في شهوة المال أنفسٌ *** لما زهدت عن شهوة النهي والأمر

وفي سبيل هذه الرغبة تقوم الحروب وتشن المعارك، وقد قيل أن الملك عقيم، فمن أجله يقتل المرء أباه وأخاه، ويكفر بالله، ويسفك الدماء، وينتهك الحرمات.

ولكن أبا العتاهية كان على خلاف ذلك، فقد تنازل عن كل مغانم الدنيا وبذلها في سبيل الله برغبة من نفسه، فكان بحق قدوة للتائبين والمنيبين.

تحول أبو العتاهية من ملك يأمر وينهى إلى جنديٍّ في جيش الإمام الهادي، وقد أعطى كل ممتلكاته من مال وخيل وسلاح، بل إن الإمام الهادي عرض عليه أن يوليه في بعض المناصب السيادية أو يعطيه ولاية بعض المناطق والمخاليف اليمنية، ولكنه رفض ذلك، وآثر أن يكون جندياً مطيعاً ومقاتلاً مخلصاً في جيش الإمام، قائلاً له: "لا أريد يا أمير المؤمنين ذلك، ولكن أكون خادماً بين يديك".

ولأن أبا العتاهية كان حالةً فريدةً سجلها التاريخ في التنازل عن الملك والتخلي عن السلطان، فقد كانت توبته تمثل أرقى ما تكون عليه التوبة، وأصدق ما يمكن أن توجد عليه؛ وقد رأى أن النفس بحاجة إلى ترويض حتى يذهب عنها ما خلَّفته سنوات السلطان وما علاها من درن الأوزار، فذهب إلى ضيعة كان قد بناها وجعل له فيها منزلاً، فاعتزل فيها يحاول أن يبني نفسه من جديد ويهذبها حتى تعود صافية نقية خالية من الذنوب.

وقد نزع عن نفسه كل مظاهر بذخ الملوك من ثياب وحشم، واستعاض عنها بلباس الفقراء والزهاد وتقشف في مأكله وملبسه وحياته، ويرى أن ذلك اللحم الذي نبت من حرام لا بد أن يذهبه وينمو بدلاً عنه لحم حلال طيب؛ قال الإمام المرتضى محمد بن يحيى عليه السلام: دخل إلينا أبو العتاهية في بعض الأيام، فنظرت إلى وجهه متغيراً فقلت له: لِمَ تعملُ بنفسك هذا وأنت تحتاج إلى نفسك؟ كُلْ من الطعام، فقال لي: لا و الله يا بن رسول الله حتى يذهب هذا اللحم الذي قد حملته من الحرام ثم آكل.

لقد تمثل أبو العتاهية الدين واقعاً، وعاشه في كل تفاصيل حياته، لا يبتغي غير موافقة مراد الله والتزام طاعته، وقد رسم مساره الجديد بعناية فائقة وحسن اختيار، فكان أهمُّ الأمور عنده تقديسُ الشرع والتنازل عن كل شيء في مقابل تطبيق أوامر الله؛ إنها طاعة لا تقبل التجزئة، وإنابة لا تدخلها التبريرات، وتسليم لله في كل شيء.

ومن أعظم الشواهد على ذلك موقفُه الذي سطره التاريخ من المرأة التي ادعت عليه في حضرة الهادي، قال في السيرة: "فلما كان في بعض الأيام إذا بمرأة تصيح على باب الهادي، فأمر بإدخالها إليه، فلما دخلت قالت: أنصفني من أبي العتاهية، فأرسل الهادي إلى أبي العتاهية فأحضره وقال له: أنصف هذه المرأة، ثم قال الهادي للمرأة: ما تدَّعين عليه؟ قالت: لي في يده ضيعة غصبها أبوه، فقال أبو العتاهية للهادي: أوجب عليَّ وعليها ما يجب يا أمير المؤمنين، فقال الهادي للمرأة: هل لك شهود؟ قالت: نعم، فمضت فأحضرت شهوداً فشهدوا عند الهادي لها بالضيعة، فحكم الهادي للمرأة بالضيعة، وأمرها بقبضها فقبضتها".

عاش أبو العتاهية عبدالله بن بشر بقية عمره لا يرغب في شيء، ولا يتطلع لأمنية، ولا يطلب أمراً سوى الشهادة في سبيل الله، وهو ما عبر عنه في مراسيم تشييع أحد أصدقائه الشهداء وهو محمد ابن أبي عباد، حين وقف على قبره وخاطبه قائلاً: "وددتُ أني كنت معك فأستشهد، رزقني الله ما رزقك".

وبالفعل فقد واصل أبو العتاهية مسيرته في طريق الحق حتى نال ما تمنى، وارتقى شهيداً وهو يقاتل مع الإمام الهادي عليه السلام، وذلك في 6 شوال سنة 288هـ في منطقة حدين بصنعاء؛ ليبلغ أعلا الرتب، ويبقى التاريخ يحكي عنه أروع المواقف، فرضوان الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.

;

21-37-2020

هو علامة الشيعة الفقيه الرباني الراجح أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري؛ شيخ الإسلام، وعماد العدل والتوحيد، وحافظ الزيدية في عصره.

خرج رضي الله عنه من طبرستان إلى اليمن ضمن جماعة من الطبريين؛ لغرضِ الجهاد بين يدي الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهما السلام.

وقد همَّ بعد وفاة الإمام الهادي وولديه عليهم السلام بالرجوع من اليمن إلى بلاده "طبرستان" إذ كانت دار آبائه ومنزل قومه، وبها نشأ، فهبط تهامة، يريد الاستعانة على سفره بنائل من سلطان زبيد، وهو يومئذٍ الحسين بن سلامة مولى آل زياد، فلما قدم تلك البلاد أمسى ليلة من لياليه في بعض دورها، فرأى في نومه كأن الهادي إلى الحق عليه السلام قد وقف عليه يقول له: "يا أبا الحسين، تخرجُ وتترك التعليم بأصول الدين باليمن؟ اتق الله، ودع عنك هذا".

فانتبه رضوان الله عليه مذعوراً لذلك، وكرَّ راجعاً إلى صنعاء وصعدة وأعمالها؛ ولم يتفق بملك زبيد لإضرابه عن السفر.

قال رحمه الله: فلما رجعت فكرت في الإقامة باليمن فرأيت أربعة: أسد، وذئب، وثعلب، وشاة، فتفكرت في أثبتهم، فوجدته الأسد، فكان أحبهم إليَّ فنزلت صنعاء، وجاورت ابن الضحاك فقال لي: ادع إلى مذهبك، وأظهر حبَّ أهل بيت نبيئك صلى الله عليه وعليهم، وتكلَّم بما تريد، ولا تخف من هذه العامَّة.

فدخل جامع صنعاء، وتكلم، ودعا إلى مذهب الهادي إلى الحق فاستجيب له، ولم يلبث أن صار له حزب وشيعة، يصلي بهم في المسجد.

ولقد كان له رضوان الله عليه من العناية بإحياء الدين باليمن أضعاف ما كان منه في حياة الهادي وولديه المرتضى والناصر عليهما السلام، وبينه وبين علماء المذاهب مراجعات ومناظرات؛ وكان سكونه في آخر مدته بصنعاء.

وكان له رضوان الله عليه من مكارم الأخلاق وحسن التعامل ولين الجانب، ما يجلُّ مقامه في النفوس، ويعظم وصفه على الألسن؛ ومن ذلك ما روي أنه رضوان الله عليه كان له جار من اليهود بصنعاء، وكان داره رحمه الله بقرب من مسجده بالسَّائلة عند سمرة غربي صنعاء، وكان سطح الدار لذلك اليهودي، وكان لأبي الحسين منزل تحت ذلك السطح، وكان فيه خرق يتغوّط فيه اليهودي، ويبول هو وأولاده، فأضرَّ ذلك بأبي الحسين، وعسر عليه التحول في ذلك الحال، فأمر من فعل له في ذلك الخرق كهيئة القصب وجعل بعضها فوق بعض إلى ذلك الفتح المفتوح، ثم أمر بها فجصصت وأحكمت، فكان يقع ما يتغوطونه في ذلك القصب، فاتفق أن أبا الحسين رحمه الله مرض فدخل جيرانه وأصحابه يعودونه، وكان اليهودي المذكور ممن دخل، فرأوا ذلك القصب فأنكروه، فسألوه عن ذلك، فقال: ما هو إلا خير، كان هناك خرق فربَّما مر به صبي فيكون فيه شيء، فلمَّا سمع ذلك اليهودي فكر في نفسه وقال: ما هذا الاصطبار إلا عن دين صحيح، وما هذه إلا أخلاق الأنبياء، وآلُ الله، فأسلم، وحسن إسلامه رحمه الله.

وله في دعائه إلى الله قصصٌ تظهر همَّته العالية، وتفانيه في إبلاغ الحجة، وصبره وحلمه الشديدين في سبيل ذلك، فمن ذلك مناظرته النَّقَوِيَّ عبدالله بن كليب أو ابنه سلمة في القَدَرِ، فإنه لما أحصر النَّقَوِيُّ تفل بوجه أبي الحسين الطبري، بعد أن ظهر للعامة إحصار النَّقَوِيِّ، ولم يبق إلا الجهالة، فلاذ بها، فبزق إلى وجهه، فضحك أبو الحسين وقال: أجمعت العلماء أن الريق طاهر.

وحكي أنه كان بناحيةِ "أثر" من الخشب رجلٌ تاب على يده - رحمه الله - وكان عامياً جاهلاً، فمكث أبو الحسين يداريه، ويرفق به لئلا يظهر له من أمر الدين شيء يشق عليه، فيرجع على عقبيه، ويعصي ربَّه، فاتفق أنه أصاب الناس مجاعةٌ عمَّت الناس، وكان الخشبي المذكور من أهل النِّعم والثروة، فرزق اللهُ أهلَ جهته ثمرة صالحة وزراعة ثقيلة راحت بها حالهم، والناس في الشدة، فأتى هذا الرجل أبا الحسين وقد رأى غلاء الطعام وقد غلبه شُحُّ النفس وثقل عليه إخراج زكاة البر من البر، فقال: يا أبا الحسين هل تكون زكاة البر من الشعير؟ ففطن أبو الحسين فقال: نعم، فأخرج مكان مكيال من البر مكيالاً من الشعير ودفعه إلى المساكين، فحيي به بشر كثير من ضعفاء المسلمين ذلك الوقت، فأنكر أصحاب الحسين ذلك عليه، وأتوه في ذلك فقال: يا قوم، هذا شيء قلته عن رأي لا عن شرع، غلب على ظني أني لو قلت لا يجزي على البر إلا البر ثقل عليه، فأخل به وبخل، وإذا بخل قالت له نفسه قد عصيت الله في واحدة ومن عصاه في واحدة كمن عصاه في أكثر، فيترك الصلاة ويرتكب المعاصي، وإذا ثبت على الديانة فسيتعلم - إن شاء الله - ويخلص نفسه، ونظرت إلى المساكين، فعلمت أن الشعير أنفع لهم من العدم، فكان الأمر كما قال أبو الحسين، صلح ذلك الرجل، واستدرك أمره، وعوّض الزكاة براً، ورسخ في قلبه حُبُّ الله، وصلحت حاله.

وحكي عنه - رضي الله عنه - أنه كان له جار بصنعاء يشرب الخمر ويؤوي شُرَّابها، وكان يخفى على أبي الحسين أمره في أوائله، ثم إنه بلغ أبا الحسين أنه قد جمع جماعة من الفسقة لشرب الخمر، فذهب أبو الحسين يستكشف الحال وليؤدي ما يجب لله، فقضى نظره بأخذ كبش وقصد ذلك الجار إلى بيته، فقرع الباب، فخرج إليه الجار وهو لا يظنه جاء إلا يريد الإزالة، فقابله أبو الحسين بالمعروف من خُلقِه، وقال: بلغني أن عندك ضيفاً والجار مسؤول عن جاره، فهذا كبش استعن به، فاستحيا الرجل، وخرج، فلما أصبح نحا ما في منزله، وغسل ثيابه، واستغفر، وأناب.

وحكي عنه - رحمه الله - أنه كان واسع الجاه مقبول الشفاعة، وكان بصنعاء من ضعفاء المسلمين ومساكينهم خلق كثير، ومن الأشراف أرامل وأيتام، فكان يتكسب عليهم، وكان له إخوان باليمن يرون له حقاً عليهم، فكان يزورهم ويلتمس للضعفاء المذكورين شيئاً منهم، فخرج في بعض السنين إلى إخوانه باليمن فاستماحهم للمساكين، ففعلوا وعاد بأكسية وأمتعة ونقد، ورجع إلى صنعاء، فلما وصل إلى طرف الحمراء وهو الجبل الذي يتصل بجبل نقم المطل على صنعاء مما يلي علب من أرض (الأبناء) فخرج عليه لصوص، فأخذوا ما معه، فلما حازوه قال: يا وجوه العرب هل لكم في رأي من المروءة والكرم، قالوا: وما هو؟ فقال: قد صرت كما ترون في أيديكم، وما أحد يتوهم أنكم تتركوني إلا تكرماً منكم عليّ، وأنا قد جئت من بُعدِ أهوي بهذه العروض لمساكين خلفي أعينُهم ممدودة إليه، فهل لكم في رأي تحوزون به شرف الذكر والشكر مني ما بقيت، وذلك أن تجعلوني بمثابة واحد منكم أحوز سهماً أعود به على من خلفي، فيثيبكم الله، وتأخذون هذا حلالاً، فرقوا لكلامه، وقسموا له نصف المتاع، وكانوا قد تركوا ثيابه لم يسلبوها عنه تكرماً منهم واستحياء لجلاله وهيبته، وكان تحت ثيابه وعاء دنانير، فأخرج إليهم الدنانير بعد أن قسموا له النصف؛ وقال: قد بقي نصيبكم من هذه الدنانير، فأعجبهم ذلك، ثم بايعهم بنصيبه من الدنانير في نصيبهم من العروض والثياب التي هي أنفع للمساكين، فبقي عليه من ثمنها ثلاثون ديناراً، فقال: لو تبعني أحدكم لهذه البقية لم يرَ إلا خيراً، فقد لزمني لكم ذمام الصحبة والمعرفة، فقال أحدهم: هذا شيخ لا يأتي منه إلا خير، فسار معه حتى دخل صنعاء فتلقى الشيخ أبا الحسين أصحابُه وسلموا عليه، ثم استلف تلك الدنانير، ثم عمد إلى كبش فأمر بذبحه، فذبح وطبخ وأرسل بطعام، وذلك اللحم والدنانير مع ذلك الرجل، وقال: هذا الطعام لأصحابك لأني أظن عهدهم بالطعام بعيد، فلمَّا وصل ذلك الرجل إلى أصحابه رقَّتْ قلوبُهم، وخشعت، وأناب منهم من أناب، وصار أولئك من أصحاب الطبري - رحمه الله -.

وفي ومضات سيرة العلامة الكبير أحمد بن موسى الطبري الكثير من العبر والدروس النافعة وله عدد من المؤلفات المفيدة وبعضها مطبوع وقد صدر بسيرة العلم والجهاد صفحات شديد البياض ناصعة المعان تهوي إليها الأفئدة وتتلقفها القلوب بكل احترام وتقدير.

;

21-32-2020

في رحاب الهادي إلى الحقِّ عليه السلام يعجز اللسان، ولا يفي المقام، وتبقى الكلمات تقدِّم وتؤخِّر، لا تشككاً وارتياباً، ولكن هيبةً ورهبة؛ كيف لا؟! وهي بروضةٍ غنَّاء، وجَنَّة ذات أفنان، قد حوت بديعاً يجِلُّ وصفُه، وبهاءً يصعب نيلُه.

هنا حيثُ نطقت الأخلاق، وفاح أريجها، وطابت الأرومات، وباهت فروعُها، في مقام الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام، سيدِ الخُلُق، وممثِّلِ الفضائل، من نبت من بذرة الدين، ونَهَلَ من معين المتقين، وتربَّى في رحاب الطاهرين، فنشأ مؤمناً برَّاً تقيَّاً، متحلِّياً بمكارم الصفات، وعظيم السجايا، قد تشرَّبَ العلم، ونطق بالهدى، واتشح بالنور الذي لا يبلى.

ذلك الهادي إلى الحق {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.

لقد جمع عليه السلام الخصال الحميدة، والمناقب الكريمة، فكان إماماً سابقاً فاضلاً فقيهاً عالماً بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عاملاً بهما، ورعاً ديناً زاهداً ناصحاً جواداً سخياً كريماً مبرِّزاً في جميع الخصال المحمودة المقربة إلى الله جل جلاله.

لين الجانب

أن تجِدَ إماماً تدينُ له الأصقاع، وتخضع له البلدان, ويبلغ خبره ودولته مشارق الأرض ومغاربها، ثم تجده يخالطُ الناس، ويمشي في الأسواق، ويعود المرضى حتى من العبيد، فأنت بلا شك في حضرة الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام؛ وفي سيرته وتعامله يتجلى الفرق بين أئمة الحق وأئمة الجور الذين اتخذوا مال الله دولاً، وعبيده خولاً، وشتان ما بين الفريقين.

وليس ذلك مبالغة أو مزايدة أو انتصاراً للهادي عليه السلام، بل هو عين الحقيقة، وشهادة التاريخ، فهو من جسَّد بتعامله مع الناس خُلُقَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتمثل آدابه، وسار بسيرته، فكل مسكين يستطيع أن يصل إليه، وكلُّ ذي حاجة لا يصعب عليه إبلاغه حاجته، فهو مَلِك بغير حُجَّاب، وسلطانٌ لا تحول بينه وبين الرعية أستار ولا أبواب، يأكل كما يأكل الفقراء أو أقلَّ من ذلك، ويمشي بين الناس كأنه واحد منهم دونَ حشمٍ ولا جنود، ومن غير تكبر ولا تجبر.

لقد جعل عليه السلام التواضع دثاره، فإذا كان في مجلسه أدنى منه الضعيف والفقير والصبي، ويأمر بذلك، وإذا خرج من منزله للصلاة أو لغيرها سلَّم على جميع من يمرُّ به من شريف أو دني أوفقير أو غني أو عبدٍ أو صبي، وكذلك كان جدُّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد روي أنه خرج عليه السلام ذاتَ مرة من المسجد بعد أن صلى بالناس، فاجتمع حوله جماعة من المساكين فصاحوا، فوقف ساعة معهم ثم أمر لهم بشيء، ففُرِّقَ بينهم.

وليس هذا فحسب، بل كان عليه السلام يبحث عن أهل الفاقة والحاجة، ويأمر من ينادي في الناس: أين الفقراء؟ أين المساكين؟ أين ابن السبيل؟ أين من له حاجة؟ هل من سائل فيعطى أو من طالب فتقضى حاجته؟

فيقضي عليه السلام لمن وَجَدَ منهم حاجاتِهم وسؤولهم.

وهكذا شمل ذلك الخُلق الرفيع سائر أفعال الهادي عليه السلام وأقواله، حتى كأنه جرى في دمه الطاهر، فهو من يعود الجرحى والمرضى ويمرِّضهم بنفسه، وهو المُعين للمظلوم المنتصف له، وفي الكرم هو الجواد بمعروفه، الباذل ما في يده، الذي يرى الضيافة من أسرِّ الأشياء إليه، ويتعهد ضيوفه بنفسه، حتى روي أنه كان إذا وضعت مائدته لم يبقَ خلق ممن يحظر في ذلك الوقت إلا دعاه إليها.

وقد روى محمد بن سعيد قال: رأيته يفتُّ الطعام للأيتام بيده ويثرده بالسمن، ثم يقول: أدخلوهم. ثم ينظر فمن كان منهم ضعيف المأكل قال: هذا مغبون. فيأكل مع المساكين ثم يعزل له، وكان لا يأكل طعاماً حتى يطعم المساكين منه، ثم يأكله بعد ذلك.

وروي أنه ذات مرة صلى العصر في المسجد فلما انصرف استقبلته امرأة فصاحت به: يا ابن رسول الله. فوقف، ودنت إليه فإذا هي عجوز، وأمسكت بثوبه، فزجرها بعض خدمه وانتهرها، فقال له يحيى بن الحسين: دعها.

فجعلت العجوز تكلمه وتشكوا إليه أنها مظلومة، وهو واقف معها حتى فرغت من كلامها، ثم صاح بأبي جعفر محمد بن سليمان الكوفي أن يمضي معها، ويستقضي في الحق لها فنفذ معها حتى أحضر خصمها وقطع ما بينه وبينها.

وبهذا الخلق النبوي العظيم تمكَّن الإمام الهادي عليه السلام من حرق المسافات التي وضعها حكام الجور بينهم وبين المحكومين، لدرجة أن الرعية تستطيع الوصول إليه في وقت متأخر من الليل، فيلبِّيهم، وينظر في حاجاتهم برحابة صدر، دون تكاسل منه أو تهاون؛ ومن القصص النادرة في ذلك ما حكى مصِّنف سيرته؛ قال: "رأيته ليلة وقد جاء رجل ضعيف في السحر يستعدي على قوم فدقَّ الباب، فقال: من هذا يدقُّ الباب في هذا الوقت؟

فقال له رجل كان على الباب: هذا رجل يستعدي، فقال: أدخله. فاستعدى فوجه معه في ذلك الوقت ثلاثة رجال يحضرون معه خصومه، فقال لي: يا أبا جعفر، الحمد لله الذي خصَّنا بنعمته وجعلنا رحمة على خلقه، هذا رجل يستعدي إلينا في هذا الوقت لو كان واحداً من هؤلاء الظلمة ما دنا إلى بابه في هذا الوقت مشتكٍ ثم قال: ليس الإمام منَّا من احتجب عن الضعيف في وقت حاجة ماسة".

ولقد حكى عنه بعض أصحابه، فقال: "ورأيته في مجلسه حليماً وقوراً لا يغضب من الكلام إذا كثر، ولا يضجر من المسائل إذا وردت إليه بل يرد جواب كل سائل بسكون وحلم وعلم".

وقال أيضاً: "ورأيته في مجلسه يدير بصره بين جلسائه يَمَنَةً ويسرة حتى يفهم كلُّ من حظر المجلسَ ما يقول، لا يخصُّ أحداً بجميع كلامه، صائناً لنفسه في مجلسه قليل الحركة لا يتكئ بين جلسائه ولا يستخف بهم، حسن الصمت إذا صمت بين الكلام، إذا نطق لا مهذراً في الكلام ولا عيياً في الجواب، ولا سكوتاً عما يحتاج إليه، إن تكلم ببيان، وإن سكت فبحفظ اللسان، لا يقوم عن جلسائه حتى يقوموا، وإن عرضت له حاجة صبر معهم حتى ينصرفوا، فعلمتُ بذلك أنه كان إذا لم يبقَ في مجلسه أحد قام لقضاء حاجته، فكنتُ أعلم أنه كان يحتاج للقيام قبل ذلك، فيمنعه من ذلك الكرم والأدب، وكذلك جاء في الأثر عن رسول الله (ص) أنه كان لا يقوم عن جلسائه حتى يتفرقوا".

وبهذه البساطة وهذا التواضع تملَّك الهادي عليه السلام القلوب، وأنس به القريب والبعيد، واطمأن بحضرته جميع الخلق؛ وكيف لا؟! وهو الشفيق على الخلق، الرفيق بهم، من يؤثر رعيته على نفسه، ويكرم نزلهم، ويتلطف بهم، ويعرف قدرهم، ويوصيهم بالتراحم والتواصل، وينهاهم عن البغي والتحاسد؛ فصلاة الله وسلامه عليه.

علمه

الهادي إلى الحقِّ عليه السلام من أئمة الهدى وأعلام التقى، الذين أورثهم الله علم الكتاب وأودع في صدورهم فهم أسرار القرآن. ((ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)) ((بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم))

وعلمية الإمام الهادي بقدر عالميته، ولهذا لا نستطيع أن نقيس علم الإمام الهادي بعدد مروياته ولا بكراريس مؤلفاته فحسب؛ لأنه فوق هذا قد شمله الحديث النبوي ((اللهم اجعل العلم في عقبي وعقب عقبي)) فهي دعوة نبوية ووراثة من ذي الخبير العليم.

كان الإمام الهادي منذ صباه وهو في خضمِّ حلقات العلم، ومجالس الذكر، مقبلاً على الدرس، مواظباً على النظر في الفقه، مثابراً على ذلك، تحوطه أسرةٌ علويَّة قد جعلت العلم زادها، فكان أفرادها بين أئمة وعلماء مجتهدين، فارتوى عليه السلام من علومهم، واقتبس من أنوارهم، حتى "بلغ من العلم مبلغاً يختار عنده ويصنف وله سبع عشرة سنة" كما حكاه ولده المرتضى عليهما السلام.

وكان بداية أخذه للعلم على يدي والده وعمه محمد بن القاسم عليهما السلام؛ وقد رأى جميعُ أهل بيت القاسم الرسيِّ في ذلك الوقت أن لهذا الفتى المُجِدِّ شأناً عظيماً ومكانة عالية، وظلَّتِ العيون ترمقه وهو يترقى في العلم من درجةٍ إلى أخرى، حتى بلغ مرتبة الاجتهاد وهو في سنٍّ مبكرة، وأصبح ممن يشار إليه بالبنان، وبلغت شهرته مشارق البلدان ومغاربها، وصار مقدَّماً عند كبراء أهل البيت في عصره.

وقد شهد له عليه السلام بسعة العلم كبار علماء المسلمين في مختلف الأقطار، كأبي خازم عالم أهل العراق، فحين قدم الهادي عليه السلام إلى العراق حضر مجلس أبي خازم، وجلس في غمار الناس، فلم تَعرِض مسألة إلا خاض فيها، وناقش أدلتها، وسرد الحجج لرأيه فيها، فدهش الحضور لِمَا رأوا من براعته وتمكنه وسعة علمه، فجعلوا يعتذرون إليه من التقصير.

وكذلك لمَّا خرج عليه السلام إلى طبرستان، واستقر في خان العلا أقبل إليه العلماء والفضلاء حتى امتلأ الخان وفاض بالناس، وليس ذلك إلا للمكانة العالية التي كان قد بلغها.

وقد روي عن علي بن سليمان أنَّه قال: حضرنا إملاء الناصر الحسن بن علي عليه السلام في مصلى آمل فجرى ذكر يحيى بن الحسين عليه السلام، فقال: بعض أهل الرأي ـ وأكثر ظني أنَّه أبو عبد الله محمد بن عمرو الفقيه ـ: كان والله فقيهاً. قال: فضحك الناصر، وقال: كان ذاك من أئمة الهدى!!

ولو نظرنا إلى طلب أهل اليمن منه عليه السلام القدومَ إليهم لتخليصهم مما هم فيه من البلاء والفتن، فسنعرف أنهم لم يقصدوه إلا لاشتهاره، وذيوع صيته، فندرك أن علمه وفضلَه وعلوَّ شأنه كانت قد وصلت إلى الآفاق.

إذن فقد كان الإمام الهادي عليه السلام من أوعية العلم، متبحراً في شتى الفنون، عارفاً بمختلف المذاهب والفرق، وقد سطر لنا التاريخ الكثير من الشهادات على ألسنة كبار العلماء، ومن أبرزهم أبو بكر بن يعقوب عالم أهل الري وحافظهم، فإنه سُمِع يقول حين ورد على الهادي باليمن: "قد ضل فكري في هذا الرجل ـ يعني يحيى بن الحسين عليه السلام ـ فإني كنتُ لا أعترف لأحد بمثل حفظي لأصول أصحابنا، وأنا الآن إلى جنبه جَذَع، بينا أجاريه في الفقه وأحكي عن أصحابنا قولاً، إذ يقول: ليس هذا يا أبا بكر قولكم، فأَرَادُّه، فيُخرج إليَّ المسألة من كتبنا على ما حكى وادعى، فقد صرت إذا ادعى شيئاً عنَّا أو عن غيرنا لا أطلب معه أثراً.

وفي مناظرة الإمام الهادي عليه السلام للمجبرة لمَّا افتتح صنعاء خيرُ شاهد على قوة حجته وتمكنه في العلم، وسرعة بديهته، وذلك أن علماء المجبرة أرادوا مراجعته، فقالوا: ما تقول يا سيدنا في المعاصي؟ فقال: ومن العاصي؟ فبقوا متحيرين في الفكر إن قالوا: العاصي الباري كفروا، وإن قالوا: العاصي من المخلوقين وافقوا كلام الهادي -عليه السلام-، فلما لم يجدوا جواباً دخلوا في مذهبه بتسعة أحرف، وقال مناظرهم: غلبني بأوجز من كلامي.

وقد شهدت له بغزارة علمه، وتبحره في العلوم، مؤلفاته الجمَّة ورسائله الكثيرة في جميع الفنون، والتي أصبحت عمدة عند العلماء، ومرجعاً لهم، ومنها: (كتاب الأحكام)، و(المنتخب)، و(الفنون)، و(كتاب التوحيد)، و(كتاب القياس)، وغيرها.

ولو أردنا الاسترسال في الحديث عن علم الإمام الهادي عليه السلام، لصعب علينا ذلك، ولما وجدنا لبلوغ الختام طريقاً، ولكن نجتزي بالقليل الذي ينبئ عن الكثير، ونكتفي بقطرة من الماء الغزير.

عبادته

لقد جمع الإمام الهادي في صفاته ما لا يجتمع في غيره في الظروف العادية، تماماً كجده علي بن أبي طالب عليهم السلام، والذي كان كما وصفه الشاعر:

هو البكاء في المحراب ليلاً  ***  هو الضحاك إن آن الضرابُ

 فبينما تجده في ساحات الجهاد الفارس الشجاع الذي ترتعد منه فرائص أعدائه، والبطلَ المجرَّب الذي تجبن عن لقائه سيوف أهل الباطل، تجده في نفس الوقت العابد المتنسك الخاشع الخاضع بين يدي الله تعالى، الذي يصوم أكثر أيامه، ويحيي أكثر لياليه تهجداً وصلاة وذكراً لله

والإمام الهادي كأئمة أهل البيت العظام علي وزين العابدين وزيد عليهم السلام، الذين جعلوا كل نفس وحركة في حياتهم عبادة لله تعالى، ويعتبرونها متنفساً لهم من كدر الحياة ولحظات وصل بينهم وبين معشوقهم سبحانه وتعالى.

حكى سليم وقد كان يلي خدمة الإمام الهادي، فيقول: كنتُ أتبعه حين يأخذ النَّاس فراشهم في أكثر لياليه بالمصباح إلى بيت صغير في الدار كان يأوي إليه، فإذا دخله صرفني فأنصرف، فهجس ليلة بقلبي أن أحتبس، وأتيت على باب المسجد أنظر ما يصنع.

قال: فسهر عليه السلام الليل أجمع ركوعاً وسجوداً، وكنت أسمع وقع دموعه صلى اللّه عليه ونشيجاً في حلقه، فلما كان الصبح قمت فسمع حسي، فقال: من هذا. فقلت: أنا. فقال: سليم ما عجل بك في غير حينك؟‍! قلت: ما برحت البارحة جعلتُ فداك.

قال: فرأيتُه اشتدَّ ذلك عليه وحَرَّج عليَّ أن لا أحدث به في حياته أحدا.

فأيُّ ملِك هذا الذي جعل الحبل ما بينه وبين خالقه جلَّ وعلا موصولا؟! فلم تلهه ولايته عن العبودية، ولم يشغل قلبه النفوذ ولا السلطان عن الارتباط الوثيق بمدبر الأمور؛ ما أحوجنا لمثل هذا الإمام العظيم، الذي يكون لنا خير قدوة في الطاعة لله والخضوع والاستسلام له، ويحيي فينا الحبَّ الإلاهي الذي طالما افتقدناه.

زهده وورعه

في شخصية الإمام الهادي عليه السلام يتجلى الزهد والورع في أبهى صورهما، كتجلي الشمس في الضحى، لا تحجبها غيوم، ولا يغطي عليها بجناحيه طائر، فهو كما قال عنه الإمام المؤيد بالله عليه السلام: "فأما الزهدُ والورع فمما لا يحتاج إلى وصفه به، لظهور الحال فيه عند الخاص والعام، والموافق والمخالف، ولأن الزهد أمر شامل لبيت القاسم بن إبراهيم عليه السلام عام في أولاده وأسباطه إلى يومنا هذا، لاسيما من لم يتَغَرَّب منهم ولم يختلط بأمراء هذه البلدان".

ولقد كان عليه السلام يجتزئ بالقليل من الطعام، حتى يَعْجَب من ذلك من يراه، فكيف لمن تُجمَع إليه الأموال من الخراج وغيرها أن يرضى بما لا يرضى به من لا يملك إلا القليل؟!

وقد بلغ عليه السلام من الزهد والورع ما جعله يترك ما يحل له فضلاً عن غيره، ويرددُ مع ذلك على مسامع الناس: "والله الذي لا إله إلا هو ما أكلت مما جبيت من اليمن شيئاً، ولا شربت منه الماء، إلا من شيء جئت به من الحجازوهذا ورع شحيح؛ لأنه تعفف عن الحلال إذ كان يجوز له أن يتناول من الجزية وأخماس الغنائم.

وتراه عليه السلام يلبس ثياب الهيبة أو ثياب الحرب اضطراراً لإبراز هيبة الدين، ويقول: "والله لو كنت بين مؤمنين ما لبست مثل هذا ولا هذا من لباسي، وما أشتهي إلا أن ألبس الغليظ من الثياب، ولو لبسته لاستخف الناس موضعي فقد ميزت أمورهم فرأيتهم لا يطيعون إلا من كان عليه مثل هذا الثوب، ولكأن على جلدي من لباسه الشوك".

وليس ذلك الطبع فيما هو له فقط، بل يتجلى أيضاً في تشديده على أولاده فيما يخص أموال بيت المال، ومن ذلك ما روي عن ابنه محمد أنه قال: "وجهت غلاماً لي إلى أبي يحيى بن الحسين أطلب منه قرطاساً أكتب فيه كتاباً، فقال يحيى: القرطاس لا يحل له، فدفع إلى الغلام ورقة قطن".

وروي: "أنه صاح بغلام له، فسأله عن خرقة؟ فقال له الغلام: قد رقَّعتها فقال للغلام: أخرجها إليَّ، فأخرجها من بين ثياب يحيى بن الحسين عليه السلام، فقال له: ويلك!! أنت قليل دين تضع خرقة من الأعشار بين ثيابي!"

ودخل عليه السلام يوماً وقد تطهرَّ للصلاة، فأخذ خرقة فمسح بها وجهه، ثم قال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون هذه الخرقة من العشر، فذكرت له ذلك، فقال: ما يحل لنا أن نمسح به وجوهنا، ولا أن نستظل به من الشمس.

وقد كان يترك بعض ما يحل له تورعاً عنه وتنزهاً منه، ومن ذلك امتناعه عن الأكل والشرب من الخمس الذي يؤخذ من  جزية النصارى واليهود.

ولقد كان الإمام الهادي دقيقاً في إصابة الحق والقيام بالشرع لا يستغل منصبه في أخذ ما ليس له بحق فقد كان يأمر علي بن أبي عنبسة الصعدي وكان يشتري ليحيى بن الحسين حوائجه من السوق: "يا علي اتق الله تعالى، وأنظر فيما بينك وبينه فيما يشترى به لي، ولا تأخذنَّ من أحد شيئاً إلا بثمن كما يشتري الناس، ولا تزداد لي شيئاً فتأثم. وذات مرة جاء رجل من أصحابه إليه فقال له: جعلت فداك هاهنا قومٌ يعطون بطيب أنفسهم أكثر مما يجب عليهم فنأخذ منهم ما يصلحهم؟ فقال يحيى بن الحسين: والله لا أصلحتكم بفساد نفسي.

 

ومن قصص ورعه ما حدث عنه علي بن محمد بن سليمان: مررنا في سفرنا مع يحيى بن الحسين بدوم وهو النبق، فمضى بعض من كان معه فأخذ حبات يسيرة  فصاح به وأغلظ عليه ، ثم أمرنا أن نعطي صاحب ثمنه من دقيق كان معنا، فمضينا إلى صاحبه فقال: لست أريد به ثمناً، إنما يأخذ هذا من مر به ، فأبى أن يأخذه ، فرجعنا إلى يحيى بن الحسين فأعلمناه بمقالة الرجل، فقال : إذهبوا بالدقيق فاجعلوه تحت الشجرة ففعلنا ذلك.

وجاء في السيرة للهادي: ورأيته إذا وضعت مائدته لم يبق خلق ممن يحظر في ذلك الوقت إلا صاح به، فلما كان ذات يوم أتيت فإذا الناس يأكلون وهو معتزل ليس يأكل معهم، فأردت أن أسأله، فابتدأ هو بالكلام فقال : لم يمنعني الا أن هذا الطعام لا يحل لنا لأنه من الأعشار.

وحدث علي بن محمد بن سليمان: كنت أقبض ليحيى بن الحسين زكاة أموال التجار ، فيكون في البلد تجاراً غرباء يتجرون ويقيمون الأشهر فقلت له: جعلت فداك نأخذ منهم زكاة أمولهم ؟ فقال : إن أخذنا منهم زكاة أموالهم وجب علينا أن نحوطهم حيث كانوا في بلادنا وغيرها ، فلم يأخذ منهم شيئاً.

والمقام أعظم من ذلك، وهناك الكثير والكثير من القصص التي حكت عن زهده وورعه لا يسع المقام لسردها، يجدها من أراد في سيرته وغيرها من كتب التاريخ.

شجاعته

لا نبالغ إن قلنا أن الشجاعة والبأس قد تمثلتا في شخصية الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام، وكانتا من أبرز سماته منذ صغره، فهو الشبل العلوي الذي لم يعرف إطلالة الجُبن، ولم تُكبِّلْه حبائل الخوف، حتى صار يُضرب به المثل، ويُحكى عن معاركه وضرباته، وليس ذلك إلا في سبيل الله عز وجل؛ لإعلاء دينه، وكان يقول في حروبه ويصيح: "كيف رأيتم قتال أهل العدل والتوحيد؟".

وقد قال عنه صاحب مآثر الأبرار: "فإنه كان إذا التقت الأبطال، وتداعت نزال، ألفيتَه القطب التي يدور عليها رحى القتال، وكم له من يوم أغر عاود فيه الكر، واستحيا من الفر، إذا حمي الوطيس كان أمام جنوده يضرب كبش الكتيبة، ويشاهد له كل حملة عجيبة".

ونجده في معاركه مع القرامطة وغيرهم في مقدمة الجيش، يصول ويجول ويحتز الرؤوس، غير ناكل عن قُدُمٍ، ولا واهٍ في عزم، يضرب ضربَ جدِّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن ذلك أنه ضرب رجلاً في أحد معاركه فقَّده نصفين، فلما نظر إليه قائد العدوِّ، قال: استروا ضربة هذا العلوي، فوالله لئن رآها الناس لا تناصروا.

ولتلك الشجاعة المفرطة التي تحلى بها الهادي عليه السلام، قال عنه أحد شعراء عصره:

لو كان سيفُك قبلَ سجدة آدم *** قد كان جُرِّد ما عصى إبليسُ

وقد روى مصنِّف سيرته: "أنه كان في بعض أيامه مع بني الحارث، وانتقوا من خيلهم ما يدنو من أربعين فارساً مدججة في السلاح، وأمروهم أن لا يقاتلوا ويقفوا، حتى إذا رأوا الهادي -عليه السلام- حملوا عليه، فبلغ الهادي خبرهم فلم يعبأ بهم، ولمَّا رآهم قصدهم بنفسه، وحمل عليهم فما وقف له منهم فارس واحد، وأدرك منهم فارساً فطعنه، وألقاه هو وفرسه في أراكة، وانهزم القوم وعطف عسكره، وقتل من القوم بيده جماعة كثيرة لم يثبت عددها هو ولا غيره، غير أنه كسر ثلاثة رماح، وضرب بسيفه حتى امتلأ قائم سيفه علقاً، ولصقت أنامله على قائم سيفه بالدم".

ومن فرط شجاعته عليه السلام أنه لمَّا همَّ علي بن الفضل القرمطي بقصد الكعبة ليخربها، فبلغ ذلك الهادي عليه السلام، فجمع أصحابه وقال لهم: قد لزمنا الفرض في قتال هذا الرجل، فَجَبُن أصحابُه عن قتالهم واعتذروا بقلة عددهم وكثرة عدد أولئك، وكان أصحابه في ذلك الوقت المقاتلة منهم ألف رجل، فقال لهم الهادي إلى الحق عليه السلام: تفزعون وأنتم ألفا رجل؟ فقالوا: إنما نحن ألف، فقال: أنتم ألف، وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم.

ولقد روي أن الإمام الهادي قاتل بسيف جده علي بن أبي طالب عليه السلام المشهور بذي الفقار، وأعاد لذلك السيف أمجاده وعرف الحاضرين بماضي صاحبه الأول علي بن أبي طالب، وكفى بقوله الهادي عليه السلام شاهداً لنفسِه:

الخيل تشهد لي وكل مثقف.... بالصبر والإبلاء والإقدام

حقاً ويشهد ذو الفقار بأنني.... أرويت حدَّيه نجيع طغامي

 

 

;

18-34-2020

تميَّز فِكرُ الإمامِ الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهم السلام بوضوح الرؤى، والسعي الحثيث لاتباع الحق أينما كان، وممن كان، من خلال المنهجية التي سار عليها في إعمال الدليل ومناقشة المسائل، مجانباً لهوى النفس، والتعصب الجاهلي، مطلعاً على آراء الفرق المختلفة واستدلالاتهم، بل ومتفوقاً عليهم في معرفة مذاهبهم، بشهادة الأجلاء من علمائهم.

وفي كل لحظاته وسكناته نجِدُهُ عليه السلام كما قال صاحب سيرته: "كثير الفكر في صلاح أهل الإسلام، مظهراً للشفقة عليهم، والرحمة لهم"، "لا يفتأ عن عظتهم وإرشادهم، وأمْرِهم بطاعة الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".

لقد كان عليه السلام صاحب مشروع فكريٍّ تنويري مبنيٍّ على أسس وتعاليم الإسلام الحنيف، ينطلق فيه من الشعور بالمسؤولية ولزوم الواجب الديني.

ولنقرأ هنا شيئاً عن شخصيَّة الإمام الهادي عليه السلام الفكرية في عناوين مختصرة:

 

تراثه الفكري:

اشتغل الإمام الهادي عليه السلام بالجهاد في سبيل الله، ومحاربة البغاة والمفسدين، حتى قيل أنه عليه السلام كان لا يتمكن من إملاء مسألة إلا وهو على ظهر فرسه في أغلب الأوقات، ومع ذلك فإن اهتمامه بالجانب الفكري، وسعيه لنشر تعاليم الدين الصحيح، كان يشحذ لديه الهمَّة، ويوقد فيه العزيمة للتأليف والتدريس والردِّ على الشبه وحلِّ ما يُشكِل، ولأهمية مؤلفاته وقيمتها العلمية فقد حظيت بانتشار واسع وقبول بين علماء الإسلام قاطبة, ومن ذلك قال ابن حزم صاحب المحلى: "وليحيى هذا الملقب بالهادي رأي في أحكام الفقه قد رأيته لم يبعد فيه عن الجماعة كل البعد.. إلى آخره"؛ فخلَّف لنا عليه السلام مجموعة فريدة من المصنفات الثي أثرت المكتبة الإسلامية في مختلف الفنون.

فنجد له في الفقه باكورة من الكتب القيمة؛ من أشهرها:

  • كتاب (الأحكام في الحلال والحرام)، الذي جعله كما قال عليه السلام: "مستقصى، فيه أصول ما يُحتاج إليه من الحلال والحرام، مما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله ليعمل به ويتكامل عليه من ذكرنا".

وفي كل مسألة من مسائل هذا الكتاب نجد الإمام الهادي عليه السلام يحرص أشد الحرص على إظهار الحق، فيسرد الأدلة على صحة أقواله، وينزل الحجج منازلها، كما نجده يناقش الآراء ويبدد غياهبها حيثُ يحتاج الأمرُ إلى ذلك؛ كل ذلك بأسلوب علميٍّ راقي، ومنهجية بحثية فريدة.

وقد قال العلامة علي بن بلال عن كتاب الأحكام: " مَا أعلم لأحد من أهل بيت رسول الله كتاباً في الفقه أجمع وأكثر فائدة منه".

  • كتاب (المنتخب)، وهو من الكتب المشهورة، وقد سأله مسائله القاضي محمد بن سليمان الكوفي، وقد شمل جميع أبواب الفقه.
  • كتاب (الفنون)، وهو أيضاً مما سأله عنه القاضي محمد بن سليمان الكوفي، وقد شمل عدداً من أبواب الفقه. وله في الفقه غير هذه الكتب.

وفي علوم القرآن:

  • كتاب (تفسير القرآن)، في ستة أجزاء.
  • كتاب (معاني القرآن)، في تسعة أجزاء.

وفي العقيدة وغيرها نجد له الكثيرَ من الرسائل والردود القيمة؛ منها:

  • كتاب (البَاِلغ المُدْرِك) شرحه الإمام أبو طالب الهاروني
  • وكتاب (المنزلة بين المنزلتين)
  • وكتاب (مسائل الرازي)
  • وكتاب (تفسير الكرسي)
  • وكتاب (العرش والكرسي)
  • وكتاب (الرد على ابن الحنفية)
  • وكتاب (بوار القرامطة)
  • وكتاب (أصول الدين)
  • وكتاب (الإمامة وإثبات النبوة والوصاية)
  • وكتاب (الرد على الإمامية)
  • وكتاب (الرد على أهل صنعاء)
  • وكتاب (الرد على سليمان بن جرير)
  • وكتاب (تفسير خطايا الأنبياء)، وكتاب (جواب القمي)
  • وكتاب (الرد على المجبرة القدرية)
  • وكتاب (مسائل الحسين بن عبدالله الطبري)
  • و(مسائل الطبريين)

وله عليه السلام غيرها الكثير مما تركناه اختصاراً.

وفي أصول الفقه:

  • كتاب (القياس)، بحث فيه عن سبب افتراق الأمة، ومسألة استنباط الأحكام الشرعية، ومن هو الذي يجب اتباعه من أهل البيت، ومتى يختلفون، وغير ذلك.
  • كتاب (السنة)، ويتناول الرد على من زعم أن السنة ليست وحياً من الله، بل هي اجتهاد من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وله غير هذه المصنفات الكثير، وقد قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام بعد ذكر هذه المؤلفات: وقد تركنا قدر ثلاثة عشر كتاباً كراهة التطويل، وهي عندنا معروفة موجودة.

فيا له من تراث هائلٍ، وعلمٍ جمٍّ خلَّفه لنا الهادي إلى الحق عليه السلام، وأنار لنا به دياجير الظُّلَم، وأحيا ما انْدَرَسَ من معالم الدين.

 

اهتمامه بالحركة العلمية:

كان الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهما السلام رائد الحركة العلمية في منتصف القرن الثالث الهجري، فهو من حرص على إقامة الدروس العلمية، وإلقاء المسائل حتى في أشدِّ المواقف، وهو المصنف في شتَّى العلوم كما قدمنا، والمناقش لعلماء الفرق الأخرى، وتتجلى نظرته لأهمية العلم في قوله أن الله عز وجل "لم يغفر لأحد بالجهل، فالواجب عليه أن يكون عمره كله في طلب الخروج من الجهل إلى العلم".

وقد قال عنه العلامة محمد أبو زهرة: "عكف على الفقه يدرسه من كل نواحيه ومن كل مصادره وقام هادياً مرشداً يدعو إلى الله سبحانه إلى صراط مستقيم, فكان مرجعاً في الدين من كل الطوائف الإسلامية, والأمصار المختلفة يسألونه ويستفتونه وهو يرد عليهم برسائل قيمة أُثرت عنه يدافع فيها عن القرآن والسنة, ويبين الحق الذي يرد زيغ الزائغين".

ويدل على همته العالية في إثراء الحركة العلمية تنقله وارتحاله بين البلدان منذ بلوغه مرتبة الاجتهاد، وحضوره مجالس علمائها، فقد رحل إلى العراق؛ حيث حضر حلقة القاضي أبي خازم، فما جرت مسألة إلا خاض فيها، وذَكَرَ ما يختاره منها، ويحتج ويناظر؛ ثم ارتحل إلى آمل بطبرستان مع والده وبعض عمومته ومواليه، فالتفَّ الناسُ حوله، حتى كتب إليه وزير حكومة الإمام محمد بن زيد عليه السلام بأن ما يجري يوحش ابن عمك، فأجابه الهادي عليه السلام قائلاً: "ما جئنا ننازعكم أمركم، ولكن ذكر لنا أن لنا في هذه البلدة شيعةً وأهلا، فقلنا: عسى الله يفيدهم منا".

فأفاد عليه السلام أنه لم يأتِ إلا لإفادة الناس، وترسيخ معالم الدين.

قال الدكتور حمود الأهنومي في دراسة حول سيرة الإمام الهادي عليه السلام: "ويترجح أنه في تلك الرحلة التقى أبا القاسم البلخي (ت319هـ/931م) في آمل، لقاء الندِّ بالندِّ، والعالم بالعالم، وتناقش وإياه حول عدد من المسائل الأصولية التي كانت مثار النقاش في ذلك الوقت..".

وحين جاء الإمام الهادي عليه السلام إلى اليمن كان أول اهتماماته هو تعليم الناس، فكتب إلى عماله عهداً أمرهم فيه أن يكون أول أعمالهم هو تعليم الناس أساسيات الدين، من صلاة وغيرها، فقال فيه: "وآمركم من بعد ذلك بتعريف الرعية بحق الله، وتعليمها ما أوجب الله عليها من معرفته سبحانه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن المنكر والمظالم، وترك معاصي الله، والتعدي في أمر الله".

وكان عليه السلام يحثَّ الناس على طلب العلم، فكان يردد: "أين الراغب؟ أين من يطلب العلم؟ إنما يجينا مجاهد راغب في فضله متحرٍ ما عند الله لأهله، ولعمري إنَّه لأكبر فروض الله على عبده، وأحق ما كان من تقدمه يده، ولكن لو كان مع ذلك رغبة في العلم وبحث عنه لصادفوا من يحيى بن الحسين علماً جماً".

وسُمِع عليه السلام يقول: "قد عَفُنَ العلم في صدري، كما يعفن الخبز في الجرة إذا طرح بعضه على بعض في جرة ثم لم يقلب".

والإمام الهادي إلى الحق عليه السلام هو الذي طوى القرامطة - الذين عُرفوا بمذهبهم المخالف للدين والفطرة السليمة- من أكثر مناطق اليمن، فكان هو الهادي اسماً وعملاً؛ وصدق ولم يغلُ من قال: "لليمن نعمتان، نعمة الإمام الهادي، ونعمة العالم جعفر بن عبد السلام فلولا الهادي لكانت اليمن قرمطية, ولولا ابن عبدالسلام لكانت مطرفية".

قال الدكتور حمود الأهنومي: "وفي آخر عمره همَّ بالتفرُّغ أكثر لتدريس ونشر العلم، فحالت المنية بينه وبين ذلك، وربما كان تحرك تلامذته في نشر علمه بعد موته - كما سيأتي- كان استجابة وتلبية لرغبة أو وصية شيخهم الإمام الهادي.

وكان طيلة عهده في اليمن لا يفتأ عن تعليم الناس ووعظهم، بل كان يعد تعليم الرعية فرضاً من الله على إمام الأمة..".

إلى أن قال:" كان تدريس العلم ضمن يومياته التي كان يلتزم بها، فقد كان يجلس ما بين الصلوات، فيعظ الناس، ويعلمهم فرائض الدين، وفرائض المواريث، بل وكان من ضمن أعماله المستمرة أنه كان يقف على الحبس، ويأمر بتعليم المحبوسين، ويأمر القارئ من السجناء بتعليم من لا يقرأ منهم، وكان يبعث الدعاة والمعلِّمين إلى الآفاق، حتى أنه بعث أو كلَّف دعاةً ومبصِّرين ومعلِّمين ومفقِّهين في بلاد بعيدة عن اليمن، كطبرستان، وكان يعد ذلك من صفات الإمام العادل الذي يكون مفرِّقاً للدعاة في البلاد، غير مقصر في تأليف العباد".

وحين عاد الإمام الهادي عليه السلام إلى موطنه بجبل الرس، خارجاً من اليمن بعد أن رأى تثاقل أهلها عن إقامة الحق، فأقام في المدينة على التدريس والنظر في الحلال والحرام والسنن والأحكام والآثار والأخبار مجداً له مواظباً عليه.

ويدل على الحركة العلمية الكبيرة التي أقامها الإمام الهادي عليه السلام انتشار علمه وفقهه داخل اليمن وخارجها، كما حكى ذلك الشهيد المحلي: "وطار فقهه في الآفاق، حتى صارت أقواله في أقصى بلاد العجم، يأنسون بها أكثر من أنس أهل اليمن بها، وعليها يعتمدون بها يفتون ويقضون".

ويلخص ذلك كله ما وصفه به ولده المرتضى عليه السلام بعد وفاته أمام جمع غفير من الناس: "كان لكم الهادي - رضي الله عنه- الناصحَ لكم، الحَدِبَ عليكم، كان والله حريصاً على إرشادكم، طالباً لإصلاحكم، مؤثراً لكم، حاملاً لكم على ما فيه نجاتكم، داعياً لكم إلى ما يقربكم إلى الله، زاجراً لكم عما يبعدكم منه".

وقد تجلت ثمرة الحركة العلمية للإمام الهادي إلى الحق عليه السلام بصلاح الرعية، واستقرار أوضاعهم، وانتهاء الفتن، وانتشار مذهب العدل والتوحيد، بالإضافة إلى العدد الكبير من العلماء والفضلاء الذين تتلمذوا على يديه، كولديه الناصر والمرتضى، وأخيه عبدالله بن الحسين، وكالعلامة عبدالله بن الحسين الطبري، والعلامة الكبير إبراهيم بن إسحاق، والعلامة إبراهيم بن محسن بن الحسين العلوي، والعلامة جعفر الطائي الوقار، وكالعلامة عبدالله  بن أحمد التميمي، والعلامة عبدالله بن عمر الهمداني، وكالعلامة الحافظ علي بن الحسن بن أحمد بن أبي حريص، والعلامة علي بن سليمان الكوفي، والعلامة الحافظ علي بن العباس بن إبراهيم، والعلامة أبي القاسم الرازي، والعلامة الكبير محمد بن سليمان الكوفي، والعلامة محمد بن عبدالله الحنبصي، ولا ننسى العالم الرباني والمناظر المتمكن أحمد بن موسى الطبري، فإنه كان من أبرز تلامذته، وغير هؤلاء الكثير ممن برزوا في العلم والفضل.

 

المذهب العقائدي عند الإمام الهادي (ع)

كان مذهب الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام العقدي الطريق الحق هو المذهب العدل، مذهب آبائه الأكرمين عليهم السلام، لا يختلف عنهم في الأصول، ولا فيما أجمعوا عليه؛ فهو القائل بتوحيد الله سبحانه وتعالى وعدله، المصدق بوعده ووعيده، المؤمن بالنبوة، والمثبت للإمامة في علي بن أبي طالب عليه السلام وذريته من أولاد الحسنين، والمعتقد بوجوب الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، وتجريد السيف على من عَنَد عن دين الله.

وله عليه السلام الكثير من الكتب والرسائل التي دون فيها معتقداته واحتج لها، واستدل على صحتها، وله الردود الكثيرة على أهل المعتقدات الفاسدة، فلم يكن جهاده عليه السلام يقتصر على السيف، بل خاض - أيضاً- حرباً فكرية لا تقل - إن لم تكن أكثر- أهمية، حتى نفى المذاهب الردية، وأظهر مذهب العدل والتوحيد في كثير من المناطق داخلَ اليمن وخارجها.

ويتجلى مذهبه في توحيد الله بقوله: "إنا ندين بأن الله واحد أحد، ليس له شبه، ولا نظير، ولا مثل، ولا عدل، ولا كفؤ في وجه من الوجوه، ولا معنى من المعاني، وأنه ليس بذي صورة، ولا حد، ولا غاية، ولا نهاية، ولا بذي أجزاء ولا أعضاء، ولا بعضه غير بعض، ولا يقع عليه الطول والعرض، ولا يوصف بالهبوط، ولا الصعود، والتحرك، والسكون، والزوال، (والعجز، والهرم، والجهل)، والانتقال، والتغير من حال إلى حال"؛ إلى آخر كلامه الصريح.

ويرى عليه السلام: "أول ما يجب على العبد أن يعلم أن الله واحد أحد، صمد فرد، ليس له شبيه ولا نظير، ولا عديل، ولا تدركه الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك أن ما وقع عليه البصر فمحدود ضعيف، محويٌّ محاط به، له كُلٌّ وبعضٌ، وفوقٌ وتحت، ويمين وشمال، وأمامٌ وخلفٌ، وأن الله لا يوصف بشيء من ذلك، وهكذا قال لا شريك له: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:1ـ4]، والكفو فهو المِثل والنظير والشبيه، والله سبحانه ليس كمثله شيء،..".

كما يرى عليه السلام وجوب الاعتقاد بعدل الله سبحانه وتعالى، فيقول: "ثم يَعْلَمَ أنَّه عزَّ وجلَّ عدلٌ في جميع أفعاله، ناظر لخلقه، رحيم بعباده، لا يكلفهم ما لا يطيقون، ولا يسألهم ما لا يجدون، و{لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وإن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40]، وأنه لم يخلق الكفر ولا الجور ولا الظلم، ولا يأمر بها، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يظلم العباد، ولا يأمر بالفحشاء، وذلك أنه من فعل شيئاً من ذلك، أو أراده أو رضي به، فليس بحكيم ولا رحيم، وإن الله لرؤوف رحيم، جواد كريم متفضل، وأنه لم يحل بينهم وبين الإيمان، بل أمرهم بالطاعة، ونهاهم عن المعصية، وأبان لهم طريق الطاعة والمعصية، وهداهم النجدين، ومكنهم من العملين، ثم قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}".

ويرى عليه السلام أن مذهب الجبر والتشبيه كارثة على الإسلام، ويتشدد على من يعتقد بها، ويحرم ذبائحهم؛ لما في هذين المعتقدين من الخطر العظيم ونسبة ما لا ينبغي ولا يجوز ولا يعقل إلى الله عز وجل، ولما فيهما - أيضاً- من الضرر الكبير على المسلمين، وقد قال في وصف هذا الضرر: "وقوم يقولون على الله بالجبر والتشبيه، وينفون عنه العدل والتوحيد، وينسبون إليه عز وجل أفعال العباد، ويقولون: إن هذا الذي نزل بهم بقضاء وقدر، ولولا أن الله قضى عليهم بهذا الظلم الذي نزل بهم من هؤلاء الظالمين، ما إذاً قدر الظالم أن يظلمهم، غير أن هذا الظلم مقدَّر عليهم عند الله على يدي هذا الظالم، فإذا كانت معرفتهم هذه المعرفة، وكان معبودهم هذا الذي يزعمون أنهم يعبدونه هذا فعله بهم، فمتى يصل هؤلاءِ إلى معرفة الخالق، ومتى يدعونه، ويستعينون به على ظالمهم؟! إنما هم يدهون هذا الذي يزعمون أنه قضى عليهم بهذا الظلم وقدَّره،...، وعلى هذا النحو أسلمهم ربهم، وتركهم من التوفيق والتسديد، وخذلهم، ولم ينصرهم على ظالمهم".

ومع هذا فلم ينقل عنه عليه السلام أنه حاكم أو عاقب أيَّ أحد ممن يعتقدون بهذه المعتقدات الفاسدة، لأجل اعتقادهم بها، بل كان يكتفي بالمواجهة الفكرية من خلال المناقشة لهم، وكتابة الردود والرسائل، والسعي لنشر فكر أهل البيت عليهم السلام الخالي من المعتقدات الباطلة؛ ومؤلفاته عليه السلام الكثيرة في أصول الدين خير شاهد على ذلك.

ووعدُ الله سبحانه للمؤمنين بالنعيم الأبدي، ووعيده للعصاة بالخلود في نار جهنم أبد الأبد، مما يدين به إمامنا الهادي إلى الحق عليه السلام، ويرى وجوب العلم به، فيقول: "ثم يجب عليه أن يعلم أن وعده ووعيده حق، من أطاعه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار أبد الأبد، لا ما يقول الجاهلون من خروج المعذبين من العذاب المهين إلى دار المتقين، ومحل المؤمنين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، ويقول: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}[المائدة:37]، ففي كل ذلك يخبر أنه من دخل النار فهو مقيم فيها غير خارج منها، فنعوذ بالله من الجهل والعمى، ونسأله العون والهدى، فإنه ولي كل النعماء، ودافع كل الأسواء".

ويعتقد الإمام الهادي عليه السلام ويدين بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أمير المؤمنين علي عليه السلام، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم يكون الأمر بعد ذلك في ذريتهما عليهما السلام، فيقول: "ثم يجب عليه أن يعلم أن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، ووصي رسول رب العالمين، ووزيره وقاضي دينه، وأحق الناس بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأفضل الخلق بعده، وأعلمهم بما جاء به محمد، وأقومهم بأمر الله في خلقه، وفيه ما يقول الله تبارك وتعالى: {إنما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، فكان مؤتي الزكاة وهو راكع علي بن أبي طالب دون جميع المسلمين".

ويرى عليه السلام أن الأمر بعد ذلك في ولده الحسن، ثم الحسين، ثم في ذريتهما عليهما السلام، كما قال عليه السلام: "ثم يجب عليه أن يعلم أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحبيباه، وأنهما إماما عدل، واجبة طاعتهما، مفترضة ولايتهما..".

إلى أن قال: "ثم يجب عليه أن يعلم أن الإمامة لا تجوز إلا في ولد الحسن والحسين؛ بتفضيل الله لهما، وجعله ذلك فيهما، وفي ذريتهما، حيث يقول تبارك وتعالى: {وَإذ ابْتَلَى إبراهيم رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماما قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]..".

إلى أن قال عليه السلام: "ثم قال: {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7]، وقال النبي صلى الله عليه وآله: ((إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض))، وقال سبحانه: {إنما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33]، فبين الأمر سبحانه فيهم وأوضحه، {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء:165]، ومحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وكذلك ذريته".

ويصرح عليه السلام بنظرته لأهل بيت النبوة عليهم السلام بقوله: "والحمد لله، وأنا متمسك بأهل بيت النبؤة، ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي، ومعدن العلم وأهل الذكر، الذين بهم وُحِّد الرحمن، وفي بيتهم نزل القرآن، والفرقان، ولديهم التأويل والبيان، وبمفاتيح منطقهم نطق كل لسان، وبذلك حث عليهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: ((إني تارك فيكم الثقلين لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، مثلهم فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)) فقد أصبحوا عندي بحمد الله مفاتيح الهدى، ومصابيح الدجى، لو طلبنا شرق الأرض وغربها لم نجد في الشرف مثلهم. فأنا أقفوا آثارهم، وأتمثل مثالهم، وأقول بقولهم، وأدين بدينهم، وأحتذي بفعلهم".

ويؤكد عليه السلام على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه من معتقداته، فيقول: "وندين بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن نصر المظلوم والأخذ على يد الظالم فرض لازم، وحق واجب، لأن في ترك الأمر بالمعروف للحق إماتةٌ، وفي ترك النهي عن المنكر للباطل حياةٌ، ولذلك أوجبه الله على عباده، وفرضه عليهم فرضاً، بكل ما أمكنهم ولذلك قال ربُّ العالمين: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة: 2]، وقال: {قَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات: 9]، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[التوبة:71] مع آيات كثيرة تدل على ما قلنا، وتصحح ما شرحنا".

هذه عقيدة الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهما السلام، التي صرح بها في كتبه ورسائله، واحتج لها؛ ومن طالع مؤلفاته عليه السلام وجد من ذلك ما يثلج الصدور.

 

المذهب الفقهي عند الإمام الهادي (ع)

يعتبر فقه الشريعة الإسلامية الترجمة العملية للعبودية لله سبحانه وتعالى، والوسيلة المثلى للإنسان المؤمن ليكون أكثر ارتباطاً بخالقه والمتفضل عليه، وهو السبيل لتنظيم حياة الإنسان مع نفسه ومجتمعه، فالفقه قد رسم له كل شيء في حياته حتى كيفية التعامل مع المخلوقات الصماء البكماء؛ ومن هنا كان لهذا العلم أهمية كبيرة عند علماء المسلمين، تأليفاً، وبحثاً عن الأدلة، واستنباطاً للأحكام.

وفي هذا الميدان برز الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهما السلام كواحدٍ من أئمة الفقه الذين شحذوا أقلامهم للتصنيف في علم الفقه، فشمل جميع أبوابه، وفصَّل مسائله، فكان عليه السلام مرجعاً لجميع الطوائف، وقد قال عنه الدكتور محمد أبو زهرة: "عكف على الفقه يدرسه من كل نواحيه ومن كل مصادره وقام هادياً مرشداً يدعو إلى الله سبحانه إلى صراط مستقيم, فكان مرجعاً في الدين من كل الطوائف الإسلامية, والأمصار المختلفة يسألونه ويستفتونه وهو يرد عليهم برسائل قيمة أُثرت عنه يدافع فيها عن القرآن والسنة, ويبين الحق الذي يرد زيغ الزائغين".

ومن أشهر مؤلفاته عليه السلام في هذا الفن - كما قدَّمنا- كتاب "الأحكام في الحلال والحرام"، وكتاب "المنتخب"، وكتاب "الفنون".

وقد تميز فقه الإمام الهادي عليه السلام بعدد من المميزات؛ منها:

  • أنه نبع من ذات الدليل، واعتمد على وضوح البرهان، فنشأ في أجواء حرة بعيداً عن تأثيرات الدول وإملاءات الحكام، حتى قال عنه الإمام المؤيد بالله عليه السلام - وهو أحد فرسان الفقه ومجتهدي الزيدية-: "كنا نهاب نصوص يحيى كما نهاب القرآن"، وقد شهد له أيضاً علماء المذاهب الأخرى، كابن حزم صاحب المحلى، فقال: "وليحيى هذا الملقب بالهادي رأي في أحكام الفقه قد رأيته لم يبعد فيه عن الجماعة كل البعد.. إلى آخره".
  • أنه لم يلجأ إلى التقليد في ما لم يوجد له نص صريح، بل اعتمد على نظره واجتهاده، كغيره من علماء أهل البيت عليهم السلام، وأئمة المذاهب الأخرى الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد.
  • أنه لم يأتِ بالمسائل الفقهية من واقع الدليل فحسب، بعيداً عن الواقع العملي الذي يعيشه الناس، بل جمع بين فقه الأدلة وفقه الواقع، ولذلك نجده في مؤلفاته الفقهية يستخدم أسلوباً يتناسب مع أهل زمانه، ويتكلم بلغة قريبة إلى أفهامهم.
  • أنه لم يختلف مع من سبقه من علماء أهل البيت عليهم السلام في أكثر المسائل، ولذلك نجده في كتاب "الأحكام" يأتي بقوله الفقهي، ثم يؤيده بقول جده نجم آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر المسائل، ولا نجد بينهما اختلافاً.

ونجد أن الإمام الهادي عليه السلام لم يكن بعيداً عن الآراء الفقهية لعلماء المذاهب الأخرى، بل كان أعلم بها من أهلها بشهادة علمائها، ولا يرى في اجتهاداتهم الفقهية جرماً يعادون أو يقاطعون لأجله، وأنها مسائل فرعية لا يضرُ الاختلاف فيها، ويدل على ذلك ما روي عن السيد أبي طالب عليه السلام بإسناده عن أبي الحسين الهمداني وكان رجلاً فقيهاً على مذهب الشافعي، يجمع بين الفقه والتجارة، قال: "قصدت اليمن وحملت ما أتجر فيه هناك ابتغاء لرؤية الهادي -عليه السلام- لما كان يتصل بي من أخباره فلما وصلت صعدة قلت لمن لقيت من أهلها: كيف أصل إليه؟ وبم أصل؟ وبمن أتوسل؟ فقيل لي: الأمر أهون مما تقدَّر، ستراه الساعة إذا دخل الجامع للصلاة بالناس، فإنه يصلي بهم الصلوات كلها، فانتظرته حتى خرج للصلاة فصلى بالناس وصليت خلفه، فلما فرغ من صلاته تأملته فإذا هو قد مشى في المسجد نحو قوم أعِلاء في ناحية منه فعادهم، وتفقد أحوالهم بنفسه، ثم مشى في السوق وأنا أتبعه فغيرَّ شيئاً أنكره، ووعظ قوماً وزجرهم عن بعض المناكير، ثم عاد إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه من داره للناس، فتقدمت إليه فسلمت فرحبَّ بي، وأجلسني وسألني عن حالي ومقدمي، فعرَّفتُه أني تاجر، وأني وردت هذا المكان تبركاً بالنظر إليه، وعرف أني من أهل العلم فأنس بي.

وكان يكرمني إذا دخلت إليه إلى أن قيل لي في يوم من الأيام هذا يوم الظلامات وإنه يقعد فيه للنظر بين الناس فحضرت فشاهدت هيبة عظيمة ورأيت الأمراء والقواد والرحالة وقوفاً بين يديه على مراتبهم.

وهو ينظر في القصص ويسمع الظلامات، ويفصل الأمور فكأني شاهدت رجلاً غير من كنت شاهدته، وبهرتني هيبته، فادعى رجل على رجل حقاً فأنكره المدَّعى عليه وسأله البينة، فأتى بها فحلَّفَ الشهود؛ فعجبتُ من ذلك.

فلما تفرَّق الناس دنوت منه، وقلت له: أيها الإمام، رأيتك حلَّفتَ الشهود. فقال : هذا رأي آبائي تحليف الشهود احتياطاً عند التهمة، وما تنكر من هذا، وهو قول طاووس من التابعين، وقد قال الله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا}[المائدة:107].

قال: فاستفدت في تلك الحال منه مذهبه، وقول من قال به من التابعين والدليل عليه، وما كنت قد عرفت شيئاً من ذلك..".

وقد حظي فقه الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام بعناية خاصة، فشرحت كتبه، وخُرِّجت آراؤه الفقهية، ودرِّست في بلاد اليمن وبلاد الجيل والديلم، ولا زالت تدرَّس في اليمن إلى يومنا هذا.

 

الأدب والشعر في ثقافة الإمام الهادي (ع)

كان للإمام الهادي إلى الحق عليه السلام حضه الوافر من الأدب العربي والشعر الفصيح، فهو الشاعر المتمكن، والأديب الأريب الذي شهر يراعه وسيفه معاً، فنصر بهما الحق، وأعاد للأمة مجدها؛ وقد جمع الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي عليه السلام عدداً من روائع قصائده في كتاب "عيون المختار"، وشهد له بالتمكن والبراعة، فقال بعد أن نقل قصيدته الرائية إلى ولده المرتضى ما لفظه: " ولله دره ما أبلغها وأروعها وأبرعها، ولم أجد لشيء من الشعر ما وجدت لها من الرقة والتحنن واللطافة والروعة والجزالة والبطولة والبراعة والعلم والحكمة، ولم أتأثر بشيء من النظم كما تأثرت بها".

ومن الملاحظ بوضوح أن الإمام الهادي عليه السلام لم يجعل تمكنه من هذا الفن أداة للتسلية والمتعة، ولكنَّه عاشه ثقافةً ينظم بها ثمين نصائحه للناس، ويدعوهم بها إلى القرب من الله سبحانه وتعالى، فنراه يقول:

إذا المرء لم يجعل رضا اللهِ ربِّه .... أمام رضاهُ خاب من كل جانبِ

وآب حسيرا قد تهتك ستره .... ولم ينجُ من مستفظعات النوائبِ

ويعبر بالنظم عن موقفه من الحقِّ، ورسوخه عليه، وأنه الأمر الثابت الذي لا يمكن أن يتزحزح عنه مهما حصل، فيقول:

ولست بتارك للحق حتى .... يطاع الواحد الفرد الودودُ

ونحكم بالكتاب بكل فجٍّ .... ويرجع عن تعديه العنيدُ

ولست بخاشع يوماً لحرب .... وإن خشعت لهيبتها الأسودُ

ولست بقائل ما دمت حيا .... كما قد قال في الحرب الرقودُ

أخو الفسق الدوانيقي لما .... تداخل قلبه الرعب الشديدُ

تفرقت الظباء على خداش .... فما يدري خداشٌ ما يصيدُ

ونراه عليه السلام يتحسر على حال الدين، وكيف أن الناس قد غفلوا عن إقامته، ويتعجب من ذلك، فيتجلى ذلك في شعره، فيقول:

دعوت الناس كلهم لحق .... وأكثرهم عن التقوى يحيدُ

ويقول في قصيدة أخرى:

نام الخلي وعينُ الدين في تعب .... غطت عليها ولاة الجوْر بالحجبِ

والناس في غفلة عما أصيب به .... آل الرسول فكل غير مكتئبِ

حتى نهضت لدين الله محتسبا .... والله يعطي جزيلاً كل محتسبِ

إذ لا أرى ثائراً لله ينصره .... ولا نكوفا لدين الله ذا غضبِ

كيف القرار وقد أضحت معالم ما .... سن الرسول كحد الصارم الجدبِ

أم كيف يرضى بسوم الخسف ذو كرم .... ممن له حسب قد صين بالأدبِ

ونراه في جانب آخر يستخدم النظم كوسيلة لحثِّ الناس على الجهاد في سبيل الله، وتشجيعهم لمواجهة العدو، وتصبيرهم على ذلك، فيقول:

فما العز إلا الصبر في حومة الوغا .... إذا برقت فيها السيوف اللوامعُ

ومن لم يزل يحمي ويَنْقِم ثاره .... ومن هو في الحالات يقظان هاجعُ

يقلب بطن الرأي فيه لظهره .... ويمضي إذا ما أمكنته المقاطع

ونحن بقايا المرهفات وسورها .... إذا كان يوم ثائر النقع ساطعُ

يموت الفتى منا بكل مهند .... وأسمر مسنون الشبا وهو دارعُ

فتلك منايانا وإنا لمعشر .... من الناس في الدنيا النجوم الطوالعُ

ويستنهض الهمم، ويشيد بمن ينصره لإحياء الكتاب والسنة، فيقول:

يا حي وادعة الكرام تأهبوا .... في الدين إن عليكم إدلالي

وبكم أصول على العدو لأنكم .... أنتم يميني في الوغى وشمالي

ويقول في قصيدة أخرى:

وسرتُ في حيِّ همدانٍ ويشفعُها .... خولان أهل النُّهى في جحفل لَجِبِ

وحاشد وذوي الأحلاف قاطبة .... والصِّيد صيد ثقيف ساعة الغضبِ

حزب النبي وحزبي بعده فلهم .... حظان لم يُجمعا يوما لمكتسبِ

جزاهم الله عني كل صالحة .... وحاطهم من شقى الأغلال واللهبِ

وكتب عليه السلام قصيدة إلى الدّعام بن إبراهيم الأرحبي يحثه على الجهاد في سبيل الله ويَذْكُرُ سوابق همدان مع أمير المؤمنين وأخي سيد المرسلين صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين، قال فيها:

انهض فقد أمكنتنا فرصة اليمنِ .... وَصِلْ فضائلَ كانت أولَ الزمنِ

وسابقاتٍ وإكراماً ومكرمة .... كانت مع الطاهر الهادي أبي الحسن

ويوم صفين والفرسان مُعلَمةٌ .... تخوض في غمرات الموت في الجشن

والروع حام ويوم النهروان لكم .... والنقع مرتفع بالبيض والحُصُن

ونصرهم لأمير المؤمنين على .... محض المودة والإحياء للسننِ

وقم فزد شرفاً يعلو على شرف .... في حي همدان والأحياء من يمنِ

ففيك ذاك بحمد الله نعرفه .... إذ أنت ليث الوغى في السلم والفتنِ

واستغنم الأمر نهضاً يا دعام له .... ما دام روح حياة النفس في البدنِ

كما أنه عليه السلام ينظم رسائل التهديد والوعيد لأئمة الجور، من ذلك أنه كتب مخاطباً لولاة الجور من بني العباس المقيمين بأرض العراق:

ألا أبلغ ولاة الجور عني .... مقالة صادق فيما يقولُ

بأني إن سَلِمت لكم قليلا .... وتنسيني منيتي العجول

تروني في كتايب مرغمات .... لأنفكم إذا حضر الصقيلُ

 

وهنا نرى أن الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام عاش مع الأدب والشعر، كما عاش مع السيف، مجاهداً بهما في سبيل الله، متكئاً عليهما لإصلاح ما اعوجَّ من أمر الأمة الإسلامية، ناصحاً، ومربياً، وداعياً لنصرة الحق.

 

 

 

;

11-53-2020

في هذا المقال اخترنا جمع بعض من أنظار المولى الإمام مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي ، ونقلناه باللفظ لأن كلام الإمام عليه السلام وأسلوبه لا يحتاج إلى شرح وبيان:

• منهجه عليه السلام في قبول الحق
قال عليه السلام في قسمه المشهور: (قَسَمَاً بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيْرِ، قَسَمَاً يَعْلَمُ صِدْقَهُ الْعَلِيْمُ الْخَبِيْرُ  أنْ لا غَرَضَ لَنَا وَلا هَوى غَيْرَ النُّزُولِ عِنْدَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوُقُوفِ عَلَى مُقْتَضَى أَمْرِهِ، وَأَنَّا لَو عَلِمْنَا الْحَقَّ فِي جَانِبِ أَقْصَى الْخَلِقِ مِنْ عَرَبِيٍّ أَوْ عَجَمِيِّ، أَو قُرَشِيٍّ أَوْ حَبَشِيِّ لَقَبِلْنَاهُ مِنْهُ، وَتَقَبَّلْنَاهُ عَنْهُ، وَلَمَا أَنِفْنَا مِن اتِّبَاعِهِ، وَلكُنَّا مِنْ أَعْوَانِهِ عَلَيْهِ وَأَتْبَاعِهِ، فَلْيَقُلِ النَّاظِرُ مَا شَاءَ، وَلا يُرَاقِبْ إلاَّ رَبَّهُ، وَلا يَخْشَى إلَّا ذَنْبَهُ، فَالْحَكَمُ اللَّهُ، والْمَوعِدُ الْقِيَامَة، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ).

• رؤية الإمام عليه السلام حول العلم والجهاد
قال عليه السلام في كتاب التحف ص168 ما لفظه: (واعلم أنه كان أعظم احتفال الأئمة القدماء صلوات الله عليهم ببيان علم التوحيد والعدل، وفرائض الله التي ضلت فيها غواة الأمم، ولم ينجُ من الغرق إلا من بحبلهم اعتصم، ولدينهم التزم، فإنهم حجج الله على خلقه، والدعاة إلى دينه، وما زالوا يقارعون على دين الله الذي أتى به جدهم النبي المنذر، وتلاه في القيام به وتبليغه أبوهم الوصي الهادي، مؤسس قواعد الإسلام، الضارب عليه بذي الفقار هام المشركين، ومردة الطغام، حتى أقام عمود الإسلام بذلك العضب الحسام، صلى الله عليهما وعلى عترتهما الأطائب الأعلام، فهم من باب المدينة يغترفون، ولذلك الأثر يقتفون، كما قال الإمام الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام:
وعلمهم مسند عن قول جدهم .... عن جبريل عن الباري إذا قالوا).

 • تصريحه عليه السلام برغبته في الجهاد وتحسره على عدم تحقق ذلك له
وقال عليه السلام حاكياً عن نفسه:
قد مضت وانقضت ثمانون عاماً  ...  وأنافت عامين طرفة عينِ
لم أحقق ما كنت أرجوه فيها  ...  من جهاد ونشر علم ودينِ
رب فاغفر وارحم وأيد وسدد  ...  واعف والطف رباه في الدارينِ

• وجوب اتباع أهل البيت عليهم السلام من كلام المولى عليه السلام 
قال عليه السلام في كتاب مجمع الفوائد ص99:
(واعلم أن من أعظم ما كلف اللّه به الخلق ودعاهم به إلى سبيل نجاتهم، ودلهم على نهج سلامتهم إخلاص الطاعة لأهل بيت رسوله وإصداق الولاية لورثته وعترته في محكم قوله حتى قرنهم بكتابه وجعلهم من كل الورى أدرى به المطهرين عن الرجس المشهود لعصمتهم وحجيتهم بآية التطهير والمودة وأخبار الكساء وأحاديث التمسك وخبري السفينة وغيرها مما طفحت به الأسفار ووضحت به الحجة لذوي الأبصار، فلا حاجة بنا هنا إلى سرد الدلائل القطعية والحجج المنيرة الجلية من الكتاب العزيز والسنة النبوية على وجوب التمسك بآل محمد صلوات اللّه عليه وآله، والكون معهم ومودتهم وتقديمهم على الكافة، وأنه لا يفضلهم أحد من الخلائق غيره صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأنهم ورثة الكتاب وحجج اللّه على ذوي الألباب، ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)) [القصص:68] وكونهم عترة الرسول خلقوا من لحمه ودمه، وأوتوا علمه وفهمه، والمدعو لهم بجعل العلم والحكمة في زرعه وزرع زرعه، وعقبه وعقب عقبه، فلا نجاة إلا بتسليم الأمر لله والنزول عند حكمه ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) [الأحزاب:36]).

• رؤيته عليه السلام حول اختلاف أهل البيت عليهم السلام
قال عليه السلام في الجوابات المهمة ص10 في سياق الكلام: (ولا فرق بينهم ولا اختلاف عندهم في نظام الحكم ولا في مسألة من مسائل أصول الدين).
ويقول في ص14: (هذا وليس بين الزيدية كلهم قاسمية وهادوية وناصرية ومؤيدية خلاف في الأصول الدينية التي هي عمدة الإسلام وأساس الدين الحنيف).
وفي ص15 من الجوابات المهمة بما لفظه: (وأما المسائل الفرعية الاجتهادية فلكل إمام أنظاره واجتهاداته يوافقه فيها من أراد موافقته وكلهم نجوم هدى وأعلام اقتداء.
    من تلقَ منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل الجوم التي يسري بها الساري
فمهما كان المتابع مقتدياً بآثارهم مهتدياً بأنوارهم فقد اعتصم بالعروة الوثقى).

• كانت نظرة الإمام عليه السلام إلى الاختلاف في الدين صارمة بتحريم ذلك
قال عليه السلام في كتاب لوامع الأنوار ص31: (ومن المعلوم: أن الله تعالى أمر عباده بسلوك دين قويم، وصراط مستقيم، ونهاهم عن اِلافتراق في الدين، واتباع أهواء المضلين؛ قال جل جلاله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام]، في آيات بينات، وأخبار نيرات.
ثم قال عليه السلام ما لفظه: (وقد قص الله على هذه الأمة أنباء الأمم السابقة، والقرون السالفة، وما كان سبب هلاكهم، من الإختلاف في الدين، وعدم الائتلاف على ما جاءتهم به أنبياؤهم من الحق المبين؛ قال عز وجل: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران]، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [الأنعام:159]، في آي منيرة، ودلائل كثيرة).

• يرى الإمام عليه السلام أن أهل البيت عليهم السلام أفضل الخلق
قال عليه السلام في كتاب لوامع الأنوار ص72: (ولقد كان الإضراب أوفق، والإمساك أليق، لولا أن الله تعالى أمر بقول الحق وإن شقّ، فإن المقام خطر، يترتب عليه أي أثر؛ وقد قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((لا يؤمن عبد حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه، وأهلي أحب إليه من أهله، وعترتي أحب إليه من عترته، وذاتي أحب إليه من ذاته)) رواه الإمام الناصر للحق(ع) في البساط، بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى.
ثم قال عليه السلام بعد أن سرد الأدلة في تفضيل أهل البيت ما لفظه: (وهذا قليل من كثير، والمقام أوضح من أن يحوج إلى تطويل وتكثير، وقد صادف مناسبة للمقصود، وارتباطاً بالمطلوب، وما حمل عليه إلا واجب النصح والتذكير؛ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).

• كلامه عليه السلام في السبب الرئيسي للميل عن العترة
قال عليه السلام في كتاب لوامع الأنوار ص228: (وأصل كل ضلالة وفتنة، ومنبع كل فُرقة ومحنة، في هذه الأمة والأمم السابقة، اتباع الأهواء، والإخلاد إلى الدنيا، ومحبة الترأس على الأحياء، فإنه لم يستقم الملك للملوك العاتية، والجبابرة الطاغية، إلا بمخالفة أنبياء الله وكتبه، ومباينة أوليائه وأهل دينه، كما قصه الله في كتابه، وعلى ألسنة رسله.
ولم تتم لعلماء السوء الرئاسة منهم، والتقرب لديهم، ونيل حطام دنياهم، إلا بتقرير ما هم عليه، وتأييد ما مالوا إليه.
وقد عَلِمَ كل ذي عِلْم، وفَهِمَ كل ذي فَهْم، ما جرى لأهل بيت النبوة في هذه الأمة، وما فعله ملوك الدولتين الطاغيتين مع العترة المطهرة، وما ساعدهم به علماء السوء، وفقهاء الضلال، من اتباع أهوائهم على كل حال، ورفض أهل بيت نبيهم، وطرح ما يدينون به من دين ربهم؛ حتى غيروا معالم دين اللَّه، وافتروا على اللَّه، ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ؛ لترويج ما يَهْوَوْنه من الصد عن سبيل اللَّه في الأفعال والأقوال؛ كل ذلك معارضة للآل، ومخالفة لما أمرهم به في شأنهم ذو الجلال.
وقد قصد ملوك السفيانية، والمروانية، والعباسية، استئصال السلالة النبوية، وإبادة الذرية العلوية، وإزالتهم عن وجه البسيطة بالكلية، وأبلغوا مجهودهم في طمّ منارهم، وطمس أنوارهم، فأبى اللَّه تعالى لهم ذلك، وغلبهم على ما هنالك؛ كيف وهم قرناء الكتاب، والحجة على ذوي الألباب، والسفينة المنجية من العذاب، والثقل الأصغر، الذين خلفهم الرسول مع الثقل الأكبر في الأرض، ولن يفترقا إلى يوم العرض؟!؛ يريدون أن يطفئوا نور اللَّه بأفواههم، ويأبى اللَّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وتهافت في أثر الملوك الجبارين، والعلماء المضلين، الذين حذر عنهم سيد المرسلين، الأتباعُ من العوام، والهمج الرعاع من الطغام، أتباع كل ناعق، وسيقة كل سائق، وركضوا في ميادين الدول، كما وصفهم اللَّه عز وجل: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الفرقان:44]، وهم الجم الغفير، والجمع الكثير، وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل اللَّه، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين؛ فعظمت الفتنة، واشتدت المحنة، وتمت الفرقة المنهي عنها في الكتاب المبين، وعلى لسان الرسول الأمين.
وحجج الله تعالى واضحة المنهاج، بينة الفجاج، ودينه قويم، وصراطه مستقيم؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة وإن اللَّه لسميع عليم.
وهذا مع ما تقدم معظم ما خالفوا فيه أهل بيت نبيهم من العقائد، وإليك النظر أيها المطلع المتبع لكتاب ربه، وسنة نبيه صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم، إن كنت عن طريق الحق غير حائد، ولا لضروري المعقول والمنقول بجاحد، لتنظر أي الفريقين أهدى سبيلاً، وأي الطائفتين أقوم قيلاً، وأبين دليلاً.
والمقصود بالخطاب أرباب النظر والاعتبار، من ذوي الأبصار؛ إنما يتذكر أولو الألباب.
فأما من أعمى بصائرهم الهوى، وأعشى أبصارهم الردى، من طائفتي المتمردين والمقلدين، الذين أَلْفَوا آبائهم ضالين؛ فليسوا بمقصودين؛ إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولّوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون.
ومالم نورده من الدلائل، فللإحالة على ما قرره علماء الأمة، وحرره في علم الأصول أعلام الأئمة، في جميع المسائل).

 

;