إن التوبة إلى الله والإنابة إليه لهي من أعظم الحالات النفسية، وأدلِّها على صفاء السريرة، وهي بابٌ جعله الله مشرعاً أمام كل من أراد الاستقامة بعد الوقوع في الخطأ، وفيها تجسدت رحمة الله التي يلجأ إليها المذنبون، بل إنه سبحانه وتعالى رغَّب فيها وحثَّ عليها، فما أقبل مذنبٌ إلى الله ذراعاً إلا أقبل العفوُّ الرحيم إليه باعاً؛ وفي هذا السياق نجد أن التاريخ الإسلامي قد قدَّم لنا عبر العصور نماذجَ مشرقة من سير الأوابين خليقةً بأن نتوقف عندها، ونأخذ منها العظةَ والقدوةَ في مسيرة الحياة؛ لقد نطقت تلك النماذج أن القلب السليم حتى وإن تلبس بالمعاصي أو أخطأ الوجهة أو تعثر للحظة، تنفعه الذكرى وتزجره المواقف، وأنه متى سمع نداء الله أناب وتاب، وصحح الاتجاه، وأخلص العمل لمولاه؛ لتحلَّ عليه أسباب الهداية وتغمره سحب الرعاية الإلهية.
وهنا لن نذهب بعيداً نحو شرق الأرض أو غربها، بل سنتحدث عن الملك اليمني أبي العتاهية عبدالله بن بشر رضوان الله عليه, الذي كانت قصته تجسيداً حقيقياً للتوبة في أسمى نماذجها؛ فمن هو أبو العتاهية؟ وأين عاش؟ وكيف ختم حياته؟!
هو أبو العتاهية عبدالله بن بشر، أحد ملوك اليمن ووجاهاتها، عاش في أواخر القرن الثالث الهجري، وكان من أسرة ذات سيادة وسلطان، وقد حكم أجزاء واسعة من اليمن منها صنعاء، وإن كان ذلك الحكم تحت مسمَّى الدولة العباسية التي لم يكن للعباسيين فيها إلا الذكر في الخطبة.
وقد حدث مع أبي العتاهية موقف غيَّر مجرى حياته وحياة اليمنيين، ففي ذات مساء وبينما كان أبو العتاهية ينادم أحد وزرائه، إذ عطش فطلب الماء فأتاه الوزير بالماء، وكان حكيماً وصاحب فطنة، وقال له: لو مُنِعتَ هذه الشربةَ بكم كنتَ تشتريها؟ فقال: بنصف مملكتي. فشربها.
ثم قال له: لو لم تخرج من جسدك بكم كنت تشتري خروجها؟ قال: بالنصف الآخر، فقال الوزير: ما ملكتَ لا يساوي شربة.
حرَّكتْ كلماتُ الوزير جرسَ إنذار بداخل أبي العتاهية، فقال لوزيره: فما نصنع؟ فقال: نبعث إلى شريف ينزل بالرس يقال له: يحيى؛ فلعل الله ينجيك به. فراسله.
ولا شك لم يكن ذلك التأثير ليقع في نفس صاحب النفوذ والسلطان لو لم تكن نبتة الخير مغروسةً في داخله، لكنها سلامة القلب ونقاوته "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم" هي من حركت فكرة التصحيح والإنابة، وأثارت روح التوبة والعودة، فتحوَّل المُلْكُ في نظره إلى ذنبٍ يجب التخلصُ منه، وعبءٍ من الضروري طرحه، ولكن بالوسيلة التي تكون فيها النجاة ويحصل بها التغيير؛ ذلك التوجه ظل يردده على جلسائه كثيراً، فقد روى مؤلف سيرة الإمام الهادي أن أبا العتاهية كان يقول: "والله لو خرجتُ من هذا الأمر الذي كنتُ فيه بمِسْحٍ ألبَسُهُ لرأيتُ أنه أصلح لي".
وفعلاً أرسل أبو العتاهية إلى الإمام الهادي عليه السلام رُسُلَه يطلب منه الوصولَ إلى اليمن، وبذل له مملكته وأمواله وسلطانه، وما إن وصل الإمام الى صعدة حتى صدقت نيَّةُ الملك اليماني أبي العتاهية، فكان يمد الإمام الهادي بالمال والرجال معيناً له في تثبت مداميك العدالة في شمال اليمن صعدة ونجران، ويترقب طالع الإمام ليشرق من سماء صنعاء، وما إن استتب الأمر بصعدة ونجران حتى استجاب الإمام لدعوة أبي العتاهية ومراسلاته فتوجه إلى صنعاء، وفي منطقة حدقان كان أبو العتاهية في الانتظار، وما إن أطلَّ الإمام الهادي حتى رمى أبو العتاهية برمحه وكشف رأسه، ونزل عن فرسه، فلما نظر إليه الهادي نزل عن فرسه، وأقبل أبو العتاهية يحتضنه ويقبل رأسه ويديه، وجثا بين يديه، ثم جلسا معاً، فقال له أبو العتاهية: استحلفني يا أمير المؤمنين. فاستحلفه الإمام الهادي وأخذ بيعته على القيام معه بالحق وعلى الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم مضى معه إلى صنعاء.
صدقت توبة أبو العتاهية وأخلص في إنابته وأعطى الإمامَ الهادي كلَّ ما يملك، وتنازل عن مملكته، ودعا وزراءه وقادته إلى مبايعة الهادي والتسليم له.
في ليلة وضحاها خرج الإنسانُ من ملكه وتنازل عن السلطان الذي هو أعظم رغبة إنسانية تمتلك المرء وتسيطر عليه.
فإن زهدت في شهوة المال أنفسٌ *** لما زهدت عن شهوة النهي والأمر
وفي سبيل هذه الرغبة تقوم الحروب وتشن المعارك، وقد قيل أن الملك عقيم، فمن أجله يقتل المرء أباه وأخاه، ويكفر بالله، ويسفك الدماء، وينتهك الحرمات.
ولكن أبا العتاهية كان على خلاف ذلك، فقد تنازل عن كل مغانم الدنيا وبذلها في سبيل الله برغبة من نفسه، فكان بحق قدوة للتائبين والمنيبين.
تحول أبو العتاهية من ملك يأمر وينهى إلى جنديٍّ في جيش الإمام الهادي، وقد أعطى كل ممتلكاته من مال وخيل وسلاح، بل إن الإمام الهادي عرض عليه أن يوليه في بعض المناصب السيادية أو يعطيه ولاية بعض المناطق والمخاليف اليمنية، ولكنه رفض ذلك، وآثر أن يكون جندياً مطيعاً ومقاتلاً مخلصاً في جيش الإمام، قائلاً له: "لا أريد يا أمير المؤمنين ذلك، ولكن أكون خادماً بين يديك".
ولأن أبا العتاهية كان حالةً فريدةً سجلها التاريخ في التنازل عن الملك والتخلي عن السلطان، فقد كانت توبته تمثل أرقى ما تكون عليه التوبة، وأصدق ما يمكن أن توجد عليه؛ وقد رأى أن النفس بحاجة إلى ترويض حتى يذهب عنها ما خلَّفته سنوات السلطان وما علاها من درن الأوزار، فذهب إلى ضيعة كان قد بناها وجعل له فيها منزلاً، فاعتزل فيها يحاول أن يبني نفسه من جديد ويهذبها حتى تعود صافية نقية خالية من الذنوب.
وقد نزع عن نفسه كل مظاهر بذخ الملوك من ثياب وحشم، واستعاض عنها بلباس الفقراء والزهاد وتقشف في مأكله وملبسه وحياته، ويرى أن ذلك اللحم الذي نبت من حرام لا بد أن يذهبه وينمو بدلاً عنه لحم حلال طيب؛ قال الإمام المرتضى محمد بن يحيى عليه السلام: دخل إلينا أبو العتاهية في بعض الأيام، فنظرت إلى وجهه متغيراً فقلت له: لِمَ تعملُ بنفسك هذا وأنت تحتاج إلى نفسك؟ كُلْ من الطعام، فقال لي: لا و الله يا بن رسول الله حتى يذهب هذا اللحم الذي قد حملته من الحرام ثم آكل.
لقد تمثل أبو العتاهية الدين واقعاً، وعاشه في كل تفاصيل حياته، لا يبتغي غير موافقة مراد الله والتزام طاعته، وقد رسم مساره الجديد بعناية فائقة وحسن اختيار، فكان أهمُّ الأمور عنده تقديسُ الشرع والتنازل عن كل شيء في مقابل تطبيق أوامر الله؛ إنها طاعة لا تقبل التجزئة، وإنابة لا تدخلها التبريرات، وتسليم لله في كل شيء.
ومن أعظم الشواهد على ذلك موقفُه الذي سطره التاريخ من المرأة التي ادعت عليه في حضرة الهادي، قال في السيرة: "فلما كان في بعض الأيام إذا بمرأة تصيح على باب الهادي، فأمر بإدخالها إليه، فلما دخلت قالت: أنصفني من أبي العتاهية، فأرسل الهادي إلى أبي العتاهية فأحضره وقال له: أنصف هذه المرأة، ثم قال الهادي للمرأة: ما تدَّعين عليه؟ قالت: لي في يده ضيعة غصبها أبوه، فقال أبو العتاهية للهادي: أوجب عليَّ وعليها ما يجب يا أمير المؤمنين، فقال الهادي للمرأة: هل لك شهود؟ قالت: نعم، فمضت فأحضرت شهوداً فشهدوا عند الهادي لها بالضيعة، فحكم الهادي للمرأة بالضيعة، وأمرها بقبضها فقبضتها".
عاش أبو العتاهية عبدالله بن بشر بقية عمره لا يرغب في شيء، ولا يتطلع لأمنية، ولا يطلب أمراً سوى الشهادة في سبيل الله، وهو ما عبر عنه في مراسيم تشييع أحد أصدقائه الشهداء وهو محمد ابن أبي عباد، حين وقف على قبره وخاطبه قائلاً: "وددتُ أني كنت معك فأستشهد، رزقني الله ما رزقك".
وبالفعل فقد واصل أبو العتاهية مسيرته في طريق الحق حتى نال ما تمنى، وارتقى شهيداً وهو يقاتل مع الإمام الهادي عليه السلام، وذلك في 6 شوال سنة 288هـ في منطقة حدين بصنعاء؛ ليبلغ أعلا الرتب، ويبقى التاريخ يحكي عنه أروع المواقف، فرضوان الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.