.
 
21-37-2020

هو علامة الشيعة الفقيه الرباني الراجح أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري؛ شيخ الإسلام، وعماد العدل والتوحيد، وحافظ الزيدية في عصره.

خرج رضي الله عنه من طبرستان إلى اليمن ضمن جماعة من الطبريين؛ لغرضِ الجهاد بين يدي الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهما السلام.

وقد همَّ بعد وفاة الإمام الهادي وولديه عليهم السلام بالرجوع من اليمن إلى بلاده "طبرستان" إذ كانت دار آبائه ومنزل قومه، وبها نشأ، فهبط تهامة، يريد الاستعانة على سفره بنائل من سلطان زبيد، وهو يومئذٍ الحسين بن سلامة مولى آل زياد، فلما قدم تلك البلاد أمسى ليلة من لياليه في بعض دورها، فرأى في نومه كأن الهادي إلى الحق عليه السلام قد وقف عليه يقول له: "يا أبا الحسين، تخرجُ وتترك التعليم بأصول الدين باليمن؟ اتق الله، ودع عنك هذا".

فانتبه رضوان الله عليه مذعوراً لذلك، وكرَّ راجعاً إلى صنعاء وصعدة وأعمالها؛ ولم يتفق بملك زبيد لإضرابه عن السفر.

قال رحمه الله: فلما رجعت فكرت في الإقامة باليمن فرأيت أربعة: أسد، وذئب، وثعلب، وشاة، فتفكرت في أثبتهم، فوجدته الأسد، فكان أحبهم إليَّ فنزلت صنعاء، وجاورت ابن الضحاك فقال لي: ادع إلى مذهبك، وأظهر حبَّ أهل بيت نبيئك صلى الله عليه وعليهم، وتكلَّم بما تريد، ولا تخف من هذه العامَّة.

فدخل جامع صنعاء، وتكلم، ودعا إلى مذهب الهادي إلى الحق فاستجيب له، ولم يلبث أن صار له حزب وشيعة، يصلي بهم في المسجد.

ولقد كان له رضوان الله عليه من العناية بإحياء الدين باليمن أضعاف ما كان منه في حياة الهادي وولديه المرتضى والناصر عليهما السلام، وبينه وبين علماء المذاهب مراجعات ومناظرات؛ وكان سكونه في آخر مدته بصنعاء.

وكان له رضوان الله عليه من مكارم الأخلاق وحسن التعامل ولين الجانب، ما يجلُّ مقامه في النفوس، ويعظم وصفه على الألسن؛ ومن ذلك ما روي أنه رضوان الله عليه كان له جار من اليهود بصنعاء، وكان داره رحمه الله بقرب من مسجده بالسَّائلة عند سمرة غربي صنعاء، وكان سطح الدار لذلك اليهودي، وكان لأبي الحسين منزل تحت ذلك السطح، وكان فيه خرق يتغوّط فيه اليهودي، ويبول هو وأولاده، فأضرَّ ذلك بأبي الحسين، وعسر عليه التحول في ذلك الحال، فأمر من فعل له في ذلك الخرق كهيئة القصب وجعل بعضها فوق بعض إلى ذلك الفتح المفتوح، ثم أمر بها فجصصت وأحكمت، فكان يقع ما يتغوطونه في ذلك القصب، فاتفق أن أبا الحسين رحمه الله مرض فدخل جيرانه وأصحابه يعودونه، وكان اليهودي المذكور ممن دخل، فرأوا ذلك القصب فأنكروه، فسألوه عن ذلك، فقال: ما هو إلا خير، كان هناك خرق فربَّما مر به صبي فيكون فيه شيء، فلمَّا سمع ذلك اليهودي فكر في نفسه وقال: ما هذا الاصطبار إلا عن دين صحيح، وما هذه إلا أخلاق الأنبياء، وآلُ الله، فأسلم، وحسن إسلامه رحمه الله.

وله في دعائه إلى الله قصصٌ تظهر همَّته العالية، وتفانيه في إبلاغ الحجة، وصبره وحلمه الشديدين في سبيل ذلك، فمن ذلك مناظرته النَّقَوِيَّ عبدالله بن كليب أو ابنه سلمة في القَدَرِ، فإنه لما أحصر النَّقَوِيُّ تفل بوجه أبي الحسين الطبري، بعد أن ظهر للعامة إحصار النَّقَوِيِّ، ولم يبق إلا الجهالة، فلاذ بها، فبزق إلى وجهه، فضحك أبو الحسين وقال: أجمعت العلماء أن الريق طاهر.

وحكي أنه كان بناحيةِ "أثر" من الخشب رجلٌ تاب على يده - رحمه الله - وكان عامياً جاهلاً، فمكث أبو الحسين يداريه، ويرفق به لئلا يظهر له من أمر الدين شيء يشق عليه، فيرجع على عقبيه، ويعصي ربَّه، فاتفق أنه أصاب الناس مجاعةٌ عمَّت الناس، وكان الخشبي المذكور من أهل النِّعم والثروة، فرزق اللهُ أهلَ جهته ثمرة صالحة وزراعة ثقيلة راحت بها حالهم، والناس في الشدة، فأتى هذا الرجل أبا الحسين وقد رأى غلاء الطعام وقد غلبه شُحُّ النفس وثقل عليه إخراج زكاة البر من البر، فقال: يا أبا الحسين هل تكون زكاة البر من الشعير؟ ففطن أبو الحسين فقال: نعم، فأخرج مكان مكيال من البر مكيالاً من الشعير ودفعه إلى المساكين، فحيي به بشر كثير من ضعفاء المسلمين ذلك الوقت، فأنكر أصحاب الحسين ذلك عليه، وأتوه في ذلك فقال: يا قوم، هذا شيء قلته عن رأي لا عن شرع، غلب على ظني أني لو قلت لا يجزي على البر إلا البر ثقل عليه، فأخل به وبخل، وإذا بخل قالت له نفسه قد عصيت الله في واحدة ومن عصاه في واحدة كمن عصاه في أكثر، فيترك الصلاة ويرتكب المعاصي، وإذا ثبت على الديانة فسيتعلم - إن شاء الله - ويخلص نفسه، ونظرت إلى المساكين، فعلمت أن الشعير أنفع لهم من العدم، فكان الأمر كما قال أبو الحسين، صلح ذلك الرجل، واستدرك أمره، وعوّض الزكاة براً، ورسخ في قلبه حُبُّ الله، وصلحت حاله.

وحكي عنه - رضي الله عنه - أنه كان له جار بصنعاء يشرب الخمر ويؤوي شُرَّابها، وكان يخفى على أبي الحسين أمره في أوائله، ثم إنه بلغ أبا الحسين أنه قد جمع جماعة من الفسقة لشرب الخمر، فذهب أبو الحسين يستكشف الحال وليؤدي ما يجب لله، فقضى نظره بأخذ كبش وقصد ذلك الجار إلى بيته، فقرع الباب، فخرج إليه الجار وهو لا يظنه جاء إلا يريد الإزالة، فقابله أبو الحسين بالمعروف من خُلقِه، وقال: بلغني أن عندك ضيفاً والجار مسؤول عن جاره، فهذا كبش استعن به، فاستحيا الرجل، وخرج، فلما أصبح نحا ما في منزله، وغسل ثيابه، واستغفر، وأناب.

وحكي عنه - رحمه الله - أنه كان واسع الجاه مقبول الشفاعة، وكان بصنعاء من ضعفاء المسلمين ومساكينهم خلق كثير، ومن الأشراف أرامل وأيتام، فكان يتكسب عليهم، وكان له إخوان باليمن يرون له حقاً عليهم، فكان يزورهم ويلتمس للضعفاء المذكورين شيئاً منهم، فخرج في بعض السنين إلى إخوانه باليمن فاستماحهم للمساكين، ففعلوا وعاد بأكسية وأمتعة ونقد، ورجع إلى صنعاء، فلما وصل إلى طرف الحمراء وهو الجبل الذي يتصل بجبل نقم المطل على صنعاء مما يلي علب من أرض (الأبناء) فخرج عليه لصوص، فأخذوا ما معه، فلما حازوه قال: يا وجوه العرب هل لكم في رأي من المروءة والكرم، قالوا: وما هو؟ فقال: قد صرت كما ترون في أيديكم، وما أحد يتوهم أنكم تتركوني إلا تكرماً منكم عليّ، وأنا قد جئت من بُعدِ أهوي بهذه العروض لمساكين خلفي أعينُهم ممدودة إليه، فهل لكم في رأي تحوزون به شرف الذكر والشكر مني ما بقيت، وذلك أن تجعلوني بمثابة واحد منكم أحوز سهماً أعود به على من خلفي، فيثيبكم الله، وتأخذون هذا حلالاً، فرقوا لكلامه، وقسموا له نصف المتاع، وكانوا قد تركوا ثيابه لم يسلبوها عنه تكرماً منهم واستحياء لجلاله وهيبته، وكان تحت ثيابه وعاء دنانير، فأخرج إليهم الدنانير بعد أن قسموا له النصف؛ وقال: قد بقي نصيبكم من هذه الدنانير، فأعجبهم ذلك، ثم بايعهم بنصيبه من الدنانير في نصيبهم من العروض والثياب التي هي أنفع للمساكين، فبقي عليه من ثمنها ثلاثون ديناراً، فقال: لو تبعني أحدكم لهذه البقية لم يرَ إلا خيراً، فقد لزمني لكم ذمام الصحبة والمعرفة، فقال أحدهم: هذا شيخ لا يأتي منه إلا خير، فسار معه حتى دخل صنعاء فتلقى الشيخ أبا الحسين أصحابُه وسلموا عليه، ثم استلف تلك الدنانير، ثم عمد إلى كبش فأمر بذبحه، فذبح وطبخ وأرسل بطعام، وذلك اللحم والدنانير مع ذلك الرجل، وقال: هذا الطعام لأصحابك لأني أظن عهدهم بالطعام بعيد، فلمَّا وصل ذلك الرجل إلى أصحابه رقَّتْ قلوبُهم، وخشعت، وأناب منهم من أناب، وصار أولئك من أصحاب الطبري - رحمه الله -.

وفي ومضات سيرة العلامة الكبير أحمد بن موسى الطبري الكثير من العبر والدروس النافعة وله عدد من المؤلفات المفيدة وبعضها مطبوع وقد صدر بسيرة العلم والجهاد صفحات شديد البياض ناصعة المعان تهوي إليها الأفئدة وتتلقفها القلوب بكل احترام وتقدير.

;