الزيدية هي منهجٌ بُنيت أساساته على الدليل والحجة، فأقيمت عليها أعمدة العدل والتوحيد، وارتفع منها الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب والسنة وولاية أهل البيت المصطفين، وسُقف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكان بذلك أعظم منهج للحق، وخير بيت أسس للناس.
وإنما سميت الزيدية بهذا الاسم نسبة إلى الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، الذي حمل مشعل الدين، وجدد معالمه، وجسَّده بعد أن ضعف بريقه، وقل أصحابه؛ وهذه النسبة ليست نسبةَ تقليدٍ كما يعتقد البعض من أن الزيدية مقلدون للإمام زيد عليه السلام، كتقليد الشافعية للإمام الشافعي أو المالكية للإمام مالك رحمهم الله جميعاً، وإنما هي نسبة اعتزاء؛ لأن هذه النسبة لم يطلقها الإمام زيد على نفسه ولا على أتباعه، ولا أطلقها أتباعه على أنفسهم في البداية، وإنما هي نسبة اعتزاء اختارها الأئمة لأنفسهم؛ لما كانَ للإمام الأعظم زيد بن علي (ع) من منزلةٍ وأثر في نفوس أهل البيت (ع) لذلك قال الإمام شيخ بني هاشم عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام: ((العلم بيننا وبين الناس علي بن أبي طالب والعلم بيننا وبين الشيعة زيدُ بن علي))، وقال ابنه الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله بن الحسن عليهم السلام: ((والله لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين، وأقام عمود الدين إذ اعوج، ولن ننحو إلا أثره، ولن نقتبس إلا من نوره، وزيد إمام الأئمة))، وقال الإمام النفس الرضية إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام: ((لو نزلت راية من السماء لم تنزل إلا في الزيدية))، فلما اجتمع أئمة العترة على ذلك الشِّعار الذي هو الاقتداء بزيد بن علي عليهما السلام اشتهر عنهم هذه التسمية.
وقد قال الإمام مجد الدين المؤيدي عليه السلام في ذلك: ((.. فإنهم إنما سموا زيدية لموافقتهم الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام في أصول الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على الظلمة، لا التقليد في المسائل الفروعية، كيف والتقليد محرم على أهل الاجتهاد بالإجماع، ..إلخ)).
"لقد وصل المذهب الزيدي المعروف الآن في اليمن ـ نظراً لحرية الفكر وفتح باب الاجتهاد ـ ليكون خلاصة أبحاث عميقة ودراسات واسعة في كل مجالات الفقه الإسلامي العظيم، واستمرت تلك الجهود المضنية في البحث والتنقيب والتصفية أكثر من سبعة قرون، وقد قام بذلك أئمة أعلام أهل البيت النبوي الشريف ومن تابعهم من الفقهاء المجتهدين، وهم في كلّ ذلك يعتمدون على المحكم من كتاب الله والصحيح من سنة رسول الله وعلى الإجماع والقياس وأحياناً على الاستصحاب والاستحسان والمناسبة المرسلة وهي التي تتفق مع المقاصد الشرعية فيما لا يوجد له نص في الكتاب أو السنة إثباتاً أو نفياً."[الزيدية الطائفة والمذهب]
أسس الزيدية
للفكر الزيدي أسس ومعتقدات قام عليها، من قال بها واعتقد بمضمونها فهو الزيدي أينما حلَّ، ومن خالفها عُدَّ خارجاً عن الزيدية، مجانباً لها؛ وبهذه الأسس عُرف المنتمون للزيدية وحُكِم بزيديتهم، كما عُرف بها المفارقون للزيدية المائلون عنها، وإن سَمَّوا أنفسَهم زيدية، أو سُمُّوا بذلك؛ ولنذكر هنا هذه الأسس؛ لنميز الزيدية من غيرها:
أصول الدين
وتتضمن أصولاً خمسة، وهي:
التوحيد
فالله سبحانه وتعالى هو الخالق العالم القادر الحي الذي لا أول لوجوده، الأول والآخر، الذي ليس معه شريك، وليس له كفء، وأنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، فهو كما قال عن نفسه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، وأنه سبحانه وتعالى:{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} , ومعتقد الزيدية في ذلك هو معتقد الإمام علي عليه السلام حين قال: ((التوحيد أن لا تتوهمه)).
العدل
وهو سبحانه وتعالى عدل لا يظلم، وحكيم ليس في أفعاله شيء من العبث أو الخطأ، وهو جل وعلا على ما حكى عن نفسه:{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي}، و{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}،{ولا يظلم ربك أحدا}، وهو أجل من أن يجبر أحداً على فعله, ومعتقد الزيدية في ذلك هو معتقد الإمام علي عليه السلام حين قال: ((العدل أن لا تتهمه)).
الوعد والوعيد
ومن عقائد الزيدية التصديق بوعد الله للمؤمنين بالجنة والخلود فيها، ووعيده للعصاة من الكفار والفساق والمنافقين غير التائبين بالخلود في نار جهنم، إيماناً بقوله تعالى:{إن الأبرار لفي نعيم- وإن الفجار لفي جحيم- يصلونها يوم الدين- وما هم عنها بغائبين}[الإنفطار:13-16]، وقوله:{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا- خالدين فيها لا يبغون عنها حولا}، {ومن يعصِ الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين}، وغيرها من الآيات.
النبوة
ومحمد بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو نبي الله الخاتم، وعبده المعظَّم، كما قال تعالى:{ولكن رسول الله وخاتم النبيين}[الأحزاب:40]، أرسله الله للعالمين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين، لم يفرط في شيء، ولم يتوانَ عن نصح أحد، الإيمان به وبما جاء به من الشرع (القرآن والسنة).
الإمامة
والإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المفترض الطاعة، هو أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، علي بن أبي طالب عليه السلام، بالنصوص المتواترة، قال فيه الله سبحانه وتعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خم:((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)).
قال الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام:((أجمع علماء آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن علي بن أبي طالب كان أفضل الناس بعد رسول الله، وأعلمهم وأولاهم بمقامه)).
وقال فقيه الآل أحمد بن عيسى بن زيد عليهم السلام:((أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أولى الناس به وأفضلهم عند الله وعنده، وأعلم الناس من بعده، علي بن أبي طالب صلوات الله عليه)).
ثم الإمام بعده ابنه الحسن ثم الحسين عليهما السلام بالنص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهما:((إمامان قاما أو قعدا)).
ثم الإمامة بعدهما في من قام ودعا من ذرية الحسن أو الحسين، واجتمعت فيه شروط الإمامة، لأنهم ثقل الله الذين أمرنا الله باتباعهم.
مبدأ الخروج على الظالم
مما تقرر عند الزيدية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أعظم مراتبه وأجلها الخروج على الظالم المنتهك لحرمات الله، وذلك من أعظم أسس الدين عند الزيدية؛ فبه تُقام الشرائع، وتطبق الأحكام؛ وقد جسدت الزيدية هذا المبدأ أعظم تجسيد، ممثلةً بأئمتها (أئمة أهل البيت عليهم السلام)، وعلمائها وأتباعها، ولعل هذا هو السبب الرئيسي لانتماء الزيدية للإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام دوناً عن غيره من العترة كانتماء اعتزاز، فأما الاتباع فإن الزيدية تتبع عموم العترة العلماء من بني الحسن والحسين؛ فهو فاتح باب الجهاد والاجتهاد؛ وهذه هي سيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام على مرِّ العصور والأزمان، كالأئمة يحيى بن زيد، والنفس الزكية، والنفس الرضية، والحسين الفخي، والقاسم، والناصر الكبير، والهادي إلى الحق، وابنيه الناصر والمرتضى، والإمام عبدالله بن حمزة، وجميع أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وبلا شك فإن للزيدية أسوة في ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم بعلي والحسن والحسين عليهم السلام الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله وإعلاء كلمته، والصحابة السابقين رضوان الله عليهم، حين قال الله تعالى عنهم:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر..}[آل عمران:110].
وذلك هو منهج الحق، وأَمْر الله للخلق، فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}[آل عمران:104]، {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..}[التوبة:71].
العقل عند الزيدية
العقل عند الزيدية حجة عظيمة على كل مكلف، يستطيع بواسطته معرفة الحق من الباطل، والحسن من القبيح، وبه يعرف وجود الخالق سبحانه وتعالى، وأنه العالم الحي القدير، العدل الذي لا يظلم، والحكيم الذي لا يعبث، وبالعقل قُطع بنبوة الأنبياء وصدق ما جاؤوا به، إلى غير ذلك من الأصول التي بيناها سابقاً.
ونظرة الزيدية هذه موافقة للقرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى قد أمرنا بإعمال عقولنا والنظر والتفكر، وأنكر على من لم يستعمل عقله، فقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا..}[سبأ:46]، وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[يونس:101]، وقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[آل عمران:191]، وقال: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها..}[الحج:46].
وكيف يمكن القول بإهمال الدليل العقلي؟ والحال أننا بالعقل فقط أدركنا كيف نفهم الحق ونقنع الخصم بثبوت الحجة، ووجود الله، وبصحة إرسال الرسل، حيث لا طريق لهذا يجدي في المسائل العقلية في مناظرة المجادل غير الدليل العقلي.
لهذا وذاك ندرك أنه لا يمكن إهمال الدليل الفكري كما يرى بعض علماء المذاهب في المسائل العلمية والعملية.
أصول الفقه
يحتل علم أصول الفقه بالنسبة للزيدية مكانة عظيمة، فعليه تدور علوم الفقه، وبه تعرف الأحكام من القرآن والسنة، ومن خلاله وعلوم أخرى يبلغ المكلف مرتبة الاجتهاد؛ ومن تلك الأصول:
1- الأدلة في الأحكام؛ وتنقسم إلى أربعة أقسام [القرآن، السنة، الإجماع، القياس]:
[الدليل الأول]: القرآن الكريم
وهو ثقل الله الأكبر، ومنبع العلوم الشرعية، وإليه ترد الاختلافات والمنازعات، ومنه تؤخذ الاحكام.
[الدليل الثاني]: السنة النبوية
السنة مصدر من مصادر التشريع عند الزيدية بشرط أن لا يصادم الحديث نصاً صريحاً في كتاب الله سبحانه؛ فالصحيح عند الزيدية ما اكتملت فيه شروط الصحة، من صحة طريقه، وسنده، وسلامة رجاله من الجرح، أي مما ينافي العدالة والضبط مع موافقته معنى وروحاً لما في كتاب الله عز وجل ولما أجمع عليه أهل البيت (ع) قرناء القرآن.
فما توافرت فيه هذه الشروط فهو حجة عند الزيدية؛ لقول الله سبحانه وتعالى:{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}[الحشر:7]، {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}[النساء:59]، وغيرها من الآيات البينات.
ومن وصية لأمير المؤمنين عليه السلام لابن عمه عبدالله بن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج: ((لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمَّالٌ ذو وجوه تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً)), وليس القصد من هذا أن القرآن ليس شفاء لما في الصدور، أو أن الحجة فيه تامة، ولكن لما كانت السنة لا تخالف القرآن وتؤدي نفس الحق الذي في القرآن، وكانت عباراتها مبينة لما في القرآن، فإن طبيعة أولئك القوم والغرض إقامة الحجة تقتضي الاحتجاج عليهم بأقرب ما يلزمهم فإذا عادوا تكون عودتهم للقرآن والسنة.
[الدليل الثالث]: الإجماع
وهو نوعان:
1- إجماع الأمة (وهو حجة عند الزيدية)
2- إجماع أهل البيت (ع)
وهو حجة عند الزيدية؛ لما دلت الأدلة القطعية من خبر الثقلين وأمثاله على كون العترة مع القرآن وأنهم نجاة للأمة، ولم تصح النصوص في آحادهم بعد أمير المؤمنين والحسن والحسين، فاقتضى ذلك عصمة إجماعهم وحجيته؛ فهم ثقل الله الأصغر، وقرناء القرآن، وسفينة النجاة، ونجوم الاقتداء.
وقد قال الإمام زيد عليه السلام: ((فاختلافنا - أهل البيت- لكم رحمة، فإذا نحن أجمعنا على أمر لم يكن للناس أن يَعْدوه)).[مجموع كتب ورسائل الإمام زيد (ع)] .
وسئل الباقر عليه السلام عن أهل بيت محمد هل يختلفون، فأجاب (ع): ((إنا نجتمع ونختلف، ولن يجمعنا الله على ضلالة)).[كتاب الزيادات من جامع علوم آل محمد للشريف العلوي].
[الدليل الرابع]: القياس
دليل تعتمده الزيدية، وهو: إلحاق فرعٍ بأصل ثابت بدليل الشرع لاشتراكهما في علة الحكم .
2- الاجتهاد
هو طريق للوصول إلى الأحكام الشرعية من خلال بذل الوسع في تحصيل الأحكام الشرعية، ولا يكون إلا عند عدم وجود نص شرعي صحيح على النوازل، والأمة بحاجة ملحَّة إليه، وخصوصاً مع التطورات في جوانب الحياة المختلفة؛ وفي نفس الوقت فإن الاجتهاد موافق للشرع، فالله سبحانه وتعالى يقول:{ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}[النساء:83].
ومن ذلك حديث معاذ بن جبل حين وجهه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن حين قال له: بمَ تقضي فيهم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟! قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: فإن لم تجد؟! قال: أجتهد رأيي، ولم ينكره صلى الله عليه وآله وسلم بل قال: الحمد لله الذي وفَّق رسول رسوله؛ ولم ينكر هذا الحديث أحد، بل تلقته الأمة بالقبول.
وقال الإمام الناصر الكبير الأطروش الحسن بن علي عليه السلام: ((فإذا نظر الطالب في اختلاف علماء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فله أن يتبع قول أحدهم إذا وقع له الحق بدليل, من غير طعن ولا تخطئة للباقين)).[الإرشاد إلى سبيل الرشاد].
المسائل الفرعية المجمع عليها عند أهل البيت (ع)
هناك مسائل من فروع الدين قد وقع الإجماع عليها من أهل البيت (ع)، كالجهر بالبسملة، والأذان بحي على خير العمل، وعدم جواز المسح على الخفين، وحُرمة نكاح المتعة، وغيرها.
ولا يخرج عن الزيدية من يخالف في المسائل الفرعية المختلف فيها بين أهل البيت (ع)، كرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، والقنوت في الفجر هل قبل الركوع أم بعده، وغيرها مما محله كتب الفقه.
فهذه أسس الزيدية وعقائدها، من قال بها واعتقد بمضمونها الذي تفصيله في كتب أصول الدين، فهو الزيدي أينما حلَّ، وإن سُمِّي بخلاف ذلك، ومن خالفها أو بعضها فليس من الزيدية وإن سُمِّي زيدياً، وهذه أصول الفقه وأدلتها في الاستنباط.
الانتشار الجغرافي للزيدية
جاء المذهب الزيدي الذي جدد شعائره الإمام زيد بن علي عليهما السلام امتداداً لدين الله الذي أقامه رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله، وكان عليه أهل بيته المطهرون، وهو منهج الله الذي قاده أنبياؤه على مر العصور، ولكن بغير مسمى الزيدية لمَّا كانوا قبل عصره؛ ولنقف هنا؛ لنقرأ تحرك هذا المنهج وانتشاره منذ زمن الإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام وحتى يومنا هذا.
الزيدية في العراق
خرج الإمام زيد بن علي عليهما السلام بثورته المباركة ضد حكم هشام الأموي الجائر، في سنة 122هـ، وكان أتباعه من خلص الشيعة المحبين لأهل البيت عليهم السلام، فأُطْلِقَ عليهم اسمُ الزيدية، ثم جرى هذا الاسم فيما بعد على كل من سار بسيرة الإمام زيد عليه السلام وأتباعه، فكان غالبية شيعة أهل الكوفة من بلاد العراق على مذهب الإمام زيد عليه السلام، وقد جاء في التأريخ أن ديوانه عليه السلام قد اشتمل على أسماء خمسة عشر ألفاً ممن بايعه من أهل الكوفة، وبلا شكك أن الكثير منهم كانوا زيدية المنهج.
الزيدية في نجد والحجاز
ثم انتشر المذهب الزيدي وتوسعت رقعته عبر التأريخ، حتى ضم شبه الجزيرة العربية بما فيها نجد والحجاز واليمن؛ ففي بلاد نَجْد نَجِدُ أن أهل اليمامة كانوا على مذهب الزيدية، وفي الحجاز وعلى وجه الخصوص مكة وينبع، كان للزيدية مكانتها ووجودها؛ حيث كان أشرافها جميعاً على المذهب الزيدي حتى قرون قريبة متأخرة، ومن أمراء مكة الزيديين الشريف الكبير قتادة بن إدريس الذي أذَّن في عصره بحي على خير العمل في الحرم المكي الشريف، وجدد بناء مرقد الإمام الحسين بن علي الفخي عليهما السلام.
الزيدية في المغرب
وفي المغرب الأقصى كان للزيدية حضورها المشرف؛ وذلك بخروج الإمام إدريس بن عبدالله الكامل - عليهما السلام- إليها، ودعوته إلى الله؛ حيث أسس بها أول دولة للزيدية سنة 172هـ، والتي عرفت بدولة الأدارسة، ثم قام بالدعوة بعده ابنه إدريس بن إدريس، الذي كان على منهج آبائه عليهم السلام، فسار بسيرة أبيه من نشر العدل، وإقامة معالم الدين؛ واستمرت الزيدية بالمغرب حتى انتهاء دولة الأدارسة في القرن الخامس الهجري تقريباً، ثم انتقل أهلها تدريجياً إلى مذهب الإمام مالك، وأصبح المذهبَ السائدَ بها إلى يومنا هذا, قال في كتاب "الاستئناس بتراجم فضلاء فاس" في ترجمة درَّاس بن إسماعيل (ص153): (وممن أدخل مذهب مالك إلى المغرب, وكان أهله قبله على مذهب الكوفيين والزيديين).
الزيدية في بلاد المشرق
وخلال الفترة التي أسس فيها الإمام إدريس دولة زيدية بالمغرب، كان أخوه الإمام يحيى بن عبدالله قد توجه إلى الديلم من بلاد المشرق، فنشر بها المذهب الزيدي، وأسلم على يديه كثير من أهلها؛ ثم توسعت الزيدية بعد ذلك إلى طبرستان وجرجان ونيسابور من أعمال خراسان في زمن الإمام الداعي الكبير الحسن بن زيد منذ سنة 250هـ، ثم في زمن أخيه الإمام محمد بن زيد عليهما السلام.
وفي سنة 284هـ قام الإمام الناصر الأطروش بالجيل والديلم داعياً إلى الله، فدخلت جيلان في دعوته، ونشر الإسلام في تلك المناطق، بعد أن كان أهلها يعبدون الحجر والشجر، حتى بلغ عدد من أسلم على يديه ألف ألف نسمة، أي مليون نسمة، وتيسر على يديه تثبيت دعائم الدولة الكريمة القائمة على العدل والدين والكرامة منهاج سلفه منهاج الكتاب والسنة.
ثم جاء بعده الإمام الداعي الحسن بن القاسم، الذي أقام أَوَدَ الدين الحنيف في نيسابور والري ونواحيهما، وفي الجيل والديلم، ثم جاء بعده عدد من الأئمة كابنه الإمام أبي عبدالله الداعي والإمامين أبي طالب وأخيه المؤيد بالله وغيرهم؛ وعلى هذا المنوال تعاقب أئمة الزيدية على بلاد المشرق؛ ليبقى المذهب الزيدي قائماً فيها بعقائده ومبادئه، فبلغ أذربيجان وبيهق وخراسان وتركستان وغيرها من البلدان.
وأئمة الزيدية هم من نشروا الإسلام في المشرق الأقصى والمغرب الأقصى، بعدلهم وعلمهم وحسن دعوتهم، بعد أن كان ظلم الحكام قبلهم يحول دون انتشاره.
الزيدية في اليمن
وبالنسبة لليمن، فمؤسس الدولة الزيدية فيها هو الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهما السلام، والذي قدم إلى اليمن بدعوة من أهلها سنة 280هـ، وكانت هذه الخرجة الأولى، ثم كانت له خرجة ثانية في سنة 284هـ، فأقام الدين، وأحيا فرائضه، ووضع حجر الأساس لهذه الدولة الزيدية، واتخذ من صعدة عاصمة لحكمه، فأقام أكبر وأطول دولة عرفتها الزيدية، والتي استمرت - وهي في حالة مدٍّ وجزر- حتى ثورة 26 سبتمير، سنة 1962م .
لقد نشأت الدولة الزيدية - التي أسسها الإمام الهادي عليه السلام- في المناطق الشمالية من اليمن، وظل تواجدها لفترة طويلة محصوراً في هذه المناطق، مع بعض التمدد والانكماش؛ ثم بدأت في أوائل القرن الحادي عشر بالتغلغل في جنوب اليمن وتهامة حتى امتدت إلى حضرموت في أيام الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم عليهما السلام؛ كما توسعت هذه الدولة في أيام الإمام يحيى حميد الدين وابنه الإمام أحمد عليهما السلام، حتى شملت إب وتعز وبعض المناطق الجنوبية.
ومع أن الدولة الزيدية قد انتهت بعد ثورة 26 سبتمبر، فقد بقيت الزيدية - فكراً وعقيدة- هي المذهب السائد في أغلب مناطق اليمن الميمون، بفضل علماء أهل البيت المطهرين، وشيعتهم المخلصين، حتى قام منهم بالدعوة من قام بعد ذلك، وكان آخرهم مجدد الزيدية، وإمام زمانه، المولى الحجة مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي سلام الله عليه .
العلاقة بين زيدية اليمن وزيدية المشرق
ومن الجدير بالذكر أنه وبالرغم من بُعد المسافة بين المجتمع الزيدي في اليمن والمجتمع الزيدي في المشرق، إلا أنه ربطت بين المجتمعين علاقة وثيقة، وتبادل فكري كبير، وذلك من خلال قدوم علماء من الزيدية البيهقيين والطبريين وغيرهم إلى اليمن، ونقلهم لتراث الزيدية ومعارفها في تلك المناطق، والعكس.
زيدية مصر
وأيضاً فقد كان للزيدية تواجد في صعيد مصر في العصر المملوكي؛ فقد كان جماعة من الأشراف المتواجدين فيها بجميع فروعهم على مذهب الزيدية، ولكن هذا التواجد قد خف في عصر الظاهر بيبرس، الذي اتخذ أقصى الإجراءات لحصر القضاء في المذاهب السنية الأربعة في عام 663هـ، مما أدى لإزاحة الزيدية من الساحة المصرية؛ ومع ذلك فإن الزيدية لم تنتهِ في مصر، فقد ظل الأشراف على المذهب الزيدي مدة من الزمن؛ حيث يذكر أبو المحاسن(وهو مؤرخ مملوكي) في كتابه "النجوم الزاهرة" بأن أحد أهالي الصعيد حكى له: ((أن غالب مزارعي بلدتنا أشراف علوية))؛ وفي موضع آخر من "النجوم الزاهرة" يقول أبو المحاسن عن الأشراف العلوية بصعيد مصر:((كان معظمهم شيعة زيدية ويتجاهرون بذلك))؛ ويلاحظ أن بعضاً من قبائل آل البيت بمصر قد تحولوا إلى المذهب الإسماعيلي في العصر الفاطمي؛ وحالياً فإن أغلب قبائل آل البيت بمختلف فروعها بمصر سنية في مذهبها.
وهكذا كان تواجد الزيدية في العديد من البلدان على مر التأريخ الإسلامي، وليس ذلك إلا بجهود أئمة المذهب الزيدي وعلمائه وأتباعه؛ ولكن - وللأسف- فإن هذا الانتشار قد تقلص نتيجة ظروف الحكم في البلدان، وملابسات شتى سيأتي الكلام عنها، حتى لم يبقَ للزيدية وجود معتبر إلا في اليمن، مع تواجد بسيط في بعض الدول الأخرى.
أسباب اختفاء المذهب الزيدي من الكثير من البلدان
بلا شك أن لتقلص الفكر الزيدي واختفائه من الكثير من البلدان أسباب ومبررات، فمن غير المنطقي أن يصل هذا الفكر الأصيل، والقائم على الحجة والدليل إلى الكثير من البلدان ثم يتركه الناس، ولا يرغبون إليه؛ ويمكن للمتتبع للتأريخ الإسلامي عموماً والتأريخ الزيدي خصوصاً معرفة هذه الأسباب من خلال البحث والتتبع؛ ولنذكر خلاصة ذلك في عدد من النقاط:
· إن من الأسس التي يقوم عليها المذهب الزيدي كما ذكرنا سابقاً "وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على الظالم"، وبلا شك فإن هذا المبدأ قد عارض أهواء الحكام والسلاطين في الدولتين الأموية والعباسية وغيرهما؛ مما دعا هذه الدول إلى محاربة هذا الفكر أشد المحاربة، والسعي لإنهائه بشتى الطرق والأساليب، حتى قتل من قتل من أئمة الزيدية وأتباعهم، وشرد من شرد منهم، فكانوا متخفين في كثير من الأوقات، لا يأمنون على أنفسهم.
· الترهيبُ الفكري للدول ضد كل من ينتسب إلى الزيدية كان عاملاً في عدم رغبة الكثير في ظهور هذه النسبة؛ وقد دل على ذلك كلام محمد بن الحسن الشيباني الحنفي حين قال: "أنا زيدي إذا أمنتُ على نفسي، حنفي إذا خفت".[الهادي الوزير, نهاية التنويه في إزهاق التمويه، ص223].
· محاولة الدول لتشويه الزيدية وأئمتها، والكلام عنها بما ليس فيها، والادعاء عليها بالأكاذيب، حتى نفر البعض عنها.
· تبني الدول لغيره من المذاهب الإسلامية الأخرى, كتبني الحكام الأمويين في الأندلس للمذهب المالكي، وتبني الظاهر بيبرس في مصر للمذاهب السنية الأربعة, وتبني الدولة الصفوية في إيران للمذهب الجعفري, ثم فرض هذه المذاهب على رعيتها, كل هذا أدى إلى انحسار المذهب الزيدي عن تلك الدول.
· ضعف الحركة العلمية في الوسط الزيدي، وموت العلماء مع عدم اشتغال الأتباع بالعلم والمحافظة على قواعد المذهب, مما يجعل الخلف لا ينتسبون إليه إلا بالاسم, مما يؤدي إلى تلاشيه مع مرور الزمن.
سعي المذهب الزيدي لتحقيق الوحدة الإسلامية
ظل المذهب الزيدي خير داعية للوحدة الإسلامية، وترك ما يسبب الخلافات؛ لأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، ومن واجبات المسلمين تجاه هذا الدين العظيم، ومما ينبغي أن تلتفت إليه جميع المذاهب؛ ليكون الدين الإسلامي كما أراده الله سبحانه وتعالى، دين صفاء وتسامح ووحدة وسعة، لا دين إرهاب وتناحر وتقاطع وتدابر، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، {ولا تفرقوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، وغيرها من الآيات؛ وقد سعت الزيدية لتحقيق هذه الوحدة الإسلامية عدداً من المبادئ والأفكار؛ منها:
· النظر إلى مسائل الفروع أنها مسائل اجتهادية، لكل مجتهد فيها نصيب ورأي، فلا ينبغي الإنكار على المجتهد ما دامت له أدلته واجتهاده شرعي، والاهتمام بالأصول التي يقل أو يندر الخلاف فيها؛ لأن بالتمسك بها تتحقق الوحدة الإسلامية.
· أن من قواعد الزيدية أنه لا يجوز التكفير أو التفسيق إلا بدليل قطعي، وهذا يوقف الإنسان عند حده، وهو ما تحتاجه وحدة الأمة.
· أن الزيدية بعيدة عن السباب والشتم للمخالفين لها من المذاهب الأخرى، أو التعدي عليها بما لا يجوز من القول أو الفعل.
· الدعوة إلى الوحدة الإسلامية في المؤتمرات والاجتماعات العلمائية في مختلف الدول، وكان آخرها دعوة الدكتور المرتضى المحطوري في أحد المؤتمرات، التي دعا فيها علماء المذاهب للكتابة عن مذاهبهم- فصاحب البيت أدرى بالذي فيه-؛ بحيث تكون هذه الكتابات هي المعتمد، ومن خلالها يتم النقد والنظر إلى كل مذهب.
· وضوح المذهب الزيدي، وعدم إحاطته بالأغشية المبهمة، وجلاء عقائده.
· التعايش مع المذاهب المختلفة، وترك التحجر والعصبية، كما عرف ذلك من مئات السنين، كتعايش الزيدية مع الشافعية في اليمن، وغير ذلك.
الزيدية دستور دولة
الزيدية واسطة عقد الاعتدال الذي لو نظر إليه المنصفون بعقائده وفروعه لوجدوه قنطرة الوصول إلى جمع شتات هذه الأمة، ففي ظل الدول الزيدية التي قامت في مختلف البلدان عبر العصور عاشت المذاهب المختلفة معها مطمئنة آمنة، لا تخاف على عقائدها، ولا تجبر على ترك آرائها.
والزيدية جديرة بأن تكون دستور دولة لما تحمل من عقائد وقواعد تأهلها لذلك؛ فمن خلال الاجتهاد - مثلاً- استطاعت الزيدية أن تجعل الصدور واسعة رحبة، تتقبل الآراء المختلفة ما دامت من علماء مجتهدين واجتهادهم شرعي.
وأيضاً فإن من قواعد الزيدية الجمع بين الأدلة التي يكون ظاهرها التعارض، ولا يخالف واحد منها دليلاً قطعياً، وغيرها من القواعد التي يتسم بها المذهب الزيدي مما بها يُلمُّ شمل الأمة، ويزول تشتتها.
وبهذا يتحقق أن الزيدية دستور للشعوب، وقانون تعبر من خلاله المذاهب إلى الوحدة الإسلامية.