بلغ حديث الغدير في تواتره درجة لم تبلغها غيره من الأحاديث والأخبار؛ كيف لا؟! وقد زادت طرقه عن المائة والسبعين طريقاً، وروي عمَّا يقارب الثلاثين صحابياً؛ ومن أجل هذا لم يستطع الكثير ـ ممَّن لا يفضل الإمام علي عليه السلام، ولا يقول بوصيته ـ ردَّ هذا الحديث أو تكذيبه، ولكنَّ حيلهم لم تنقطع فأخذوا يتأولون الحديث ويخرجونه إلى غير طريقه، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يُرِد ـ بقوله: (فعلي مولاه) ـ الولايةَ العامة التي هي بمعنى الطاعة لولي أمر المسلمين، فتثبت بذلك الوصية للإمام علي عليه السلام، ولكنهم عدلوا عن هذا القول فقالوا: إن معنى الولاية هنا هي المحبة فقط، فيكون المقصود من الحديث هو أن نحب الإمام علي عليه السلام، وليس المقصود الوصاية بالإمارة والخلافة والإمامة.
وهنا سنبحث ونناقش عمَّ إذا كان حديث الغدير دليلاً على خلافة ووصاية الإمام علي عليه السلام، وأن معنى الولاية فيه هي الطاعة والسيادة، أم أن المقصود من الحديث هو المحبة فقط؟!
أولاً: مقام حديث الغدير
من المعلوم أن حديث الغدير كان له مقام تميز به عن غيره من الأحاديث، فقد روي في كتب التأريخ والحديث وغيرها من كتب المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كان بغدير خم نزلت عليه الآية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ.. } [المائدة:67]، فاستوقف الرسول صلوات الله عليه وعلى آله الناس وقام فيهم خطيباً، ثمَّ أخذ بيد علي عليه السلام ورفعها، حتى رأى بعضهم بياض إبطه؛ ثم قال: ((ألست أولى بكم من أنفسكم؟)). قالوا: اللهم نعم. فقال: ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)).
فإذا كان المقام هكذا، فعلينا أن نلاحظ أمرين مهمين:
1- أي فريضة وأي أمر واجب كان له هذا الخطر وهذا القدر من الأهمية حتى يستوقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس ولا ينتظر حتى يبلغ وجهته، فيقوم خطيباً في ذلك الجمع الكبير، لم يكن هذا لأي فريضة، لا للصلاة التي هي الفارقة بين الإيمان والكفر، ولا للصوم الذي هو جنة من النار، ولا لغيرها من الفرائض المفترضة التي لا يتم إيمان المرء إلا بالتزامها، فإذا كان كذلك فلا بد أن هذا الأمر أعظم وأخطر من كل هذه الفرائض، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر هو أن يؤمر الناس بمحبة الإمام علي عليه السلام فقط، فهذا لا يستحق أن يستوقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس ليقوم فيهم خطيبا، وخصوصا أنه وجب بالأحاديث العامة حب المؤمن ومناصرته ولا شك أن الإمام علي عليه السلام داخل في هذه الأحاديث، فلماذا إذاً حديث الغدير؟! لن نجد جواباً لهذه التساؤلات إلا أن يكون الأمر الذي يستحق كل هذا الاهتمام هو الأمر الذي به يقام الدين، وتطبق الشرائع، وهو الخلافة وإمارة المسلمين، فيكون الإمام علي عليه السلام هو الخليفة وهو الإمام المفترضة طاعته.
2- ورد في الحديث سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ألست أولى بكم من أنفسكم؟)، فكان جوابهم: اللهم نعم. وهو موافق لقوله تعالى: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم..}[الأحزاب:6]. ومن المتفق عليه عند المسلمين أن ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست مجرد محبته، وأن ولايته لا تتم إلا بطاعته والتزام أمره، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يقول: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)، قد قدم قوله: (ألست أولى بكم من أنفسكم؟)، فلا شك أنه أراد أن تكون ولاية الإمام علي عليه السلام كولايته هو، وإلا فما الفائدة من تقديمه لهذا السؤال وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى؟!
ثانيا: معاني لفظة "مولى"
اعلم أن أكثر ما قيل أو وجد في لفظة مولى أنها تحتمل عشرة معان:
أولها: الأولى وذلك ثابت في اللغة, ذكر ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى في تفسير قوله تعالى: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير}. [الحديد:15] قال معنى مولاكم: أي هي أولى بكم على ما جاء في التفسير، هذا وليس أبو عبيدة متهماً بالتقصير في علم اللغة، ولا مظنونا به الميل إلى أمير المؤمنين عليه السلام بل هو معدود في جملة الخوارج.
وقد شاركه في هذا التفسير ابن قتيبة، ومعلوم أنه لا ميل له إليه بل هو مائل عنه، إلا أنه لو علم أن الحق في غيره لقاله.
وذكر المبرد في الكامل [ج3/ص1410]: أن الولي هو الأحق والأولى، قال: ومثله المولى.
ثانيها: مالك الرق, قال تعالى: {وهو كلا على مولاه}: أي مالك رقه، وهو ظاهر.
ثالثها: المعتِق، وهذا واضح.
رابعها: المعتَق، وهذا واضح أيضاً.
خامسها: ابن العم, قال تعالى: {وإني خفت الموالي من ورائي}، يعني بني العم، ومنه قول الفضل بن العباس العباسي:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
سادسها: الناصر, قال الله تعالى: {فإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه.. }[التحريم:4]: أي ناصره.
وقال تعالى: {ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا وأن الكافرين لا مولى لهم}. [محمد:11]، يريد لا ناصر لهم.
سابعها: المتولي المتضمن الجريرة، وتحوز الميراث، قد ذكره بعض الناس.
ثامنها: الحليف, قال الشاعر:
موالي حلف لا موالي قرابة...
وقال آخر:
كانوا موالي حلف يطلبون به ... فأدركوه وما ملوا وما وهنوا
تاسعها: الجار, قال الشاعر:
مولى اليمين ومولى الجار والنسب ...
عاشرها: الإمام السيد المطاع
قال الإمام المنصور عبد الله بن حمزة عليه السلام في الشافي: "وهذه المعاني التسعة بعد الأَولَى إذا تؤمل المعنى فيها وجد راجعا إلى معنى "الأَولَى"؛ لأن مالك الرق لما كان أولى بتدبير عبده من غيره كان مولاه دون غيره. والمعتِق لما كان أولى بميراث المعتَق من غيره كان لذلك مولاه، والمعتَق لما كان أولى بمعتِقه في تحمل جريرته وألصق به من غيره كان لذلك مولاه، وابن العم لما كان أولى بالميراث ممن بعد عن نسبه وأولى بنصرة ابن عمه من الأجنبي كان مولاه لأجل ذلك، والناصر لما اختص بالنصرة فصار بها أولى كان من أجل ذلك مولى، والمتولي المتضمن الجريرة لما ألزم نفسه ما يلزم المعتِق كان بذلك أولى ممن لم يقبل الولاء، وصار به أولى بميراثه فكان لذلك مولى، والحليف لاحق في معناه بالمتولي فلهذا السبب كان مولى، والجار لما كان أولى بنصرة جاره ممن بعد من داره، وأولى بالشفعة في عقاره؛ فلذلك صار مولى. والإمام السيد المطاع لما كان بتدبير الرعية، وملك التصرف عليهم وطاعتهم له مما يماثل الواجب بملك الرق كان لذلك مولى؛ فصارت جميع هذه المعاني كما ترى ترجع إلى معنى الوجه الأول، وتكشف عن صحة معناه على الوجه الذي ذكرناه في حقيقته، ووصفناه".
وإذا ثبت ذلك فإنه يفيد معنى الإمامة؛ لأنا لا نعني بقولنا فلان إمام إلا أنه أولى من غيره بالتصرف على الكافة في أمور مخصوصة، وبتنفيذ أحكام معلومة.[انظر ينابيع النصيحة]
الخلاصة:
فإذا كان لحديث الغدير هذه القيمة؛ حتى اهتم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الاهتمام، وإذا ثبت بما قدمنا أن معنى الولاية في الحديث هي الخلافة والرئاسة، فلن يكون أمام المتأولين إلا أن يسلموا أن الإمام علياً عليه السلام هو الوصي والخليفة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنص الذي لا يشوبه شك ولا تعتريه شبهة، وأنه السيد المطاع الذي تجب الولاية له، فينصر الله ناصره، ويخذل خاذله، ولن يكون لعدوه من دون الله ولياً ولا نصيراً.