.
 
16-22-2018

شآبيب الرحمة 

كيف لا تهطل تلك الرحمة، ولا ينشر ذلك العبير، ولا يتدفق ذاك الفيض، والنبي الكريم إنما من أجلها بعث، وبها اختير، ومن أجلها اصطفي على سائر البشرية. 

وكيف ولا والله يقول "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" فهنا الغاية، "فبما رحمة من الله لنت لهم " وهنا كانت البداية.

فمن أعظم صور الرحمة التي تجلت في النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بالناس أنه كان يتعب نفسه ويجهدها في إقناع قومه من قريش في الدخول الى الإسلام وتوحيد الله ، وقد وصف الله تلك الحالة التي هو عليها بقوله: "(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا). قد أوشك أو قارب أن يهلك نفسه تحسرا وأسفا لما هم فيه من الشرك والغي والضلال والتيه والبعد، فكان النبي يذهب إلى مجالسهم ونواديهم يدعوهم فيها إلى الإسلام، بل ما ترك وسلية أو طريقة يظن أنها قد تؤثر أو تنفع إلا وسلكها، وما فتئ النبي يقول ويردد: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعملون". 

لا تُنسى تلك الرحمة الفياضة التي تجلت في ذلك المشهد المؤثر الذي حدث حينما ذهب النبي صلى الله عله وآله وسلم إلى الطائف بعد أن اشتدت أذية قريش له بعد وفاة عمه أبي طالب أكبر مناصر له ومدافع عنه من قريش، خرج إليهم يدعوهم  إلى الإسلام لعله أن يجد من يقبل الدعوة ويؤمن بالرسالة ويوحد الله، فما كان منهم إلا أن  سفهوه، وكذبوه، وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم، فرجموا النبي الكريم بالحجارة حتى سال الدم من قدميه، عندها التجأ إلى حائط بستان ﻭﺗﻮﺟﻪ نبينا الكريم ﺇﻟﻰ ﺭﺑﻪ ﺑﻬﺬا اﻟﺪﻋﺎء اﻟﺬﻱ ﻳﻔﻴﺾ بالإيمان والخشوع والتضرع والابتهال للمولى الجليل، ﻭيدل على أن رضى الله هو الغاية والنهاية، وأنه لا يبالي بأي شيء يناله من أجل الله وفي سبيله.

فقال بخضوع وسكينة: "((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصَلُح عليه أمر الدنيا والآخرة مِنْ أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاّ بك))." عندها ناداه ملك من الملائكة، ﻓﺴﻠﻢ عليه، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ : ﻳﺎ ﻣﺤﻤﺪ ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻗﺪ ﺳﻤﻊ ﻗﻮﻝ ﻗﻮﻣﻚ ﻟﻚ ، ﻭقد ﺑﻌﺜﻨﻲ ﺭﺑﻲ ﺇﻟﻴﻚ ﻟﺘﺄﻣﺮﻧﻲ ﺑﺄﻣﺮﻙ ، ﻓﻤﺎ ﺷﺌﺖ، ﺇﻥ ﺷﺌﺖ ﺃﻃﺒﻘﺖ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻷﺧﺸﺒﻴﻦ ".عند ذلك ﻘﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ - ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ وآله ﻭﺳﻠﻢ ﺑﻞ ﺃﺭﺟﻮ ﺃﻥ ﻳﺨﺮﺝ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺃﺻﻼﺑﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻌﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ ﻻ ﻳﺸﺮﻙ ﺑﻪ ﺷﻴﺌﺎ. وهنا تتجلى مضامين الرحمة وعظمة هذا النبي الكريم في أنصع صورة وأبهى حلة، وأنه كما أخبر عنه الله رحمة للعالمين.

 ومن أمثلة الرحمة  في نبينا الكريم ذات مرة كان يقبل ولديه الحسن والحسين فرآه أعرابي فقال له " إني لي عشرة من الأبناء ما قبلت واحد منهم فقال له النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم : وما أدراني لعل الله نزع الرحمة من قلبك. وكانت أمامة بنت زينب بنت رسول تصعد على ظهره وهو يصلي فكان لايقوم حتى تنزل رحمة بها وشفقة.

مخائل التواضع   

-كان النبي الكريم صلى الله عليه واله وسلم من اكثر الناس تواضعا لله ومع خلقه فقد كان النبي   يجلس بين أصحابه كأحدهم حتى إن الغريب إذا جاء كان يسأل أيكم رسول الله؟ وكانت بيوت النبي مثل بيوت أصحابه أو دونها مبنية من اللبن ومسقوفة بجريد النخل، وكان يجيب دعوة من دعاه ولو كان من أوضع الناس أو أفقرهم فيدخل بيوتهم ويأكل من طعامهم ويدعو لهم، ويصلي ركعتين في مكان من البيت ليتخذوه مصلى.

وكان العبد يأخذ بيد النبي الكريم فيذهب به حيث يشاء لا يأنف من ذلك ولا يترفع، وكان يجلس على الأرض ويأكل على الأرض، وكان يجلس مثل جلوس العبد تواضعاً منه. 

-أرسل الله ﻣﻠﻜﺎ ﻣﻦ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻭﻣﻌﻪ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﻤﻠﻚ ﻟﺮﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ: ((ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﻳﺨﻴﺮﻙ ﺑﻴﻦ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻋﺒﺪا ﻧﺒﻴﺎ، ﻭﺑﻴﻦ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻣﻠﻜﺎ ﻧﺒﻴﺎ، ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺇﻟﻰ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻛﺎﻟﻤﺴﺘﺸﻴﺮ ﻟﻪ، ﻓﺄﺷﺎﺭ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﺃﻥ ﺗﻮاﺿﻊ، ﻓﻘﺎﻝ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ﻻ، ﺑﻞ ﺃﻛﻮﻥ ﻋﺒﺪا ﻧﺒﻴﺎ، ﻗﺎﻝ: ﻓﻤﺎ ﺃﻛﻞ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺑﻌﺪ ﺗﻠﻚ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻃﻌﺎﻣﺎ ﻣﺘﻜﺌﺎ ﺣﺘﻰ ﻟﻘﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ" فأعظم به من تواضع وأكرم به من نبي.

-ومما يدل على أن التواضع سمة قد اتشح بها النبي الكريم، وغلبت خلقه وطبعه، وصارت أنموذج حياته، ذات مرة ﻟﺒﺚ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻳﺎﻡ ﻟﻢ ﻳﻄﻌﻢ ﺷﻴﺌﺎ، ﻓﺨﺮﺝ على الناس في اﻟﻴﻮﻡ اﻟﺮاﺑﻊ ﻣﺴﺘﺒﺸﺮا ﻣﺴﺮﻭﺭا، فقيل ﻟﻪ: ﺳﺮﻙ اﻟﻠﻪ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﻗﺮ ﻋﻴﻨﻴﻚ ﻗﺎﻝ: "ﻧﻌﻢ ﺟﺎءﻧﻲ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺓ ﻟﻢ ﻳﺄﺗﻨﻲ ﻓﻲ ﻣﺜﻠﻬﺎ ﻗﻂ، ﺷﻌﺮﻩ ﻛﺎﻟﻤﺮﺟﺎﻥ ﻭﻟﻮﻧﻪ ﻛﺎﻟﺪﺭ، ﺑﺮاﻕ اﻟﺜﻨﺎﻳﺎ، ﻋﻠﻰ ﻓﺮﺱ ﻣﻦ ﺃﻓﺮاﺱ اﻟﺠﻨﺔ، ﺳﺮﺟﻪ ﻣﻦ ﺫﻫﺐ ﻭﻟﺠﺎﻣﻪ ﻣﻦ ﺫﻫﺐ، ﺗﺤﺘﻪ ﻗﻄﻴﻔﺔ ﻣﻦ ﺇﺳﺘﺒﺮﻕ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺇﻥ اﻟﺴﻼﻡ ﻳﻘﺮﺅﻙ اﻟﺴﻼﻡ ﻭﻳﻘﻮﻝ ﻟﻚ: ﺃﺗﺤﺐ ﺃﻥ ﻳﺠﻌﻞ ﻟﻚ ﺗﻬﺎﻣﺔ ﺫﻫﺒﺎ ﻭﻓﻀﺔ ﺗﺰﻭﻝ ﻣﻌﻚ ﺣﻴﺚ ﺗﺰﻭﻝ، ﻭﻻ ﻳﻨﻘﺼﻚ ﺫﻟﻚ ﻣﻤﺎ ﻭﻋﺪﺗﻚ ﻓﻲ اﻵﺧﺮﺓ ﺟﻨﺎﺡ ﺑﻌﻮﺿﺔ، ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: ﻫﻞ ﺃﻋﻤﺮ ﻣﺎ ﺧﺮﺏ اﻟﻠﻪ، ﻳﺎ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﺇﻥ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺩاﺭ ﻣﻦ ﻻ ﺩاﺭ ﻟﻪ، ﻭﻣﺎﻝ ﻣﻦ ﻻ ﻣﺎﻝ ﻟﻪ، ﻭﻳﺠﻤﻌﻬﺎ ﻣﻦ ﻻ ﻋﻘﻞ ﻟﻪ، ﻓﻘﺎﻝ ﺟﺒﺮﻳﻞ: ﻭﻓﻘﻚ اﻟﻠﻪ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻟﻘﺪ ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﺑﻜﻼﻣﻚ ﻫﺬا ﺇﺳﺮاﻓﻴﻞ ﺗﺤﺖ اﻟﻌﺮﺵ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺁﺗﻴﻚ ".

نعم لقد رضي النبي أن يكون عبدا نبيأ، وأن يعيش حياة طبيعية بين الناس كأحدهم يجوع يوما ويشبع يوما على الرغم من أن ذلك لا ينقص من أجره، ولا يقلل من شأنه.

-وأيضا من الأمثلة على تواضعه الجم وخلقه الرفيع عندما اذن الله للنبي الكريم صلى الله عليه وآله أن يفتح مكة دخلها وهو مطأطأ رأسه تواضعا لله واستحياء منه حتى كاد ذقنه يلامس ظهر فرسه. 

شرف الصدق

هذه الصفة هي التي تميز بها النبي الكريم في قومه، واشتهر بها قبل النبوة، وصارت علما يطلقه عليه الناس من حوله، ويدعونه به، فكانوا إذا رأوه يقولون هذا الصادق الأمين. يدل على ذلك أنه لما بنت قريش الكعبة اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود، فاتفقوا على أن يكون أول داخل عليهم، فما هي إلا لحظات حتى كان النبي الكريم هو أول داخل على القوم فقالوا هذا الصادق الأمين رضينا به. 

-ومما يدل أيضا على أنه لا يمارى في هذه الفضيلة إقرارأعداءه بهذه الصفة؛ لذا احتج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قريش بما تقره فيه من الصدق، لما جمعهم قال لهم "ﺃﺭﺃﻳﺘﻜﻢ ﻟﻮ ﺃﺧﺒﺮﺗﻜﻢ ﺃﻥ ﺧﻴﻼ ﺑﺎﻟﻮاﺩﻱ ﺗﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﺗﻐﻴﺮ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﺃﻛﻨﺘﻢ ﻣﺼﺪﻗﻲ؟» ﻗﺎﻟﻮا: ﻧﻌﻢ، ﻣﺎ ﺟﺮﺑﻨﺎ ﻋﻠﻴﻚ ﺇﻻ ﺻﺪﻗﺎ، ﻗﺎﻝ: "ﻓﺈﻧﻨﻲ ﻧﺬﻳﺮ ﻟﻜﻢ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ ﻋﺬاﺏ ﺷﺪﻳﺪ". فلولا أنه بهذه الصفة لما صح له أن يخبرهم كذلك.

نداوة الحلم 

-لقد كان النبي الكريم الغاية العظيمة في الحلم فقد صفح عن قريش الذين عادوه أشد العدواة، وآذوه أفظع الإيذاء، وعذبوا أصحابه، ونكلوا بالمؤمنين، وطردوه من بيته، وأخرجوه من أحب البقاع إليه، فما كان منه إلا أن عفا عنهم، وفي ذلك اليوم عندما دخل مكة قال لهم "يا قريش ما تظنون أني فاعل بكم" قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. 

-لما أسر المسلمون بعضا من المشركين في غزوة بدر أطلق النبي الكريم سراحهم، وفك قيدهم، ولم يأخذ منهم شيئا.

عظم السخاء

 ﻛﺎﻥ النبي يتصدق كثيرا، ﻭﻛﺎﻥ ﺃﺟﻮﺩ ﺑﺎﻟﺨﻴﺮ ﻣﻦ اﻟﺮﻳﺢ اﻟﻤﺮﺳﻠﺔ، وكان أجود ما يكون في رمضان، وﻜﺎﻥ ﻳﻌﻄﻲ ﻋﻄﺎء ﻣﻦ ﻻ ﻳﺨﺸﻰ اﻟﻔﺎﻗﺔ؛ ولهذا لما قسم الغنائم بعد معركة حنين فكان يعطي الخمسين والمئة من الإبل يتألف بها القلوب سمع الناس بذلك فأقبل أليه جمع غفيرحتى أنهم نازعوه رداءه، وﺃﻋﻄﻰ ﺭﺟﻼ مالا ﻓﺮﺟﻊ اﻟﺮﺟﻞ ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻣﻪ ﻭﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﻗﻮﻣﻲ ﺃﺳﻠﻤﻮا ﻓﺈﻥ ﻣﺤﻤﺪا ﻳﻌﻄﻲ ﻋﻄﺎء ﻻ ﻳﺨﺸﻰ اﻟﻔﺎﻗﺔ.

وشاح الزهد

كان النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ﺃﺯﻫﺪ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﻲ اﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻓﻘﺪ ﺛﺒﺖ عنه أﻧﻪ كان يضطجع ﻋﻠﻰ اﻟﺤﺼﻴﺮ ﻓيؤﺛﺮ ﻓﻲ ﺟﻨﺒﻪ، وما شبع يومين متتاليين قط بل كان يجوع يوما ويشبع يوما، وذات مرة ﺃﺗﻲ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺑﻘﻌﺐ ﺃﻭ ﻗﺪﺡ ﻓﻴﻪ ﻟﺒﻦ ﻭﻋﺴﻞ ﻓﻘﺎﻝ النبي الكريم : "ﺇﺩاﻣﺎﻥ ﻓﻲ ﺇﻧﺎء ﻻ ﺁﻛﻠﻪ ﻭﻻ ﺃﺣﺮﻣﻪ".

-ومما يدل عظيم زهده أنه ذات مرة اﻟﺘﻔﺖ ﺇﻟﻰ ﺃٌﺣُﺪ ﻭﻗﺎﻝ: ((ﻭاﻟﺬﻱ ﻧﻔﺴﻲ ﺑﻴﺪﻩ ﻣﺎ ﻳﺴﺮﻧﻲ ﺃﻥ ﺃﺣُﺪا ﻳﺘﺤﻮﻝ ﻵﻝ ﻣﺤﻤﺪ ﺫﻫﺒﺎ ﺃﻧﻔﻘﻪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﻣﻮﺕ ﻳﻮﻡ ﺃﻣﻮﺕ ﻭﻋﻨﺪﻱ ﻣﻨﻪ ﺩﻳﻨﺎﺭاﻥ ﺃﺭﺻﺪﻫﻤﺎ ﻟﺪﻳﻦ ﺇﻥ ﻛﺎﻥ)) ﻗﺎﻝ ابن عباس: ﻓﻤﺎﺕ ﻭﻣﺎ ﺗﺮﻙ ﺩﻳﻨﺎﺭا ﻭﻻ ﺩﺭﻫﻤﺎ ﻭﻻ ﻋﺒﺪا ﻭﻻ ﻭﻟﻴﺪﺓ، ﻭﺗﺮﻙ ﺩﺭﻋﻪ ﻣﺮﻫﻮﻧﺔ ﻋﻨﺪ ﻳﻬﻮﺩﻱ ﺑﺜﻼﺛﻴﻦ ﺻﺎﻋﺎ ﻣﻦ شعير.

حلاوة العبادة

-كان النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أكثر الناس خشية وعبادة، فقد كان يتعبد لله من قبل النبوة في غار حراء، ومن بعدها كان يفرغ ثلث وقته للابتهال والدعاء والمناجاة والصلاة والعبادة حتى أنه من كثرة تعبده لله وقيامه بين يديه تتورم قدماه فكان يقال له: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺃﻟﻴﺲ ﻗﺪ ﻏﻔﺮ اﻟﻠﻪ ﻟﻚ ﻣﺎ ﺗﻘﺪﻡ ﻣﻦ ﺫﻧﺒﻚ ﻭﻣﺎ ﺗﺄﺧﺮ، فيجيب: ﺃﻓﻼ ﺃﻛﻮﻥ ﻋﺒﺪا ﺷﻜﻮﺭا.

وكان يسمع للنبي صوت كأزيز المرجل من خشية الله وخوفا من الخالق الجليل، وكان سريع العبرة غزير الدمعة، يبكي ويكثر البكاء حينما يناجي ربه، ويسبح في ملكوت عظمته، ويحلق في أجواء هيبته.

كرم التعامل 

كان من شيمه في سيرته طول حياته المباركة الإغضاء عن عيوب أصحابه ومساويهم ، ويقبل أعذار المذنبين إذا اعتذروا من غير مناقشة ولا مساءلة حتى اتهمه المنافقون بالغبى وقلة التمييز كما حكاه الله تعالى في قوله : ((ويقولون هو أذن ...))أي أنه يسمع ويقبل كل ما يقال له ويستجيب لذلك من غير تمييز ، ولم يعرف المنافقون أن ذلك إنما صدر منه عن كرم أخلاقه، وعظيم شيمته ، وعن أدب عظيم تلقاه من ربه كما في قوله تعالى : ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ...)) 

وكان يحاول تطييب خواطر أصحابه وجرت عادته وسنته الموافقة لأصحابه في رأيهم، ولو كان رأيهم خلاف رأيه، إذا لم يكن هناك في القضية حكم من الله وذلك كما في قصة أسرى بدر حينما رأى النبي رغبة أصحابه إلا القليل في ألفداء وميلهم إليه ومحبتهم له لما هم فيه من ألفقر والحاجة رق لهم، ونزل عند رغبتهم، لأنه لم ينزل عليه قرآن يحرم ألفداء لذلك نزل عند رغبتهم.

وكان فداء الأسير خاصاً بالذي أسره، لا يشاركه فيه غيره ، فلم يأخذ النبي شيئاً في الفداء، لأنه لم يكن له أسير، ولم يرو أنهم خمسوا ألفداء فنزل قوله تعالى: (ما كان لنبيئ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيباً ...الآية) فنبه  الله تعالى بذلك المسلمين ليعرفوا خطأهم، وأنه كان الأولى بهم و الأجدر أن يقتلوا أسراهم، وأن لا يختاروا ألفداء الذي هو منفعة عاجلة دنيوية على المصلحة الدينية التي هي إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله ، وأنه ما كان ينبغي أن يحصل مثلما فعلتم من فداء الإسراء إلا بعد أن يذل الشرك والمشركون بكثرة القتل فيهم وألفتك بهم .. فالصحابة هم الذين أخذوا ألفداء دون النبي، وقد كان النبي يشاور أصحابه فيما لم ينزل فيه شيء، فشاور النبي أصحابه في أسرى بدر، فأشار كلهم تقريباً في أخذ ألفداء، فوافقهم، ونزل عند رغبتهم، وكان شديد الشفقة والرحمة بهم. وكما وافقهم في غزوة أحد في الخروج من المدينة، فخرج منها وهو كاره للخروج نزولاً عند رغبة أصحابه.

وكان يتنازل عن حقوقه الخاصة فلا يؤاخذ أصحابه عليها، ويستحي من المطالبة بها حتى يكون الله تعالى هو الذي يطالب بها لنبيه الكريم ((.... إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق)) ، ((لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض...))

وكان يمنع نفسه الشيء المباح أذا رأى من يتأذى بذلك منه تطييبا للخاطر وكرم أخلاق منه صلوات الله عليه وآله. وذلك كما منع نفسه من العسل وحرمه على نفسه حينما اشتكت منه زوجتاه عائشة وحفصة فحلف لا أكل منه، فعند ذلك عاتبه الله ونزل قول تعالى ("يا أيها النبي لم تحم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك....")

وكان   يغضي عما يصدر من المنافقين كما يغضي عن المؤمنين، ولم تختلف معاملته لهم عن معاملته للمؤمنين، وشاهد ذلك ما اشتهر عنه يوم مات عبد الله بن إبي رأس المنافقين ورئيسهم فإن النبي شيع جنازته وأعطاهم قميصه ليكفنوه فيه وصلى عليه صلاة الجنازة ووقف على قبره حتى قبر، وكان ذلك قبل أن ينهاه الله تعالى عن الصلاة على المنافقين.

ومع هذه الشيم العالية والأخلاق الكريمة كان لا يتساهل ولا يغضي عن تنفيذ ما أمره الله تعالى به من إقامة الحدود والقصاص والحكم بالعدل وإقامة الفرائض والأحكام والشرائع. 

وكان يتفقد أصحابه فإذا افتقد أحدهم سأل عنه فإن كان مريضاً عاده، وإن مات شهد جنازته وصلى عليه، وإن سافر دعا له بخير.

وكان إذا رأى متنازعين أصلح بينهم، وكان يخرج من المدينة ليصلح بين المتنازعين.

وكان عظيم الشفقة والرحمة والنصيحة بأصحابه شديد التلطف بهم حتى في تبليغ الأحكام إليهم، فإذا كان في تبليغهم بعض الأحكام ما قد ينفرهم شيئاً من التنفير اختار لذلك الوقت المناسب وألقاه إليهم بألطف العبارات وأخفها. 

وكان لا يوبخ ولا يعنف من أخطأ بل يتعامل بالرفق واللين مثل ما حدث مع ذلك الأعرابي الذي بال في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعندما رآه أصحاب النبي هموا به، فقال له أصحاب النبي : مه مه، فمنعهم النبي أن يتعرضوا له بسوء، ثم أقبل النبي الكريم على الأعرابي ينصحه ويعلمه بكل رفق ولين،  فقال: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة. وكذلك تعامل النبي مع ذلك الرجل الذي جاء اليه وطلب منه أن يأذن له في الزنى، لم يوبخه النبي الكريم أو ينهره، بل تعامل معه بكل لطف، وعالج موضوعه بإسلوب فريد ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ:"اﺩﻧﻪ"، ﻓﺪﻧﺎ ﻣﻨﻪ ﻗﺮﻳﺒﺎ، ﻗﺎﻝ: "ﺃﺗﺤﺒﻪ ﻷﻣﻚ؟ " ﻗﺎﻝ: ﻻ ﻭاﻟﻠﻪ، ﺟﻌﻠﻨﻲ اﻟﻠﻪ ﻓﺪاءﻙ، ﻗﺎﻝ: "ﻭﻻ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﺤﺒﻮﻧﻪ ﻷﻣﻬﺎﺗﻬﻢ". ﻗﺎﻝ: "ﺃﻓﺘﺤﺒﻪ ﻻﺑﻨﺘﻚ؟ " ﻗﺎﻝ: ﻻ ﻭاﻟﻠﻪ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺟﻌﻠﻨﻲ اﻟﻠﻪ ﻓﺪاءﻙ. ﻗﺎﻝ: "ﻭﻻ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﺤﺒﻮﻧﻪ ﻟﺒﻨﺎﺗﻬﻢ". ﻗﺎﻝ: "ﺃﻓﺘﺤﺒﻪ ﻷﺧﺘﻚ؟ " ﻗﺎﻝ: ﻻ ﻭاﻟﻠﻪ ﺟﻌﻠﻨﻲ اﻟﻠﻪ ﻓﺪاءﻙ. ﻗﺎﻝ: "ﻭﻻ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﺤﺒﻮﻧﻪ ﻷﺧﻮاﺗﻬﻢ". ﻗﺎﻝ: "ﺃﻓﺘﺤﺒﻪ ﻟﻌﻤﺘﻚ؟ " ﻗﺎﻝ: ﻻ ﻭاﻟﻠﻪ، ﺟﻌﻠﻨﻲ اﻟﻠﻪ ﻓﺪاءﻙ. ﻗﺎﻝ: "ﻭﻻ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﺤﺒﻮﻧﻪ ﻟﻌﻤﺎﺗﻬﻢ". ﻗﺎﻝ: "ﺃﻓﺘﺤﺒﻪ ﻟﺨﺎﻟﺘﻚ؟ " ﻗﺎﻝ: ﻻ ﻭاﻟﻠﻪ ﺟﻌﻠﻨﻲ اﻟﻠﻪ ﻓﺪاءﻙ. ﻗﺎﻝ: "ﻭﻻ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﺤﺒﻮﻧﻪ ﻟﺨﺎﻻﺗﻬﻢ". ﻗﺎﻝ: ﻓﻮﺿﻊ ﻳﺪﻩ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻗﺎﻝ: "اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﺫﻧﺒﻪ، ﻭﻃﻬﺮ ﻗﻠﺒﻪ، ﻭﺣﺼﻦ ﻓﺮﺟﻪ"، فخرج الفتى من عند رسول ولديه قناعة كبيرة ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻳﻠﺘﻔﺖ ﺇﻟﻰ ﺷﻲء. 

مكارم أخلاقه العظيمة

ﻣﺎ ﻋﺎﺏ ﻃﻌﺎﻣﺎ ﻗﻂ ﺇﻥ اﺷﺘﻬﺎﻩ ﺃﻛﻠﻪ، ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﺸﺘﻬﻪ ﺗﺮﻛﻪ، ﻭﻳﺄﻛﻞ ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎﻡ اﻟﻤﺒﺎﺡ ﻣﺎ ﺗﻴﺴﺮ ﻭﻻ ﻳﺘﻜﻠﻒ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ،

 كان ﻳﻘﺒﻞ اﻟﻬﺪﻳﺔ ﻭﻳﻜﺎﻓﺊ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻭﻻ ﻳﻘﺒﻞ اﻟﺼﺪﻗﺔ، ﻭكان ﻳﺨﺼﻒ ﻧﻌﻠﻴﻪ ﻭﻳﺮﻗﻊ ﺛﻮﺑﻪ، ﻭﻳﺨﺪﻡ ﻓﻲ ﻣﻬﻨﺔ ﺃﻫﻠﻪ، ﻭﻳﺤﻠﺐ ﺷﺎﺗﻪ، ﻭﻳﺨﺪﻡ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﻛﺎﻥ ﺃﺷﺪ اﻟﻨﺎﺱ ﺗﻮاﺿﻌﺎ، ﻳﺠﻴﺐ اﻟﺪاﻋﻲ: ﻣﻦ ﻏﻨﻲ ﺃﻭ ﻓﻘﻴﺮ، ﺃﻭ ﺩﻧﻲء ﺃﻭ ﺷﺮﻳﻒ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﺤﺐ اﻟﻤﺴﺎﻛﻴﻦ ﻭﻳﺸﻬﺪ ﺟﻨﺎﺋﺰﻫﻢ ﻭﻳﻌﻮﺩ ﻣﺮﺿﺎﻫﻢ، ﻭﻻ ﻳﺤﻘﺮ ﻓﻘﻴﺮا ﻟﻔﻘﺮﻩ، ﻭﻻ ﻳﻬﺎﺏ ﻣﻠﻜﺎ ﻟﻤﻠﻜﻪ، 

ﻛﺎﻥ ﻳﺮﻛﺐ اﻟﻔﺮﺱ، ﻭاﻟﺒﻌﻴﺮ، ﻭاﻟﺤﻤﺎﺭ، ﻭاﻟﺒﻐﻠﺔ ، ﻭﻛﺎﻥ ﻛﺜﻴﺮ اﻟﺤﻴﺎء، ﻭﻛﺎﻥ ﺇﺫا ﻛﺮﻩ ﺷﻴﺌﺎ ﻋﺮﻑ ﻓﻲ ﻭﺟﻬﻪ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﺤﺐ اﻟﺴﺘﺮ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﺘﻮﻛﻞ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﺣﻖ ﺗﻮﻛﻠﻪ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻜﺜﺮ اﻟﺬﻛﺮ، ويديم  اﻟﻔﻜﺮ، ﻭﻳﻘﻞ اﻟﻠﻐﻮ،

ﻭﻛﺎﻥ ﺃﻛﺜﺮ اﻟﻨﺎﺱ ﺗﺒﺴﻤﺎ، ﻳﻤﺰﺡ ﻭﻻ ﻳﻘﻮﻝ ﺇﻻ ﺣﻘﺎ، ﻭﻻ ﻳﺠﻔﻮ ﺃﺣﺪا، ﻭﻳﻘﺒﻞ ﻋﺬﺭ اﻟﻤﻌﺘﺬﺭ ﺇﻟﻴﻪ،ﻭﺇﺫا ﺗﻜﻠﻢ فأنه يتكلم ﺑﻜﻼﻡ ﺑﻴﻦ ﻓﺼﻞ، ﻳﺤﻔﻈﻪ ﻣﻦ ﺟﻠﺲ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﻳﻌﻴﺪ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﺛﻼﺛﺎ ﺇﺫا ﻟﻢ ﺗﻔﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﺗﻔﻬﻢ ﻋﻨﻪ، ﻭﻻ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺣﺎﺟﺔ، ﻭﻗﺪ ﺟﻤﻊ اﻟﻠﻪ ﻟﻪ ﻣﻜﺎﺭﻡ اﻷﺧﻼﻕ ﻭﻣﺤﺎﺳﻦ اﻷﻓﻌﺎﻝ، ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻣﻌﺎﺗﺒﺘﻪ ﺗﻌﺮﻳﻀﺎ، ونصحه تلميحا، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﺄﻣﺮ ﺑﺎﻟﺮﻓﻖ ﻭﻳﺤﺚ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻳﻨﻬﻲ ﻋﻦ اﻟﻌﻨﻒ، ﻭﻳﺤﺚ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻔﻮ ﻭاﻟﺼﻔﺢ.

 
;