مقدمة
قَدِمَ الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى اليمن مبعوثاً لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لتبليغ دعوة الإسلام، فسارعت همدان في الاستجابة له، وأسلمت قاطبة في يومِ واحد، ومن حينها كان ارتباط اليمنيين بالإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ثم ذريته الطاهرة من بعده ارتباطَ ولاء واتباع.
أهل اليمن والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
تعتبر قبيلة همدان كبرى قبائل اليمن وتتفرع منها بكيل وحاشد ويام وغيرها، وكانت قبل الإسلام كغيرها من قبائل الجزيرة العربية تعيش حالة الكفر وعبادة الأصنام.
وحين بزغ نور الإسلام وبدأ النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الرسالة وفد على مكة حاجاً من اليمن قيسُ بن نمط الأرحبي وهو على الجاهلية كما ذكر الهمداني، فدخل قيس على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((هل عند قومك من منعة؟)) قال له قيس: نحن أمنع العرب وقد خلفت في الحيِّ فارساً مطاعاً يُكنَّى أبا يزيد واسمه قيس بن عمرو فاكتب إليه حتى أوافيك أنا وهو.
رجع قيس بن نمط إلى اليمن كما ذكر في الإصابة ج2/ ص304، ثم عاد إلى مكة فوجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد هاجر إلى المدينة، وبحسب رواية الإصابة أن قيس عاد إلى اليمن ولم يفد بعدها على رسول الله صلى عليه وآله وسلم إلا في حجة الوداع.
إسلام قبيلة همدان
في السنة التاسعة من الهجرة وفدت جماعة من همدان على رأسهم مالك بن النمط، وذلك أثناء عودة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك، فأسلموا وولَّى النبيُ صلى الله عليه وآله وسلم مالك بن النمط على من أسلم من قومه، ثم بعث بعد ذلك خالد بن الوليد ليدعوا سائر همدان إلى الإسلام.[الرحيق المختوم ص446].
بقي خالد بن الوليد في اليمن ستة أشهر فلم يفلح في إقناع قبائل همدان للدخول في الإسلام، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام إلى همدان عامة، يقول الصحابي الجليل البراء بن عازب رضوان الله عليه: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فكنت فيمن سار معه، فأقام عليه ستة أشهر لا يجيبونه إلى شيء، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالداً ومن معه، فإن أراد أحد ممن كان مع خالد بن الوليد أن يعقب معه تركه.
قال البراء: فكنت فيمن عقب معه؛ فلما انتهينا إلى أوائل اليمن، بلغ القوم الخبر، فجمعوا له، فصلى بنا عليٌّ الفجر، فلما فرغ صفنا صفاً واحداً، ثم تقدم بين أيدينا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلمت همدان كلُّها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قرأ كتابه خرَّ ساجداً، ثم جلس، فقال: ((السلام على همدان، السلام على همدان!)) ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام.
هذه الرواية رواها: [الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2/ ص85 ــ ابن الأثير, الكامل في التاريخ، ج1/ ص350 ــ التدوين في أخبار قزوين، ج1/ ص308 ــ الذهبي، تاريخ الإسلام، ج1/ ص355 ــ تاريخ ابن خلدون، ج2/ ص55 ــ ابن كثير، البداية والنهاية، ج5/ ص121ـ ص105 ــ عيون الأثر ج2/ ص358 ــ مسند الروياني ج1/ ص218 ــ سيرة ابن كثير ج4/ ص201 ــ الاستيعاب في معرفة الأصحاب ج3/ ص1121 ــ سبيل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ج6/ ص 235ـ 427 ــ وغيرها من كتب السيرة والأثر والتاريخ].
وهذه الرواية تدل على الآتي:
1. أن همدان أسلمت جميعها في يوم واحد، وذلك حين وفد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إليهم، وإن كان قد أسلم قبل ذلك أفراد معدودون منها.
2. أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استبشر بإسلامهم، وسجد شكراً لله تعالى، وقال: ((السلام على همدان, السلام على همدان، السلام على همدان))
3. أن إسلام قبيلة همدان في ذلك اليوم كان سبباً لإسلام بقية القبائل اليمنية وهذا يعني على أن قدوم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى اليمن كان سبباً لإسلام أهل اليمن جميعاً، ويدل على ذلك قول البراء بن عازب رضي الله عنه: ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام.
أهل اليمن والإمام علي عليه السلام
بعد موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورحيله إلى الرفيق الأعلى، وقيام أمير المؤمنين علي عليه السلام بالخلافة سنة 35هـ كان اليمنيون وخاصة قبيلة همدان في مقدمة المبايعين لأمير المؤمنين والمجاهدين بين يديه، قال الطبري: وقال أبو عمر: وبايع له أهل اليمن بالخلافة يوم قتل عثمان، ثم إنهم قدموا عليه يهنونه بالخلافة.
فأول من قدم عليه رفاعة بن وائل الهمداني في قومه من همدان، وقدم عليه كيسون بن سلمة الجهني في قومه من جهينة، ورويبة بن وبر البجلي في بجيلة... ولقد كانوا يسيرون الليل مع النهار ولا يفترون من السير للمسارعة إلى بيعة الإمام علي عليه السلام.
ولما خاض الإمام علي عليه السلام معاركه مع الناكثين والقاسطين والمارقين شكل اليمنيون في جيش الإمام علي عليه السلام النسبة الأكبر، فكانت همدان وحمير سُبُعَاً عليهم سعيد بن قيس الهمداني , وكانت مذحج والأشعريون سُبُعَاً عليهم زياد بن النضر الحارثي، وكان على طي عدي بن حاتم الطائي, وكانت قيس عيلان وعبد القيس سبعاً عليهم سعد بن مسعود الثقفي, وكانت كندة وحضرموت وقضاعة ومهرة سبعاً عليهم حجر بن عدي الكندي، وكانت الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار سبعا عليهم مخنف بن سليم الأزدي، وكانت بكر بن وائل وتغلب، وسائر ربيعة- غير عبد القيس- سبعاً عليهم وعلة بن محدوج الذهلي، كانت قريش وكنانة وأسد، وتميم وضبة والرباب ومزينة سبعاً عليهم معقل بن قيس الرياحي، فشهد هؤلاء الجمل وصفين والنهروان وهم هكذا كما يقول في أنساب الأشراف ج2/ ص235-236.
لقد كان اليمنيون موضع ثقة أمير المؤمنين علي عليه السلام، فقد كان أكثر عماله وقضاته من أهل اليمن، فقد استعمل عليه السلام عدداً منهم ولاة وقضاة على الأمصار؛ ومنهم:
1 ـ قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على مصر
2- مالك بن الحارث الأشتر النخعي على مصر
3- عثمان بن حنيف الأنصاري على البصرة
4- مالك بن كعب الأرحبي الهمداني على البهقباذات
5- قرظة بن كعب الأنصاري على الكوفة
6- سليمان بن صرد الخزاعي على جبل
7- الأشعث بن قيس الكندي على أذربيجان
8- الأسود بن قطنة الأنصاري على حلوان
9- عبدالرحمن بن أبزي الخزاعي على خراسان
10- قدامة بن عجلان الأزدي على كسكر
11- أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري على الكوفة
12 ـ هانئ بن هوذة بن عبد يغوث النخعي على الكوفة
13- حذيفة بن اليمان العبسي على المدائن
14- يزيد بن قيس الأرحبي على المدائن
15- أبو أيوب الأنصاري على المدينة
16- أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري على مكة
17- سعيد بن نمران الهمداني على اليمن
18- عبدالله بن عبد المدان الحارثي على اليمن
19- عبدالله بن شُبيل الأحمسي على آذربيجان
20- مخنف بن سليم الأزدي على أصفهان
21- المنذر بن الجارود العبدي على اصطخر
22- النعمان بن عجلان الزرقي الأنصاري على البحرين
ولأجل هذا الدور البارز لليمنيين في مناصرة أمير المؤمنين عليه السلام وإخلاصهم له وجهادهم بين يديه، أثنى كرم الله وجهه عليهم بقصيدته المشهورة التي ختمها بقوله:
فلو كنت بواباً على باب جنة *** لقلت لهمدان ادخلوا بسلام [الفتوح لابن أعثم ج3ص31 , تاريخ دمشق ج9ص233 , العمدة في محاسن الشعر وآدابه ج1ص34]
وقال فيهم عليه السلام في بعض معاركه: ((يا معشر همدان أنتم درعي ورمحي، وما نصرتم إلا الله ورسوله، وما أجبتم غيره)) [وقعة صفين ص437 ــ شرح نهج البلاغة ج8/ ص78 ــ الفتوح لابن أعثم ج/ 3ص31].
فإذا كان هذا حال اليمنيين في استجابتهم للإسلام طوعا ومسارعتهم في نصرة أمير المؤمنين عليه السلام، فلا يليق بهم إلا أن يكونوا أوفياء لأهل بيت نبيهم الأكرم صلى الله عليه وعليهم على مر العصور وتوالي الأزمان؛ كيف لا؟! وقد سمعوه صلى الله عليه وآله وسلم يوصي الأمة بأهل بيته كما رواه مسلم في صحيحه، ج4/ ص2408: ((وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)).
أهل اليمن والإمام الحسين عليه السلام
وبالفعل كانوا كذلك؛ فحين عزم الإمام الحسين بن علي عليه السلام التوجه إلى العراق نصحه عبدالله بن عباس رضي الله عنه أن يذهب إلى اليمن، وقال له: فإن بها شيعة أبيك.
ولكن إصرار أهل الكوفة على الإمام الحسين بن علي بأن يقدم إليهم حال دون مجيئه إلى اليمن، فتوجه عليه السلام إلى الكوفة، وكان أول الوافدين عليه عبدالرحمن بن عبدالله الأرحبي، وقد ذكرت كتب التاريخ أنه قتل معه عليه السلام من اليمنيين أربعة وخمسون رجلاً، وهم: أبو ثمامة عمرو الصائدي، وبرير بن خضير الهمداني، وعابس بن شبيب الشاكري، وشوذب بن عبد الله الهمداني، وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي، وسيف بن الحرث الهمداني، ومالك بن عبد الله الهمداني، وعمار بن أبي سلامة الدالاني، وحبش بن قيس النهمي، وزياد بن عمرو الصائدي، وسوار بن أبي جمير الهمداني، وهمام بن سلمة القانصي، وعمرو بن عبد الله الجندعي، وهانئ بن عروة المذحجي، وجنادة بن الحرث المدحجي، وابن واضح الرومي علام جناد، وبريد بن معقل المذحجي ونافع بن هلال الجملي وجياد بن الحرث السليماني والحجاج بن مسروق الجعفي، وبدر بن معقل الجعفي، ومعشر بن مالك الجعفي، وسويد بن عمرو الجعفي، وجندب بن حجير الخولاني، وبشر بن عمرو الحضرمي، والحارث بن أمرئ القيس الكندي، وأبو الشعثاء يزيد بن زياد الكندي، ومهاجر بن أوس الكندي، وسلمان بن مضارب الكندي، وزاهر الكندي، ومجمع بن عبد الله العائذي, وعائذ بن مجمع العائذي، وحمد بن العائذي، وزهير بن القين البجلي، وسلمان بن مضارب البجلي، وسويد بن عمرو الخثعمي، وعبد الله بن بشر الخثعمي، ومسلم بن كثير الأزدي، ورافع بن عبدالله مولى مسلم، والقاسم بن حبيب الأزدي، وزهير بن سليم الأزدي، والحلاس بن عمرو الأزدي، والنعمان بن عمرو الأزدي، وخالد بن عمرو الأزدي، وعمارة بن صلخب الأزدي، وحنظلة بن أسعد الشبامي، وعمرو بن قرظة الأنصاري، وعبد الرحمن بن عبد الرب الأنصاري، ونعيم بن عجلان الأنصاري، وجنادة بن الحارث الأنصاري، وسعد بن الحارث الأنصاري، وعمرو بن جنادة الأنصاري، والحتوف بن الحارث الأنصاري.
أهل اليمن والإمام الهادي عليه السلام
ولم يزل أهل اليمن على محبتهم لأهل البيت عليهم السلام في كل المواقف واللحظات، وقد دللوا على ذلك في منعطفات التاريخ المختلفة؛ ولقد عاشت اليمن في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري صراعات وحروب وكانت ممزقة بين "آل يعفر" في شبام و"بني زياد" من طرف العباسية في تهامة و"المناخي" و"الدعام" و"ابن جفتم" مبعوث العباسي المعتضد من بغداد، وما زاد الوضع سوءاً ظهور فرقة جديدة خارجة عن الإسلام معلنة بالكفر والإلحاد عرفت بـ"القرامطة" تقودها شخصيتان: علي بن الفضل القرمطي في "المذيخرة"، ومنصور بن حوشب في "مسور".
وفي ظل تناحر هذه القوى سبحت اليمن في نهر من الدم، فثكلت النساء، ويتم الأولاد، حينها لم يجد اليمنيون حلاً للخروج من ذلك الوضع المأساوي إلا بالاستعانة برجل من أهل البيت عليهم السلام، هو أعلم أهل زمانه وأعظمهم ديناً، ملتزمين بذلك حديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه الإمام أبي طالب عليه السلام في أماليه: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يُكاد بها الإسلام، ولياً من أهل بيتي موكلاً، يذب عنه، يعلن الحق وينوره، ويرد كيد الكائدين؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على اللَّه)).
فراسل أبو العتاهية الهمداني أحد ملوك اليمن الإمامَ الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي عليهم السلام، والذي كان مقيماً في المدينة المنورة، وتعبيراً عن أهمية الأمر وخطورته كلف أبو العتاهية لحمل رسالته إلى الإمام وفداً رفيع المستوى من وجاهات اليمن، وتضمنت الرسالة الطلب من الإمام الهادي أن يقدم إلى اليمن ليبايعوه، وتعهد أبو العتاهية للإمام الهادي بتسلم الأمر له, وبَذَلَ له المواثيق على الوفاء والنصرة [الزركلي، الأعلام، ج8/ ص141].
ويعدُّ قدوم الإمام الهادي عليه السلام إلى اليمن حدثاً فارقاً في التاريخ اليمني، ولقد وفى اليمنيون للإمام الهادي ونصروه وخرجت اليمن ببركته من ذلك الواقع المظلم، وتلاشت تلك الدويلات المتناحرة، ويكفي هنا أن نذكر تطهير الإمام الهادي لليمن من فتنة علي بن الفضل القرمطي ومن مذهبه الباطل الذي عرف بمذهب القرامطة بعد أن كان قد انتشر في معظم أنحاء البلاد، وقد صدق القائل: لليمن نعمتان نعمة الإمام الهادي ونعمة القاضي جعفر بن عبدالسلام البهلولي؛ فلولا الإمام الهادي لكانت اليمن قرمطية، ولولا القاضي جعفر لكانت مطرفية.
وهنا نقول لمن يتساءل: ماذا حقق الإمام الهادي ومقدمه لليمنيين؟:
إن نظرةً صادقة في الواقع تشهد لليمنيين بتمسكهم بتعاليم الإسلام وتسامحهم وغيرتهم على الدين ونبلهم وكرمهم وشجاعتهم ورفضهم للغزاة والمحتلين عبر التاريخ حتى أصبحت اليمن مقبرة الغزاة؛ كل هذا يعود إلى بركة الإمام الهادي والأئمة من بعده رضوان الله وسلامه عليهم.