في الوقت الذي كانت الجزيرة العربية تغرق في حالة من التشتت والتمزق والضياع وغياب الدولة و القوانين و القيم الإنسانية وتفشي العادات الجاهلية والعادات السيئة والظلم والفساد وثقافة القتل والسلب والسبي ووأد البنات وقطيعة الرحم والفحش والفجور جاء الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليحمل مهمة إصلاح الفرد والمجتمع و بناء الدولة الإسلامية العادلة التي تحافظ على الإنسان وتصون دمه وماله وعرضه وتبني المجتمع الصالح الذي لا يجتنب الظلم والبغي والعدوان فقط بل يصل إلى درجة الإحسان والإيثار وبذل النفس والمال من أجل إسعاد الآخرين و غيرها من القيم الإنسانية النبيلة التي ما جاء دين الإسلام إلا ليرسخها: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)
ولأن هذه المهمة (مهمة بناء المجتمع الصالح والدولة العادلة) في ظل مجتمع كمجتمع الجزيرة العربية الذي من المفترض أنه سيكون مهد هذه الدولة التي يراد لها أن تسود بقيمها و قوانينها وأنظمتها الحكيمة ربوع المعمورة؛ كان لا بد أن يكون لها رجل استثنائي بكل المقاييس والاعتبارات، استثنائي ليس على مستوى المنطقة ولا حتى على مستوى ذلك الجيل وتلك المرحلة فحسب بل على مستوى المسيرة الإنسانية منذ استخلف الله الإنسان في هذه الأرض وإلى إعلان انتهاء فترة الاستخلاف «بقيام الساعة» فكان النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم هو من ادخره الله لهذه المهمة و جعله مسك ختام الرسالات السماوية إلى الأرض وهو ذلك الإنسان الذي بشرت به الرسل وأخذ عليهم العهد من الله إن هم أدركوا هذا الإنسان العظيم: أن يكونوا من أعوانه وأنصاره..
فتحمل الرسول الأعظم هذه المهمة العظيمة والشاقة و بدأ في الدعوة لها في وضع يقول عنه و عن الدعوة فيه «أهل العزيمة و الإرادة» أنها مهمة مستحيلة في الزمن الصعب ولكن همة هذا الرجل كانت استثنائية كشخصيته فلم يتكاسل أو يتوانَ عن النهوض بمشروعه الإنساني العالمي الكبير الذي يقوم بتحقيق العدالة والمساواة والأمن والاستقراء والرخاء لكل بني الإنسان ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يدرك أن أبناء مجتمعه وبني جلدته هم أبعد الناس عن النهوض بمثل هذا المشروع مع ماهم عليه من الثقافات المغلوطة والعادات السيئة والسلوكيات الخاطئة ولأنه يدرك أن النهوض بمشروع الدولة العادلة لا يتم إلا ببناء الفرد السوي والمجتمع الصالح حيث ومشروع الدولة يجعل السلطة والقوة والإمكانيات تتركز في مجموعة من المجتمع وإذا لم تكن قد ترسخت فيها الأخلاق الفاضلة والقيم و المبادئ الحقة فإنه من المحتمل والمحتمل جداً أن تنقلب هذه المجموعة إلى سلطة دكتاتورية واستبدادية وقمعية ظالمة تكون سببا في شقاء الأمة والإنسانية بدل أن تكون سبباً في سعادتها.
فمن أجل ذلك كانت بداية مشروع الرسول الخاتم وخطوته الأولى هي بناء الفرد الصالح وترسيخ الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة والمبادئ السامية لدى هذا الفرد وكذا بناء الرؤية الجمعية والشاملة لديه.
وقد استمر النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم في هذه المرحلة ثلاثة عشر سنة وهي ما يزيد على نصف مسيرته العظيمة في هذه الحياة.
وعندما أصبح لديه النواة الصالحة من الأفراد الأسوياء وحصل على المنطقة الجغرافية (المدينة المنورة) التي يمكن أن تكون المنطلق لبناء مشروع الدولة العادلة بدأ الرسول الخاتم مرحلته الثانية وهي بناء هذه الدولة على أسس الحق والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات وقد استطاع هذا الإنسان العظيم أن يغير مجرى التاريخ ووجه المنطقة بل والعالم أجمع ويصنع دولة النظام والقانون التي غطت معظم الكرة الأرضية وغيرت المفاهيم والقيم وبنتْ الإنسان والمجتمع والدولة وأسست لمبادئ العدل والسلام والتعايش بين جميع بني الإنسان بغض النظر عن عقائدهم ومللهم وأعراقهم و لغاتهم وألوانهم وجعلت من الأمة الأمية أمة رائدة في كل مجالات الحياة ومتقدمة في علومها فصارت المرجعية العلمية في العلوم الطبيعية لكافة الأمم التي كانت هي مهد الحضارات والعلوم والأنظمة فكانت خير أمة أخرجت للناس {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} [آل عمران: 110] فالخيريّة لأي أمة في نظرة الإسلام هي في الالتزام بمبدأ الأمر بما هو -من خلال النظرة العقلانية والفطرة السليمة- معروفاً وحسناً ومفيداً لبني الإنسان، والنهي عن ما هو منكر لدى العقلاء ويضر بهم كأفراد وكمجتمعات لأن هذه هي رسالة جميع الأنبياء والحكمة الإلهية من سن النظم والقوانين الشرعية {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحديد : 25] وقد كانت أمة الإسلام خير الأمم حينما تمسكت بالهدي الإلهي و طبقت قوانين الإسلام الداعية إلى الحق والعدل: {قل أمر ربي بالقسط} [الأعراف: 29] {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90].
ولكن حينما بدأ الانحراف عن هذه القيم والمبادئ وذلك على مستوى الفرد وبالأخص بعض من كانوا يملكون مراكز النفوذ والسلطة بدأ الانحدار لأمة الإسلام وبدأ السقوط لتلك القيم العظيمة التي أرساها الرسول الأعظم لدى كثير من أبناء الأمة الإسلامية ولكنه و مع ذلك بقيت لهذه الأمة قوتها وهيبتها أمام الأمم الأخرى ولكنها حين فسدت كأمة وكمجتمع وضيعت مشروع الأمة الواحدة والدولة الموحدة بدأ الانهيار الكلي لهذه الأمة كأمةٍ لها مكانتها بين الأمم فضعفت و خارت و تمزقت و تشتت وتكالب عليها أعدائها و (تداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها) وتحكّم أئمة الكفر بمصيرها ومقدراتها وصارت تابعة بعد أن كانت متبوعة، وضعيفة بعد القوة، وممزقة بعد الوحدة، ورجعت إلى وضعها السيئ الذي كانت عليه قبل الإسلام وذلك عندما فارقت مصدر عزتها وقوتها وحضارتها ورقيها بين الأمم وهو دين الإسلام ومبادئه السامية كما يشير إلى ذلك الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى اله وسلم حين يقول :(بعثت بين جاهليتين أخراهما شر من أولاهما) .
ولن يرجع لهذه الأمة مجدها وعزها وقوتها ومكانتها بين الأمم إلا حينما ترجع إلى دين الإسلام وإلى منهج القرآن وإلى أخلاق القران الكريم التي رباها عليها سيد الخلق واستطاعت بها أن تبني حضارتها التي امتدت إلى أصقاع الأرض واستمرت لأكثر من ألف سنة حينما تعرف أنها أمة واحدة يسودها الإخاء والمحبة ويجمعها دين الإسلام وتترك العداوة والبغضاء فيما بينها و تعرف أن عدوها هم أئمة الكفر وأنهم هم من يسعون إلى تمزيقها وتقسيمها وشرذمتها.
ستعود لهذه الأمة قيمتها حينما يعود لها الفهم الصحيح لرسالة الإسلام و مبادئها و قيمها التي و ضعها الله لتكون القانون الذي يسود العالم و يسعد البشرية جمعاء {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].