آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، أمُّ النبي صلوات الله عليه وآله وسلم، غفل عنها التاريخ كثيراً، وضاعت سيرتها وأخبارها بين ركام الزمان، حتى لو جئت تسأل مسلماً عن آمنة بنت وهب لم تجده يعرف أكثر من كونها أمَّ النبي، ويشترك في ذلك العالم والمتعلم والباحث والأمِّي؛ وكأنَّ هناك إرادة لإخفائها وتغييبها عن وعي وثقافة المسلمين.
وبرغم ذلك التغييب الشديد لشخصية أمِّ النبي، إلا أن هناك أخباراً عنها عاندتْ عوامل الإخفاء والتغييب، وفرضتْ نفسها في صفحات التاريخ، وإن كانت قليلة، وقد جمعناها لكم في هذه السطور.
* كريمة من كرائم قريش
هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، ويلتقي نسبها مع والد النبي عبدالله في كلاب بن مرة، وهي ترجع إلى "بني زهرة"، وكانت أواصر الود والقرابة بين بني هاشم وبني زهرة متينة، ولهذا كانت صلة الصهارة بينهم عامرة، فتزوج عبدالمطلب بـ"هالة بنت وهيب بن عبد مناف" وهي ابنة عمِّ آمنة، وقد أنجبت لعبدالمطلب حمزة وصفية، فكانت القرابة بين حمزة والنبي من ثلاثة: عمُّ النبي وابن بنت عمِّ أمِّه وأخوه من الرضاعة.
وأمُّ آمنة هي برَّة بنت عبد العزى بن عبد الدار بن قصي بن كلاب، ومن هنا حظيت آمنة بالنسب الرفيع من قبل أبيها ومن قبل أمها، وقد كان أبوها سيد بني زهرة وصاحب الأمر والنهي فيهم، وفيه يقول الشاعر:
يا وهب يا بن الماجدين زُهْرَة
سُـدت كـلاباً كلــها ابن مُــرَّة
بحســــبٍ زاكٍ وأمٍّ حُــــــــرَة
* زَهرة قريش
نشأت آمنة بنت وهب في أسرة عريقة النسب، مشهودةٍ بالشرف والأدب، وما زالت تترعرع في بيت سيد بني زهرة وهب بن عبد مناف حتى صارت أشرف امرأة في قريش، وأعلاهن موضعاً، وأكرمهن نسباً، وكانت تُعْرَف "بزهرة قريش"، وقد عُرِفت بالبيان، والأدب، والعفة، وكل خلق رفيع وطبعٍ شريف، وقد روي عنها من الأدب ما رثت به زوجها عبدالله:
عفا جانب البطحاء من ابن هاشم * * وجاور لحداً خارجاً في الغماغم
دعتْهُ المنايا بغتةً فأجابها * * وما تركت في الناس مثلَ ابن هاشم
عشية راحوا يحملون سريره * * يعاوره أصحابه في التزاحم
فإن يكُ غالته المنايا ورَيْبُها * * فقد كان معطاءً كثير التراحم
* زواج عبدالله بآمنة
اشتغل عبدالمطلب بحفر زمزم وليس له من الولد إلا الحارث، وكانت قريش تعيِّره بذلك، فنذر لله تعالى إن وهبه عشرة أولاد أن ينحر أحدهم عند الكعبة، فرزقه الله بعشرة أولاد كان آخرهم عبدالله، وظل الأولاد العشرة يترقبون اسم الذبيح، فكان السهم على عبدالله، فما كان من عبدالمطلب إلا أن قدَّمه للذبح إيفاءً بالنذر، لكنَّ الله فداه بمائةٍ من الإبل، والقصة معروفة في كتب السير، ثم مرت الأيام وشاءت عناية الله أن يشرق نور الحق في آفاق البشرية، وأن يخرج ذلك النور من أشرف الأصلاب وأكرم الترائب، فاختار الله أن يكون من أطهر شخصين في قريش، وأكرم بشرين في العرب عبدِالله الذبيح وزهرةِ قريش آمنة بنت وهب، فذهب عبدالمطلب بابنه عبدالله إلى ديار بني زهرة؛ ليخطب له أكرم امرأة في قريش، فتم الزواج وعقد القران، وجرت مراسيم الزواج بعيدة عن كل فحش أو غوغاء، وهي مراسيم تليق بأسرتي الزوجين الكريمين.
* سمات آمنة الغراء
كانت آمنة تحوطها عناية الله وترقبها أنظار الدنيا، ولقد منحها الله صفات الفضل والكمال بما خوَّلها أن تكونَ أمَّ أعظمِ مخلوقٍ في هذا الوجود، فكانت مثالاً للصبر والنبل والعفاف، بَتُولَ زمانِها، وعذراء أوانها، ولقد ضَرَبَتْ في مراحل حياتها القليلة أروعَ دروس الصبر والجهاد بقلب استوعب كل ما رافق ميلاد وطفولة منقذ البشرية من إرهاصات وتحديات، لم يكن قلب آمنة وهي تشاهد آيات الله ترعى صغيرها بالضعيف أو المهزوز، بل كانت تتلقى كل تلك المجريات الغريبة والخارجة عن المألوف بالحكمة والتحمل والتسليم لأمر الله.
* رحلة عبدالله إلى المدينة
سكنت آمنة مع عبدالله في بيت والده عبدالمطلب فيما يعرف بشعب بني هاشم، لكن حياتها مع عبدالله لم تدمْ طويلاً، فقد خرج شاب مكة وابن سيدها إلى يثرب؛ ليجلب لقومه التمر، ويَذكر بعضُ المؤرخين أن عبدالله خرج إلى غَزَّةَ في قافلة تجارية لقريش، فمرض والد النبي وهو في ديار أخوال أبيه من بني النجار في يثرب، فوافاه الأجل هناك، وكأن مائة ناقة لم تَفْدِهِ لجلالة قدره ليعمر طويلاً، وإنما أخَّر الله أجله لينال شرف أبوَّة أطهر بشر في هذا الوجود.
نعم لقد غادر عبدالله زوجته وجنينها المبارك إلى الملكوت الأعلى، وعمره 19 سنة أو تزيد، ولم يكن لمولوده القادم في بطن أمِّه إلا أربعة أشهر كما تفيد بعض الروايات؛ لتتحمل بعده زوجته الغراء مسئولية رعاية ولده القادم، صابرة على فراق زوجها الذي لم تُمْضِ معه إلا أياماً معدودات، تاركةً زينة الدنيا، واهبةً حياتها في خدمة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد اختلفت المصادر التاريخية في تحديد مدة بقاء عبدالله مع آمنة، فذكر بعضهم أنها "ثلاثة أيام"، وبعضهم أنها "ثلاثة أشهر"، والآخر أنها "أربعة أشهر إلى خمسة أشهر" وهو الأقرب، كما اختلفوا في المدة التي فصلت عبدالله من يوم فِدَاه عن الذبح إلى يوم زواجه، والأكثر أنها "سَنَة".
* آمنة أمُّ النبي الصابرة
كانت آمنة تسمع نداءات السماء أثناء حملها وولادتها تخبرها أن وليدها له شأن عظيم، ولقد شاهدت بأمِّ عينيها ألطاف الله وهي ترعاه صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تَحْمِلْ به كما تحمل النساء، فقد كانت تحدِّث عن نفسها أنها لم تجد شيئاً من الثقل، ولا اعتراها بسببه تبرم ولا ملل، ﻓﺒﻘﻲ ﻓﻲ بطنها ﺗﺴﻌﺔ ﺃﺷﻬﺮ، ﻻ ﺗﺸﻜﻮ وجعاً ﻭﻻ ﺭﻳﺤﺎً ﻭﻻ ﻣﺎ ﻳﻌﺮﺽ ﻟﻠﻨﺴﺎء ﺫﻭاﺕ اﻟﺤﻤﻞ.
وﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻮﻝ: "ﺃﺗﺎﻧﻲ ﺁﺕٍ ﺣﻴﻦ مرَّ ﻟﻲ ﻣﻦ ﺣﻤﻠﻲ ﺳﺘﺔ ﺃﺷﻬﺮ، ﻓﻮﻛﺰﻧﻲ ﻓﻲ اﻟﻤﻨﺎﻡ ﺑﺮﺟﻠﻪ, ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻲ: ﻳﺎ ﺁﻣﻨﺔ إنك ﻗﺪ ﺣﻤﻠﺖ ﺑﺨﻴﺮ اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ، ﻓﺈﺫا ﻭﻟﺪﺗِﻴﻪ فسمِّيه ﻣﺤﻤﺪاً ﻭاﻛﺘﻤﻲ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻚ".
أما عن حديث الولادة فقد قالت رضوان الله عليها: "ﻟﻘﺪ ﺃﺧﺬﻧﻲ ﻣﺎ ﻳﺄﺧﺬ اﻟﻨﺴﺎء، ﻭﻟﻢ ﻳﻌﻠﻢ ﺑﻲ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﻗﻮﻣﻲ، ﺫﻛﺮ ﻭﻻ ﺃﻧﺜﻰ، ﻭﺇﻧﻲ ﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﻓﻲ اﻟﻤﻨﺰﻝ، ﻓﺴﻤﻌﺖ ﻭَﺟْﺒَﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻭﺃﻣﺮاً ﺷﺪﻳﺪاً ﻓﻬﺎﻟﻨﻲ، ﻭﺫﻟﻚ ـ ﻳﻮﻡ اﻹﺛﻨﻴﻦ ـ ﻓﺮﺃﻳﺖ ﻛﺄﻥ ﺟﻨﺎﺡ ﻃﻴﺮ ﻗﺪ ﻣﺴﺢ ﻋﻠﻰ ﻓﺆاﺩﻱ، ﻓﺬﻫﺐ ﻋﻨﻲ اﻟﺮﻋﺐ ﻭﻛﻞ ﻭﺟﻊ، ﺛﻢ ﺭﺃﻳﺖ ﻧﺴﻮﺓ كالنخل ﻃﻮﻻً ﻛﺄﻧﻬﻦ ﻣﻦ ﺑﻨﺎﺕ ﻋﺒﺪ ﻣﻨﺎﻑ يحدقن ﺑﻲ، ﻓﺒﻴﻨﺎ ﺃﻧﺎ ﺃﻋﺠﺐ ﻭﺃﻗﻮﻝ: ﻭاﻏﻮﺛﺎﻩ ﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﻋﻠﻤﻦ ﺑﻲ هؤلاء ﻓﺎﺷﺘﺪ ﺑﻲ اﻷﻣﺮ ﻓﺄﺧﺬﻧﻲ اﻟﻤﺨﺎﺽ ﻓﻮﻟﺪﺕ ﻣﺤﻤﺪاً، ﻓﻠﻤﺎ ﺧﺮﺝ ﻣﻦ ﺑﻄﻨﻲ ﺩُرْتُ ﻓﻨﻈﺮتُ ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﺈﺫا ﺃﻧﺎ ﺑﻪ ﺳﺎﺟﺪ ﻗﺪ ﺭﻓﻊ ﺇﺻﺒﻌﻴﻪ ﺇﻟﻰ اﻟﺴﻤﺎء ﻛﺎﻟﻤﺘﻀﺮﻉ اﻟﻤﺒﺘﻬﻞ".
كان كل شيء يحكي لآمنة أن هذا المولود له شأن عظيم، وهو ما دفع بالأم الصابرة لدخول معركة حمايته ورعايته الرعاية التي تليق به، فضمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حضنها، وأغدقت عليه من حنانها ترى في وليدها ملجأها الوحيد وتكليفها الأكبر.
لقد كانت آمنة الصابرة الكريمة هي القائمة على تربية وليدها، الراضية بحكم ربها من دون أن يعرف عنها تبرُّمٌ أو ملل، كما كانت المجاهدةَ في سبيل الوفاء والإخلاص والتربية لوليدها، الحفيظةَ الأمينةَ لما استودع الله عندها.
* وفاة آمنة
حين بلغ النبي محمد صلوات الله عليه وعلى آله من العمر ست سنوات قررت أمُّه أنْ تأخذه إلى يثرب لزيارة قبر والده، وأخذت معها جاريتها أمَّ أيمن، فقطعتْ به الفيافي والقفار في رحلة العشق والوفاء، راغبةً أن تعوِّض ولدها المبارك عن فقدان رؤية أبيه بزيارة ضريحه، فظلَّتْ تحدو السير من مكة إلى يثرب، يحدوها الحب، وتصحبها بركات طفلها المبارك حتى وصلت إلى بني النجار حيثُ قبر والده عبدالله.
نفضتْ غبار السفر وجثت حول رمس زوجها تحكي له ست سنوات من الفراق، وتخبره أن مولوده بالقرب منه، وأن كل البشارات تحكي أن له شأناً عظيماً.
لم يكن لها أن تطيل البقاء في يثرب، فقَلْبُ عبدالمطلب لا يطيق فراق حفيده، وهو الذي بلا شك قد أكَّد عليها بذلك، فلم يكن لها وهي سيدة الوفاء إلا أن تشد رحالها، وتشق عباب السفر إلى مكة.
فلما وصلتْ منطقة الأبواء- بين مكة والمدينة- مرضت وفارقت الحياة؛ وهنا تجلت إرادة الله في أن يعيش نبي هذه الأمة ومنقذها يتيم الأمِّ والأب؛ لقد فارقت الأمُّ الحنونة الحياة تاركة صبيها مع جارية أبيه أمِّ أيمن ليواصل رحلة الحرمان والصبر، ولكم أن تتخيلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو غلام ترحل عنه أمُّه وتتركه وهو منقطع عن الصاحب والقريب، نعم لقد كانت رحلةً قاسية، لكنها عناية الله التي أرادت للأحداث والآلام أن تصقل قلب صفيِّه وحبيبه؛ ليكون قدوة للبشرية في كل شيء، ومثالاً ملهِماً في شتى نواحي الحياة، وهي بلا شك مواساة لكل يتيم في هذه الدنيا، ودرس بليغ لكل محروم في هذه الحياة؛ وهل بعد عناية الله ورعايته يفتقر مخلوق إلى مخلوق؟!
هذه هي آمنة الغراء، قليلة السيرة والأخبار، لكنها كثيرة الأثر، طيبة الذكر، جليلة الخُلق، عظيمة الأمر، وكفاها فخراً وقدراً ومهابة أنها أنجبت صاحب أعظم رسالة في هذا الوجود، وربَّتْ في حجرها أطهر مخلوق في هذا الكون، وما على الأمة التي جهلت حياة أمِّ منقذها ونبيها إلا أن تستدرك نفسها، فحتماً سيرهقها الجهل ويضرُّ بها التجاهل.