.
 
22-25-2019

الزيدية هي منهجٌ بُنيت أساساته على الدليل والحجة، فأقيمت عليها أعمدة العدل والتوحيد، وارتفع منها الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب والسنة وولاية أهل البيت المصطفين، وسُقف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكان بذلك أعظم منهج للحق، وخير بيت أسس للناس.

وإنما سميت الزيدية بهذا الاسم نسبة إلى الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، الذي حمل مشعل الدين، وجدد معالمه، وجسَّده بعد أن ضعف بريقه، وقل أصحابه؛ وهذه النسبة ليست نسبةَ تقليدٍ كما يعتقد البعض من أن الزيدية مقلدون للإمام زيد عليه السلام، كتقليد الشافعية للإمام الشافعي أو المالكية للإمام مالك رحمهم الله جميعاً، وإنما هي نسبة اعتزاء؛ لأن هذه النسبة لم يطلقها الإمام زيد على نفسه ولا على أتباعه، ولا أطلقها أتباعه على أنفسهم في البداية، وإنما هي نسبة اعتزاء اختارها الأئمة لأنفسهم؛ لما كانَ للإمام الأعظم زيد بن علي (ع) من منزلةٍ وأثر في نفوس أهل البيت (ع) لذلك قال الإمام شيخ بني هاشم عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام: ((العلم بيننا وبين الناس علي بن أبي طالب والعلم بيننا وبين الشيعة زيدُ بن علي))، وقال ابنه الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله بن الحسن عليهم السلام: ((والله لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين، وأقام عمود الدين إذ اعوج، ولن ننحو إلا أثره، ولن نقتبس إلا من نوره، وزيد إمام الأئمة))، وقال الإمام النفس الرضية إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام: ((لو نزلت راية من السماء لم تنزل إلا في الزيدية))، فلما اجتمع أئمة العترة على ذلك الشِّعار الذي هو الاقتداء بزيد بن علي عليهما السلام اشتهر عنهم هذه التسمية.

وقد قال الإمام مجد الدين المؤيدي عليه السلام في ذلك: ((.. فإنهم إنما سموا زيدية لموافقتهم الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام في أصول الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على الظلمة، لا التقليد في المسائل الفروعية، كيف والتقليد محرم على أهل الاجتهاد بالإجماع، ..إلخ)).

"لقد وصل المذهب الزيدي المعروف الآن في اليمن ـ نظراً لحرية الفكر وفتح باب الاجتهاد ـ ليكون خلاصة أبحاث عميقة ودراسات واسعة في كل مجالات الفقه الإسلامي العظيم، واستمرت تلك الجهود المضنية في البحث والتنقيب والتصفية أكثر من سبعة قرون، وقد قام بذلك أئمة أعلام أهل البيت النبوي الشريف ومن تابعهم من الفقهاء المجتهدين، وهم في كلّ ذلك يعتمدون على المحكم من كتاب الله والصحيح من سنة رسول الله وعلى الإجماع والقياس وأحياناً على الاستصحاب والاستحسان والمناسبة المرسلة وهي التي تتفق مع المقاصد الشرعية فيما لا يوجد له نص في الكتاب أو السنة إثباتاً أو نفياً."[الزيدية الطائفة والمذهب]

أسس الزيدية

للفكر الزيدي أسس ومعتقدات قام عليها، من قال بها واعتقد بمضمونها فهو الزيدي أينما حلَّ، ومن خالفها عُدَّ خارجاً عن الزيدية، مجانباً لها؛ وبهذه الأسس عُرف المنتمون للزيدية وحُكِم بزيديتهم، كما عُرف بها المفارقون للزيدية المائلون عنها، وإن سَمَّوا أنفسَهم زيدية، أو سُمُّوا بذلك؛ ولنذكر هنا هذه الأسس؛ لنميز الزيدية من غيرها:

أصول الدين

وتتضمن أصولاً خمسة، وهي:

التوحيد

فالله سبحانه وتعالى هو الخالق العالم القادر الحي الذي لا أول لوجوده، الأول والآخر، الذي ليس معه شريك، وليس له كفء، وأنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، فهو كما قال عن نفسه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، وأنه سبحانه وتعالى:{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} , ومعتقد الزيدية في ذلك هو معتقد الإمام علي عليه السلام حين قال: ((التوحيد أن لا تتوهمه)).

العدل

وهو سبحانه وتعالى عدل لا يظلم، وحكيم ليس في أفعاله شيء من العبث أو الخطأ، وهو جل وعلا على ما حكى عن نفسه:{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي}، و{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}،{ولا يظلم ربك أحدا}، وهو أجل من أن يجبر أحداً على فعله, ومعتقد الزيدية في ذلك هو معتقد الإمام علي عليه السلام حين قال: ((العدل أن لا تتهمه)).

الوعد والوعيد

ومن عقائد الزيدية التصديق بوعد الله للمؤمنين بالجنة والخلود فيها، ووعيده للعصاة من الكفار والفساق والمنافقين غير التائبين بالخلود في نار جهنم، إيماناً بقوله تعالى:{إن الأبرار لفي نعيم- وإن الفجار لفي جحيم- يصلونها يوم الدين- وما هم عنها بغائبين}[الإنفطار:13-16]، وقوله:{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا- خالدين فيها لا يبغون عنها حولا}، {ومن يعصِ الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين}، وغيرها من الآيات.

النبوة

ومحمد بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو نبي الله الخاتم، وعبده المعظَّم، كما قال تعالى:{ولكن رسول الله وخاتم النبيين}[الأحزاب:40]، أرسله الله للعالمين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين، لم يفرط في شيء، ولم يتوانَ عن نصح أحد، الإيمان به وبما جاء به من الشرع (القرآن والسنة).

الإمامة

والإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المفترض الطاعة، هو أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، علي بن أبي طالب عليه السلام، بالنصوص المتواترة، قال فيه الله سبحانه وتعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خم:((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)).

قال الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام:((أجمع علماء آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن علي بن أبي طالب كان أفضل الناس بعد رسول الله، وأعلمهم وأولاهم بمقامه)).

وقال فقيه الآل أحمد بن عيسى بن زيد عليهم السلام:((أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أولى الناس به وأفضلهم عند الله وعنده، وأعلم الناس من بعده، علي بن أبي طالب صلوات الله عليه)).

ثم الإمام بعده ابنه الحسن ثم الحسين عليهما السلام بالنص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهما:((إمامان قاما أو قعدا)).

ثم الإمامة بعدهما في من قام ودعا من ذرية الحسن أو الحسين، واجتمعت فيه شروط الإمامة، لأنهم ثقل الله الذين أمرنا الله باتباعهم.

مبدأ الخروج على الظالم

مما تقرر عند الزيدية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أعظم مراتبه وأجلها الخروج على الظالم المنتهك لحرمات الله، وذلك من أعظم أسس الدين عند الزيدية؛ فبه تُقام الشرائع، وتطبق الأحكام؛ وقد جسدت الزيدية هذا المبدأ أعظم تجسيد، ممثلةً بأئمتها (أئمة أهل البيت عليهم السلام)، وعلمائها وأتباعها، ولعل هذا هو السبب الرئيسي لانتماء الزيدية للإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام دوناً عن غيره من العترة كانتماء اعتزاز، فأما الاتباع فإن الزيدية تتبع عموم العترة العلماء من بني الحسن والحسين؛ فهو فاتح باب الجهاد والاجتهاد؛ وهذه هي سيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام على مرِّ العصور والأزمان، كالأئمة يحيى بن زيد، والنفس الزكية، والنفس الرضية، والحسين الفخي، والقاسم، والناصر الكبير، والهادي إلى الحق، وابنيه الناصر والمرتضى، والإمام عبدالله بن حمزة، وجميع أئمة أهل البيت عليهم السلام.

وبلا شك فإن للزيدية أسوة في ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم بعلي والحسن والحسين عليهم السلام الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله وإعلاء كلمته، والصحابة السابقين رضوان الله عليهم، حين قال الله تعالى عنهم:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر..}[آل عمران:110].

وذلك هو منهج الحق، وأَمْر الله للخلق، فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}[آل عمران:104]، {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..}[التوبة:71].

العقل عند الزيدية

العقل عند الزيدية حجة عظيمة على كل مكلف، يستطيع بواسطته معرفة الحق من الباطل، والحسن من القبيح، وبه يعرف وجود الخالق سبحانه وتعالى، وأنه العالم الحي القدير، العدل الذي لا يظلم، والحكيم الذي لا يعبث، وبالعقل قُطع بنبوة الأنبياء وصدق ما جاؤوا به، إلى غير ذلك من الأصول التي بيناها سابقاً.

ونظرة الزيدية هذه موافقة للقرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى قد أمرنا بإعمال عقولنا والنظر والتفكر، وأنكر على من لم يستعمل عقله، فقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا..}[سبأ:46]، وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[يونس:101]، وقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[آل عمران:191]، وقال: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها..}[الحج:46].

وكيف يمكن القول بإهمال الدليل العقلي؟ والحال أننا بالعقل فقط أدركنا كيف نفهم الحق ونقنع الخصم بثبوت الحجة، ووجود الله، وبصحة إرسال الرسل، حيث لا طريق لهذا يجدي في المسائل العقلية في مناظرة المجادل غير الدليل العقلي.

لهذا وذاك ندرك أنه لا يمكن إهمال الدليل الفكري كما يرى بعض علماء المذاهب في المسائل العلمية والعملية.

أصول الفقه

يحتل علم أصول الفقه بالنسبة للزيدية مكانة عظيمة، فعليه تدور علوم الفقه، وبه تعرف الأحكام من القرآن والسنة، ومن خلاله وعلوم أخرى يبلغ المكلف مرتبة الاجتهاد؛ ومن تلك الأصول:

1- الأدلة في الأحكام؛ وتنقسم إلى أربعة أقسام [القرآن، السنة، الإجماع، القياس]:

[الدليل الأول]: القرآن الكريم

وهو ثقل الله الأكبر، ومنبع العلوم الشرعية، وإليه ترد الاختلافات والمنازعات، ومنه تؤخذ الاحكام.

[الدليل الثاني]: السنة النبوية

السنة مصدر من مصادر التشريع عند الزيدية بشرط أن لا يصادم الحديث نصاً صريحاً في كتاب الله سبحانه؛ فالصحيح عند الزيدية ما اكتملت فيه شروط الصحة، من صحة طريقه، وسنده، وسلامة رجاله من الجرح، أي مما ينافي العدالة والضبط مع موافقته معنى وروحاً لما في كتاب الله عز وجل ولما أجمع عليه أهل البيت (ع) قرناء القرآن.

فما توافرت فيه هذه الشروط فهو حجة عند الزيدية؛ لقول الله سبحانه وتعالى:{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}[الحشر:7]، {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}[النساء:59]، وغيرها من الآيات البينات.

ومن وصية لأمير المؤمنين عليه السلام لابن عمه عبدالله بن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج: ((لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمَّالٌ ذو وجوه تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً)), وليس القصد من هذا أن القرآن ليس شفاء لما في الصدور، أو أن الحجة فيه تامة، ولكن لما كانت السنة لا تخالف القرآن وتؤدي نفس الحق الذي في القرآن، وكانت عباراتها مبينة لما في القرآن، فإن طبيعة أولئك القوم والغرض إقامة الحجة تقتضي الاحتجاج عليهم بأقرب ما يلزمهم فإذا عادوا تكون عودتهم للقرآن والسنة.

[الدليل الثالث]: الإجماع

وهو نوعان:

1- إجماع الأمة (وهو حجة عند الزيدية)

 2- إجماع أهل البيت (ع)

وهو حجة عند الزيدية؛ لما دلت الأدلة القطعية من خبر الثقلين وأمثاله على كون العترة مع القرآن وأنهم نجاة للأمة، ولم تصح النصوص في آحادهم بعد أمير المؤمنين والحسن والحسين، فاقتضى ذلك عصمة إجماعهم وحجيته؛ فهم ثقل الله الأصغر، وقرناء القرآن، وسفينة النجاة، ونجوم الاقتداء.

وقد قال الإمام زيد عليه السلام: ((فاختلافنا - أهل البيت- لكم رحمة، فإذا نحن أجمعنا على أمر لم يكن للناس أن يَعْدوه)).[مجموع كتب ورسائل الإمام زيد (ع)] .

وسئل الباقر عليه السلام عن أهل بيت محمد هل يختلفون، فأجاب (ع): ((إنا نجتمع ونختلف، ولن يجمعنا الله على ضلالة)).[كتاب الزيادات من جامع علوم آل محمد للشريف العلوي].

[الدليل الرابع]: القياس

دليل تعتمده الزيدية، وهو: إلحاق فرعٍ بأصل ثابت بدليل الشرع لاشتراكهما في علة الحكم .

2- الاجتهاد

هو طريق للوصول إلى الأحكام الشرعية من خلال بذل الوسع في تحصيل الأحكام الشرعية، ولا يكون إلا عند عدم وجود نص شرعي صحيح على النوازل، والأمة بحاجة ملحَّة إليه، وخصوصاً مع التطورات في جوانب الحياة المختلفة؛ وفي نفس الوقت فإن الاجتهاد موافق للشرع، فالله سبحانه وتعالى يقول:{ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}[النساء:83].

ومن ذلك حديث معاذ بن جبل حين وجهه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن حين قال له: بمَ تقضي فيهم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟! قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: فإن لم تجد؟! قال: أجتهد رأيي، ولم ينكره صلى الله عليه وآله وسلم بل قال: الحمد لله الذي وفَّق رسول رسوله؛ ولم ينكر هذا الحديث أحد، بل تلقته الأمة بالقبول.

وقال الإمام الناصر الكبير الأطروش الحسن بن علي عليه السلام: ((فإذا نظر الطالب في اختلاف علماء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فله أن يتبع قول أحدهم إذا وقع له الحق بدليل, من غير طعن ولا تخطئة للباقين)).[الإرشاد إلى سبيل الرشاد].

المسائل الفرعية المجمع عليها عند أهل البيت (ع)

هناك مسائل من فروع الدين قد وقع الإجماع عليها من أهل البيت (ع)، كالجهر بالبسملة، والأذان بحي على خير العمل، وعدم جواز المسح على الخفين، وحُرمة نكاح المتعة، وغيرها.

ولا يخرج عن الزيدية من يخالف في المسائل الفرعية المختلف فيها بين أهل البيت (ع)، كرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، والقنوت في الفجر هل قبل الركوع أم بعده، وغيرها مما محله كتب الفقه.

فهذه أسس الزيدية وعقائدها، من قال بها واعتقد بمضمونها الذي تفصيله في كتب أصول الدين، فهو الزيدي أينما حلَّ، وإن سُمِّي بخلاف ذلك، ومن خالفها أو بعضها فليس من الزيدية وإن سُمِّي زيدياً، وهذه أصول الفقه وأدلتها في الاستنباط.

الانتشار الجغرافي للزيدية

جاء المذهب الزيدي الذي جدد شعائره الإمام زيد بن علي عليهما السلام امتداداً لدين الله الذي أقامه رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله، وكان عليه أهل بيته المطهرون، وهو منهج الله الذي قاده أنبياؤه على مر العصور، ولكن بغير مسمى الزيدية لمَّا كانوا قبل عصره؛ ولنقف هنا؛ لنقرأ تحرك هذا المنهج وانتشاره منذ زمن الإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام وحتى يومنا هذا.

الزيدية في العراق

خرج الإمام زيد بن علي عليهما السلام بثورته المباركة ضد حكم هشام الأموي الجائر، في سنة 122هـ، وكان أتباعه من خلص الشيعة المحبين لأهل البيت عليهم السلام، فأُطْلِقَ عليهم اسمُ الزيدية، ثم جرى هذا الاسم فيما بعد على كل من سار بسيرة الإمام زيد عليه السلام وأتباعه، فكان غالبية شيعة أهل الكوفة من بلاد العراق على مذهب الإمام زيد عليه السلام، وقد جاء في التأريخ أن ديوانه عليه السلام قد اشتمل على أسماء خمسة عشر ألفاً ممن بايعه من أهل الكوفة، وبلا شكك أن الكثير منهم كانوا زيدية المنهج.

الزيدية في نجد والحجاز

ثم انتشر المذهب الزيدي وتوسعت رقعته عبر التأريخ، حتى ضم شبه الجزيرة العربية بما فيها نجد والحجاز واليمن؛ ففي بلاد نَجْد نَجِدُ أن أهل اليمامة كانوا على مذهب الزيدية، وفي الحجاز وعلى وجه الخصوص مكة وينبع، كان للزيدية مكانتها ووجودها؛ حيث كان أشرافها جميعاً على المذهب الزيدي حتى قرون قريبة متأخرة، ومن أمراء مكة الزيديين الشريف الكبير قتادة بن إدريس الذي أذَّن في عصره بحي على خير العمل في الحرم المكي الشريف، وجدد بناء مرقد الإمام الحسين بن علي الفخي عليهما السلام.

الزيدية في المغرب

وفي المغرب الأقصى كان للزيدية حضورها المشرف؛ وذلك بخروج الإمام إدريس بن عبدالله الكامل - عليهما السلام- إليها، ودعوته إلى الله؛ حيث أسس بها أول دولة للزيدية سنة 172هـ، والتي عرفت بدولة الأدارسة، ثم قام بالدعوة بعده ابنه إدريس بن إدريس، الذي كان على منهج آبائه عليهم السلام، فسار بسيرة أبيه من نشر العدل، وإقامة معالم الدين؛ واستمرت الزيدية بالمغرب حتى انتهاء دولة الأدارسة في القرن الخامس الهجري تقريباً، ثم انتقل أهلها تدريجياً إلى مذهب الإمام مالك، وأصبح المذهبَ السائدَ بها إلى يومنا هذا, قال في كتاب "الاستئناس بتراجم فضلاء فاس" في ترجمة درَّاس بن إسماعيل (ص153): (وممن أدخل مذهب مالك إلى المغرب, وكان أهله قبله على مذهب الكوفيين والزيديين).

الزيدية في بلاد المشرق

وخلال الفترة التي أسس فيها الإمام إدريس دولة زيدية بالمغرب، كان أخوه الإمام يحيى بن عبدالله قد توجه إلى الديلم من بلاد المشرق، فنشر بها المذهب الزيدي، وأسلم على يديه كثير من أهلها؛ ثم توسعت الزيدية بعد ذلك إلى طبرستان وجرجان ونيسابور من أعمال خراسان في زمن الإمام الداعي الكبير الحسن بن زيد منذ سنة 250هـ، ثم في زمن أخيه الإمام محمد بن زيد عليهما السلام.

وفي سنة 284هـ قام الإمام الناصر الأطروش بالجيل والديلم داعياً إلى الله، فدخلت جيلان في دعوته، ونشر الإسلام في تلك المناطق، بعد أن كان أهلها يعبدون الحجر والشجر، حتى بلغ عدد من أسلم على يديه ألف ألف نسمة، أي مليون نسمة، وتيسر على يديه تثبيت دعائم الدولة الكريمة القائمة على العدل والدين والكرامة منهاج سلفه منهاج الكتاب والسنة.

ثم جاء بعده الإمام الداعي الحسن بن القاسم، الذي أقام أَوَدَ الدين الحنيف في نيسابور والري ونواحيهما، وفي الجيل والديلم، ثم جاء بعده عدد من الأئمة كابنه الإمام أبي عبدالله الداعي والإمامين أبي طالب وأخيه المؤيد بالله وغيرهم؛ وعلى هذا المنوال تعاقب أئمة الزيدية على بلاد المشرق؛ ليبقى المذهب الزيدي قائماً فيها بعقائده ومبادئه، فبلغ أذربيجان وبيهق وخراسان وتركستان وغيرها من البلدان.

وأئمة الزيدية هم من نشروا الإسلام في المشرق الأقصى والمغرب الأقصى، بعدلهم وعلمهم وحسن دعوتهم، بعد أن كان ظلم الحكام قبلهم يحول دون انتشاره.

الزيدية في اليمن

وبالنسبة لليمن، فمؤسس الدولة الزيدية فيها هو الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهما السلام، والذي قدم إلى اليمن بدعوة من أهلها سنة 280هـ، وكانت هذه الخرجة الأولى، ثم كانت له خرجة ثانية في سنة 284هـ، فأقام الدين، وأحيا فرائضه، ووضع حجر الأساس لهذه الدولة الزيدية، واتخذ من صعدة عاصمة لحكمه، فأقام أكبر وأطول دولة عرفتها الزيدية، والتي استمرت - وهي في حالة مدٍّ وجزر- حتى ثورة 26 سبتمير، سنة 1962م .

لقد نشأت الدولة الزيدية - التي أسسها الإمام الهادي عليه السلام- في المناطق الشمالية من اليمن، وظل تواجدها لفترة طويلة محصوراً في هذه المناطق، مع بعض التمدد والانكماش؛ ثم بدأت في أوائل القرن الحادي عشر بالتغلغل في جنوب اليمن وتهامة حتى امتدت إلى حضرموت في أيام الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم عليهما السلام؛ كما توسعت هذه الدولة في أيام الإمام يحيى حميد الدين وابنه الإمام أحمد عليهما السلام، حتى شملت إب وتعز وبعض المناطق الجنوبية.

ومع أن الدولة الزيدية قد انتهت بعد ثورة 26 سبتمبر، فقد بقيت الزيدية - فكراً وعقيدة- هي المذهب السائد في أغلب مناطق اليمن الميمون، بفضل علماء أهل البيت المطهرين، وشيعتهم المخلصين، حتى قام منهم بالدعوة من قام بعد ذلك، وكان آخرهم مجدد الزيدية، وإمام زمانه، المولى الحجة مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي سلام الله عليه .

العلاقة بين زيدية اليمن وزيدية المشرق

ومن الجدير بالذكر أنه وبالرغم من بُعد المسافة بين المجتمع الزيدي في اليمن والمجتمع الزيدي في المشرق، إلا أنه ربطت بين المجتمعين علاقة وثيقة، وتبادل فكري كبير، وذلك من خلال قدوم علماء من الزيدية البيهقيين والطبريين وغيرهم إلى اليمن، ونقلهم لتراث الزيدية ومعارفها في تلك المناطق، والعكس.

زيدية مصر

وأيضاً فقد كان للزيدية تواجد في صعيد مصر في العصر المملوكي؛ فقد كان جماعة من الأشراف المتواجدين فيها بجميع فروعهم على مذهب الزيدية، ولكن هذا التواجد قد خف في عصر الظاهر بيبرس، الذي اتخذ أقصى الإجراءات لحصر القضاء في المذاهب السنية الأربعة في عام 663هـ، مما أدى لإزاحة الزيدية من الساحة المصرية؛ ومع ذلك فإن الزيدية لم تنتهِ في مصر، فقد ظل الأشراف على المذهب الزيدي مدة من الزمن؛ حيث يذكر أبو المحاسن(وهو مؤرخ مملوكي) في كتابه "النجوم الزاهرة" بأن أحد أهالي الصعيد حكى له: ((أن غالب مزارعي بلدتنا أشراف علوية))؛ وفي موضع آخر من "النجوم الزاهرة" يقول أبو المحاسن عن الأشراف العلوية بصعيد مصر:((كان معظمهم شيعة زيدية ويتجاهرون بذلك))؛ ويلاحظ أن بعضاً من قبائل آل البيت بمصر قد تحولوا إلى المذهب الإسماعيلي في العصر الفاطمي؛ وحالياً فإن أغلب قبائل آل البيت بمختلف فروعها بمصر سنية في مذهبها.

وهكذا كان تواجد الزيدية في  العديد من البلدان على مر التأريخ الإسلامي، وليس ذلك إلا بجهود أئمة المذهب الزيدي وعلمائه وأتباعه؛ ولكن - وللأسف- فإن هذا الانتشار قد تقلص نتيجة ظروف الحكم في البلدان، وملابسات شتى سيأتي الكلام عنها، حتى لم يبقَ للزيدية وجود معتبر إلا في اليمن، مع تواجد بسيط في بعض الدول الأخرى.

أسباب اختفاء المذهب  الزيدي من الكثير من البلدان

بلا شك أن لتقلص الفكر الزيدي واختفائه من الكثير من البلدان أسباب ومبررات، فمن غير المنطقي أن يصل هذا الفكر الأصيل، والقائم على الحجة والدليل إلى الكثير من البلدان ثم يتركه الناس، ولا يرغبون إليه؛ ويمكن للمتتبع للتأريخ الإسلامي عموماً والتأريخ الزيدي خصوصاً معرفة هذه الأسباب من خلال البحث والتتبع؛ ولنذكر خلاصة ذلك في عدد من النقاط:

· إن من الأسس التي يقوم عليها المذهب الزيدي كما ذكرنا سابقاً "وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على الظالم"، وبلا شك فإن هذا المبدأ قد عارض أهواء الحكام والسلاطين في الدولتين الأموية والعباسية وغيرهما؛ مما دعا هذه الدول إلى محاربة هذا الفكر أشد المحاربة، والسعي لإنهائه بشتى الطرق والأساليب، حتى قتل من قتل من أئمة الزيدية وأتباعهم، وشرد من شرد منهم، فكانوا متخفين في كثير من الأوقات، لا يأمنون على أنفسهم.

· الترهيبُ الفكري للدول ضد كل من ينتسب إلى الزيدية كان عاملاً في عدم رغبة الكثير في ظهور هذه النسبة؛ وقد دل على ذلك كلام محمد بن الحسن الشيباني الحنفي حين قال: "أنا زيدي إذا أمنتُ على نفسي، حنفي إذا خفت".[الهادي الوزير, نهاية التنويه في إزهاق التمويه، ص223].

· محاولة الدول لتشويه الزيدية وأئمتها، والكلام عنها بما ليس فيها، والادعاء عليها بالأكاذيب، حتى نفر البعض عنها.

· تبني الدول لغيره من المذاهب الإسلامية الأخرى, كتبني الحكام الأمويين في الأندلس للمذهب المالكي، وتبني الظاهر بيبرس في مصر للمذاهب السنية الأربعة, وتبني الدولة الصفوية في إيران للمذهب الجعفري, ثم فرض هذه المذاهب على رعيتها, كل هذا أدى إلى انحسار المذهب الزيدي عن تلك الدول.

· ضعف الحركة العلمية في الوسط الزيدي، وموت العلماء مع عدم اشتغال الأتباع بالعلم والمحافظة على قواعد المذهب, مما يجعل الخلف لا ينتسبون إليه إلا بالاسم, مما يؤدي إلى تلاشيه مع مرور الزمن.

سعي المذهب الزيدي لتحقيق الوحدة الإسلامية

ظل المذهب الزيدي خير داعية للوحدة الإسلامية، وترك ما يسبب الخلافات؛ لأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، ومن واجبات المسلمين تجاه هذا الدين العظيم، ومما ينبغي أن تلتفت إليه جميع المذاهب؛ ليكون الدين الإسلامي كما أراده الله سبحانه وتعالى، دين صفاء وتسامح ووحدة وسعة، لا دين إرهاب وتناحر وتقاطع وتدابر، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، {ولا تفرقوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، وغيرها من الآيات؛ وقد سعت الزيدية لتحقيق هذه الوحدة الإسلامية عدداً من المبادئ والأفكار؛ منها:

· النظر إلى مسائل الفروع أنها مسائل اجتهادية، لكل مجتهد فيها نصيب ورأي، فلا ينبغي الإنكار على المجتهد ما دامت له أدلته واجتهاده شرعي، والاهتمام بالأصول التي يقل أو يندر الخلاف فيها؛ لأن بالتمسك بها تتحقق الوحدة الإسلامية.

· أن من قواعد الزيدية أنه لا يجوز التكفير أو التفسيق إلا بدليل قطعي، وهذا يوقف الإنسان عند حده، وهو ما تحتاجه وحدة الأمة.

· أن الزيدية بعيدة عن السباب والشتم للمخالفين لها من المذاهب الأخرى، أو التعدي عليها بما لا يجوز من القول أو الفعل.

· الدعوة إلى الوحدة الإسلامية في المؤتمرات والاجتماعات العلمائية في مختلف الدول، وكان آخرها دعوة الدكتور المرتضى المحطوري في أحد المؤتمرات، التي دعا فيها علماء المذاهب للكتابة عن مذاهبهم- فصاحب البيت أدرى بالذي فيه-؛ بحيث تكون هذه الكتابات هي المعتمد، ومن خلالها يتم النقد والنظر إلى كل مذهب.

· وضوح المذهب الزيدي، وعدم إحاطته بالأغشية المبهمة، وجلاء عقائده.

· التعايش مع المذاهب المختلفة، وترك التحجر والعصبية، كما عرف ذلك من مئات السنين، كتعايش الزيدية مع الشافعية في اليمن، وغير ذلك.

الزيدية دستور دولة

الزيدية واسطة عقد الاعتدال الذي لو نظر إليه المنصفون بعقائده وفروعه لوجدوه قنطرة الوصول إلى جمع شتات هذه الأمة، ففي ظل الدول الزيدية التي قامت في مختلف البلدان عبر العصور عاشت المذاهب المختلفة معها مطمئنة آمنة، لا تخاف على عقائدها، ولا تجبر على ترك آرائها.

والزيدية جديرة بأن تكون دستور دولة لما تحمل من عقائد وقواعد تأهلها لذلك؛ فمن خلال الاجتهاد - مثلاً- استطاعت الزيدية أن تجعل الصدور واسعة رحبة، تتقبل الآراء المختلفة ما دامت من علماء مجتهدين واجتهادهم شرعي.

وأيضاً فإن من قواعد الزيدية الجمع بين الأدلة التي يكون ظاهرها التعارض، ولا يخالف واحد منها دليلاً قطعياً، وغيرها من القواعد التي يتسم بها المذهب الزيدي مما بها يُلمُّ شمل الأمة، ويزول تشتتها.

وبهذا يتحقق أن الزيدية دستور للشعوب، وقانون تعبر من خلاله المذاهب إلى الوحدة الإسلامية.

 

;

22-30-2019

للوفاء صورٌ مضيئة، ونماذج متألقة؛ وأهل الوفاء في كل زمان هم حماة الدين ورجال الإنسانية ومشاعل التضحية, لا يخافون من إظهار مواقفهم، ولا يترددون في حماية مبادئهم, وثورةٌ كثورة الإمام زيد (ع) لن تجد أنصارها ورجالها إلا من أطهر العباد وأزكى البشر.

لقد كانت ثورة الإمام الشهيد زيد بن علي عليهما السلام مشهداً من أجلى مشاهد العظمة، وصورة من أعظم صور التضحية، ووقعة من أجل وقعات البطولة؛ وفيها وقف مع الإمام زيد عليه السلام رجال أعادوا للإيمان قيمته في سجل المراتب، وبعثوا الوفاء من جديد، بعد أن دُفن بين الأصلاب والترائب.

لقد حمل أنصار الإمام زيد بين جوانهم أرواحاً تشبَّعت بحُبِّ الله وهامت في حبِّ رسوله ومحبة آهلِ بيته صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فسطرت أروع الملاحم البطولية في التضحية والفداء؛ ليصبحوا فيما بعدُ رموزاً خلَّدَها التأريخُ، وأمثلةً ماثلة لكلِّ حُرٍّ لا تسمح له نفسه بالاستكانة والخضوع، أرواحٌ نفضَت عن الأمة الإسلامية العارَ الذي تلطَّخت به عند تخلُّفها المشؤومِ عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يقول عنهم إمامهم زيد بن علي عليه السلام: ((وأنا أعلم والله إنه ما أمسى على وجه الأرض عصابة أنصح لله ولرسوله وللإسلام منكم)), ويصفهم سليمان الرازي: ((لم أرَ يوماً كان أبهى ولا أكثر جموعاً ولا أوفر سلاحاً ولا أشد رجالاً ولا أكثر قرآناً وفقهاً من أصحاب زيد بن علي)). وهنا نقف على نماذجَ مشرقةٍ من هذه التضحيات، ونقرأ في ثنايا سيرة بعض من عظمائهم دروس التضحية والفداء:

معاوية بن إسحاق الأنصاري

معاويةُ بن إسحاق بن زيد بن حارثةَ الأنصاري نموذجُ وفاءٍ وفداء، لم يرضَ بحياته أن تضيع في مغريات فانية، دون أن يعززها بمواقف خلدها في صفحات التأريخ، فها هو يضع لمسته الأخيرة في هذه الحياة في مُجابهةِ الظالمينَ تحتَ لواءِ الحقِّ، مُتفانياً مع أهلِ البيت(ع) في النُصرةِ والتلبية دونَ مبالاةٍ لعِظَيمِ صَلَفِ المتجبرين، وشديدِ بغيهم، جازماً ألا خيرَ في عيشةٍ تحت عباءة الظالمين.

انطلقَ معاويةُ بنُ إسحاقَ مع الإمام زيدٍ عليه السلام خلالَ تحركِهِ الثوريِّ، فكان له خيرَ ناصرٍ ومعين، وقد كان الإمامُ (ع) متخفياً في دارهِ أيام التحضير للثورة، وكان رضي الله عنه من دعاة الإمام إلى الآفاق يأتي العلماء, يدخلُ على النَّاسِ ويطوفُ البلدان داعياً إلى نصرة الإمام, بأحسنَ بيان.

لقد لازمَ معاوية بن إسحاق الإمام زيد عليه السلام في كل منعطفات الثورة، وشاركه في جميع أيامه, وكان معه خير ناصر وأجل صاحب, وحين بدأت المواجهةُ, قاتل أشدَّ قتال، وظلَّ مدافعاً عن مبادئه مجاهداً عن إمامه حتى نال رضوانُ الله عليه شرفَ الشهادة بعدَ صولاتٍ وجولاتٍ واستبسالٍ فذٍّ خاضهُ ضدَّ جيشِ هشامٍ، حتى عجزوا أن يبرزوا لهُ إلا اغتيالاً وبغتة؛ وما تلكَ إلا تجارةٌ فُتحت أبوابُها, فكان من السابقينَ لها في تفانٍ صادقٍ لنُصرةِ الدين، ولم يكتف الظالمون في قتل معاوية بن إسحاق بل عمدوا إلى جسدِه الطاهر ونصبُوهُ مصْلوباً معَ إمامِه زيد, وكأنَّ الأحداثَ أرادَتْ أنْ تقولَ بلسانِ ابن إسحاق: والله ما تركتك يا أبا الحسين حياً ولا مصلوباً بكناسة كوفان.

وهكذا هو حالُ أهلِ بيتِه الذين سِيقوا بعد ذلكَ الى قصر الإمارة؛ ليُحاكَموا على جُرمِهم في نُصرةِ الإمام زيدِ(ع)، وهم ليسوا أكثرَ من نساءٍ وأطفال، ولكنَّ ثباتَهم يصعقُ قائدَ الجيش الأموي ويجعلُه يشتاطُ غضباً ويزدادُ حقداً، فيأمرُ بزوجةِ ابن إسحاق لقطعِ يديها، الواحدة تلو الأخرى، لتلاقي ربَّها بعد ساعاتٍ من مُكابدة الألمِ، مُعاناةٌ لا توصفُ، لكنَّ التضحية بالنفس والمال عند النفوسِ المؤمنةِ أهونُ عليها من خذلانِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم في ابنه وسليله في مثل هكذا مواقف.

وفي معاوية بن إسحاق ورفيقه في البطولة نصر بن خزيمة يقول الشاعر:

ترى الخيل تبكي أن ترى الخيل لا ترى               معاوية الهندي فيها ولا نصرا

نصر بن خزيمة العنسي

نصر بنُ خُزيمةَ العنسي من أوائلِ الأوفياءِ وأشدِّهم صدقاً، وأمضاهم عزيمة مع الإمام زيد عليه السلام، وإن كان الوفاء رجلاً لكان نصرَ بن خزيمةَ, جبل من المعاني الكريمة, وكتاب من الصفحات النبيلة, سجلَّ تأريخاً حافلاً بمعارضة الظالمين منذ شبابه, يأبى الظلم ويكره الفسادَ ولا يخافُ في سبيلِ الحق صولةَ جبارٍ ولا سيفَ طاغية, ففي تاريخ دمشق لابن عساكر, قال: "عن سليمان بن زياد عن أخيه يحيى بن زياد قال: كان يوسف وفد أبي إلى هشام بن عبدالملك, فقدم علينا أبي من الشام ليلاً، فقال لنا: هل عندكم خبر؟ قلنا: لا. قال: على ذلك. فقلنا: لا؛ إلا أن زيداً مختفي بالكوفة، يقولون إنه يريد الخروج. قال: فمن صاحبُ أمره؟ قال: نصر بن خزيمة العبسي. قال: قاتل الله العباس بن الوليد. قلنا: وكيف ذكرت العباس بن الوليد؟ قال: أتيته مودعاً فقال لي: يا أبا يحيى اتقوا رجلاً من أخوالي بني عبس بالكوفة يقال له نصر بن خزيمة العبسي لا يجني عليكم حرباً."

وكان نصر يرجو في الإمام زيد عليه السلام الخروج ضد هشام، والثورة عليه، ويدعوه (وهو بمكة) للقدوم نحو الكوفة؛ ويحثه على التصميم على الثورة, يعيش أيامه منتظراً لداعي الحق, وما إن قدمَ الإمامُ زيد عليه السلام الكوفة حتى أنزله في داره, فكان نصر بن خزيمة سبَّاقاً في نُصرته، مقاتلاً بين يديه، لم يُزعزعهُ خذلانُ الخاذلين, ولا تَخلُّف المبايعين؛ فإنه رضوان الله عليه لما رأى تخاذل من بايع الإمام زيداً عليه السلام عن نصرته، وبقاءهم في جامع الكوفة، قامَ فيهم من خلفِ المسجدِ هاتفاً يستحثُّهم على الجهادِ، ويقول: "أن يا أهل الكوفةِ اخرجوا من الذلِ الى العزِ وإلى نعيمِ الدنيا والآخرة"؛ ولكن كان كلامه لهم دونَ جدوى؛ فالنفوسُ النائمةُ عن الحق نادراً ما تستيقظ.

نظر الإمامُ زيدُ بن علي عليهما السلام إلى نصر بن خزيمة الذي كان يحبه حباً شديداً، فقال له: (( يا نصر بن خزيمة, أخاف أهل الكوفة أن يكونوا قد فعلوها حسينية)), فنظر نصر بن خزيمة إلى إمامه وقال: (جعلني الله فداك, أما أنا فوالله لأضربن بسيفي حتى أموت), بعد ذلك انطلق نصر في ثنايا معركةٍ مفتوحةٍ مع جيشِ يوسف بن عمر، مُخترقاً لصفوفهم جنباً إلى جنبٍ مع الإمامِ زيد(ع)؛ مبلياً في سبيل ذلك أحسن البلاء.

ومن مواقف نصر بن خزيمة المشرفة أنه لما رأى المبايعين للإمام زيد (ع) في صبيحة اليوم الأول للمعركة قد تخلفوا, ذهب إلى قوم من قيس فحثهم على الجهاد وعاب عليهم التخاذل, فاستجابوا لدعوته وعادوا معه إلى إمامهم وقاتلوا بين يديه.

كما كان له رضوان الله عليه في أيام المعركة مواقف عظيمة, فقد قتل في اليوم الأول للمعركة أحد أبرز قادة العدو، وهو عمر بن عبدالرحمن صاحب شرطة الحكم بن الصلت, وقد حمل في يومها حملات على جيش يوسف بن عمر وهزمهم هزيمة قال عنها التاريخ أنها فضيحة.

زرع استبسال نصر بن خزيمة في قلوب العدو رعباً وهلعاً, فاستدعى يوسف بن عمر فارساً من فرسانه يقال له نائل بن فروة, وأعطاه سيفاً لا يمر بشيء إلا قطعه, فلما أبصر نائل نصراً ضربه على فخذه حتى قطعها, فضربه نصر حتى أرداه قتيلاً, وهنا يطوي نصر آخر صفحات الوفاء؛  ليترأسَ قافلةَ الاستشهاديينَ بعد عظيمِ تنكيلٍ بجيوشِ المجرمين, فلم يشفِ قتله يوسف بن عمر حتى بحث عن جثته وأمر بصلبها بجوار خشبة الإمام زيد عليه السلام؛ ليكون هو ومعاوية بن إسحاق رفيقي الإمام زيد (ع) في الاستشهاد والصلب والجنة، كما كانا رفيقيه في الدنيا.

القاسم بن كثير التنعي الحضرمي

القاسم بن كثير التنعي الحضرمي نسبة إلى حضرموت, فارس بقامة الشجاعة, ومقدام بحجم الاستبسال, وهو أوَّلُ شهيدٍ في المعركة, انتدبه الإمامُ زيد في لحظات المعركة الأولى لمهمة جليلة هي أشبه بمهمة الفداء, فحين فرض جيشُ بني أُمية حظرَ تجوالٍ على مدينة الكوفة, حتى يقطعوا سبل التواصل بين الإمام وأنصاره, كان لا بدَّ للإمام زيد أن يعلن لأنصاره عن بداية المواجهة, فكانت المهمة أن ينطلق فرسان الإمام إلى أحياء الكوفة وأسواقها لينادوا على الناس ببدء المعركة ويكسروا الحظر المفروض من قبل جيش هشام, وهي بالطبع مهمةٌ تحفُّها المخاطر, فلم ير الإمام زيد أحداً جديراً بتلك المهمة إلا القاسم بن كثير, فخرج القاسم إلى أحياء الكوفة وأسواقها ونادى بشعار الثورة "يا منصور أمت"، وهو شعار رسول الله في معركة بدر, إنه العبث بالموت وعدم الاكتراث بالمخاطر في سبيل الأهداف النبيلة والغايات السامية التي تجسَّدت في أنصار الإمام زيد وإنه عمق الإيمان الراسخ بالله إذا ما تمكن من النفوس.

اعترضت القاسم بن كثير كتيبةٌ من فرسان العدو بقيادة جعفر بن عباس الكندي, فشدُّوا عليه فقتل من أصحاب القاسم رجل, ونالت القاسمَ جراحاتٌ حتى ارتثَّ، فأُخِذ جريحاً إلى دار الإمارة, فأمر يوسف بن عمر أن تضرب عنقه على باب القصر.

فخرجت ابنته تبكيه وتقول:

 

عين جودي لقاسم بن كثير
   

 

بدرور من الدموع غزير
 

أدركته سيوف قوم لئام
     

 

من أولي الشرك والردى والثبور
 

سوف أبكيك ما تغنى حمام
     

 

فوق غصن من الغصون نضير
 

 

لم يكن القاسم الحضرمي الوحيد الذي أخذ جريحاً فقتل, فقد أُخِذ ضرام بن عبدالرحمن وبه جراحة في كفه، فأمر يوسف بن عمر بضرب عنقه, كما أخذ عيسى بن عتبة وبه جراحة، فأمر به فضربت عنقه, وهكذا كانت سياسة هشام بن عبدالملك, فبدلاً من أن يأمر بمداواة الجرحى ويعتبرهم أسرى حرب, كان يأمر أن يجهز على كل جريح؛

معمر بن خثيم

العلامة الراوي، والفاضل الفقيه معمر بن خثيم, من علماء العراق وفقهائها, وهو من رواة الحديث الموثوقين, ولقد جسَّد معمر بن خثيم العلم في ميدان العمل, فكان من أوائل المجاهدين بين يدي الإمام زيد, وهو من فرسان زيد ودعاته وكان رفيقه في الكوفة ورافقه إلى البصرة, ولقد بعثه الإمام إلى العلماء وإلى بعض المناطق يدعوهم إلى نصرته ويبين لهم أسباب ثورته, وكان هو وعبدالله بن الزبير الأسدي يُدخلان الناس على الإمام في مكان تخفيه في الكوفة قبل بداية المعركة.

عامر بن ربيع العذري

ومن رجال الوفاء رجل من عذرة, كان له مع الإمام زيد عليه السلام من عظيم الوفاء ما سطَّره التاريخ؛ فهو من قام إلى الإمام زيد عليه السلام, ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺃﺭﺃﻳﺖ ﺇﻥ ﻛﻨﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺤﻖ ﺃﻟﺴﺖ ﺃﻋﻈﻤﻨﺎ ﺃﺟﺮا؟!

 ﻗﺎﻝ: ﺑﻠﻰ، ﻗﺎﻝ: ﺃﺭﺃﻳﺖ ﺇﻥ ﻛﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺑﺎﻃﻞ ﺃﻟﺴﺖ ﺃﺛﻘﻠﻨﺎ ﻇﻬﺮا؟!

 ﻗﺎﻝ: ﺑﻠﻰ، ﻭاﻟﺬﻱ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ ﻫﻮ ﻳﺎ ﺃﺧﺎ ﻋﺬﺭﺓ ﻗﺎﺗﻞ ﻓﺈﻧﺎ ﻭالله ﻟﻌﻠﻰ ﺃﻫﺪﻯ اﻟﻬﺪﻯ، ﻭﺇﻧﻬﻢ ﻟﻌﻠﻰ ﺃﺑﻄﻞ اﻟﺒﺎﻃﻞ. فسلَّ عامرٌ ﺳﻴﻔﻪ، ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ:

 

نضرب عن زيد بكل صارم
 

 

ذي رونق يفري شئون الظالم
 

لست لكم ما كنت بالمسالم
 

 

يا نصرة الكفرة ذي المآثم
 

وجند عات ذي شفاة غاشم
 

 

أهل على الحبر ذي المكارم
 

وذي التقى والبر والمقاوم
 

 

أول من صلى لرب راحم
 

بعد النبي خير هذا العالم
 

 

ﺛﻢ ﺿﺮﺏ ﺑﺴﻴﻔﻪ وقاتل قتال الأبطال حتى نال وسام الشهادة رضوان الله عليه.

 

سلام بن المنير

سلام بن المنير من أنصار الإمام زيد عليه السلام وفرسانه الشجعان وخلص شيعته، وكان كاسمه "سلام على المؤمنين، ومنير لدروب أهل الوفاء"؛ خرج رضوان الله عليه بين يد الإمام زيد (ع)، وهو يرتجز:

 

أضربهم بالصارم الحذام
 

 

ضرب غلام أيما غلام
 

ضرب غلام ماجد قمقام
 

 

متوج بالجود والوسام
 

أشد شد الباسل الضرغام
 

 

على علوج نذل طغام
 

من أهل كوفان وأهل الشام
 

 

دون التقي السيد الهمام
 

زيد الحجا والبر والإقدام
 

 

ابن رسولٍ جا إلى الأنام
 

بالصدق من عند أولي الإنعام
 

 

لم يحفظوا إلاً ولا ذمام
 

 

 

القاسم الأزدي

أمر القائد الأموي الغشوم يوسف بن عمر بالبحث عن كل أنصار الإمام زيد (ع)، والنيل منهم بالحبس أو التعذيب أو القتل, كعقاب لهم على مواقفهم المشرفة, فكان ممن قبض عليهم القاسم الأزدي, فلما أحضر إلى مجلس يوسف بن عمر سأله يوسف: أكنت في من خرج مع زيد بن علي؟!

وقد ظن الطاغية يوسف أن أنصار زيد بن علي عليهما السلام يهابون الموت, أو ينكرون الفضيلة.

فأجابه القاسم بكل فخر واعتزاز: نعم, فأمر الطاغية أن يُضرب بالسياط, فضرب حتى ظن أنه ميت, فقال له: يا يوسف ما تقول لربك إذا التقيتُ أنا وأنت عنده غداً؟! هل تُقتل نفسٌ إلا بنفس؟ ألست سامعاً مطيعاً لك على حجة تستحل بها قتلي؟ الله الله يا يوسف فإن القصاص غداً, فلم يزد كلامه الطاغية إلا عتواً، وجرأة على الله عز وجل, فصرخ في جنوده "اقتلوه اقتلوه", فما زالوا به يضربونه حتى انتقل إلى ربه شهيداً رضوان الله عليه.

سلام الجعفي

سلام الجعفي أحد خلص أنصار الإمام زيد (ع)، وكانت له قصة قبل استشهاده, قصة قد تكون سبقت زمنياً ثورة الإمام زيد, لكنها بيان على عظيم تلك الثورة وسلامة منهجها, فيروى أنه رضوان الله عليه قال: قلت لأبي جعفر يعني الإمام الباقر: فداك أبي إني رجل أحبكم أهل البيت، فقال الإمام الباقر: رحمك الله, فقال سلام: ادع الله لي, فرفع الباقر يديه حيال الكعبة ثم قال: اللهم أحيه محيانا, وأمته مماتنا, واسلك به سبيلنا.

فلما كانت ثورة الإمام زيد عليه السلام خرج سلام الجعفي معه، فقاتل بين يديه حتى قتل رضوان الله عليه، فحقق الله رغبته، واستجاب لدعاء الإمام الباقر عليه السلام.

ربيعة بن حديد

لقد قدم ربيعة بن حديد نموذجاً فريداً للبصيرة في الجهاد في سبيل الله حين قام إلى الإمام زيد عليه السلام فقال: والله يا أبا الحسين لأقاتلن معك عدوك, فإن عدوك عدونا, ونحن والله أشد عليه حنقاً وعداوة, لما ارتكبوا من دمائكم, ومنعوا من حقوقكم, واستأثروا بالأمر دونكم, فنحن لهم مفارقون, ولأعمالهم مبغضون, فانهض بنا إليهم إذا شئت وعلى الله فليتوكل المتوكلون.

ثم نهض وجاهد جهاد الأبطال، وكان من الفرسان الشجعان, وهو يقول:

 

والله لا أرجع حتى أعذرا
 

 

أو أقتل المرء اللئيم الكافرا
 

 

ما كنت يا  بن الطاهرين أغدرا
 

 

أو أسقي الصعدة مني أحمرا
 

 

من شيعة الكفر أرجِّي الظفرا
 

 

وأنصر المتوج المطهر
 

 

ابن رسول الله ذاك الأزهرا
 

 

أفضل من هلل ربي الأكبرا
 

 

حتى أموت دونه وأقبرا

 

 

خباب السلمي

خرج الخباب السلمي مع الإمام زيد عليه السلام، وكان من فرسان العراق وأبطالها، وهو يقول:

 

إن تنكروني فأنا خباب
 

 

أذود بالسيف عن الأحباب
 

عن عترة التالي للكتاب
 

 

نبي صدق طاهر مجاب
 

معظم عند العلي الوهاب
 

 

خلفتموه يا بني الأوشاب
 

خلافة في معشر أياب
 

 

بني بنيه وبني الأصحاب
 

     

في أهله خلافة الذئاب
 

 

فأبشروا بالخزي والعقاب
 

 

 

حسان بن قايد البارقي

ومن أهل الوفاء حسان بن قايد البارقي، وهو الذي يقول:

 

لنا المصاص من صميم بارقي
 

 

أضرب فوق الرأس والمفارق
 

بصارم للهام منهم فالق
 

 

دون التقي ذي الحجى المصادق
 

وخير ذي سكت نعم وناطق
 

 

وخير من ينطق بالمناطق
 

أرجو رضا الله العلي الخالق
 

 

أضرب أنصار العتي المارق
 

جند كفور خاتر منافق
 

 

لست لكافريكم موافق
 

 

 

 

مواقف جماعية

لقد تعددت صور التضحية في أصحاب الإمام زيد عليه السلام, وأشرقت شمس العظمة من أنحاء الكوفة, وكأنَّ أنصار الإمام زيد (ع) أرادوا أن يوثقوا بمواقفهم الثمينة كل قيم الإنسانية ومعاني الوفاء، فكما كانت التضحية فرديةً فقد كانت جماعية أيضاً، فكان يخرج من الأسرة الواحدة الاثنان والثلاثة؛ لينصروا الإمام زيداً عليه السلام، ثم يستشهدوا بين يديه؛ وكان من أولئك العظماء الأخوة الثلاثة الذين جاهدوا واستبسلوا حتى نالوا الشهادة جميعاً، وهم: علي ومحمد وبشر, لقد بخل التاريخ بالحديث عن هؤلاء الأخوة كما بخل عن غيرهم إلا بذكر أسمائهم, لكنها صورة كافية وافية شافية تحكي عظيم الوفاء وجليل الفداء.

 ولم تكن هذه صورة وحيدة للعظمة, بل شهدت تلك الملحمة الجليلة أن يتقدم الأب والابن معاً، كما هو حال أبي حازم وابنه حازم, وكحال الحجاج ووالده اللذين حين لم يفلح العدو في قتلهما في المعركة, سارع لأخذهما بعد انتهاء المعركة، فقتلهما صبراً بجرم نصرة الإمام زيد (ع)، والثورة معه.

كما قدمت أسرة سالم العبسي اثنين من أبنائها، وهما: عوف وبشر؛ وعوف هو القائل في المعركة:

 

إن تعرفوني فأنا ابن عبس
 

 

أشجع من ليث حمى عن عرس
 

ليث هزبر الشدق خمر الخلس
 

 

يفترس الأعداء أي فرس
 

أفدي زيداً بأبي ونفسي
 

 

وطارفي وتالدي وعرسي
 

ياقوم جدوا في قتال النجس
 

 

فإنهم حقاً شرار الإنس
 

 

 

صميمُ إرادةٍ وعُنفوانُ ثباتٍ تقلدهما أصحابُ الإمام زيدٍ عليه السلام رغمَ قلتهم، وما كُلُ ذاكَ إلا حُب للهِ ولرسولهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وطمعاً في نعيمٍ أبديٍّ دونما اكتراث لشديدِ مُعاناةٍ جزموا بأنها لن تُقعدهم وبينَ أكُفهم أمثال عليٍ والحسين وزيد، و يبقى ذلكَ وفاء لا تُجاريهِ أرتالُ، وفداء لا تقوم له جبال.

;

18-34-2020

تميَّز فِكرُ الإمامِ الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهم السلام بوضوح الرؤى، والسعي الحثيث لاتباع الحق أينما كان، وممن كان، من خلال المنهجية التي سار عليها في إعمال الدليل ومناقشة المسائل، مجانباً لهوى النفس، والتعصب الجاهلي، مطلعاً على آراء الفرق المختلفة واستدلالاتهم، بل ومتفوقاً عليهم في معرفة مذاهبهم، بشهادة الأجلاء من علمائهم.

وفي كل لحظاته وسكناته نجِدُهُ عليه السلام كما قال صاحب سيرته: "كثير الفكر في صلاح أهل الإسلام، مظهراً للشفقة عليهم، والرحمة لهم"، "لا يفتأ عن عظتهم وإرشادهم، وأمْرِهم بطاعة الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".

لقد كان عليه السلام صاحب مشروع فكريٍّ تنويري مبنيٍّ على أسس وتعاليم الإسلام الحنيف، ينطلق فيه من الشعور بالمسؤولية ولزوم الواجب الديني.

ولنقرأ هنا شيئاً عن شخصيَّة الإمام الهادي عليه السلام الفكرية في عناوين مختصرة:

 

تراثه الفكري:

اشتغل الإمام الهادي عليه السلام بالجهاد في سبيل الله، ومحاربة البغاة والمفسدين، حتى قيل أنه عليه السلام كان لا يتمكن من إملاء مسألة إلا وهو على ظهر فرسه في أغلب الأوقات، ومع ذلك فإن اهتمامه بالجانب الفكري، وسعيه لنشر تعاليم الدين الصحيح، كان يشحذ لديه الهمَّة، ويوقد فيه العزيمة للتأليف والتدريس والردِّ على الشبه وحلِّ ما يُشكِل، ولأهمية مؤلفاته وقيمتها العلمية فقد حظيت بانتشار واسع وقبول بين علماء الإسلام قاطبة, ومن ذلك قال ابن حزم صاحب المحلى: "وليحيى هذا الملقب بالهادي رأي في أحكام الفقه قد رأيته لم يبعد فيه عن الجماعة كل البعد.. إلى آخره"؛ فخلَّف لنا عليه السلام مجموعة فريدة من المصنفات الثي أثرت المكتبة الإسلامية في مختلف الفنون.

فنجد له في الفقه باكورة من الكتب القيمة؛ من أشهرها:

  • كتاب (الأحكام في الحلال والحرام)، الذي جعله كما قال عليه السلام: "مستقصى، فيه أصول ما يُحتاج إليه من الحلال والحرام، مما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله ليعمل به ويتكامل عليه من ذكرنا".

وفي كل مسألة من مسائل هذا الكتاب نجد الإمام الهادي عليه السلام يحرص أشد الحرص على إظهار الحق، فيسرد الأدلة على صحة أقواله، وينزل الحجج منازلها، كما نجده يناقش الآراء ويبدد غياهبها حيثُ يحتاج الأمرُ إلى ذلك؛ كل ذلك بأسلوب علميٍّ راقي، ومنهجية بحثية فريدة.

وقد قال العلامة علي بن بلال عن كتاب الأحكام: " مَا أعلم لأحد من أهل بيت رسول الله كتاباً في الفقه أجمع وأكثر فائدة منه".

  • كتاب (المنتخب)، وهو من الكتب المشهورة، وقد سأله مسائله القاضي محمد بن سليمان الكوفي، وقد شمل جميع أبواب الفقه.
  • كتاب (الفنون)، وهو أيضاً مما سأله عنه القاضي محمد بن سليمان الكوفي، وقد شمل عدداً من أبواب الفقه. وله في الفقه غير هذه الكتب.

وفي علوم القرآن:

  • كتاب (تفسير القرآن)، في ستة أجزاء.
  • كتاب (معاني القرآن)، في تسعة أجزاء.

وفي العقيدة وغيرها نجد له الكثيرَ من الرسائل والردود القيمة؛ منها:

  • كتاب (البَاِلغ المُدْرِك) شرحه الإمام أبو طالب الهاروني
  • وكتاب (المنزلة بين المنزلتين)
  • وكتاب (مسائل الرازي)
  • وكتاب (تفسير الكرسي)
  • وكتاب (العرش والكرسي)
  • وكتاب (الرد على ابن الحنفية)
  • وكتاب (بوار القرامطة)
  • وكتاب (أصول الدين)
  • وكتاب (الإمامة وإثبات النبوة والوصاية)
  • وكتاب (الرد على الإمامية)
  • وكتاب (الرد على أهل صنعاء)
  • وكتاب (الرد على سليمان بن جرير)
  • وكتاب (تفسير خطايا الأنبياء)، وكتاب (جواب القمي)
  • وكتاب (الرد على المجبرة القدرية)
  • وكتاب (مسائل الحسين بن عبدالله الطبري)
  • و(مسائل الطبريين)

وله عليه السلام غيرها الكثير مما تركناه اختصاراً.

وفي أصول الفقه:

  • كتاب (القياس)، بحث فيه عن سبب افتراق الأمة، ومسألة استنباط الأحكام الشرعية، ومن هو الذي يجب اتباعه من أهل البيت، ومتى يختلفون، وغير ذلك.
  • كتاب (السنة)، ويتناول الرد على من زعم أن السنة ليست وحياً من الله، بل هي اجتهاد من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وله غير هذه المصنفات الكثير، وقد قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام بعد ذكر هذه المؤلفات: وقد تركنا قدر ثلاثة عشر كتاباً كراهة التطويل، وهي عندنا معروفة موجودة.

فيا له من تراث هائلٍ، وعلمٍ جمٍّ خلَّفه لنا الهادي إلى الحق عليه السلام، وأنار لنا به دياجير الظُّلَم، وأحيا ما انْدَرَسَ من معالم الدين.

 

اهتمامه بالحركة العلمية:

كان الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهما السلام رائد الحركة العلمية في منتصف القرن الثالث الهجري، فهو من حرص على إقامة الدروس العلمية، وإلقاء المسائل حتى في أشدِّ المواقف، وهو المصنف في شتَّى العلوم كما قدمنا، والمناقش لعلماء الفرق الأخرى، وتتجلى نظرته لأهمية العلم في قوله أن الله عز وجل "لم يغفر لأحد بالجهل، فالواجب عليه أن يكون عمره كله في طلب الخروج من الجهل إلى العلم".

وقد قال عنه العلامة محمد أبو زهرة: "عكف على الفقه يدرسه من كل نواحيه ومن كل مصادره وقام هادياً مرشداً يدعو إلى الله سبحانه إلى صراط مستقيم, فكان مرجعاً في الدين من كل الطوائف الإسلامية, والأمصار المختلفة يسألونه ويستفتونه وهو يرد عليهم برسائل قيمة أُثرت عنه يدافع فيها عن القرآن والسنة, ويبين الحق الذي يرد زيغ الزائغين".

ويدل على همته العالية في إثراء الحركة العلمية تنقله وارتحاله بين البلدان منذ بلوغه مرتبة الاجتهاد، وحضوره مجالس علمائها، فقد رحل إلى العراق؛ حيث حضر حلقة القاضي أبي خازم، فما جرت مسألة إلا خاض فيها، وذَكَرَ ما يختاره منها، ويحتج ويناظر؛ ثم ارتحل إلى آمل بطبرستان مع والده وبعض عمومته ومواليه، فالتفَّ الناسُ حوله، حتى كتب إليه وزير حكومة الإمام محمد بن زيد عليه السلام بأن ما يجري يوحش ابن عمك، فأجابه الهادي عليه السلام قائلاً: "ما جئنا ننازعكم أمركم، ولكن ذكر لنا أن لنا في هذه البلدة شيعةً وأهلا، فقلنا: عسى الله يفيدهم منا".

فأفاد عليه السلام أنه لم يأتِ إلا لإفادة الناس، وترسيخ معالم الدين.

قال الدكتور حمود الأهنومي في دراسة حول سيرة الإمام الهادي عليه السلام: "ويترجح أنه في تلك الرحلة التقى أبا القاسم البلخي (ت319هـ/931م) في آمل، لقاء الندِّ بالندِّ، والعالم بالعالم، وتناقش وإياه حول عدد من المسائل الأصولية التي كانت مثار النقاش في ذلك الوقت..".

وحين جاء الإمام الهادي عليه السلام إلى اليمن كان أول اهتماماته هو تعليم الناس، فكتب إلى عماله عهداً أمرهم فيه أن يكون أول أعمالهم هو تعليم الناس أساسيات الدين، من صلاة وغيرها، فقال فيه: "وآمركم من بعد ذلك بتعريف الرعية بحق الله، وتعليمها ما أوجب الله عليها من معرفته سبحانه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن المنكر والمظالم، وترك معاصي الله، والتعدي في أمر الله".

وكان عليه السلام يحثَّ الناس على طلب العلم، فكان يردد: "أين الراغب؟ أين من يطلب العلم؟ إنما يجينا مجاهد راغب في فضله متحرٍ ما عند الله لأهله، ولعمري إنَّه لأكبر فروض الله على عبده، وأحق ما كان من تقدمه يده، ولكن لو كان مع ذلك رغبة في العلم وبحث عنه لصادفوا من يحيى بن الحسين علماً جماً".

وسُمِع عليه السلام يقول: "قد عَفُنَ العلم في صدري، كما يعفن الخبز في الجرة إذا طرح بعضه على بعض في جرة ثم لم يقلب".

والإمام الهادي إلى الحق عليه السلام هو الذي طوى القرامطة - الذين عُرفوا بمذهبهم المخالف للدين والفطرة السليمة- من أكثر مناطق اليمن، فكان هو الهادي اسماً وعملاً؛ وصدق ولم يغلُ من قال: "لليمن نعمتان، نعمة الإمام الهادي، ونعمة العالم جعفر بن عبد السلام فلولا الهادي لكانت اليمن قرمطية, ولولا ابن عبدالسلام لكانت مطرفية".

قال الدكتور حمود الأهنومي: "وفي آخر عمره همَّ بالتفرُّغ أكثر لتدريس ونشر العلم، فحالت المنية بينه وبين ذلك، وربما كان تحرك تلامذته في نشر علمه بعد موته - كما سيأتي- كان استجابة وتلبية لرغبة أو وصية شيخهم الإمام الهادي.

وكان طيلة عهده في اليمن لا يفتأ عن تعليم الناس ووعظهم، بل كان يعد تعليم الرعية فرضاً من الله على إمام الأمة..".

إلى أن قال:" كان تدريس العلم ضمن يومياته التي كان يلتزم بها، فقد كان يجلس ما بين الصلوات، فيعظ الناس، ويعلمهم فرائض الدين، وفرائض المواريث، بل وكان من ضمن أعماله المستمرة أنه كان يقف على الحبس، ويأمر بتعليم المحبوسين، ويأمر القارئ من السجناء بتعليم من لا يقرأ منهم، وكان يبعث الدعاة والمعلِّمين إلى الآفاق، حتى أنه بعث أو كلَّف دعاةً ومبصِّرين ومعلِّمين ومفقِّهين في بلاد بعيدة عن اليمن، كطبرستان، وكان يعد ذلك من صفات الإمام العادل الذي يكون مفرِّقاً للدعاة في البلاد، غير مقصر في تأليف العباد".

وحين عاد الإمام الهادي عليه السلام إلى موطنه بجبل الرس، خارجاً من اليمن بعد أن رأى تثاقل أهلها عن إقامة الحق، فأقام في المدينة على التدريس والنظر في الحلال والحرام والسنن والأحكام والآثار والأخبار مجداً له مواظباً عليه.

ويدل على الحركة العلمية الكبيرة التي أقامها الإمام الهادي عليه السلام انتشار علمه وفقهه داخل اليمن وخارجها، كما حكى ذلك الشهيد المحلي: "وطار فقهه في الآفاق، حتى صارت أقواله في أقصى بلاد العجم، يأنسون بها أكثر من أنس أهل اليمن بها، وعليها يعتمدون بها يفتون ويقضون".

ويلخص ذلك كله ما وصفه به ولده المرتضى عليه السلام بعد وفاته أمام جمع غفير من الناس: "كان لكم الهادي - رضي الله عنه- الناصحَ لكم، الحَدِبَ عليكم، كان والله حريصاً على إرشادكم، طالباً لإصلاحكم، مؤثراً لكم، حاملاً لكم على ما فيه نجاتكم، داعياً لكم إلى ما يقربكم إلى الله، زاجراً لكم عما يبعدكم منه".

وقد تجلت ثمرة الحركة العلمية للإمام الهادي إلى الحق عليه السلام بصلاح الرعية، واستقرار أوضاعهم، وانتهاء الفتن، وانتشار مذهب العدل والتوحيد، بالإضافة إلى العدد الكبير من العلماء والفضلاء الذين تتلمذوا على يديه، كولديه الناصر والمرتضى، وأخيه عبدالله بن الحسين، وكالعلامة عبدالله بن الحسين الطبري، والعلامة الكبير إبراهيم بن إسحاق، والعلامة إبراهيم بن محسن بن الحسين العلوي، والعلامة جعفر الطائي الوقار، وكالعلامة عبدالله  بن أحمد التميمي، والعلامة عبدالله بن عمر الهمداني، وكالعلامة الحافظ علي بن الحسن بن أحمد بن أبي حريص، والعلامة علي بن سليمان الكوفي، والعلامة الحافظ علي بن العباس بن إبراهيم، والعلامة أبي القاسم الرازي، والعلامة الكبير محمد بن سليمان الكوفي، والعلامة محمد بن عبدالله الحنبصي، ولا ننسى العالم الرباني والمناظر المتمكن أحمد بن موسى الطبري، فإنه كان من أبرز تلامذته، وغير هؤلاء الكثير ممن برزوا في العلم والفضل.

 

المذهب العقائدي عند الإمام الهادي (ع)

كان مذهب الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام العقدي الطريق الحق هو المذهب العدل، مذهب آبائه الأكرمين عليهم السلام، لا يختلف عنهم في الأصول، ولا فيما أجمعوا عليه؛ فهو القائل بتوحيد الله سبحانه وتعالى وعدله، المصدق بوعده ووعيده، المؤمن بالنبوة، والمثبت للإمامة في علي بن أبي طالب عليه السلام وذريته من أولاد الحسنين، والمعتقد بوجوب الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، وتجريد السيف على من عَنَد عن دين الله.

وله عليه السلام الكثير من الكتب والرسائل التي دون فيها معتقداته واحتج لها، واستدل على صحتها، وله الردود الكثيرة على أهل المعتقدات الفاسدة، فلم يكن جهاده عليه السلام يقتصر على السيف، بل خاض - أيضاً- حرباً فكرية لا تقل - إن لم تكن أكثر- أهمية، حتى نفى المذاهب الردية، وأظهر مذهب العدل والتوحيد في كثير من المناطق داخلَ اليمن وخارجها.

ويتجلى مذهبه في توحيد الله بقوله: "إنا ندين بأن الله واحد أحد، ليس له شبه، ولا نظير، ولا مثل، ولا عدل، ولا كفؤ في وجه من الوجوه، ولا معنى من المعاني، وأنه ليس بذي صورة، ولا حد، ولا غاية، ولا نهاية، ولا بذي أجزاء ولا أعضاء، ولا بعضه غير بعض، ولا يقع عليه الطول والعرض، ولا يوصف بالهبوط، ولا الصعود، والتحرك، والسكون، والزوال، (والعجز، والهرم، والجهل)، والانتقال، والتغير من حال إلى حال"؛ إلى آخر كلامه الصريح.

ويرى عليه السلام: "أول ما يجب على العبد أن يعلم أن الله واحد أحد، صمد فرد، ليس له شبيه ولا نظير، ولا عديل، ولا تدركه الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك أن ما وقع عليه البصر فمحدود ضعيف، محويٌّ محاط به، له كُلٌّ وبعضٌ، وفوقٌ وتحت، ويمين وشمال، وأمامٌ وخلفٌ، وأن الله لا يوصف بشيء من ذلك، وهكذا قال لا شريك له: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:1ـ4]، والكفو فهو المِثل والنظير والشبيه، والله سبحانه ليس كمثله شيء،..".

كما يرى عليه السلام وجوب الاعتقاد بعدل الله سبحانه وتعالى، فيقول: "ثم يَعْلَمَ أنَّه عزَّ وجلَّ عدلٌ في جميع أفعاله، ناظر لخلقه، رحيم بعباده، لا يكلفهم ما لا يطيقون، ولا يسألهم ما لا يجدون، و{لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وإن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40]، وأنه لم يخلق الكفر ولا الجور ولا الظلم، ولا يأمر بها، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يظلم العباد، ولا يأمر بالفحشاء، وذلك أنه من فعل شيئاً من ذلك، أو أراده أو رضي به، فليس بحكيم ولا رحيم، وإن الله لرؤوف رحيم، جواد كريم متفضل، وأنه لم يحل بينهم وبين الإيمان، بل أمرهم بالطاعة، ونهاهم عن المعصية، وأبان لهم طريق الطاعة والمعصية، وهداهم النجدين، ومكنهم من العملين، ثم قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}".

ويرى عليه السلام أن مذهب الجبر والتشبيه كارثة على الإسلام، ويتشدد على من يعتقد بها، ويحرم ذبائحهم؛ لما في هذين المعتقدين من الخطر العظيم ونسبة ما لا ينبغي ولا يجوز ولا يعقل إلى الله عز وجل، ولما فيهما - أيضاً- من الضرر الكبير على المسلمين، وقد قال في وصف هذا الضرر: "وقوم يقولون على الله بالجبر والتشبيه، وينفون عنه العدل والتوحيد، وينسبون إليه عز وجل أفعال العباد، ويقولون: إن هذا الذي نزل بهم بقضاء وقدر، ولولا أن الله قضى عليهم بهذا الظلم الذي نزل بهم من هؤلاء الظالمين، ما إذاً قدر الظالم أن يظلمهم، غير أن هذا الظلم مقدَّر عليهم عند الله على يدي هذا الظالم، فإذا كانت معرفتهم هذه المعرفة، وكان معبودهم هذا الذي يزعمون أنهم يعبدونه هذا فعله بهم، فمتى يصل هؤلاءِ إلى معرفة الخالق، ومتى يدعونه، ويستعينون به على ظالمهم؟! إنما هم يدهون هذا الذي يزعمون أنه قضى عليهم بهذا الظلم وقدَّره،...، وعلى هذا النحو أسلمهم ربهم، وتركهم من التوفيق والتسديد، وخذلهم، ولم ينصرهم على ظالمهم".

ومع هذا فلم ينقل عنه عليه السلام أنه حاكم أو عاقب أيَّ أحد ممن يعتقدون بهذه المعتقدات الفاسدة، لأجل اعتقادهم بها، بل كان يكتفي بالمواجهة الفكرية من خلال المناقشة لهم، وكتابة الردود والرسائل، والسعي لنشر فكر أهل البيت عليهم السلام الخالي من المعتقدات الباطلة؛ ومؤلفاته عليه السلام الكثيرة في أصول الدين خير شاهد على ذلك.

ووعدُ الله سبحانه للمؤمنين بالنعيم الأبدي، ووعيده للعصاة بالخلود في نار جهنم أبد الأبد، مما يدين به إمامنا الهادي إلى الحق عليه السلام، ويرى وجوب العلم به، فيقول: "ثم يجب عليه أن يعلم أن وعده ووعيده حق، من أطاعه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار أبد الأبد، لا ما يقول الجاهلون من خروج المعذبين من العذاب المهين إلى دار المتقين، ومحل المؤمنين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، ويقول: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}[المائدة:37]، ففي كل ذلك يخبر أنه من دخل النار فهو مقيم فيها غير خارج منها، فنعوذ بالله من الجهل والعمى، ونسأله العون والهدى، فإنه ولي كل النعماء، ودافع كل الأسواء".

ويعتقد الإمام الهادي عليه السلام ويدين بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أمير المؤمنين علي عليه السلام، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم يكون الأمر بعد ذلك في ذريتهما عليهما السلام، فيقول: "ثم يجب عليه أن يعلم أن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، ووصي رسول رب العالمين، ووزيره وقاضي دينه، وأحق الناس بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأفضل الخلق بعده، وأعلمهم بما جاء به محمد، وأقومهم بأمر الله في خلقه، وفيه ما يقول الله تبارك وتعالى: {إنما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، فكان مؤتي الزكاة وهو راكع علي بن أبي طالب دون جميع المسلمين".

ويرى عليه السلام أن الأمر بعد ذلك في ولده الحسن، ثم الحسين، ثم في ذريتهما عليهما السلام، كما قال عليه السلام: "ثم يجب عليه أن يعلم أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحبيباه، وأنهما إماما عدل، واجبة طاعتهما، مفترضة ولايتهما..".

إلى أن قال: "ثم يجب عليه أن يعلم أن الإمامة لا تجوز إلا في ولد الحسن والحسين؛ بتفضيل الله لهما، وجعله ذلك فيهما، وفي ذريتهما، حيث يقول تبارك وتعالى: {وَإذ ابْتَلَى إبراهيم رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماما قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]..".

إلى أن قال عليه السلام: "ثم قال: {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7]، وقال النبي صلى الله عليه وآله: ((إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض))، وقال سبحانه: {إنما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33]، فبين الأمر سبحانه فيهم وأوضحه، {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء:165]، ومحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وكذلك ذريته".

ويصرح عليه السلام بنظرته لأهل بيت النبوة عليهم السلام بقوله: "والحمد لله، وأنا متمسك بأهل بيت النبؤة، ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي، ومعدن العلم وأهل الذكر، الذين بهم وُحِّد الرحمن، وفي بيتهم نزل القرآن، والفرقان، ولديهم التأويل والبيان، وبمفاتيح منطقهم نطق كل لسان، وبذلك حث عليهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: ((إني تارك فيكم الثقلين لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، مثلهم فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)) فقد أصبحوا عندي بحمد الله مفاتيح الهدى، ومصابيح الدجى، لو طلبنا شرق الأرض وغربها لم نجد في الشرف مثلهم. فأنا أقفوا آثارهم، وأتمثل مثالهم، وأقول بقولهم، وأدين بدينهم، وأحتذي بفعلهم".

ويؤكد عليه السلام على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه من معتقداته، فيقول: "وندين بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن نصر المظلوم والأخذ على يد الظالم فرض لازم، وحق واجب، لأن في ترك الأمر بالمعروف للحق إماتةٌ، وفي ترك النهي عن المنكر للباطل حياةٌ، ولذلك أوجبه الله على عباده، وفرضه عليهم فرضاً، بكل ما أمكنهم ولذلك قال ربُّ العالمين: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة: 2]، وقال: {قَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات: 9]، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[التوبة:71] مع آيات كثيرة تدل على ما قلنا، وتصحح ما شرحنا".

هذه عقيدة الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهما السلام، التي صرح بها في كتبه ورسائله، واحتج لها؛ ومن طالع مؤلفاته عليه السلام وجد من ذلك ما يثلج الصدور.

 

المذهب الفقهي عند الإمام الهادي (ع)

يعتبر فقه الشريعة الإسلامية الترجمة العملية للعبودية لله سبحانه وتعالى، والوسيلة المثلى للإنسان المؤمن ليكون أكثر ارتباطاً بخالقه والمتفضل عليه، وهو السبيل لتنظيم حياة الإنسان مع نفسه ومجتمعه، فالفقه قد رسم له كل شيء في حياته حتى كيفية التعامل مع المخلوقات الصماء البكماء؛ ومن هنا كان لهذا العلم أهمية كبيرة عند علماء المسلمين، تأليفاً، وبحثاً عن الأدلة، واستنباطاً للأحكام.

وفي هذا الميدان برز الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهما السلام كواحدٍ من أئمة الفقه الذين شحذوا أقلامهم للتصنيف في علم الفقه، فشمل جميع أبوابه، وفصَّل مسائله، فكان عليه السلام مرجعاً لجميع الطوائف، وقد قال عنه الدكتور محمد أبو زهرة: "عكف على الفقه يدرسه من كل نواحيه ومن كل مصادره وقام هادياً مرشداً يدعو إلى الله سبحانه إلى صراط مستقيم, فكان مرجعاً في الدين من كل الطوائف الإسلامية, والأمصار المختلفة يسألونه ويستفتونه وهو يرد عليهم برسائل قيمة أُثرت عنه يدافع فيها عن القرآن والسنة, ويبين الحق الذي يرد زيغ الزائغين".

ومن أشهر مؤلفاته عليه السلام في هذا الفن - كما قدَّمنا- كتاب "الأحكام في الحلال والحرام"، وكتاب "المنتخب"، وكتاب "الفنون".

وقد تميز فقه الإمام الهادي عليه السلام بعدد من المميزات؛ منها:

  • أنه نبع من ذات الدليل، واعتمد على وضوح البرهان، فنشأ في أجواء حرة بعيداً عن تأثيرات الدول وإملاءات الحكام، حتى قال عنه الإمام المؤيد بالله عليه السلام - وهو أحد فرسان الفقه ومجتهدي الزيدية-: "كنا نهاب نصوص يحيى كما نهاب القرآن"، وقد شهد له أيضاً علماء المذاهب الأخرى، كابن حزم صاحب المحلى، فقال: "وليحيى هذا الملقب بالهادي رأي في أحكام الفقه قد رأيته لم يبعد فيه عن الجماعة كل البعد.. إلى آخره".
  • أنه لم يلجأ إلى التقليد في ما لم يوجد له نص صريح، بل اعتمد على نظره واجتهاده، كغيره من علماء أهل البيت عليهم السلام، وأئمة المذاهب الأخرى الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد.
  • أنه لم يأتِ بالمسائل الفقهية من واقع الدليل فحسب، بعيداً عن الواقع العملي الذي يعيشه الناس، بل جمع بين فقه الأدلة وفقه الواقع، ولذلك نجده في مؤلفاته الفقهية يستخدم أسلوباً يتناسب مع أهل زمانه، ويتكلم بلغة قريبة إلى أفهامهم.
  • أنه لم يختلف مع من سبقه من علماء أهل البيت عليهم السلام في أكثر المسائل، ولذلك نجده في كتاب "الأحكام" يأتي بقوله الفقهي، ثم يؤيده بقول جده نجم آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر المسائل، ولا نجد بينهما اختلافاً.

ونجد أن الإمام الهادي عليه السلام لم يكن بعيداً عن الآراء الفقهية لعلماء المذاهب الأخرى، بل كان أعلم بها من أهلها بشهادة علمائها، ولا يرى في اجتهاداتهم الفقهية جرماً يعادون أو يقاطعون لأجله، وأنها مسائل فرعية لا يضرُ الاختلاف فيها، ويدل على ذلك ما روي عن السيد أبي طالب عليه السلام بإسناده عن أبي الحسين الهمداني وكان رجلاً فقيهاً على مذهب الشافعي، يجمع بين الفقه والتجارة، قال: "قصدت اليمن وحملت ما أتجر فيه هناك ابتغاء لرؤية الهادي -عليه السلام- لما كان يتصل بي من أخباره فلما وصلت صعدة قلت لمن لقيت من أهلها: كيف أصل إليه؟ وبم أصل؟ وبمن أتوسل؟ فقيل لي: الأمر أهون مما تقدَّر، ستراه الساعة إذا دخل الجامع للصلاة بالناس، فإنه يصلي بهم الصلوات كلها، فانتظرته حتى خرج للصلاة فصلى بالناس وصليت خلفه، فلما فرغ من صلاته تأملته فإذا هو قد مشى في المسجد نحو قوم أعِلاء في ناحية منه فعادهم، وتفقد أحوالهم بنفسه، ثم مشى في السوق وأنا أتبعه فغيرَّ شيئاً أنكره، ووعظ قوماً وزجرهم عن بعض المناكير، ثم عاد إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه من داره للناس، فتقدمت إليه فسلمت فرحبَّ بي، وأجلسني وسألني عن حالي ومقدمي، فعرَّفتُه أني تاجر، وأني وردت هذا المكان تبركاً بالنظر إليه، وعرف أني من أهل العلم فأنس بي.

وكان يكرمني إذا دخلت إليه إلى أن قيل لي في يوم من الأيام هذا يوم الظلامات وإنه يقعد فيه للنظر بين الناس فحضرت فشاهدت هيبة عظيمة ورأيت الأمراء والقواد والرحالة وقوفاً بين يديه على مراتبهم.

وهو ينظر في القصص ويسمع الظلامات، ويفصل الأمور فكأني شاهدت رجلاً غير من كنت شاهدته، وبهرتني هيبته، فادعى رجل على رجل حقاً فأنكره المدَّعى عليه وسأله البينة، فأتى بها فحلَّفَ الشهود؛ فعجبتُ من ذلك.

فلما تفرَّق الناس دنوت منه، وقلت له: أيها الإمام، رأيتك حلَّفتَ الشهود. فقال : هذا رأي آبائي تحليف الشهود احتياطاً عند التهمة، وما تنكر من هذا، وهو قول طاووس من التابعين، وقد قال الله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا}[المائدة:107].

قال: فاستفدت في تلك الحال منه مذهبه، وقول من قال به من التابعين والدليل عليه، وما كنت قد عرفت شيئاً من ذلك..".

وقد حظي فقه الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام بعناية خاصة، فشرحت كتبه، وخُرِّجت آراؤه الفقهية، ودرِّست في بلاد اليمن وبلاد الجيل والديلم، ولا زالت تدرَّس في اليمن إلى يومنا هذا.

 

الأدب والشعر في ثقافة الإمام الهادي (ع)

كان للإمام الهادي إلى الحق عليه السلام حضه الوافر من الأدب العربي والشعر الفصيح، فهو الشاعر المتمكن، والأديب الأريب الذي شهر يراعه وسيفه معاً، فنصر بهما الحق، وأعاد للأمة مجدها؛ وقد جمع الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي عليه السلام عدداً من روائع قصائده في كتاب "عيون المختار"، وشهد له بالتمكن والبراعة، فقال بعد أن نقل قصيدته الرائية إلى ولده المرتضى ما لفظه: " ولله دره ما أبلغها وأروعها وأبرعها، ولم أجد لشيء من الشعر ما وجدت لها من الرقة والتحنن واللطافة والروعة والجزالة والبطولة والبراعة والعلم والحكمة، ولم أتأثر بشيء من النظم كما تأثرت بها".

ومن الملاحظ بوضوح أن الإمام الهادي عليه السلام لم يجعل تمكنه من هذا الفن أداة للتسلية والمتعة، ولكنَّه عاشه ثقافةً ينظم بها ثمين نصائحه للناس، ويدعوهم بها إلى القرب من الله سبحانه وتعالى، فنراه يقول:

إذا المرء لم يجعل رضا اللهِ ربِّه .... أمام رضاهُ خاب من كل جانبِ

وآب حسيرا قد تهتك ستره .... ولم ينجُ من مستفظعات النوائبِ

ويعبر بالنظم عن موقفه من الحقِّ، ورسوخه عليه، وأنه الأمر الثابت الذي لا يمكن أن يتزحزح عنه مهما حصل، فيقول:

ولست بتارك للحق حتى .... يطاع الواحد الفرد الودودُ

ونحكم بالكتاب بكل فجٍّ .... ويرجع عن تعديه العنيدُ

ولست بخاشع يوماً لحرب .... وإن خشعت لهيبتها الأسودُ

ولست بقائل ما دمت حيا .... كما قد قال في الحرب الرقودُ

أخو الفسق الدوانيقي لما .... تداخل قلبه الرعب الشديدُ

تفرقت الظباء على خداش .... فما يدري خداشٌ ما يصيدُ

ونراه عليه السلام يتحسر على حال الدين، وكيف أن الناس قد غفلوا عن إقامته، ويتعجب من ذلك، فيتجلى ذلك في شعره، فيقول:

دعوت الناس كلهم لحق .... وأكثرهم عن التقوى يحيدُ

ويقول في قصيدة أخرى:

نام الخلي وعينُ الدين في تعب .... غطت عليها ولاة الجوْر بالحجبِ

والناس في غفلة عما أصيب به .... آل الرسول فكل غير مكتئبِ

حتى نهضت لدين الله محتسبا .... والله يعطي جزيلاً كل محتسبِ

إذ لا أرى ثائراً لله ينصره .... ولا نكوفا لدين الله ذا غضبِ

كيف القرار وقد أضحت معالم ما .... سن الرسول كحد الصارم الجدبِ

أم كيف يرضى بسوم الخسف ذو كرم .... ممن له حسب قد صين بالأدبِ

ونراه في جانب آخر يستخدم النظم كوسيلة لحثِّ الناس على الجهاد في سبيل الله، وتشجيعهم لمواجهة العدو، وتصبيرهم على ذلك، فيقول:

فما العز إلا الصبر في حومة الوغا .... إذا برقت فيها السيوف اللوامعُ

ومن لم يزل يحمي ويَنْقِم ثاره .... ومن هو في الحالات يقظان هاجعُ

يقلب بطن الرأي فيه لظهره .... ويمضي إذا ما أمكنته المقاطع

ونحن بقايا المرهفات وسورها .... إذا كان يوم ثائر النقع ساطعُ

يموت الفتى منا بكل مهند .... وأسمر مسنون الشبا وهو دارعُ

فتلك منايانا وإنا لمعشر .... من الناس في الدنيا النجوم الطوالعُ

ويستنهض الهمم، ويشيد بمن ينصره لإحياء الكتاب والسنة، فيقول:

يا حي وادعة الكرام تأهبوا .... في الدين إن عليكم إدلالي

وبكم أصول على العدو لأنكم .... أنتم يميني في الوغى وشمالي

ويقول في قصيدة أخرى:

وسرتُ في حيِّ همدانٍ ويشفعُها .... خولان أهل النُّهى في جحفل لَجِبِ

وحاشد وذوي الأحلاف قاطبة .... والصِّيد صيد ثقيف ساعة الغضبِ

حزب النبي وحزبي بعده فلهم .... حظان لم يُجمعا يوما لمكتسبِ

جزاهم الله عني كل صالحة .... وحاطهم من شقى الأغلال واللهبِ

وكتب عليه السلام قصيدة إلى الدّعام بن إبراهيم الأرحبي يحثه على الجهاد في سبيل الله ويَذْكُرُ سوابق همدان مع أمير المؤمنين وأخي سيد المرسلين صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين، قال فيها:

انهض فقد أمكنتنا فرصة اليمنِ .... وَصِلْ فضائلَ كانت أولَ الزمنِ

وسابقاتٍ وإكراماً ومكرمة .... كانت مع الطاهر الهادي أبي الحسن

ويوم صفين والفرسان مُعلَمةٌ .... تخوض في غمرات الموت في الجشن

والروع حام ويوم النهروان لكم .... والنقع مرتفع بالبيض والحُصُن

ونصرهم لأمير المؤمنين على .... محض المودة والإحياء للسننِ

وقم فزد شرفاً يعلو على شرف .... في حي همدان والأحياء من يمنِ

ففيك ذاك بحمد الله نعرفه .... إذ أنت ليث الوغى في السلم والفتنِ

واستغنم الأمر نهضاً يا دعام له .... ما دام روح حياة النفس في البدنِ

كما أنه عليه السلام ينظم رسائل التهديد والوعيد لأئمة الجور، من ذلك أنه كتب مخاطباً لولاة الجور من بني العباس المقيمين بأرض العراق:

ألا أبلغ ولاة الجور عني .... مقالة صادق فيما يقولُ

بأني إن سَلِمت لكم قليلا .... وتنسيني منيتي العجول

تروني في كتايب مرغمات .... لأنفكم إذا حضر الصقيلُ

 

وهنا نرى أن الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام عاش مع الأدب والشعر، كما عاش مع السيف، مجاهداً بهما في سبيل الله، متكئاً عليهما لإصلاح ما اعوجَّ من أمر الأمة الإسلامية، ناصحاً، ومربياً، وداعياً لنصرة الحق.

 

 

 

;

21-32-2020

في رحاب الهادي إلى الحقِّ عليه السلام يعجز اللسان، ولا يفي المقام، وتبقى الكلمات تقدِّم وتؤخِّر، لا تشككاً وارتياباً، ولكن هيبةً ورهبة؛ كيف لا؟! وهي بروضةٍ غنَّاء، وجَنَّة ذات أفنان، قد حوت بديعاً يجِلُّ وصفُه، وبهاءً يصعب نيلُه.

هنا حيثُ نطقت الأخلاق، وفاح أريجها، وطابت الأرومات، وباهت فروعُها، في مقام الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام، سيدِ الخُلُق، وممثِّلِ الفضائل، من نبت من بذرة الدين، ونَهَلَ من معين المتقين، وتربَّى في رحاب الطاهرين، فنشأ مؤمناً برَّاً تقيَّاً، متحلِّياً بمكارم الصفات، وعظيم السجايا، قد تشرَّبَ العلم، ونطق بالهدى، واتشح بالنور الذي لا يبلى.

ذلك الهادي إلى الحق {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.

لقد جمع عليه السلام الخصال الحميدة، والمناقب الكريمة، فكان إماماً سابقاً فاضلاً فقيهاً عالماً بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عاملاً بهما، ورعاً ديناً زاهداً ناصحاً جواداً سخياً كريماً مبرِّزاً في جميع الخصال المحمودة المقربة إلى الله جل جلاله.

لين الجانب

أن تجِدَ إماماً تدينُ له الأصقاع، وتخضع له البلدان, ويبلغ خبره ودولته مشارق الأرض ومغاربها، ثم تجده يخالطُ الناس، ويمشي في الأسواق، ويعود المرضى حتى من العبيد، فأنت بلا شك في حضرة الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام؛ وفي سيرته وتعامله يتجلى الفرق بين أئمة الحق وأئمة الجور الذين اتخذوا مال الله دولاً، وعبيده خولاً، وشتان ما بين الفريقين.

وليس ذلك مبالغة أو مزايدة أو انتصاراً للهادي عليه السلام، بل هو عين الحقيقة، وشهادة التاريخ، فهو من جسَّد بتعامله مع الناس خُلُقَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتمثل آدابه، وسار بسيرته، فكل مسكين يستطيع أن يصل إليه، وكلُّ ذي حاجة لا يصعب عليه إبلاغه حاجته، فهو مَلِك بغير حُجَّاب، وسلطانٌ لا تحول بينه وبين الرعية أستار ولا أبواب، يأكل كما يأكل الفقراء أو أقلَّ من ذلك، ويمشي بين الناس كأنه واحد منهم دونَ حشمٍ ولا جنود، ومن غير تكبر ولا تجبر.

لقد جعل عليه السلام التواضع دثاره، فإذا كان في مجلسه أدنى منه الضعيف والفقير والصبي، ويأمر بذلك، وإذا خرج من منزله للصلاة أو لغيرها سلَّم على جميع من يمرُّ به من شريف أو دني أوفقير أو غني أو عبدٍ أو صبي، وكذلك كان جدُّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد روي أنه خرج عليه السلام ذاتَ مرة من المسجد بعد أن صلى بالناس، فاجتمع حوله جماعة من المساكين فصاحوا، فوقف ساعة معهم ثم أمر لهم بشيء، ففُرِّقَ بينهم.

وليس هذا فحسب، بل كان عليه السلام يبحث عن أهل الفاقة والحاجة، ويأمر من ينادي في الناس: أين الفقراء؟ أين المساكين؟ أين ابن السبيل؟ أين من له حاجة؟ هل من سائل فيعطى أو من طالب فتقضى حاجته؟

فيقضي عليه السلام لمن وَجَدَ منهم حاجاتِهم وسؤولهم.

وهكذا شمل ذلك الخُلق الرفيع سائر أفعال الهادي عليه السلام وأقواله، حتى كأنه جرى في دمه الطاهر، فهو من يعود الجرحى والمرضى ويمرِّضهم بنفسه، وهو المُعين للمظلوم المنتصف له، وفي الكرم هو الجواد بمعروفه، الباذل ما في يده، الذي يرى الضيافة من أسرِّ الأشياء إليه، ويتعهد ضيوفه بنفسه، حتى روي أنه كان إذا وضعت مائدته لم يبقَ خلق ممن يحظر في ذلك الوقت إلا دعاه إليها.

وقد روى محمد بن سعيد قال: رأيته يفتُّ الطعام للأيتام بيده ويثرده بالسمن، ثم يقول: أدخلوهم. ثم ينظر فمن كان منهم ضعيف المأكل قال: هذا مغبون. فيأكل مع المساكين ثم يعزل له، وكان لا يأكل طعاماً حتى يطعم المساكين منه، ثم يأكله بعد ذلك.

وروي أنه ذات مرة صلى العصر في المسجد فلما انصرف استقبلته امرأة فصاحت به: يا ابن رسول الله. فوقف، ودنت إليه فإذا هي عجوز، وأمسكت بثوبه، فزجرها بعض خدمه وانتهرها، فقال له يحيى بن الحسين: دعها.

فجعلت العجوز تكلمه وتشكوا إليه أنها مظلومة، وهو واقف معها حتى فرغت من كلامها، ثم صاح بأبي جعفر محمد بن سليمان الكوفي أن يمضي معها، ويستقضي في الحق لها فنفذ معها حتى أحضر خصمها وقطع ما بينه وبينها.

وبهذا الخلق النبوي العظيم تمكَّن الإمام الهادي عليه السلام من حرق المسافات التي وضعها حكام الجور بينهم وبين المحكومين، لدرجة أن الرعية تستطيع الوصول إليه في وقت متأخر من الليل، فيلبِّيهم، وينظر في حاجاتهم برحابة صدر، دون تكاسل منه أو تهاون؛ ومن القصص النادرة في ذلك ما حكى مصِّنف سيرته؛ قال: "رأيته ليلة وقد جاء رجل ضعيف في السحر يستعدي على قوم فدقَّ الباب، فقال: من هذا يدقُّ الباب في هذا الوقت؟

فقال له رجل كان على الباب: هذا رجل يستعدي، فقال: أدخله. فاستعدى فوجه معه في ذلك الوقت ثلاثة رجال يحضرون معه خصومه، فقال لي: يا أبا جعفر، الحمد لله الذي خصَّنا بنعمته وجعلنا رحمة على خلقه، هذا رجل يستعدي إلينا في هذا الوقت لو كان واحداً من هؤلاء الظلمة ما دنا إلى بابه في هذا الوقت مشتكٍ ثم قال: ليس الإمام منَّا من احتجب عن الضعيف في وقت حاجة ماسة".

ولقد حكى عنه بعض أصحابه، فقال: "ورأيته في مجلسه حليماً وقوراً لا يغضب من الكلام إذا كثر، ولا يضجر من المسائل إذا وردت إليه بل يرد جواب كل سائل بسكون وحلم وعلم".

وقال أيضاً: "ورأيته في مجلسه يدير بصره بين جلسائه يَمَنَةً ويسرة حتى يفهم كلُّ من حظر المجلسَ ما يقول، لا يخصُّ أحداً بجميع كلامه، صائناً لنفسه في مجلسه قليل الحركة لا يتكئ بين جلسائه ولا يستخف بهم، حسن الصمت إذا صمت بين الكلام، إذا نطق لا مهذراً في الكلام ولا عيياً في الجواب، ولا سكوتاً عما يحتاج إليه، إن تكلم ببيان، وإن سكت فبحفظ اللسان، لا يقوم عن جلسائه حتى يقوموا، وإن عرضت له حاجة صبر معهم حتى ينصرفوا، فعلمتُ بذلك أنه كان إذا لم يبقَ في مجلسه أحد قام لقضاء حاجته، فكنتُ أعلم أنه كان يحتاج للقيام قبل ذلك، فيمنعه من ذلك الكرم والأدب، وكذلك جاء في الأثر عن رسول الله (ص) أنه كان لا يقوم عن جلسائه حتى يتفرقوا".

وبهذه البساطة وهذا التواضع تملَّك الهادي عليه السلام القلوب، وأنس به القريب والبعيد، واطمأن بحضرته جميع الخلق؛ وكيف لا؟! وهو الشفيق على الخلق، الرفيق بهم، من يؤثر رعيته على نفسه، ويكرم نزلهم، ويتلطف بهم، ويعرف قدرهم، ويوصيهم بالتراحم والتواصل، وينهاهم عن البغي والتحاسد؛ فصلاة الله وسلامه عليه.

علمه

الهادي إلى الحقِّ عليه السلام من أئمة الهدى وأعلام التقى، الذين أورثهم الله علم الكتاب وأودع في صدورهم فهم أسرار القرآن. ((ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)) ((بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم))

وعلمية الإمام الهادي بقدر عالميته، ولهذا لا نستطيع أن نقيس علم الإمام الهادي بعدد مروياته ولا بكراريس مؤلفاته فحسب؛ لأنه فوق هذا قد شمله الحديث النبوي ((اللهم اجعل العلم في عقبي وعقب عقبي)) فهي دعوة نبوية ووراثة من ذي الخبير العليم.

كان الإمام الهادي منذ صباه وهو في خضمِّ حلقات العلم، ومجالس الذكر، مقبلاً على الدرس، مواظباً على النظر في الفقه، مثابراً على ذلك، تحوطه أسرةٌ علويَّة قد جعلت العلم زادها، فكان أفرادها بين أئمة وعلماء مجتهدين، فارتوى عليه السلام من علومهم، واقتبس من أنوارهم، حتى "بلغ من العلم مبلغاً يختار عنده ويصنف وله سبع عشرة سنة" كما حكاه ولده المرتضى عليهما السلام.

وكان بداية أخذه للعلم على يدي والده وعمه محمد بن القاسم عليهما السلام؛ وقد رأى جميعُ أهل بيت القاسم الرسيِّ في ذلك الوقت أن لهذا الفتى المُجِدِّ شأناً عظيماً ومكانة عالية، وظلَّتِ العيون ترمقه وهو يترقى في العلم من درجةٍ إلى أخرى، حتى بلغ مرتبة الاجتهاد وهو في سنٍّ مبكرة، وأصبح ممن يشار إليه بالبنان، وبلغت شهرته مشارق البلدان ومغاربها، وصار مقدَّماً عند كبراء أهل البيت في عصره.

وقد شهد له عليه السلام بسعة العلم كبار علماء المسلمين في مختلف الأقطار، كأبي خازم عالم أهل العراق، فحين قدم الهادي عليه السلام إلى العراق حضر مجلس أبي خازم، وجلس في غمار الناس، فلم تَعرِض مسألة إلا خاض فيها، وناقش أدلتها، وسرد الحجج لرأيه فيها، فدهش الحضور لِمَا رأوا من براعته وتمكنه وسعة علمه، فجعلوا يعتذرون إليه من التقصير.

وكذلك لمَّا خرج عليه السلام إلى طبرستان، واستقر في خان العلا أقبل إليه العلماء والفضلاء حتى امتلأ الخان وفاض بالناس، وليس ذلك إلا للمكانة العالية التي كان قد بلغها.

وقد روي عن علي بن سليمان أنَّه قال: حضرنا إملاء الناصر الحسن بن علي عليه السلام في مصلى آمل فجرى ذكر يحيى بن الحسين عليه السلام، فقال: بعض أهل الرأي ـ وأكثر ظني أنَّه أبو عبد الله محمد بن عمرو الفقيه ـ: كان والله فقيهاً. قال: فضحك الناصر، وقال: كان ذاك من أئمة الهدى!!

ولو نظرنا إلى طلب أهل اليمن منه عليه السلام القدومَ إليهم لتخليصهم مما هم فيه من البلاء والفتن، فسنعرف أنهم لم يقصدوه إلا لاشتهاره، وذيوع صيته، فندرك أن علمه وفضلَه وعلوَّ شأنه كانت قد وصلت إلى الآفاق.

إذن فقد كان الإمام الهادي عليه السلام من أوعية العلم، متبحراً في شتى الفنون، عارفاً بمختلف المذاهب والفرق، وقد سطر لنا التاريخ الكثير من الشهادات على ألسنة كبار العلماء، ومن أبرزهم أبو بكر بن يعقوب عالم أهل الري وحافظهم، فإنه سُمِع يقول حين ورد على الهادي باليمن: "قد ضل فكري في هذا الرجل ـ يعني يحيى بن الحسين عليه السلام ـ فإني كنتُ لا أعترف لأحد بمثل حفظي لأصول أصحابنا، وأنا الآن إلى جنبه جَذَع، بينا أجاريه في الفقه وأحكي عن أصحابنا قولاً، إذ يقول: ليس هذا يا أبا بكر قولكم، فأَرَادُّه، فيُخرج إليَّ المسألة من كتبنا على ما حكى وادعى، فقد صرت إذا ادعى شيئاً عنَّا أو عن غيرنا لا أطلب معه أثراً.

وفي مناظرة الإمام الهادي عليه السلام للمجبرة لمَّا افتتح صنعاء خيرُ شاهد على قوة حجته وتمكنه في العلم، وسرعة بديهته، وذلك أن علماء المجبرة أرادوا مراجعته، فقالوا: ما تقول يا سيدنا في المعاصي؟ فقال: ومن العاصي؟ فبقوا متحيرين في الفكر إن قالوا: العاصي الباري كفروا، وإن قالوا: العاصي من المخلوقين وافقوا كلام الهادي -عليه السلام-، فلما لم يجدوا جواباً دخلوا في مذهبه بتسعة أحرف، وقال مناظرهم: غلبني بأوجز من كلامي.

وقد شهدت له بغزارة علمه، وتبحره في العلوم، مؤلفاته الجمَّة ورسائله الكثيرة في جميع الفنون، والتي أصبحت عمدة عند العلماء، ومرجعاً لهم، ومنها: (كتاب الأحكام)، و(المنتخب)، و(الفنون)، و(كتاب التوحيد)، و(كتاب القياس)، وغيرها.

ولو أردنا الاسترسال في الحديث عن علم الإمام الهادي عليه السلام، لصعب علينا ذلك، ولما وجدنا لبلوغ الختام طريقاً، ولكن نجتزي بالقليل الذي ينبئ عن الكثير، ونكتفي بقطرة من الماء الغزير.

عبادته

لقد جمع الإمام الهادي في صفاته ما لا يجتمع في غيره في الظروف العادية، تماماً كجده علي بن أبي طالب عليهم السلام، والذي كان كما وصفه الشاعر:

هو البكاء في المحراب ليلاً  ***  هو الضحاك إن آن الضرابُ

 فبينما تجده في ساحات الجهاد الفارس الشجاع الذي ترتعد منه فرائص أعدائه، والبطلَ المجرَّب الذي تجبن عن لقائه سيوف أهل الباطل، تجده في نفس الوقت العابد المتنسك الخاشع الخاضع بين يدي الله تعالى، الذي يصوم أكثر أيامه، ويحيي أكثر لياليه تهجداً وصلاة وذكراً لله

والإمام الهادي كأئمة أهل البيت العظام علي وزين العابدين وزيد عليهم السلام، الذين جعلوا كل نفس وحركة في حياتهم عبادة لله تعالى، ويعتبرونها متنفساً لهم من كدر الحياة ولحظات وصل بينهم وبين معشوقهم سبحانه وتعالى.

حكى سليم وقد كان يلي خدمة الإمام الهادي، فيقول: كنتُ أتبعه حين يأخذ النَّاس فراشهم في أكثر لياليه بالمصباح إلى بيت صغير في الدار كان يأوي إليه، فإذا دخله صرفني فأنصرف، فهجس ليلة بقلبي أن أحتبس، وأتيت على باب المسجد أنظر ما يصنع.

قال: فسهر عليه السلام الليل أجمع ركوعاً وسجوداً، وكنت أسمع وقع دموعه صلى اللّه عليه ونشيجاً في حلقه، فلما كان الصبح قمت فسمع حسي، فقال: من هذا. فقلت: أنا. فقال: سليم ما عجل بك في غير حينك؟‍! قلت: ما برحت البارحة جعلتُ فداك.

قال: فرأيتُه اشتدَّ ذلك عليه وحَرَّج عليَّ أن لا أحدث به في حياته أحدا.

فأيُّ ملِك هذا الذي جعل الحبل ما بينه وبين خالقه جلَّ وعلا موصولا؟! فلم تلهه ولايته عن العبودية، ولم يشغل قلبه النفوذ ولا السلطان عن الارتباط الوثيق بمدبر الأمور؛ ما أحوجنا لمثل هذا الإمام العظيم، الذي يكون لنا خير قدوة في الطاعة لله والخضوع والاستسلام له، ويحيي فينا الحبَّ الإلاهي الذي طالما افتقدناه.

زهده وورعه

في شخصية الإمام الهادي عليه السلام يتجلى الزهد والورع في أبهى صورهما، كتجلي الشمس في الضحى، لا تحجبها غيوم، ولا يغطي عليها بجناحيه طائر، فهو كما قال عنه الإمام المؤيد بالله عليه السلام: "فأما الزهدُ والورع فمما لا يحتاج إلى وصفه به، لظهور الحال فيه عند الخاص والعام، والموافق والمخالف، ولأن الزهد أمر شامل لبيت القاسم بن إبراهيم عليه السلام عام في أولاده وأسباطه إلى يومنا هذا، لاسيما من لم يتَغَرَّب منهم ولم يختلط بأمراء هذه البلدان".

ولقد كان عليه السلام يجتزئ بالقليل من الطعام، حتى يَعْجَب من ذلك من يراه، فكيف لمن تُجمَع إليه الأموال من الخراج وغيرها أن يرضى بما لا يرضى به من لا يملك إلا القليل؟!

وقد بلغ عليه السلام من الزهد والورع ما جعله يترك ما يحل له فضلاً عن غيره، ويرددُ مع ذلك على مسامع الناس: "والله الذي لا إله إلا هو ما أكلت مما جبيت من اليمن شيئاً، ولا شربت منه الماء، إلا من شيء جئت به من الحجازوهذا ورع شحيح؛ لأنه تعفف عن الحلال إذ كان يجوز له أن يتناول من الجزية وأخماس الغنائم.

وتراه عليه السلام يلبس ثياب الهيبة أو ثياب الحرب اضطراراً لإبراز هيبة الدين، ويقول: "والله لو كنت بين مؤمنين ما لبست مثل هذا ولا هذا من لباسي، وما أشتهي إلا أن ألبس الغليظ من الثياب، ولو لبسته لاستخف الناس موضعي فقد ميزت أمورهم فرأيتهم لا يطيعون إلا من كان عليه مثل هذا الثوب، ولكأن على جلدي من لباسه الشوك".

وليس ذلك الطبع فيما هو له فقط، بل يتجلى أيضاً في تشديده على أولاده فيما يخص أموال بيت المال، ومن ذلك ما روي عن ابنه محمد أنه قال: "وجهت غلاماً لي إلى أبي يحيى بن الحسين أطلب منه قرطاساً أكتب فيه كتاباً، فقال يحيى: القرطاس لا يحل له، فدفع إلى الغلام ورقة قطن".

وروي: "أنه صاح بغلام له، فسأله عن خرقة؟ فقال له الغلام: قد رقَّعتها فقال للغلام: أخرجها إليَّ، فأخرجها من بين ثياب يحيى بن الحسين عليه السلام، فقال له: ويلك!! أنت قليل دين تضع خرقة من الأعشار بين ثيابي!"

ودخل عليه السلام يوماً وقد تطهرَّ للصلاة، فأخذ خرقة فمسح بها وجهه، ثم قال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون هذه الخرقة من العشر، فذكرت له ذلك، فقال: ما يحل لنا أن نمسح به وجوهنا، ولا أن نستظل به من الشمس.

وقد كان يترك بعض ما يحل له تورعاً عنه وتنزهاً منه، ومن ذلك امتناعه عن الأكل والشرب من الخمس الذي يؤخذ من  جزية النصارى واليهود.

ولقد كان الإمام الهادي دقيقاً في إصابة الحق والقيام بالشرع لا يستغل منصبه في أخذ ما ليس له بحق فقد كان يأمر علي بن أبي عنبسة الصعدي وكان يشتري ليحيى بن الحسين حوائجه من السوق: "يا علي اتق الله تعالى، وأنظر فيما بينك وبينه فيما يشترى به لي، ولا تأخذنَّ من أحد شيئاً إلا بثمن كما يشتري الناس، ولا تزداد لي شيئاً فتأثم. وذات مرة جاء رجل من أصحابه إليه فقال له: جعلت فداك هاهنا قومٌ يعطون بطيب أنفسهم أكثر مما يجب عليهم فنأخذ منهم ما يصلحهم؟ فقال يحيى بن الحسين: والله لا أصلحتكم بفساد نفسي.

 

ومن قصص ورعه ما حدث عنه علي بن محمد بن سليمان: مررنا في سفرنا مع يحيى بن الحسين بدوم وهو النبق، فمضى بعض من كان معه فأخذ حبات يسيرة  فصاح به وأغلظ عليه ، ثم أمرنا أن نعطي صاحب ثمنه من دقيق كان معنا، فمضينا إلى صاحبه فقال: لست أريد به ثمناً، إنما يأخذ هذا من مر به ، فأبى أن يأخذه ، فرجعنا إلى يحيى بن الحسين فأعلمناه بمقالة الرجل، فقال : إذهبوا بالدقيق فاجعلوه تحت الشجرة ففعلنا ذلك.

وجاء في السيرة للهادي: ورأيته إذا وضعت مائدته لم يبق خلق ممن يحظر في ذلك الوقت إلا صاح به، فلما كان ذات يوم أتيت فإذا الناس يأكلون وهو معتزل ليس يأكل معهم، فأردت أن أسأله، فابتدأ هو بالكلام فقال : لم يمنعني الا أن هذا الطعام لا يحل لنا لأنه من الأعشار.

وحدث علي بن محمد بن سليمان: كنت أقبض ليحيى بن الحسين زكاة أموال التجار ، فيكون في البلد تجاراً غرباء يتجرون ويقيمون الأشهر فقلت له: جعلت فداك نأخذ منهم زكاة أمولهم ؟ فقال : إن أخذنا منهم زكاة أموالهم وجب علينا أن نحوطهم حيث كانوا في بلادنا وغيرها ، فلم يأخذ منهم شيئاً.

والمقام أعظم من ذلك، وهناك الكثير والكثير من القصص التي حكت عن زهده وورعه لا يسع المقام لسردها، يجدها من أراد في سيرته وغيرها من كتب التاريخ.

شجاعته

لا نبالغ إن قلنا أن الشجاعة والبأس قد تمثلتا في شخصية الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام، وكانتا من أبرز سماته منذ صغره، فهو الشبل العلوي الذي لم يعرف إطلالة الجُبن، ولم تُكبِّلْه حبائل الخوف، حتى صار يُضرب به المثل، ويُحكى عن معاركه وضرباته، وليس ذلك إلا في سبيل الله عز وجل؛ لإعلاء دينه، وكان يقول في حروبه ويصيح: "كيف رأيتم قتال أهل العدل والتوحيد؟".

وقد قال عنه صاحب مآثر الأبرار: "فإنه كان إذا التقت الأبطال، وتداعت نزال، ألفيتَه القطب التي يدور عليها رحى القتال، وكم له من يوم أغر عاود فيه الكر، واستحيا من الفر، إذا حمي الوطيس كان أمام جنوده يضرب كبش الكتيبة، ويشاهد له كل حملة عجيبة".

ونجده في معاركه مع القرامطة وغيرهم في مقدمة الجيش، يصول ويجول ويحتز الرؤوس، غير ناكل عن قُدُمٍ، ولا واهٍ في عزم، يضرب ضربَ جدِّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن ذلك أنه ضرب رجلاً في أحد معاركه فقَّده نصفين، فلما نظر إليه قائد العدوِّ، قال: استروا ضربة هذا العلوي، فوالله لئن رآها الناس لا تناصروا.

ولتلك الشجاعة المفرطة التي تحلى بها الهادي عليه السلام، قال عنه أحد شعراء عصره:

لو كان سيفُك قبلَ سجدة آدم *** قد كان جُرِّد ما عصى إبليسُ

وقد روى مصنِّف سيرته: "أنه كان في بعض أيامه مع بني الحارث، وانتقوا من خيلهم ما يدنو من أربعين فارساً مدججة في السلاح، وأمروهم أن لا يقاتلوا ويقفوا، حتى إذا رأوا الهادي -عليه السلام- حملوا عليه، فبلغ الهادي خبرهم فلم يعبأ بهم، ولمَّا رآهم قصدهم بنفسه، وحمل عليهم فما وقف له منهم فارس واحد، وأدرك منهم فارساً فطعنه، وألقاه هو وفرسه في أراكة، وانهزم القوم وعطف عسكره، وقتل من القوم بيده جماعة كثيرة لم يثبت عددها هو ولا غيره، غير أنه كسر ثلاثة رماح، وضرب بسيفه حتى امتلأ قائم سيفه علقاً، ولصقت أنامله على قائم سيفه بالدم".

ومن فرط شجاعته عليه السلام أنه لمَّا همَّ علي بن الفضل القرمطي بقصد الكعبة ليخربها، فبلغ ذلك الهادي عليه السلام، فجمع أصحابه وقال لهم: قد لزمنا الفرض في قتال هذا الرجل، فَجَبُن أصحابُه عن قتالهم واعتذروا بقلة عددهم وكثرة عدد أولئك، وكان أصحابه في ذلك الوقت المقاتلة منهم ألف رجل، فقال لهم الهادي إلى الحق عليه السلام: تفزعون وأنتم ألفا رجل؟ فقالوا: إنما نحن ألف، فقال: أنتم ألف، وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم.

ولقد روي أن الإمام الهادي قاتل بسيف جده علي بن أبي طالب عليه السلام المشهور بذي الفقار، وأعاد لذلك السيف أمجاده وعرف الحاضرين بماضي صاحبه الأول علي بن أبي طالب، وكفى بقوله الهادي عليه السلام شاهداً لنفسِه:

الخيل تشهد لي وكل مثقف.... بالصبر والإبلاء والإقدام

حقاً ويشهد ذو الفقار بأنني.... أرويت حدَّيه نجيع طغامي

 

 

;