.
 
29-19-2017

المقدمة

حينما يتحدث الانسان عن حياة عظيم، وكريم، عن حياة رجل تميز في صفاته حتى لم يساوه احد في خصائصه، وسماته، فإن الحديث عن ذلك لمن ما ينشرح له الصدر،  ويتفتح معه القلب، ويأخذ بمجامع اللب، فما بالك لو كان عن واحد هو أوحد الناس، وأكملهم على هذه البسيطة منذ أول يوم وطئت فيه قدم بشر عليها حتى يوم الدين، وكيف لا يكون كذلك وهو رسول الله محمد، وكيف لا ومحمد وحده نبع صافي، وري شافي، وهدي كافي، وحياته العطرة لا ينضب معينها، ولا يجف مدادها، ولا تنقطع ثمارها، وكيف لا وهذا النبي الكريم مثال الانسانية الكاملة ومتمم الأخلاق الفاضلة، وحامل الدعوة الشاملة، فلا عجب إن كانت حياته كلّها فيضاً بعد جفاف، وارتواء بعد صدى، حدد الداء ووصف الدواء.

العرض

عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثةً وستين عاماً لم تَضِع ثانيةٌ واحدةٌ من عمره في غير منفعةٍ أو في لهو, بل كانت مشحونة بالعبادة، وأداء الطاعة، والجهاد المرير في تبليغ رسالة الله، وأعلاء دينه، وكلمته.

كان هو الرجل  الذي تحلى بالصفات العظيمة، والمميزات الكبيرة التي أهلته  لأن يكون موضع تحمل التكليف الأكبر، وهو هداية البشر، ودعوتهم الى الخالق وحده وأن يترك ما سواه- فـ (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام/124] - فكان الامر الإلهي بالاصطفاء لتحمل أعباء النبوة؛ لذا كانت العناية الالهية تحوطه من كل جانب  وترفده من كل اتجاه.

عاش ثلاثاً وستين سنة، وكان منها ثلاث وعشرون يدعو الناس إلى الله، فلم يكل عن تبليغ ما أمر به، ولم يفتر أو يهن قط في أخذ الناس إلى رضوان الله، وقيادتهم إلى سبل النجاة، والفوز، والسعادة, بل مضى بعزم لا يشوبه لين، وشدة لا يخالطها ضعف، حتى أكمل به الدين، وتمت به النعمة، وصار الاسلام دين الله السائد في الأرض، وحكمه الماضي بين كثير من الخلق، فلذا لا عجب إن استحق من الله أعظم الأوسمة، وصار اسمه ينادى به في جميع البلاد مع كل فريضة، وفي كل ثانية, وكما قال الله تعالى (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح/4].

ولقد نال من التعظيم، والاجلال من ربه، وخالقه مالم ينله أحد من الانبياء والمرسلين وأقسم الله عزّ وجل بِعمره ولم يُقسم بعمر أحد غيره وذلك تعظيماً وتشريفاً: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر/72] لم يناده باسمه في كتابه حين نادى بقية الأنبياء بأسمائهم في مثل (يَا نُوحُ) [هود/46] (يَا إِبْرَاهِيمُ) [هود/76] (يَا عِيسَى) [آل عمران/55] بل كان يخاطبه بصفته فكانت (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) [الأنفال/64] (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [المائدة/67] خيرَ شاهد على أن هذا النبيَّ مقدمٌ على سائر الأنبياء ومكانته عند ربه لا يوازيها مكانه.

لقد عاش النبي حياته  وكانت حياته أشبه بروضة غناء واسعة و عظيمة يجتنى منها كل طيب  ويقتطف من  حدائقها الكثير الصيب.

كان قبل البعثة يتعبّد ويتحنف ويأله الى خالقه وباريه  ومبدعه ومنشيه  تمييزاً  منه بعقله وامتناناً منه لخالقه.

 وكان في حياته معروفاً بالصدق والأمانة والعفاف في مجتمع ترتكب فيه الفواحش   وتسود فيه الفرقة وتتحكمه العنصرية وتخيم على أهله الجاهلية وينهش فيه الناس بعضهم البعض ويستعدي القوي على الضعيف فكان صلى الله عليه وآله نبتة رطبة بين قلوب  قست  وطباع غلظت وعواطف جفت ومشاعر تلبدت  وكان شجرة باسقة مثمرة ظليلة وسط صحراء قاحلة وفلاة مجدبة  وكما قال عنه وعن حال العرب قبل بعثته الابن عمه جعفر بن أبي طالب عند هجرته إلى الحبشة وكلامه مع النجاشي: "ﻛﻨﺎ ﻗﻮﻣﺎً ﺃﻫﻞ ﺟﺎﻫﻠﻴﺔ ﻧﻌﺒﺪ اﻷﺻﻨﺎﻡ ﻭﻧﺄﻛﻞ اﻟﻤﻴﺘﺔ ﻭﻧﺄﺗﻲ اﻟﻔﻮاﺣﺶ ﻭﻧﻘﻄﻊ اﻷﺭﺣﺎﻡ ﻭﻧﺴﻲء اﻟﺠﻮاﺭ ﻳﺄﻛﻞ اﻟﻘﻮﻱ ﻣﻨﺎ اﻟﻀﻌﻴﻒ ﻓﻜﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺚ اﻟﻠﻪ ﺇﻟﻴﻨﺎ ﺭﺳﻮﻻً ﻧﻌﺮﻑ ﻧﺴﺒﻪ ﻭﺻﺪﻗﻪ ﻭﺃﻣﺎﻧﺘﻪ ﻭﻋﻔﺎﻓﻪ ﻓﺪﻋﺎﻧﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﻟﻨﻮﺣﺪﻩ ﻭﻧﻌﺒﺪﻩ ﻭﻧﺨﻠﻊ ﻣﺎ ﻛﻨﺎ ﻧﻌﺒﺪ ﻭﺁﺑﺎﺅﻧﺎ ﻣﻦ ﺩﻭﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺎﺭﺓ ﻭاﻷﻭﺛﺎﻥ ﻭﺃﻣﺮﻧﺎ ﺑﺼﺪﻕ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻭﺃﺩاء اﻷﻣﺎﻧﺔ ﻭﺻﻠﺔ اﻟﺮﺣﻢ ﻭﺣﺴﻦ اﻟﺠﻮاﺭ ﻭاﻟﻜﻒ ﻋﻦ اﻟﻤﺤﺎﺭﻡ ﻭاﻟﺪﻣﺎء ﻭﻧﻬﺎﻧﺎ ﻋﻦ اﻟﻔﻮاﺣﺶ ﻭﻗﻮﻝ اﻟﺰﻭﺭ  ﻭﺃﻛﻞ ﻣﺎﻝ اﻟﻴﺘﻴﻢ ﻭﻗﺬﻑ اﻟﻤﺤﺼﻨﺔ ﻭﺃﻣﺮﻧﺎ ﺃﻥ ﻧﻌﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ, ﻻ ﻧﺸﺮﻙ ﺑﻪ ﺷﻴﺌﺎ  ﻭﺃﻣﺮﻧﺎ ﺑﺎﻟﺼﻼﺓ ﻭاﻟﺰﻛﺎﺓ ﻭاﻟﺼﻴﺎﻡ" .

ولا عجب اذن - قبل أن يكون رسولاً ونبياً - أن سلطت عليه الاضواء، ولم تتنازع في إنسانيته الاهواء؛  فلذا استحق من بين كل الناس لقب الصادق الأمين.

لم يمتنع مع ذلك من العيش مع أهله، وأبنائه، وأصحابه كغيره من البشر، بل كان القدوة والمثل الأعلى في كل ذلك.

الولادة

كانت ولادته في عام الفيل، لكنها لم تكن ولادة عادية بل كانت ايذاناً ببداية النور الذي ينير آفاق هذا الكون، واليوم الذي تجتث معه عروش الكفر، والضلال، ففي يوم مولده انطفأت نار المجوس، وهي قبل ذلك لم تنطفئ، واهتز عرش كسرى وسقطت احدى شرفاته، وتكسرت الاصنام في الكعبة وسقطت.

تحكي الروايات أنه حينما ولد النبي الكريم وقع على الأرض على هيئة الساجد وكأنه يشير على شأن هذا المولود الجديد وعلى التحويل المستقبلي للأمة المختصة بزمانه التحول في التوجه والأفكار والتغير في المسار.

طفولة مباركة

وفي اثناء طفولته لم تغفل عنه العناية الالهية , فقد كانت تحوطه حيث حل او ارتحل   فلأجله يدر الضرع، وينمو الزرع، وتمطر السماء، وتحل البركة، ويسكن الخير والسعادة.

ورغم أن أباه قد مات وهو في بطن امه لكن حصل له عناية خاصة كما قال تعالى (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) [الضحى/6] فكانت له مكانته عند جده عبدالمطلب، وحتى بعد أن توفي أخذه عمه أبوطالب، فكان يهتم به ويعتني أكثر من ابنائه.

النشأة

نشأ نبينا الكريم نشأة كريمة، تميز بها عن أبناء لداته خاصة العمر الذي يزيد فيه طيش الإنسان، وجهله، وسفهه، فهو مذ صار يميز بين القبيح والحسن لم يقارب الخمور، ولم يعرف الفجور، ولم يستمع الى المزمار، والطنبور، ولم يشارك شباب مكة في لهوهم، ولعبهم، بل كانت الأخلاق الفاضلة، وعفاف النفس أشهر ما كان يعرف به.

عُرف عن النبي الكريم في حياته أنه لم يسجد لصنم قطّ  رغم انتشار ذلك في قريش   وكان إذا شارك مع الناس فإنما كان يشارك كبراءهم في ما تقول به الفطرة، و تدعو إليه الفضيلة، مثلما شارك قريشًا في "حلف الفضول" وهو ميثاق عقدته قريش في دار عبد الله بن جدعان بمكة وتعاهدت فيه أن تحمي الضعفاء والمظلومين قال فيه النبي الكريم: «لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حِلفًا لو دُعيت به في الإسلام لأجبتُ».

محطات مهمة من حياته قبل مبعثه

لمّا أصاب الكعبة سيل أدّى إلى تصدّع جدرانها قرر أهل مكة تجديد بنائها، وفي أثناء ذلك اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في موضعه، فاتفقوا على أن يضعه أول شخص يدخل عليهم  فكان أول الداخلين محمد صلى الله عليه واله وسلم  فلما دخل عليهم وكان عمره خمسًا وثلاثين سنة قالوا: «هذا الأمينُ قد رَضينا بما يقضي بيننا» فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه.

تزوّج من السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها عندما بلغ سِنّه الخامسة والعشرين فأنجبت له البنين والبنات وكان النبي يعظمها ويرفع من شأنها ويكن لها جميل الود والعرفان فكان النبي الكريم اذا أهدي له هدية قال: "اذهبوا به الى بيت فلانة فإنها كانت تحب خديجة"

الدعوة

  • بدأت الدعوة بشكلٍ سرّي، فآمنت به زوجته خديجة، ثم ابن عمه علي ابن أبي طالب، وبعض أهله، وأقاربه، ثم جهر بالدعوة أمام الملأ فبدأ الكفار بمؤاذاة النبي وتعذيب المسلمين والتنكيل بهم لصدهم عن الدين وإرجاعهم عنه.

بما أن الإسلام مشروع حياة، ومنة الله على المستضعفين (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة/257] يخرجهم به من حالة الظلـم، والاستعباد إلى حالة الحرية والعدل، والرحمة، ومكة يحكمها الطاغوت؛ فلا بد أن تمر الدعوة الإسلامية بمرحلة التأسيس، والبداية، وتخوض المواجهة البدائية مع الظلم، والطغيان المتمثل في جلاوزة قريش، هناك معاناة، وفتنة تعددت أنواعها، وأشكالها يقابلها صبر، وقيام بالمسؤولية، وثبات أسس لكل عوامل النجاح والفلاح مستقبلا.

  • ذات مرة جاء أبو جهل إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهو جالس عند الصفا، فآذاه، وشتمه، فلم يكلمه رسول الله، وكان لعبدالله بن جدعان مولاة فوق الصفا تسمع ذلك، فمر حمزة بن عبدالمطلب عم النبي صلى الله عليه واله وسلم بالمولاة فقالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم! وجده هنا فسبه، وآذاه، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد فاحتمل حمزةَ الغضبُ، وخرج سريعاً لا يقف على أحد، فأتى أبا جهل فضربه ضربة، فشجه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقرع بابه فناداه النبي من هذا فقال: أنا عمك حمزة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: يا عم ما تريد ممن لا عم له ما تريد ممن لا أب له ما تريد ممن لا ناصر له من قومه.
  • لم يزل النبي الكريم كذلك داعياً إلى الله تعالى في قومه رغم ما كان يلاقي ولقد كان حريصاً على نجاتهم، وهدايتهم، ومن فرط حرصه على هداية الناس وإصلاحهم كاد أن يقتل نفسه تأسفاً، وتحسراً على اعراضهم، واهلاك انفسهم بعدم استجابتهم كما قال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء/3] حتى ناداه الله تعالى ونبهه بالتخفيف في ذلك والتهوين على نفسه (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [طه/1-3]
  • ﻣﺎﺕ ﺃﺑﻮﻃﺎﻟﺐ ﻋﻢ اﻟنبي الكريم ـ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ وآله ﻭﺳﻠﻢ ـ ﻭﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺪﻓﺎﻉ ﻋﻦ اﺑﻦ ﺃﺧﻴﻪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ وآله ﻭﺳﻠﻢ، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﻗﺮﻳﺶ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﺗﻨﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﺑﺄﺫﻯ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻃﻴﻠﺔ ﺣﻴﺎﺓ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ؛ اﺣﺘﺮاﻣﺎً ﻟﻪ، ﻭﻫﻴﺒﺔ، ولم يعلن إسلامه أمام الملأ من قريش لتبقى هيبته ﻓﻠﻤﺎ ﻣﺎﺕ ﺃﺑﻮ ﻃﺎﻟﺐ ﺟﺮﺅﺕ ﻗﺮﻳﺶ ﻋﻠﻰ ﺗﺸﺪﻳﺪ اﻷﺫﻯ ﻟﻠﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ وآله ﻭﺳﻠﻢ  ﻭﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﻭﻓﺎﺗﻪ ﻣﺒﻌﺚ ﺣﺰﻥ ﻋﻤﻴﻖ ﻟﻠﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ وآله ﻭﺳﻠﻢ فخرج ﺇﻟﻰ اﻟﻄﺎﺋﻒ ﺭﺟﺎء ﺃﻥ ﻳﺆﻭﻭﻩ ﻭﻳﻨﺼﺮﻭﻩ ﻭﻳﻤﻨﻌﻮﻩ ﻣﻨﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﻳﺒﻠﻎ ﺭﺳﺎﻟﺔ ﺭﺑﻪ فدﻋﺎﻫﻢ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ، ﻓﻠﻢ ﻳﺮ ﻣﻦ ﻳﺆيده، ﻭﻟﻢ ﻳﺮ ﻧﺎﺻﺮاً، ﻭﺁﺫﻭﻩ ﺃﺷﺪ اﻷﺫﻯ, ﻭﻧﺎﻟﻮا ﻣﻨﻪ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻨﻞ منه ﻗﻮﻣﻪ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻌﻪ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﺣﺎﺭﺛﺔ ﻣﻮﻻﻩ ﻓﺄﻗﺎﻡ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻋﺸﺮﺓ ﺃﻳﺎﻡ ﻻ ﻳﺪﻉ ﺃﺣﺪاً ﻣﻦ ﺃﺷﺮاﻓﻬﻢ ﺇﻻ ﻛﻠﻤﻪ، ﻓﻘﺎﻟﻮا: اﺧﺮﺝ ﻣﻦ ﺑﻠﺪﻧﺎ   ﻭﺃﻏﺮﻭا ﺑﻪ ﺳﻔﻬﺎءﻫﻢ، ﻭﺟﻌﻠﻮا ﻳﺮﻣﻮﻧﻪ ﺑﺎﻟﺤﺠﺎﺭﺓ، ﻭﺑﻜﻠﻤﺎﺕ ﻣﻦ اﻟﺴﻔﻪ ﻫﻲ ﺃﺷﺪ ﻭﻗﻌﺎً ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺎﺭﺓ ﺣﺘﻰ ﺳﺎﻝ اﻟﺪﻡ ﻣﻦ ﻗﺪﻣﻴﻪ اﻟﻄﺎﻫﺮﺗﻴﻦ، عند ذلك اﻟﺘﺠﺄ ﺇﻟﻰ ﺑﺴﺘﺎﻥ ﻣﻦ ﺑﺴﺎﺗﻴﻦ اﻟﻄﺎﺋﻒ ﻭﺗﻮﺟﻪ نبينا الكريم ﺇﻟﻰ ﺭﺑﻪ ﺑﻬﺬا اﻟﺪﻋﺎء اﻟﺬﻱ ﻳﻔﻴﺾ ﺇﻳﻤﺎﻧﺎً، ﻭﻳﻘﻴﻨﺎً، وخشوعاً، وابتهالاً، ﻭﺭضى ﺑﻤﺎ ﻧﺎﻟﻪ ﻓﻲ اﻟﻠﻪ، ﻭفي سبيل الدعوة  إلى الله، فقال بخضوع وسكينة: (اﻟﻠﻬﻢ ﺇﻟﻴﻚ ﺃﺷﻜﻮ ﺿﻌﻒ ﻗﻮﺗﻲ، ﻭﻗﻠﺔ ﺣﻴﻠﺘﻲ ﻭﻫﻮاﻧﻲ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺎﺱ، ﻳﺎ ﺃﺭﺣﻢ اﻟﺮاﺣﻤﻴﻦ: ﺃﻧﺖ ﺭﺏ اﻟﻤﺴﺘﻀﻌﻔﻴﻦ ﻭﺃﻧﺖ ﺭﺑﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﻦ ﺗﻜﻠﻨﻲ؟ ﺇﻟﻰ ﺑﻌﻴﺪ ﻳﺘﺠﻬﻤﻨﻲ؟ ﺃﻡ ﺇﻟﻰ ﻋﺪﻭ ﻣﻠﻜﺘﻪ ﺃﻣﺮﻱ؟ ﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻚ ﻏﻀﺐ ﻋﻠﻲ ﻓﻼ ﺃﺑﺎﻟﻲ، ﻭﻟﻜﻦَّ ﻋﺎﻓﻴﺘﻚ ﺃﻭﺳﻊ ﻟﻲ, ﺃﻋﻮﺫ ﺑﻨﻮﺭ ﻭﺟﻬﻚ اﻟﺬﻱ ﺃﺷﺮقت ﻟﻪ اﻟﻈﻠﻤﺎﺕ، ﻭﺻﻠﺢ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻣﺮ اﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻭاﻵﺧﺮﺓ ﻣﻦ ﺃﻥ ينزل ﺑﻲ ﻏﻀﺒﻚ  ﺃﻭ ﻳﺤﻞ ﻋﻠﻲ ﺳﺨﻄﻚ, لك العتبى ﺣﺘﻰ ﺗﺮﺿﻰ  ﻭﻻ ﺣﻮﻝ ﻭﻻ ﻗﻮﺓ ﺇﻻ بالله"

الهجرة

  • كانت الهجرة إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من مراحل الدعوة، ورفع راية الحق   وتمكين المؤمنين من الارض، وتحقيق وعد الله لعباده المتقين.
  • هاجر النبي الكريم إلى المدينة، وبدأ ﻳﺴﻌﻰ ﻟﺘﺜﺒﻴﺖ ﺩﻋﺎﺋﻢ اﻟﺪﻭﻟﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪﺓ ﻋﻠﻰ ﻗﻮاﻋﺪ ﻣﺘﻴﻨﺔ، ﻭﺃﺳﺲ ﺭاﺳﺨﺔ، ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺃﻭﻟﻰ ﺧﻄﻮاﺗﻪ اﻟﻤﺒﺎﺭﻛﺔ اﻻﻫﺘﻤﺎﻡ ﺑﺒﻨﺎء ﺩﻋﺎﺋﻢ اﻷﻣﺔ، ﻛﺒﻨﺎء اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻷﻋﻈﻢ ﺑﺎﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﺘﻈﻬﺮ ﻓﻴﻪ ﺷﻌﺎﺋﺮ اﻹﺳﻼﻡ اﻟﺘﻲ ﻃﺎﻟﻤﺎ ﺣﻮﺭﺑﺖ، ﻭﻟﺘﻘﺎﻡ ﻓﻴﻪ اﻟﺼﻠﻮاﺕ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻂ المرء ﺑﺮﺏ اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ ﻭﺗﻨﻘﻲ اﻟﻘﻠﺐ ﻣﻦالأﺩﺭاﻥ الظاهرة، والباطنة، ﻭﺃﺩﻧﺎﺱ اﻟﺤﻴﺎﺓ اﻟﺪﻧﻴﺎ، وليكون المسجد مصدر إشعاع يأخذ الناس منه التعاليم الحنيفة التي يدركون النفع بها في حياتهم، وبعد مماتهم، وكانت الخطوة التالية أن قام باﻟﻤﺆاﺧﺎﺓ ﺑﻴﻦ اﻟﻤﻬﺎﺟﺮﻳﻦ، ﻭاﻷﻧﺼﺎﺭ، وهي خطوة ذات أهمية كبيرة؛ لأنه بالتآلف والمودة يكون المجمتع أكثر صلابة، وأشد شكيمة، وتقل فيه مداخل الاعداء، فهو مجتمع قوي كالجبل الذي لا تهزه الأعاصير، وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
  • لقد شرع  صلى الله عليه وآله وسلم  في المدينة في تأسيس هذا الدين وسمات هذه الرسالة فكان يعلم الناس معالم الدين ويدعوهم الى الفضائل ويرشدهم إلى مكارم الأخلاق، وكان يرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويجهز أميرهم  ويعين مأمورهم، ويتفقد بنفسه الرفيعة أمورهم، ويتدارك بأخلاقه المتواضعة ما فسد من تدابيرهم وكان يعلم جاهلهم، ويرشد ضالهم، ويسعى في حوائجهم  ويوصل من وصلهم ويقطع من قطعهم، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم.
  • ذات مرة ﻣﻀﻰ النبي ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻧﺤﻮ اﻟﺴﻮﻕ، ﻓﺈﺫا اﻣﺮﺃﺓ ﺳﻮﺩاء ﻋﻠﻰ ﻇﻬﺮ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺗﺒﻜﻲ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻬﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: (ﻣﺎﻟﻚ؟) ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ: ﺃﻋﻄﺎﻧﻲ ﺃﻫﻠﻲ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﺩﺭاﻫﻢ ﺃﺑﺘﺎﻉ ﻟﻬﻢ ﺑﻬﺎ ﺣﺎﺟﺔ ﻓﺴﻘﻄﺖ ﻣﻨﻲ ﻭﺃﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﻳﻀﺮﺑﻮﻧﻲ ﻓﺄﻋﻄﺎﻫﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﺩﺭاﻫﻢ ﻭﻣﻀﻰ ﺇﻟﻰ اﻟﺴﻮﻕ ﻭاﺑﺘﺎﻉ ﻗﻤﻴﺼﺎً ﺑﺄﺭﺑﻌﺔ ﺩﺭاﻫﻢ ﻭﻟﺒﺴﻪ، ﻭﺣﻤﺪ اﻟﻠﻪ، ﺛﻢ اﻧﺼﺮﻑ ﺣﺘﻰ ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻓﺈﺫا ﺳﺎﺋﻞ ﻳﻘﻮﻝ: ﻣﻦ ﻛﺴﺎﻧﻲ ﻛﺴﺎﻩ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺛﻴﺎﺏ ﺃﻫﻞ اﻟﺠﻨﺔ ﻗﺎﻝ: ﻓﺨﻠﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ اﻟﻘﻤﻴﺺ ﻓﺄﻋﻄﺎﻩ ﺇﻳﺎﻩ ﺛﻢ ﺭﺟﻊ ﺇﻟﻰ اﻟﺴﻮﻕ ﻓﺎﺑﺘﺎﻉ ﺑﺎﻷﺭﺑﻌﺔ اﻟﺒﺎﻗﻴﺔ ﻗﻤﻴﺼﺎً، ﻓﻠﺒﺴﻪ، ﻭﺣﻤﺪ اﻟﻠﻪ، ﻭاﻧﺼﺮﻑ، ﻓﺈﺫا اﻟﺴﻮﺩاء ﻗﺎﺋﻤﺔ ﺗﺒﻜﻲ ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻬﺎ: (ﻣﺎﻟﻚ ﻣﺎﻳﺒﻜﻴﻚ ﺃﻟﻴﺲ ﻗﺪ ﺃﻋﻄﻴﺘﻚ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﺩﺭاﻫﻢ؟!) ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﺑﻠﻰ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﻭﻟﻜﻨﻲ اﺣﺘﺒﺴﺖ ﻋﻦ ﺃﻫﻠﻲ ﻓﺄﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﻳﻀﺮﺑﻮﻧﻲ ﻓﻘﺎﻝ: ﻣﺮﻱ ﻭﻣﻀﻰ ﻣﻌﻬﺎ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺣﺘﻰ اﻧﺘﻬﻰ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻠﻬﺎ، ﻓﻠﻤﺎ ﻗﺎﻡ ﻋﻠﻰ اﻟﺒﺎﺏ ﻗﺎﻝ: اﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻓﻠﻢ ﻳﺮﺩﻭا ﻋﻠﻴﻪ ﺷﻴﺌﺎً، ﻭﻛﺎﻥ ﻻ ﻳﻨﺼﺮﻑ ﺣﺘﻰ ﻳﺆﺫﻥ ﺛﻼﺙ ﻣﺮاﺕ ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: اﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻴﻜﻢ، ﻓﻠﻢ ﻳﺮﺩﻭا ﻋﻠﻴﻪ ﺷﻴﺌﺎً، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: اﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻓﻘﺎﻟﻮا: ﻭﻋﻠﻴﻚ اﻟﺴﻼﻡ ﻭﺭﺣﻤﺔ اﻟﻠﻪ ﻭﺑﺮﻛﺎﺗﻪ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ, ﻓﻘﺎﻝ: ﻣﺎ ﻣﻨﻌﻜﻢ ﺃﻥ ﺗﺮﺩﻭا ﻋﻠﻲ ﻭﻗﺪ ﻋﺮﻓﺘﻢ اﻟﺼﻮﺕ؟

ﻓﻘﺎﻟﻮا: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﻋﺮﻓﻨﺎ ﺻﻮﺗﻚ ﻓﺄﺣﺒﺒﻨﺎ ﺃﻥ ﻧﺴﺘﻜﺜﺮ ﻣﻦ ﺳﻼﻣﻚ.

ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻬﻢ: ﻫﺬﻩ الجارية.

ﻓﻘﺎﻟﻮا: ﻫﻲ ﺣﺮﺓ ﻟﻤﻤﺸﺎﻙ ﻣﻌﻬﺎ.

ﻗﺎﻝ: ﻭاﻧﺼﺮﻑ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ: ﺗﺎﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺭﺃﻳﺖ ﻛﺎﻟﻴﻮﻡ اﺛﻨﻰ ﻋﺸﺮ ﺩﺭﻫﻤﺎً ﻛﺴﺎ اﻟﻠﻪ ﺑﻬﺎ ﻋﺎﺭﻳﻴﻦ ﻭﺃﻋﺘﻖ ﺑﻬﺎ ﻧﺴﻤﺔ ﻭﻗﻀﻰ ﺑﻬﺎ ﺣﺎﺟﺔ.

  • كان النبي الكريم - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ـ ذات يوم قاعداً في المسجد ومعه أصحابه إذ جاء أعرابي، فبال في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مه مه فقال رسول الله: لا تزرموه ثم دعاه فقال: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر، والبول، والخلاء, إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة ثم دعا رسول الله  بدلو من ماء فشنه عليه.
  • عندما جاء سبي طي إلى المدينة قامت امرأة فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي العرب، فإني ابنة سرة قومي، كان أبي يفك العاني  ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، وما رد طالب حاجةٍ قط عنها، أنا ابنة حاتم الطائي, فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هذه صفة المؤمن لو كان أبوك إسلامياً ترحمنا عليه  خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله سبحانه وتعالى يحب مكارم الأخلاق)  فقام أبو بردة فقال: يا رسول الله: الله يحب مكارم الأخلاق؟ فقال: (نعم يا أبا بردة  ولا يدخل الجنة أحدٌ إلا بحسن الخلق).
  • بعد أن رجع النبي الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون من معركة حنين   عاد الى المدينة، وفي الطريق قسم غنائم معركة حنين، وقد أعطى قسماً كبيراً منها لأشراف من العرب، يتألفهم على الاسلام، وأعطى كثيراً منها لقريش ولم يعط منها للأنصار شيئاً، وقد تأثر بعض الأنصار من هذا العطاء؛ بحكم طبيعتهم البشرية، وترددت بينهم مقالة، وتكلم بعضهم في ذلك متألمين من حرمانهم من هذه الغنائم، حتى قال بعضهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قومه أي إنه لم يعد يذكرنا بعد أن فتح الله مكة ودانت قريش بالإسلام فراعى النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم هذا الاعتراض، وعمل على إزالة التوتر، وبين لهم الحكمة في تقسيم الغنائم، وخاطب الأنصار خطابًا إيمانيًّا، عقليًّا، وعاطفيًّا، ووجدانيًّا، ما يملك القارئ المسلم على مر الدهور، وكر العصور، وتوالي الزمان، إلا التأثر، والبكاء عندما يمر بهذا الحدث العظيم فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، وخطب فيهم فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (يا معشر الأنصار! مقالة بلغتني عنكم  وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم؟ ألم تكونوا ضلاّلاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ فقالوا : بلى! الله ورسوله أمنّ وأفضل.

ثم قال: (ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟) قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل قال: (أما والله  لو شئتم لقلتم فلصدقتم أتيناك مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة (البقية اليسيرة) من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا وتركتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار) فبكى القوم حتى أخضلوا (بللوا) لحاهم  وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً.

وقعة بدر

كانت وقعة بدر هي المعركة التي أبان الله فيها للمسلمين حقيقة هذا الدين، وأنه إذا ما تم التمسك بالله، واعتماد أسباب النصر الحقيقية، وهي التوكل على الله واللجوء إليه فإنه حتماً ستنقلب الأمور رأساً على عقب، وحينئذٍ ليس للقوة المادية، ولا للعوامل الطبيعية  أي ميزان أو اعتبار.

أراد الله جلاء هذه الحقيقة في هذه الموقعة العظيمة والتي ربما كان فريق من المؤمنين غير مستوعبين لها، ولذا حصلت الكراهة منهم  اعتماداً منهم على موازين القوى الظاهرية كما أخبر الله عنهم بقوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) [الأنفال/5]

نعم أريد لمعركة بدر أن تحدث، ليحق الله الحق، ويزهق الباطل، وتعلو راية الإسلام، لذا فإن الله هيأ جميع الظروف لكي تحدث هذه المعركة، فحينما التقى الجمعان كان كل فريق بنظر الآخر قليلاً، وذلك ليشتد العزم، والتصميم من الجميع على ملاقاة بعضهم البعض؛ لتحصل المعركة، ويتحقق وعد الله.

في شهر رمضان من العام الثاني من الهجرة سطر التاريخ وقائع هذه الملحمة  وعرف ما فيها من أحداث، وبطولات، وصار يومها مشهوداً في أذهان الناس  واعتبرت أنها فتح الفتوح وبوابة الانتصارات.

لم يتجاوز عدد المسلمين في هذه المعركة 313 فردًا  فيما تجاوز جيش قريش الألف مقاتل بكامل عتادهم.

وبعون من الله ومدد انتصر المسلمون في المعركة وأنزل الله بالمشركين هزيمة قاصمة, بقتل صناديدهم كأمية بن خلف، وأبي جهل، وعتبة، وشيبة، ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وأسرى مقاتليهم التي اقتضت رحمة رسول الله وسماحة منهجية الاسلام بطلاق سراحهم، وسجل التاريخ أول مرة منذ قرون يلقى فيها أسرى الحرب حسن المعاملة، من إطعام، ورعاية، ومعاملة إنسانية.

لقد تألقت قامات اسلامية، وشخصيات إيمانية، من جيش الإسلام في تلك المعركة وحفظ التاريخ لنا اسماءهم, وسجل بطولاتهم, منهم الثلاثة الهاشميون الذي برزوا في أول المعركة حمزة بن عبدالمطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث.

 

صلح الحديبية

توجه المسلمون في شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة لأداء العمرة، فوفدوا بثياب بيضاء كما الحجيج دلالة على السلام، لكن قريشا رفضت في استعلاءٍ دخولَهم مكة.

عندئذ أبرم النبي صلوات الله وسلامه عليه صلحاً مع قريش في منطقة تعرف بالحديبية، وقد نسب الصلح اليها، وقد جاءت بنود الصلح على أن يرجع محمد بأصحابه عن مكة هذا العام على أن يعودوا في الموسم القابل فيدخلوها، ويقيموا بها ثلاث ليال بغير سلاح إلا سلاح الراكب السيوف في القرب.

واتفقا على هدنة مداها عشر سنين من مضامينها أن من جاء المسلمين من قريش فيها ردوه إليهم  ومن جاء قريشا من المسلمين لم يردوه.

ورغم أن ظاهر الصلح بدا في صالح قريش جملة وتفصيلاً , وهو ما حمل بعض الصحابة على الاعتراض عليه إلا أن ما علم الله سبحانه في بطينات الغيوب وحفظه عن عباده أنه بعكس ذلك تماماً وهو ما أظهرته قوادم الأيام وأنبأت به الحوادث اللاحقة.

خاتمة

في عرفات

وقف النبي الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم في يوم عرفات في حجة الوداع خطيبا فقال: (أيها الناس خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).

لقد كانت هذه العبارة هي المؤذنة باختتام تعاليم الرسالة السماوية، و قرب رحيل الحياة المحمدية، لذا كان لا بد من التنبيه بالأمور المهمة للحشود الغفيرة التي جاءت من كل فج عميق، إذ أن ما سيلقى على مسامع الناس أمر بالغ الأهمية، فأخذ  يؤكد على الثوابت العظيمة، والأسس الراسخة التي من أجلها جاء الإسلام، ولها ابتعث النبي العظيم، وجعل يقرر القواعد الكلية التي تنضوي تحتها أغلب الرسالة السماوية   فقال وأسمع الناس كلاماً يتردد صداه في جميع الآفاق، ويصل فحواه إلى كل الآذان   ويتناقله الناس من كل الاصقاع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) بهذه الجملة الجامعة حفظت الحقوق، وأرسيت دعائم العدالة، وجعل للإنسان القيمة الكاملة.

تواكبت الخطبة مع استقرار الشمس في كبد السماء، فأشعتها لامعة، وحرها قائظ بيد أن حالة الجو كانت أبعد ما تكون عن عقول الحضور الأتقياء من رجال ونساء، فقد خيم على المكان الصمت، ووصلت كلمات النبي الى الآذان والألباب.

ثم أضاف النبي: (وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ... اللهم هل بلغت؟) طرح النبي هذا السؤال فأجاب الجمع على قلب رجل واحد "اللهم نعم"  فقال النبي رافعا سبابته إلى السماء: (اللهم فاشهد).

حادثة الغدير

بعد أن رجع النبي من حجة الوداع، وأثناء عودته إلى المدينة المنورة أوقف الركب عند مفترق طرق بمكان يعرف بغدير خم جامعاً للناس، منتظراً متأخرهم، وباعثاً على متقدمهم بالعودة إلى ذلك الموضع، كان ذلك التوقف، وجمع الناس في حر الهجير يوم الثامن عشر من ذي الحجة تلبية للأمر الإلهي (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة/67] لم تمنعه حرارة القيظ من تنفيذ أمر الله تعالى له فجمع المؤمنين، وقام فيهم خطيباً، قابضاً كف علي، منادياً فيهم (ألست أولى بكم من أنفسكم؟)

قالوا : بلى يا رسول الله .

فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم: (فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصر واخذل من خذله).

ويحدثنا زيد بن أرقم عن وصايا الرسول يقول: نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بين مكة والمدينة عند سمرات خمس دوحات عظام، فقام تحتهن فأناخ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشيته يصلي، ثُمَّ قام خطيباً فحمد الله عز وجل وأثنى عليه، وقال: ماشاء الله أن يقول، ثُمَّ قال: (أيها الناس إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا مااتبعتموهما، القرآن وأهل بيتي عترتي)

وبهذا البيان النبوي المبارك نصب الرسول الأكرم علياً ولياً للمؤمنين، وعلماً للدين   ومنارة للاهتداء، ورباناً يقود السفينة بعد وفاة رسول الله إلى بر الأمان، عندها نزل قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة/3].

أخيرًا آذنت شمس الرسالة بالغياب بعد مرور ما يربو على عشرين عامًا حملها النبي الكريم على عاتقه من المبدأ إلى المنتهى، متمثلاً في أمة ناضجة تعج بآلاف المؤمنين، وأقام دولة قوية، وعظيمة، كان سيكتب لها الاستمرار لو هي طبقت وصية النبي الكريم والتزمت سيرته وسلكت سنته.

نعم لقد أريد لهذه الرسالة أن تنثر سناها على جميع بقاع الأرض، وكان يفترض أن تكون الدولة الإسلامية أكبر دولة عرفها التاريخ إلى الآن؛ بما خولها الله من تشريعات كفيلة بإسعاد البشرية، ورقيها، وتحقيق الرفاه له، وهو ما تحقق بالفعل في ومضات قصيرة من تاريخ البشرية، وغاب في الزمان الطويل، لكنه الابتعاد عن مصادر القوة، وسنن النهوض، والخلود، من اتباع هذا النبي الأمي هو ما صيرها هباء، أو كالهباء.

نعم  إن ربع سكان الأرض تقريباً في عالم اليوم قد لبّوا دعوة النبي فنور الرسالة قد لامس شغاف القلوب على اختلاف الألوان، والأجناس، متغلباً على فوارق الغنى والفقر، والقوة، والضعف، كيف لا وهو النور الذي أضاءه ذلك الرجل منذ قرابة أربعمائة سنة وألف.

أنّى لرجل بمفرده متواضع الإمكانات محدود الأسباب قليل الأتباع أن يُحدث ثورة في ذلك الوقت المحدود، أفضت إلى تغيير معالم البشرية وتاريخها إلى الأبد؟ غير خاتم النبيين، وتمام عدة المرسلين، محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

رحل النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في ربيع الأول سنة 11 للهجرة النبوية, أصيبت الأمة بوفاة نبيها، ومنقذها، ونافذة الوحي، والسماء, كانت الفاجعة عظيمة، بعظمة ولادته، ووجوده بينهم، وانعامهم بأمانه (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال/33]

خفقت القلوب هلعاً، وحزناً، وغرقت المدينة في طوفان الحزن اللامتناهي, وضجت بالبكاء، والعويل, وعلا الأفقَ ثوبُ السواد، ولبست السماءُ ثيابَ الحداد, ونكست النجوم, وتبلد الوجود؛ لفقدان الحبيب، ورحيل البشير، والنذير.

"بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِنْبَاءِ، وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ، خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وَعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً، وَلَوْ لَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّئُونِ، وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلًا، وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً، وَقَلَّا لَكَ، وَلَكِنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ وَلَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ."

;