للوفاء صورٌ مضيئة، ونماذج متألقة؛ وأهل الوفاء في كل زمان هم حماة الدين ورجال الإنسانية ومشاعل التضحية, لا يخافون من إظهار مواقفهم، ولا يترددون في حماية مبادئهم, وثورةٌ كثورة الإمام زيد (ع) لن تجد أنصارها ورجالها إلا من أطهر العباد وأزكى البشر.
لقد كانت ثورة الإمام الشهيد زيد بن علي عليهما السلام مشهداً من أجلى مشاهد العظمة، وصورة من أعظم صور التضحية، ووقعة من أجل وقعات البطولة؛ وفيها وقف مع الإمام زيد عليه السلام رجال أعادوا للإيمان قيمته في سجل المراتب، وبعثوا الوفاء من جديد، بعد أن دُفن بين الأصلاب والترائب.
لقد حمل أنصار الإمام زيد بين جوانهم أرواحاً تشبَّعت بحُبِّ الله وهامت في حبِّ رسوله ومحبة آهلِ بيته صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فسطرت أروع الملاحم البطولية في التضحية والفداء؛ ليصبحوا فيما بعدُ رموزاً خلَّدَها التأريخُ، وأمثلةً ماثلة لكلِّ حُرٍّ لا تسمح له نفسه بالاستكانة والخضوع، أرواحٌ نفضَت عن الأمة الإسلامية العارَ الذي تلطَّخت به عند تخلُّفها المشؤومِ عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول عنهم إمامهم زيد بن علي عليه السلام: ((وأنا أعلم والله إنه ما أمسى على وجه الأرض عصابة أنصح لله ولرسوله وللإسلام منكم)), ويصفهم سليمان الرازي: ((لم أرَ يوماً كان أبهى ولا أكثر جموعاً ولا أوفر سلاحاً ولا أشد رجالاً ولا أكثر قرآناً وفقهاً من أصحاب زيد بن علي)). وهنا نقف على نماذجَ مشرقةٍ من هذه التضحيات، ونقرأ في ثنايا سيرة بعض من عظمائهم دروس التضحية والفداء:
معاوية بن إسحاق الأنصاري
معاويةُ بن إسحاق بن زيد بن حارثةَ الأنصاري نموذجُ وفاءٍ وفداء، لم يرضَ بحياته أن تضيع في مغريات فانية، دون أن يعززها بمواقف خلدها في صفحات التأريخ، فها هو يضع لمسته الأخيرة في هذه الحياة في مُجابهةِ الظالمينَ تحتَ لواءِ الحقِّ، مُتفانياً مع أهلِ البيت(ع) في النُصرةِ والتلبية دونَ مبالاةٍ لعِظَيمِ صَلَفِ المتجبرين، وشديدِ بغيهم، جازماً ألا خيرَ في عيشةٍ تحت عباءة الظالمين.
انطلقَ معاويةُ بنُ إسحاقَ مع الإمام زيدٍ عليه السلام خلالَ تحركِهِ الثوريِّ، فكان له خيرَ ناصرٍ ومعين، وقد كان الإمامُ (ع) متخفياً في دارهِ أيام التحضير للثورة، وكان رضي الله عنه من دعاة الإمام إلى الآفاق يأتي العلماء, يدخلُ على النَّاسِ ويطوفُ البلدان داعياً إلى نصرة الإمام, بأحسنَ بيان.
لقد لازمَ معاوية بن إسحاق الإمام زيد عليه السلام في كل منعطفات الثورة، وشاركه في جميع أيامه, وكان معه خير ناصر وأجل صاحب, وحين بدأت المواجهةُ, قاتل أشدَّ قتال، وظلَّ مدافعاً عن مبادئه مجاهداً عن إمامه حتى نال رضوانُ الله عليه شرفَ الشهادة بعدَ صولاتٍ وجولاتٍ واستبسالٍ فذٍّ خاضهُ ضدَّ جيشِ هشامٍ، حتى عجزوا أن يبرزوا لهُ إلا اغتيالاً وبغتة؛ وما تلكَ إلا تجارةٌ فُتحت أبوابُها, فكان من السابقينَ لها في تفانٍ صادقٍ لنُصرةِ الدين، ولم يكتف الظالمون في قتل معاوية بن إسحاق بل عمدوا إلى جسدِه الطاهر ونصبُوهُ مصْلوباً معَ إمامِه زيد, وكأنَّ الأحداثَ أرادَتْ أنْ تقولَ بلسانِ ابن إسحاق: والله ما تركتك يا أبا الحسين حياً ولا مصلوباً بكناسة كوفان.
وهكذا هو حالُ أهلِ بيتِه الذين سِيقوا بعد ذلكَ الى قصر الإمارة؛ ليُحاكَموا على جُرمِهم في نُصرةِ الإمام زيدِ(ع)، وهم ليسوا أكثرَ من نساءٍ وأطفال، ولكنَّ ثباتَهم يصعقُ قائدَ الجيش الأموي ويجعلُه يشتاطُ غضباً ويزدادُ حقداً، فيأمرُ بزوجةِ ابن إسحاق لقطعِ يديها، الواحدة تلو الأخرى، لتلاقي ربَّها بعد ساعاتٍ من مُكابدة الألمِ، مُعاناةٌ لا توصفُ، لكنَّ التضحية بالنفس والمال عند النفوسِ المؤمنةِ أهونُ عليها من خذلانِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم في ابنه وسليله في مثل هكذا مواقف.
وفي معاوية بن إسحاق ورفيقه في البطولة نصر بن خزيمة يقول الشاعر:
ترى الخيل تبكي أن ترى الخيل لا ترى معاوية الهندي فيها ولا نصرا
نصر بن خزيمة العنسي
نصر بنُ خُزيمةَ العنسي من أوائلِ الأوفياءِ وأشدِّهم صدقاً، وأمضاهم عزيمة مع الإمام زيد عليه السلام، وإن كان الوفاء رجلاً لكان نصرَ بن خزيمةَ, جبل من المعاني الكريمة, وكتاب من الصفحات النبيلة, سجلَّ تأريخاً حافلاً بمعارضة الظالمين منذ شبابه, يأبى الظلم ويكره الفسادَ ولا يخافُ في سبيلِ الحق صولةَ جبارٍ ولا سيفَ طاغية, ففي تاريخ دمشق لابن عساكر, قال: "عن سليمان بن زياد عن أخيه يحيى بن زياد قال: كان يوسف وفد أبي إلى هشام بن عبدالملك, فقدم علينا أبي من الشام ليلاً، فقال لنا: هل عندكم خبر؟ قلنا: لا. قال: على ذلك. فقلنا: لا؛ إلا أن زيداً مختفي بالكوفة، يقولون إنه يريد الخروج. قال: فمن صاحبُ أمره؟ قال: نصر بن خزيمة العبسي. قال: قاتل الله العباس بن الوليد. قلنا: وكيف ذكرت العباس بن الوليد؟ قال: أتيته مودعاً فقال لي: يا أبا يحيى اتقوا رجلاً من أخوالي بني عبس بالكوفة يقال له نصر بن خزيمة العبسي لا يجني عليكم حرباً."
وكان نصر يرجو في الإمام زيد عليه السلام الخروج ضد هشام، والثورة عليه، ويدعوه (وهو بمكة) للقدوم نحو الكوفة؛ ويحثه على التصميم على الثورة, يعيش أيامه منتظراً لداعي الحق, وما إن قدمَ الإمامُ زيد عليه السلام الكوفة حتى أنزله في داره, فكان نصر بن خزيمة سبَّاقاً في نُصرته، مقاتلاً بين يديه، لم يُزعزعهُ خذلانُ الخاذلين, ولا تَخلُّف المبايعين؛ فإنه رضوان الله عليه لما رأى تخاذل من بايع الإمام زيداً عليه السلام عن نصرته، وبقاءهم في جامع الكوفة، قامَ فيهم من خلفِ المسجدِ هاتفاً يستحثُّهم على الجهادِ، ويقول: "أن يا أهل الكوفةِ اخرجوا من الذلِ الى العزِ وإلى نعيمِ الدنيا والآخرة"؛ ولكن كان كلامه لهم دونَ جدوى؛ فالنفوسُ النائمةُ عن الحق نادراً ما تستيقظ.
نظر الإمامُ زيدُ بن علي عليهما السلام إلى نصر بن خزيمة الذي كان يحبه حباً شديداً، فقال له: (( يا نصر بن خزيمة, أخاف أهل الكوفة أن يكونوا قد فعلوها حسينية)), فنظر نصر بن خزيمة إلى إمامه وقال: (جعلني الله فداك, أما أنا فوالله لأضربن بسيفي حتى أموت), بعد ذلك انطلق نصر في ثنايا معركةٍ مفتوحةٍ مع جيشِ يوسف بن عمر، مُخترقاً لصفوفهم جنباً إلى جنبٍ مع الإمامِ زيد(ع)؛ مبلياً في سبيل ذلك أحسن البلاء.
ومن مواقف نصر بن خزيمة المشرفة أنه لما رأى المبايعين للإمام زيد (ع) في صبيحة اليوم الأول للمعركة قد تخلفوا, ذهب إلى قوم من قيس فحثهم على الجهاد وعاب عليهم التخاذل, فاستجابوا لدعوته وعادوا معه إلى إمامهم وقاتلوا بين يديه.
كما كان له رضوان الله عليه في أيام المعركة مواقف عظيمة, فقد قتل في اليوم الأول للمعركة أحد أبرز قادة العدو، وهو عمر بن عبدالرحمن صاحب شرطة الحكم بن الصلت, وقد حمل في يومها حملات على جيش يوسف بن عمر وهزمهم هزيمة قال عنها التاريخ أنها فضيحة.
زرع استبسال نصر بن خزيمة في قلوب العدو رعباً وهلعاً, فاستدعى يوسف بن عمر فارساً من فرسانه يقال له نائل بن فروة, وأعطاه سيفاً لا يمر بشيء إلا قطعه, فلما أبصر نائل نصراً ضربه على فخذه حتى قطعها, فضربه نصر حتى أرداه قتيلاً, وهنا يطوي نصر آخر صفحات الوفاء؛ ليترأسَ قافلةَ الاستشهاديينَ بعد عظيمِ تنكيلٍ بجيوشِ المجرمين, فلم يشفِ قتله يوسف بن عمر حتى بحث عن جثته وأمر بصلبها بجوار خشبة الإمام زيد عليه السلام؛ ليكون هو ومعاوية بن إسحاق رفيقي الإمام زيد (ع) في الاستشهاد والصلب والجنة، كما كانا رفيقيه في الدنيا.
القاسم بن كثير التنعي الحضرمي
القاسم بن كثير التنعي الحضرمي نسبة إلى حضرموت, فارس بقامة الشجاعة, ومقدام بحجم الاستبسال, وهو أوَّلُ شهيدٍ في المعركة, انتدبه الإمامُ زيد في لحظات المعركة الأولى لمهمة جليلة هي أشبه بمهمة الفداء, فحين فرض جيشُ بني أُمية حظرَ تجوالٍ على مدينة الكوفة, حتى يقطعوا سبل التواصل بين الإمام وأنصاره, كان لا بدَّ للإمام زيد أن يعلن لأنصاره عن بداية المواجهة, فكانت المهمة أن ينطلق فرسان الإمام إلى أحياء الكوفة وأسواقها لينادوا على الناس ببدء المعركة ويكسروا الحظر المفروض من قبل جيش هشام, وهي بالطبع مهمةٌ تحفُّها المخاطر, فلم ير الإمام زيد أحداً جديراً بتلك المهمة إلا القاسم بن كثير, فخرج القاسم إلى أحياء الكوفة وأسواقها ونادى بشعار الثورة "يا منصور أمت"، وهو شعار رسول الله في معركة بدر, إنه العبث بالموت وعدم الاكتراث بالمخاطر في سبيل الأهداف النبيلة والغايات السامية التي تجسَّدت في أنصار الإمام زيد وإنه عمق الإيمان الراسخ بالله إذا ما تمكن من النفوس.
اعترضت القاسم بن كثير كتيبةٌ من فرسان العدو بقيادة جعفر بن عباس الكندي, فشدُّوا عليه فقتل من أصحاب القاسم رجل, ونالت القاسمَ جراحاتٌ حتى ارتثَّ، فأُخِذ جريحاً إلى دار الإمارة, فأمر يوسف بن عمر أن تضرب عنقه على باب القصر.
فخرجت ابنته تبكيه وتقول:
عين جودي لقاسم بن كثير |
بدرور من الدموع غزير |
|
أدركته سيوف قوم لئام |
من أولي الشرك والردى والثبور |
|
سوف أبكيك ما تغنى حمام |
فوق غصن من الغصون نضير |
لم يكن القاسم الحضرمي الوحيد الذي أخذ جريحاً فقتل, فقد أُخِذ ضرام بن عبدالرحمن وبه جراحة في كفه، فأمر يوسف بن عمر بضرب عنقه, كما أخذ عيسى بن عتبة وبه جراحة، فأمر به فضربت عنقه, وهكذا كانت سياسة هشام بن عبدالملك, فبدلاً من أن يأمر بمداواة الجرحى ويعتبرهم أسرى حرب, كان يأمر أن يجهز على كل جريح؛
معمر بن خثيم
العلامة الراوي، والفاضل الفقيه معمر بن خثيم, من علماء العراق وفقهائها, وهو من رواة الحديث الموثوقين, ولقد جسَّد معمر بن خثيم العلم في ميدان العمل, فكان من أوائل المجاهدين بين يدي الإمام زيد, وهو من فرسان زيد ودعاته وكان رفيقه في الكوفة ورافقه إلى البصرة, ولقد بعثه الإمام إلى العلماء وإلى بعض المناطق يدعوهم إلى نصرته ويبين لهم أسباب ثورته, وكان هو وعبدالله بن الزبير الأسدي يُدخلان الناس على الإمام في مكان تخفيه في الكوفة قبل بداية المعركة.
عامر بن ربيع العذري
ومن رجال الوفاء رجل من عذرة, كان له مع الإمام زيد عليه السلام من عظيم الوفاء ما سطَّره التاريخ؛ فهو من قام إلى الإمام زيد عليه السلام, ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺃﺭﺃﻳﺖ ﺇﻥ ﻛﻨﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺤﻖ ﺃﻟﺴﺖ ﺃﻋﻈﻤﻨﺎ ﺃﺟﺮا؟!
ﻗﺎﻝ: ﺑﻠﻰ، ﻗﺎﻝ: ﺃﺭﺃﻳﺖ ﺇﻥ ﻛﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺑﺎﻃﻞ ﺃﻟﺴﺖ ﺃﺛﻘﻠﻨﺎ ﻇﻬﺮا؟!
ﻗﺎﻝ: ﺑﻠﻰ، ﻭاﻟﺬﻱ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ ﻫﻮ ﻳﺎ ﺃﺧﺎ ﻋﺬﺭﺓ ﻗﺎﺗﻞ ﻓﺈﻧﺎ ﻭالله ﻟﻌﻠﻰ ﺃﻫﺪﻯ اﻟﻬﺪﻯ، ﻭﺇﻧﻬﻢ ﻟﻌﻠﻰ ﺃﺑﻄﻞ اﻟﺒﺎﻃﻞ. فسلَّ عامرٌ ﺳﻴﻔﻪ، ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ:
نضرب عن زيد بكل صارم |
ذي رونق يفري شئون الظالم |
|
لست لكم ما كنت بالمسالم |
يا نصرة الكفرة ذي المآثم |
|
وجند عات ذي شفاة غاشم |
أهل على الحبر ذي المكارم |
|
وذي التقى والبر والمقاوم |
أول من صلى لرب راحم |
|
بعد النبي خير هذا العالم |
ﺛﻢ ﺿﺮﺏ ﺑﺴﻴﻔﻪ وقاتل قتال الأبطال حتى نال وسام الشهادة رضوان الله عليه.
سلام بن المنير
سلام بن المنير من أنصار الإمام زيد عليه السلام وفرسانه الشجعان وخلص شيعته، وكان كاسمه "سلام على المؤمنين، ومنير لدروب أهل الوفاء"؛ خرج رضوان الله عليه بين يد الإمام زيد (ع)، وهو يرتجز:
أضربهم بالصارم الحذام |
ضرب غلام أيما غلام |
|
ضرب غلام ماجد قمقام |
متوج بالجود والوسام |
|
أشد شد الباسل الضرغام |
على علوج نذل طغام |
|
من أهل كوفان وأهل الشام |
دون التقي السيد الهمام |
|
زيد الحجا والبر والإقدام |
ابن رسولٍ جا إلى الأنام |
|
بالصدق من عند أولي الإنعام |
لم يحفظوا إلاً ولا ذمام |
القاسم الأزدي
أمر القائد الأموي الغشوم يوسف بن عمر بالبحث عن كل أنصار الإمام زيد (ع)، والنيل منهم بالحبس أو التعذيب أو القتل, كعقاب لهم على مواقفهم المشرفة, فكان ممن قبض عليهم القاسم الأزدي, فلما أحضر إلى مجلس يوسف بن عمر سأله يوسف: أكنت في من خرج مع زيد بن علي؟!
وقد ظن الطاغية يوسف أن أنصار زيد بن علي عليهما السلام يهابون الموت, أو ينكرون الفضيلة.
فأجابه القاسم بكل فخر واعتزاز: نعم, فأمر الطاغية أن يُضرب بالسياط, فضرب حتى ظن أنه ميت, فقال له: يا يوسف ما تقول لربك إذا التقيتُ أنا وأنت عنده غداً؟! هل تُقتل نفسٌ إلا بنفس؟ ألست سامعاً مطيعاً لك على حجة تستحل بها قتلي؟ الله الله يا يوسف فإن القصاص غداً, فلم يزد كلامه الطاغية إلا عتواً، وجرأة على الله عز وجل, فصرخ في جنوده "اقتلوه اقتلوه", فما زالوا به يضربونه حتى انتقل إلى ربه شهيداً رضوان الله عليه.
سلام الجعفي
سلام الجعفي أحد خلص أنصار الإمام زيد (ع)، وكانت له قصة قبل استشهاده, قصة قد تكون سبقت زمنياً ثورة الإمام زيد, لكنها بيان على عظيم تلك الثورة وسلامة منهجها, فيروى أنه رضوان الله عليه قال: قلت لأبي جعفر يعني الإمام الباقر: فداك أبي إني رجل أحبكم أهل البيت، فقال الإمام الباقر: رحمك الله, فقال سلام: ادع الله لي, فرفع الباقر يديه حيال الكعبة ثم قال: اللهم أحيه محيانا, وأمته مماتنا, واسلك به سبيلنا.
فلما كانت ثورة الإمام زيد عليه السلام خرج سلام الجعفي معه، فقاتل بين يديه حتى قتل رضوان الله عليه، فحقق الله رغبته، واستجاب لدعاء الإمام الباقر عليه السلام.
ربيعة بن حديد
لقد قدم ربيعة بن حديد نموذجاً فريداً للبصيرة في الجهاد في سبيل الله حين قام إلى الإمام زيد عليه السلام فقال: والله يا أبا الحسين لأقاتلن معك عدوك, فإن عدوك عدونا, ونحن والله أشد عليه حنقاً وعداوة, لما ارتكبوا من دمائكم, ومنعوا من حقوقكم, واستأثروا بالأمر دونكم, فنحن لهم مفارقون, ولأعمالهم مبغضون, فانهض بنا إليهم إذا شئت وعلى الله فليتوكل المتوكلون.
ثم نهض وجاهد جهاد الأبطال، وكان من الفرسان الشجعان, وهو يقول:
والله لا أرجع حتى أعذرا |
أو أقتل المرء اللئيم الكافرا |
||
ما كنت يا بن الطاهرين أغدرا |
أو أسقي الصعدة مني أحمرا |
||
من شيعة الكفر أرجِّي الظفرا |
وأنصر المتوج المطهر |
||
ابن رسول الله ذاك الأزهرا |
أفضل من هلل ربي الأكبرا |
||
حتى أموت دونه وأقبرا |
خباب السلمي
خرج الخباب السلمي مع الإمام زيد عليه السلام، وكان من فرسان العراق وأبطالها، وهو يقول:
إن تنكروني فأنا خباب |
أذود بالسيف عن الأحباب |
|
عن عترة التالي للكتاب |
نبي صدق طاهر مجاب |
|
معظم عند العلي الوهاب |
خلفتموه يا بني الأوشاب |
|
خلافة في معشر أياب |
بني بنيه وبني الأصحاب |
في أهله خلافة الذئاب |
فأبشروا بالخزي والعقاب |
حسان بن قايد البارقي
ومن أهل الوفاء حسان بن قايد البارقي، وهو الذي يقول:
لنا المصاص من صميم بارقي |
أضرب فوق الرأس والمفارق |
|
بصارم للهام منهم فالق |
دون التقي ذي الحجى المصادق |
|
وخير ذي سكت نعم وناطق |
وخير من ينطق بالمناطق |
|
أرجو رضا الله العلي الخالق |
أضرب أنصار العتي المارق |
|
جند كفور خاتر منافق |
لست لكافريكم موافق |
مواقف جماعية
لقد تعددت صور التضحية في أصحاب الإمام زيد عليه السلام, وأشرقت شمس العظمة من أنحاء الكوفة, وكأنَّ أنصار الإمام زيد (ع) أرادوا أن يوثقوا بمواقفهم الثمينة كل قيم الإنسانية ومعاني الوفاء، فكما كانت التضحية فرديةً فقد كانت جماعية أيضاً، فكان يخرج من الأسرة الواحدة الاثنان والثلاثة؛ لينصروا الإمام زيداً عليه السلام، ثم يستشهدوا بين يديه؛ وكان من أولئك العظماء الأخوة الثلاثة الذين جاهدوا واستبسلوا حتى نالوا الشهادة جميعاً، وهم: علي ومحمد وبشر, لقد بخل التاريخ بالحديث عن هؤلاء الأخوة كما بخل عن غيرهم إلا بذكر أسمائهم, لكنها صورة كافية وافية شافية تحكي عظيم الوفاء وجليل الفداء.
ولم تكن هذه صورة وحيدة للعظمة, بل شهدت تلك الملحمة الجليلة أن يتقدم الأب والابن معاً، كما هو حال أبي حازم وابنه حازم, وكحال الحجاج ووالده اللذين حين لم يفلح العدو في قتلهما في المعركة, سارع لأخذهما بعد انتهاء المعركة، فقتلهما صبراً بجرم نصرة الإمام زيد (ع)، والثورة معه.
كما قدمت أسرة سالم العبسي اثنين من أبنائها، وهما: عوف وبشر؛ وعوف هو القائل في المعركة:
إن تعرفوني فأنا ابن عبس |
أشجع من ليث حمى عن عرس |
|
ليث هزبر الشدق خمر الخلس |
يفترس الأعداء أي فرس |
|
أفدي زيداً بأبي ونفسي |
وطارفي وتالدي وعرسي |
|
ياقوم جدوا في قتال النجس |
فإنهم حقاً شرار الإنس |
صميمُ إرادةٍ وعُنفوانُ ثباتٍ تقلدهما أصحابُ الإمام زيدٍ عليه السلام رغمَ قلتهم، وما كُلُ ذاكَ إلا حُب للهِ ولرسولهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وطمعاً في نعيمٍ أبديٍّ دونما اكتراث لشديدِ مُعاناةٍ جزموا بأنها لن تُقعدهم وبينَ أكُفهم أمثال عليٍ والحسين وزيد، و يبقى ذلكَ وفاء لا تُجاريهِ أرتالُ، وفداء لا تقوم له جبال.