كان الإمام زيد بن علي عليهما السلام موسوعة علمية فريدة في مختلف العلوم الدينية الإسلامية والإنسانية, وله إسهامات في كل فرع منها؛ ولنلقي الضوء - هنا- على جانب من هذه الإسهامات بشيء من الاختصار.
أولاً: في العلوم الدينية
العلوم الدينية هي العلوم المتعلقة بالإسلام كدين، كعلوم القرآن, وعلوم الحديث, وعلم الكلام, وعلم أصول الفقه, وعلم الفقه, وعلوم اللغة؛ ولنذكر دوره في هذه العلوم بنوع من التفصيل، كما يلي:
علوم القرآن: وهي العلوم المتعلقة بالقرآن الكريم، قراءةً، وتفسيراً، وناسخاً ومنسوخاً.
ولا تخفى علاقة الإمام زيد بن علي عليهما السلام بالقرآن الكريم؛ فقد كان يوصف عند الناس بـ(حليف القرآن)؛ لكثرة تدبُّره وتأمُّله فيه, وقال عليه السلام عن نفسه: (خلوت بالقرآن ثلاث عشرة سنة أقرؤه وأتدبره), وقال عليه السلام: والله ما خرجت ولا قمت مقامي هذا حتى قرأت القرآن، وأتقنت الفرائض، وأحكمت السنن والآداب، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل، وفهمت الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والخاص والعام، وما تحتاج إليه الأمّة في دينها مما لا بدّ لها منه ولا غنى لها عنه، وإني لعلى بينة من ربي).
وقال عنه الإمام جعفر الصادق: (كان بالقرآن عالماً, وقال عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: (وإنه ليسمع الشيء من ذكر الله فيغشى عليه حتى يقول القائل ما هو بعائد إلى الدنيا), وقال عمر بن موسى الوجهي: (وما رأيت أعلم بكتاب الله عز وجل, وناسخه ومنسوخه, ومشكله وإعرابه منه), وقال سلمة بن كهيل: (ما رأيت أنطق لكتاب الله من الإمام أبي الحسين), وقال السيد أبو طالب عن خصائص الإمام: (اختصاصه بعلم القرآن ووجوه القراءات، وله قراءة مفردة مروية عنه).
إذن فقد برع الإمام زيد عليه السلام في علوم القرآن ومعارفه المختلفة، وحاز أزمَّتها؛ ومن هذه العلوم:
أ- قراءة القرآن: ظهر تضلع الإمام زيد عليه السلام بعلم القراءة من خلال مناظراته عن علل القراءات، من روايته عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ومن الشعر العربي, وقد عني القراء والدارسون للقراءات بقراءته فقد جمعها عدد من المهتمين بالقراءات في كتب مستقلة منهم: عمر بن موسى الوجهي, والحسن بن علي الأهوازي, وأبو حيان التوحيدي, وذكرها آخرون مع غيرها, واكتفى قسم ثالث بالاستشهاد بها.
ب- تفسير القرآن: كان للإمام زيد عليه السلام السبق في التأليف في هذا الباب, وكان مؤلفه المسمى (تفسير غريب القرآن) أول باكورة من هذا النوع في الصعيد الإسلامي, ولهذا يعد أهم كتاب في غريب القرآن, وسار على نهجه فيه من جاء بعده كأبي عبيدة معمر بن مثنى البصري المتوفى سنة 209هـ في كتابه (مجاز القرآن)، والذي ظهر جلياً تأثير الإمام زيد بن علي عليهما السلام فيه, وكذلك تفاسيره المتفرقة في كتب التراث, فقد روي عن الإمام زيد بن علي تفاسير عديدة مسندة ومرسلة لكثير من الآيات ولأكثر من مذهب.
ج- الناسخ والمنسوخ: وله عليه السلام مشاركة بعد إتقانه له كما قال: (..وفهمت الناسخ والمنسوخ..), وروى: (لا يفتي الناس إلا من قرأ القرآن، وعلم الناسخ والمنسوخ، وفقه السنة، وعلم الفرائض والمواريث), ويرى الإمام زيد بن علي عليهما السلام: أن (المحكمات هن الناسخات، والمتشابهات هن المنسوخات).
علوم الحديث: وهي العلوم المتعلقة بالمرويات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تدوين وحفظ، وصيانة وتحقيق.
التدوين والحفظ: يُعدُّ مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام أول مدون حديثي فقهي في الإسلام, فقد جمعه الإمام زيد عليه السلام في كتاب يقول عنه أبو خالد الواسطي رحمه الله تعالى: (سمعناه من كتاب معه قد وطأه وجمعه فما بقي من أصحاب زيد بن علي عليهما السلام ممن سمعه إلا قتل غيري), إضافة إلى مروياته عليه السلام المتفرقة في كتب التراث الإسلامي والتي رواها عنه أكثر من مائة وأربعة وخمسين راوياً.
الصيانة والتحقيق: وذلك لمَّا كثر الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام وضع الإمام زيد بن علي عليهما السلام أصولاً للكشف عن صحة نسبتها إليهم, وهي أول أصول موضوعة للتحقيق, قال عليه السلام: (فمن جاءك عني بأمر أنكره قَلَبُك، وكان مبايناً لما عهدته مِنِّي، ولم تفقهه عَنِّي، ولم تره في كتاب الله عز وجل جائزاً، فأنا منه برئ، وإن رأيت ذلك في كتاب اللّه عز وجل جائزاً، وللحق مُمَاثِلاً، وعهدت مثله ونظيره مني، ورأيته أشبه بما عهدته عني، وكان أولى بي في التحقيق، فاقبله فإنَّ الحق من أهله ابتدأ وإلى أهله يرجع), وترتيب هذه الأصول كما يلي: إنكار القلب, المباينة للمعهود, المخالفة للمشهور, المخالفة للقرآن, المخالفة للحق, والمراد بالحق هو الثابت المقطوع عقلياً أو تاريخياً أو دينياً أو واقعياً.
وقد تبنى من هذه الأصول لنقد المتون جمعٌ من المحققين؛ منهم: الخطيب البغدادي - المتوفى سنة 463هـ -, وأبو حامد الغزالي - المتوفى سنة 505هـ , وابن القيم الجوزية - المتوفى سنة 751هـ -, وابن كثير الدمشقي - المتوفى سنة 774هـ -, وغيرهم؛ ومن الإمامية الاثني عشرية: أبو جعفر الطوسي المتوفى سنة - 460هـ -, وعبد الله المامقاني - المتوفى سنة 1351هـ -, ومحمد تقي التستري - المتوفى سنة 1415هـ -, ومحمد الطباطبائي - المتوفى سنة 1402هـ - .
علم الكلام، ومعرفة الله تعالى وتوحيده وعدله، وما يترتب عليهما, وهو من العلوم التي اختص بها عليه السلام، قال السيد أبو طالب عليه السلام: (اختصاصه بعلم الكلام، الذي هو أجل العلوم، وطريق النجاة والعلم الذي لا ينتفع بسائر العلوم إلا معه، والتقدم فيه، والاشتهار عند الخاص والعام, هذا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ يصفه في صنعة الكلام ويفتخر به ويشهد له بنهاية التقدم، وجعفر بن حارث في كتاب الديانة، وكثير من معتزلة بغداد كمحمد بن عبد الله الإسكافي وغيره، وينسبون إليه في كتبهم، ويقولون: نحن زيدية), وللإمام زيد بن علي عليهما السلام مساهمات فاعلة في تصحيح الانحرافات العقدية المنسوبة إلى الإسلام والتي من خلالها تردى الوضع, وشُرْعِنَ الظلم والطغيان, ومجموع رسائله المطبوع خير شاهد وبرهان على ذلك؛ ففي التوحيد: أعلن الإمام عليه السلام التنزيه المطلق لله تعالى مقابل التشبيه الطاغي فقال: (إني أبرأ إلى الله من المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه), وكان يفسر الآيات والأحاديث المتشابهات على مقتضى قاعدة التنزيه في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:11] .
وفي العدل: أعلن براءته من الجبر وأتباعه ومن الإرجاء والمرجئة فقال: (إني أبرأ إلى الله من ... ومن المجبرة الذين حملوا ذنوبهم على الله, ومن المرجئة الذين طمعوا الفساق في عفو الله), وقال عليه السلام: (سبحانه وتعالى عما تَقُولُ المُجْبِرةُ والمشبِّهةُ علواً كبيراً؛ إذ زعموا أن الله سبحانه وتعالى خَلَقَ الكُفْرَ بنفسهِ، والجحودَ والفِرْيَةَ عليه..., فقالوا: منه جَمِيْعُ تَقَلُّبِنَا في الحركات، التي هي: المعاصي، والطاعات، وإنه محاسبنا يوم القيامة على أفعاله التي فعلها، إذْ خَلَقَ: الكفر، والزِّنا، والسَّرقة، والشِّرك، والقتل، والظلم، والجور، والسَّفَه؛ ولولا أنه خَلَقَها - زعموا - ثم أجْبَرَنا عليها، ما قَدَرْنَا على أن نَّكْفُرَ، وأن نُشْرِكَ، أو نُكَذِّب أنبياءه، أو نجحد بآياته، أو نقتل أولياءه، أو رُسُلَه، فلما خَلَقَهَا وجَبَرَنا عليها، وقَدَّرها لنا، لم نخرج من قضائه وقَدَرِه، فَغَضِبَ علينا، وعذَّبنا بالنار طول الأبد.
كلا وباعِثِ المرسلين، ما هذه صِفَةُ أحكم الحاكمين، بل خلقهم مُكَلَّفِين مستطيعين مَحْجُوْجِيْنَ مأمورين منهيين، أمرنا بالَخْيرِ ولم يمْنَعْ منه، ونهى عن الشَّر ولم يُغْرِ عليه)().
وفي الوعد والوعيد: بعد ما انتشر القول بإخلاف الوعيد؛ تقليداً لليهود كما أخبر عنهم الله تعالى في كتابه المجيد {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:80], وتعلقوا بآيات متشابهات {ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ}[آل عمران:7], كقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}[النساء:48] وقد بين معناه الإمام زيد عليه السلام بقوله: (وسأبين لمن ضل عن هذه الآية كيف تفسيرها, الذين يشاء لهم المغفرة هم الذين أنزل فيهم: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً}[النساء:31], فمن وعد اللهُ من أهل القبلة النارَ بكبيرة أتاها فإن الله تعالى قال: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الْمِيْعَادَ}[الرعد: 31]، وقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}[مريم:61]، وقال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيْدِ}[ق: 29]) .
وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فبعد أن عُطِّل هذا الأصل العظيم والذي منه الجهاد, لم يقتصر إسهام الإمام زيد بن علي عليهما السلام في ترسيخ هذا الأصل من الناحية النظرية فحسب؛ بل أيده بالخروج العملي والذي انتهى باستشهاده عليه السلام, بل يعتبر الإمام زيد محيي هذا الأصل, وفاتح باب الجهاد, قال الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله عليهما السلام: (والله لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين، وأقام عمود الدين إذ اعوج، ولن ننحو إلا أثره، ولن نقتبس إلا من نوره، وزيد إمام الأئمة، وأول من دعا إلى الله بعد الحسين بن علي عليهم السلام), وقال الإمام الحسين الفخي عليه السلام: (من قام منا أهل البيت داعياً إلى الله وإلى كتابه وإلى جهاد أئمة الجور فهو من حسنات زيد بن علي، فتح والله لنا زيد بن علي باباً إلى الجنة وقال لنا: ادخلوها بسلام).
قال الإمام زيد بن علي عليهما السلام في بيان قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:71]: (فبدأ بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بفضيلة الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر عنده، وبمنزلة القائمين بذلك من عباده؛ ولعَمْرِي لقد استفتح الآية في نَعْت المؤمنين بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاعتبروا عباد الله وانتفعوا بالموعظة؛ وقال تعالى في الآخرين: {وَالْمُنَافِقُوْنَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأَمُرُوْنَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوْفِ}[التوبة:67]؛ فلعَمْرِي لقد استفتح الآية في ذمهم بأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف، فاعتبروا عباد الله وانتفعوا، واعلموا أن فريضة الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا أقيمت له استقامت الفرائض بأسرها، هَيِّنُها وشَدِيْدُها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الدعاء إلى الإسلام، والإخراج من الظُّلْمَة، ورَدُّ الظالم، وقِسْمَة الفَيء والغنائم على منازلها، وأخذ الصَّدقات ووضعها في مواضعها، وإقامة الحدود، وصِلَة الأرحام، والوفاء بالعهد، والإحسان، واجتناب المحَارم، كل هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الله تعالى لكم: {وَتَعَاوَنُوْا عَلَىْ البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوْا عَلَىْ الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوْا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَابِ}[المائدة:2]).
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: (وكان زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- أول من سن الخروج على أئمة الجور، وجرد السيف بعد الدعاء إلى الله).
وفي الإمامة: وهي الرئاسة العامة المحكومة بالشرع, أبان الإمام زيد عليه السلام مسألة الأولوية في تقلدها، فقال: (قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان أولى الناس بالناس أمير المؤمنين علي صلى الله عليه، ثم قبض أمير المؤمنين علي صلى الله عليه فكان أولى الناس بالناس أمير المؤمنين الحسن بن علي عليهما السلام، ثم قبض أمير المؤمنين الحسن بن علي عليهما السلام، فكان أولى الناس بالناس أمير المؤمنين الحسين بن علي عليهما السلام), وفي الشروط الواجب توفرها للمرشح للإمامة, قال عليه السلام: (لا ينبغي لأحد منا أن يدعو إلى هذا الأمر حتى تجتمع فيه هذه الخلال: حتى يعلم التنزيل والتأويل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وعلم الحلال والحرام، والسنة الناسخة ما كان قبلها، وما يحدث كيف يرده إلى ما قد كان لمثل ما فيه وله، وحتى يعلم السيرة في أهل البغي، والسيرة في أهل الشرك، ويكون قوياً على جهاد عدو المؤمنين، يدافع عنهم، ويبذل نفسه لهم، لا يُسلِمَهم حَذَر دائرة، ولا يخالف فيهم حكم الله تعالى، فهذه صفة من يجب طاعته من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم), وفي طرق تولي الإمامة يرى عليه السلام الدعوة والخروج مع كمال الخصال المعتبرة, قال عليه السلام: (فالإمام منا المفترض الطاعة علينا وعلى جميع المسلمين: الخارج بسيفه, الداعي إلى كتاب الله وسنة نبيه، الظاهر على ذلك, الجارية أحكامه، فأما أن يكون إمام مفترض الطاعة علينا وعلى جميع المسلمين متكئ فرشه مرجئ على حجته، مغلق عنه أبوابه تجري عليه أحكام الظلمة، فإنا لا نعرف هذا).
علم الفقه: هو العلم أو الظن بجُمَل من الأحكام الشرعية وعللها وأسبابها وشروطها, والإمام زيد بن علي عليهما السلام كان فقيهاً مجتهداً بل فاتح باب الاجتهاد (ولم يكن في زمانه أفقه منه، ولا أعلم، ولا أسرع جواباً، ولا أبين قولاً لقد كان منقطع القرين) كما قال أبو حنيفة, وقد خلف الإمام عليه السلام تراثاً فقيهاً جليلاً تميز بالواقعية وسعة الأفق وأصالة المصادر ودُّوِنَ في (المجموع) و(كتاب مناسك الحج والعمرة), بالإضافة إلى ما نقل عنه من فتاوى وأنظار في كتب التراث الإسلامي, قال عنه الشيخ أبو زهرة: (وقد أثر عن زيد فقه عظيم تلقاه الزيدية في كل الأقاليم الإسلامية، وفرعوا عليه وخرَّجوا، واختاروا من غير ما تلقوا، واجتهدوا ومزجوا ذلك كله بالمأثور عن فقه الإمام زيد بن علي- رضي الله عنه - وتكونت بذلك مجموعة فقهية لا نظير لها، إلا في المذاهب التي دونت وفتحت فيها باب التخريج، وباب الاجتهاد على أصول المذهب، ولعله كان أوسع من سائر مذاهب الأمصار، لأن المذاهب الأربعة لا يخرج المخرجون فيها عن مذهبهم إلى مرتبة الاختيار من غيره .. نعم أنهم يقارنون بين المذاهب أحياناً، كما نرى في المغني الحنبلي، وفي المبسوط الحنفي، وفي بداية المجتهد ونهاية المقتصد الذي ألفه ابن رشد من المالكية، والمهذب للشيرازي من الشافعية، ولكن هذه المقارنات إما أن ينتهي المؤلف إلى نصر المذهب الذي ينتمي إليه والدفاع عنه، كما نرى في مبسوط السرخسي، والمغني، وإما أن يعرض الأدلة وأوجه النظر المختلفة من غير ترجيح، ويندر أن يكون اختيار إلا في القليل، كما نرى في اختيارات ابن تيمية، إذ قد خرج من هذا النطاق، وقد اختار من مذهب آل البيت مسائله في الطلاق الثلاث، والطلاق المعلق، وكما نرى في اختيارات قليلة لكمال الدين بن الهمام من المذهب الحنفي، كاختيار رأي مالك في ملكية العين الموقوفة.
أما المذهب الزيدي فإن الاختيار فيه كان كثيراً، وكان واسع الرحاب، وقد كثر الاختيار حتى في القرون الأخيرة، وكان لذلك فضل في نمائه وتلاقيه مع فقه الأئمة الآخرين)().
5- علم أصول الفقه: هو علم بقواعد يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية, فهو الطرق الموصلة إلى الفقه, وكان أول واضع لقواعده أمير المؤمنين عليه السلام, قال السيد العلامة علي بن عبدالله بن القاسم: (أجمع أهل البيت المطهرين ومن تبعهم على ذلك من سائر المسلمين أنه عليه السلام - أي الإمام علي- الذي فتح بابها, وعرف أسبابها, وبين صفاتها, وقواعدها, وكلامه عليه السلام ورسائله وخطبه التي يرويها المؤالف والمخالف بهذا شاهدة وبما أشرنا إليه ناطقة)(), وقد أسهم الإمام زيد بن علي عليهما السلام في ترسيخ هذا العلم بوجوه عدة منها:- بيان مراتب الأدلة الشرعية, روى عليه السلام: ((أول القضاء ما في كتاب الله عز وجل ، ثم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ما أجمع عليه الصالحون، فإن لم يوجد ذلك في كتاب الله تعالى ولا في السنة ولا فيما أجمع عليه الصالحون اجتهد الإمام في ذلك لا يألو احتياطاً، واعتبر، وقاس الأمور بعضها ببعضٍ؛ فإذا تبين له الحق أمضاه، ولقاضي المسلمين من ذلك ما لإمامهم)) .
- حجية إجماع العترة: قال عليه السلام: (الرد إلينا، نحن والكتاب الثقلان)، وقال: (فإن الله عز وجل قد فضلهم على الخلق بالهدى والطاعة، وأعلمَ الناسَ عصمَتَهم، فلا يضلون عن الحق أبداً).
- حجية قول أمير المؤمنين عليه السلام: قال عليه السلام: (وعليك بعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلامه، فإنه كان باب حكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان وصيه في أمته، وخليفته على شريعته، فإذا ثبت عنه شيء فاشدد يدك به، فإنك لن تضل ما اتبعت علياً صلوات الله عليه وسلامه).
- شروط الاجتهاد: فقد روى عليه السلام: ((لا يفتي الناس إلا من قرأ القرآن، وعلم الناسخ والمنسوخ، وفقه السنة، وعلم الفرائض والمواريث)) .
6- علوم اللغة: وهي العلوم المتعلقة باللغة العربية، كالنحو، والصرف، والبيان، والمعاني، والشعر، والحكم، والرسائل، والخطب, والإمام زيد عليه السلام كان متقناً لعلوم اللغة العربية خبيراً بها، شهد له أدباء عصره بذلك كالشاعر الكميت بن زيد الأسدي القائل: (ما رأيت قط أبلغ من زيد بن علي)(), والأديب خالد بن صفوان المنقري القائل: (انتهت الفصاحة، والخطابة، والزهادة، والعبادة من بني هاشم إلى زيد بن علي), وكان عالم النحو الشهير سيبويه يحتج بما روي عن الإمام زيد من أشعار كما ذكر في كتاب نور الأبصار؛ ويمكن النظر لإسهام الإمام زيد بن علي عليهما السلام في النحو والصرف في قراءته المنشورة, وأما الخطب والمواعظ والحكم فمنشورة أيضاً ومجموعة, ومن الخطب: (الحمد لله على ما ابتدأنا به من نعمه، والحمد لله على ما ألهمنا من حمده، والحمد لله على جميع لطفه بنا وأياديه عندنا، اللهم وإنا لا نبلغ منتهى الحمد الواجب لك أبداً إذ كان حمدنا إياك على ما عرفتناه من نعمة يجب حمدك عليها وشكرك بها..), ومن حكمه عليه السلام: (الداعي إلى الله بغير عمل كالرامي بغير وتر), و(من استشعر حب البقاء استدثر الذل إلى الفناء), ومن أشعاره عليه السلام:
السيف يعرف عزمي عند هبته
إنّا لنأمل ما كانت أوائلنا
والرمح بي خبر والله لي وزر
من قبل تأمله إن ساعد القدر
ومنه:
لو يعلم الناس ما في العرف من شرف
وبادروا بالذي تحوي أكفّهم
لـشرفوا العرف في الدنيا على الشرف
من الخطير ولو أشفوا على التلف
ثانياً: في العلوم الإنسانية
العلوم الإنسانية هي العلوم الاجتماعية المتعلقة بنشاط الإنسان وحياته, كالتاريخ والسياسة والقانون والحقوق والحريات والتربية:
علم التأريخ: هو حكاية الماضي الإنساني ونقله أو تدوينه, ومن عادة الناس أن يؤرخوا بالواقع المشهور والأمر العظيم، فأرخ بعض العرب بعام الختان لشهرته، وكانت العرب قديماً تؤرخ بالنجوم، إلى أن ظهر الإسلام وبدأ التأريخ لأهله بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولادة ومبعثاً وهجرة ووفاة()؛ كونه أعظم حدث في تاريخ البشرية، ولاعتبارات دينية؛ وعلاقة الزيدية بالتاريخ دينية في المقام الأول للتأسي بالنبي صلى الله عليه وآله والأئمة من بعده من خلال تدوين سيرهم، والسير على إثرها؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً}[الأحزاب:21], وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[الممتحنة:6].
وللاعتبار أيضاً؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[يوسف:111], بمعرفة الحوادث، والكوارث، والوقائع، والكوائن، وأسباب الصعود والهبوط؛ لأن حياة الأمم موصولة, وحاضرها القريب وليد ماضيها البعيد, قال أمير المؤمنين عليه السلام: (أي بني، إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره).
وللإمام زيد بن علي عليهما السلام عناية بالتاريخ, فقد كان مؤرخاً للحوادث السابقة على عصره, ومن ذلك ما روى عنه بشر أنه قال: (قتل أويس القرني يوم صفين), وإسحاق بن سالم وسعيد بن خثيم عنه أنه قال: (كان شعار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: يا منصور أمت), وفضيل بن الزبير عنه تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام, وقال الأجلح بن عبدالله: سمعت زيد بن علي، وعبدالله بن حسن، وجعفر بن محمد، يذكر كل واحد منهم عن آبائه وعمن أدرك من أهله وغيرهم أنهم سمّوا له من شهد مع علي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن قال: (وعبدالله بن بديل بن ورقاء، ومحمد بن بديل بن ورقاء الخزاعيان قتلا بصفّين، وهما رسولا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلى أهل اليمن).
علم السياسة والقانون: علم السياسية هو: العلم الذي يتعلق بالسلطة الحاكمة بناءً وتوزيعاً وهدماً, وعلم القانون هو: العلم الذي يعتني بوضع القواعد المنظمة للحكم والسلوك, وللإمام زيد بن علي عليهما السلام مشاركة سياسية فاعلة تمثلت في القيام بالمعارضة والخروج على السلطة الحاكمة لإسقاطها, وقد سلك الإمام زيد عليه السلام منهجاً واقعياً فاعلاً في إسقاط النظام الظالم وإقامة دولة العدل الإسلامية, وتمثل المنهج في تقسيم المهمة السياسية إلى قسمين:
القسم الأول: مقدمات الخروج: وهي الإجراءات اللازمة للقيام بإسقاط النظام وبناء الدولة الجديدة، وهي كما يلي:
- النصح المباشر للحاكم: باعتباره رأس النظام والمسؤول الأول على كل الاختلالات الحاصلة في الدولة, وللإمام زيد عليه السلام نصائح عدة لهشام بن عبدالملك.
- المناظرة العلنية لعلماء الحاكم: وذلك لبيان فساد منهجهم في التبرير لفساد الحاكم وظلمه وإعلام أتباعهم بذلك, وللإمام زيد عليه السلام مناظرة مع علماء هشام بن عبدالملك بالشام، بل وله نصائح لكافة العلماء.
- بث التجاوزات بين الناس بكافة وسائل الإعلام الممكنة وذلك للتأليب على الحاكم والإعلام بعدم صلاحيته للبقاء والاستمرار.
القسم الثاني: شروط الخروج: فبعد تحقق ما سبق من مقدمات للخروج تأتي شروط الخروج الفعلية لكمال المراد على الوجه المطلوب، وهي كما يلي:
- وجود القيادة الموحدة - من إمام وفقهاء وأعلام - في الرؤية والأهداف المراد تحقيقها بعد إسقاط النظام القائم, وقد توفرت القيادة الموحدة للإمام زيد عليه السلام باعتبار الإمام وجمع من الأعلام.
- وجود القوة العددية والعتادية القادرة على الإطاحة بالحاكم وإقامة النظام الجديد على أنقاضه, وقد توفر ذلك للإمام زيد عليه السلام، وقد بلغ عدد أنصاره ما يقوم به الأمر ويحقق المراد.
- حصول غلبة الظن بنجاح الخروج في تحقيق الأهداف المنشورة من إزالة الظلم القائم وإقامة العدل, ولم يخرج الإمام زيد عليه السلام إلا بعد غلبة الظن بنجاح خروجه في تحقيق الأهداف المرجوه منه, ولولا نكث الأتباع وشراؤهم لتحقق المراد.
- تحديد الموعد المناسب للخروج على الحاكم وإسقاطه, وقد حدد الإمام زيد عليه السلام موعداً له على هشام بن عبدالملك كان ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة, ثم عجل الخروج نتيجة وقوف المخابرات الأموية على ذلك فكان في الخامس والعشرين من محرم.
وفي مجال القانون ووضع القواعد المنظمة للحكم وضع الإمام زيد عليه السلام قاعدة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فقد روى عليه السلام: ((حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يعدل في الرعية؛ فإذا فعل ذلك فحق عليهم أن يسمعوا وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا، وأيما إمام لم يحكم بما أنزل الله فلا طاعة له)), وروى: ((أيما والٍ احتجب من حوائج الناس احتجب الله منه يوم القيامة)), وفي بيان الشروط اللازمة للحاكم قال عليه السلام: (لا ينبغي لأحد منا أن يدعو إلى هذا الأمر حتى تجتمع فيه هذه الخلال: حتى يعلم التنزيل والتأويل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وعلم الحلال والحرام، والسنة الناسخة ما كان قبلها، وما يحدث كيف يرده إلى ما قد كان لمثل ما فيه وله، وحتى يعلم السيرة في أهل البغي، والسيرة في أهل الشرك، ويكون قوياً على جهاد عدو المؤمنين، يدافع عنهم، ويبذل نفسه لهم، لا يسلمهم حذر دائرة، ولا يخالف فيهم حكم الله تعالى، فهذه صفة من يجب طاعته من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم).
علم الحقوق والحريات: هو العلم المتعلق بحق الإنسان الشامل الإنساني والديني والسياسي والمدني والاجتماعي, وحقوق الإنسان هي محور مقاصد الشريعة الإسلامية, وما شُرعت الشرائع إلا لمصالحه, فالواجبات لكونها ألطافاً, والمندوبات لكونها مسهلات للواجبات, والمحرمات لكونها مفاسد, ولا شك أن دفع المفاسد كالمصلحة, والمكروهات كونها مسهلة لتجنب المحرمات, وقد وضع الإمام زيد بن علي عليهما السلام وثيقة مستقلة في بيان الحقوق اللازمة بعنوان (رسالة الحقوق)، وقال للناس: (تدارسوها وتعلموها وعلموها من سألكم .. فتعلموها وعلموها), ومما جاء فيها: (اعلموا أن حقوق الله عز وجل مُحِيْطَةٌ بعباده في كل حَرَكة، وسبيل، وحال، ومنزل، وجارحة، وآلة؛ وحقوق الله تعالى بعضها أكبر من بعض.. إلخ, فذكر: حق الله الأكبر, وحق النفوس, وحق الجوارح, وحق الطعام, وحق الأفعال, وحق الأئمة والرعية, وحق العلماء والمتعلمين, وحق المُلاك, وحق الرحم, وحق المؤذن, وحق أئمة الصلاة, وحق الجلاس, وحق الجار, وقال في آخرها: وحقوق الله كثيرة، وقد حَرَّم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فجانبوا كل أمر فيه رِيْبَة، ودعوا ما يريب إلى ما لا يريب، والسلام).
وفي الحريات الفكرية والعملية دافع الإمام زيد بن علي عليهما السلام على تقرير حرية الإنسان في القول والعمل, وأنه مخير لا مسير, وعدم وجود جبر عليه في تصرفاته، بل وتبرأ ممن يفترض وجود ذلك بقوله: (إني أبرأ إلى الله من ... ومن المجبرة الذين حملوا ذنوبهم على الله).
وفي الحريات السياسية يرى الإمام زيد عليه السلام أن للإنسان الحرية المطلقة في المشاركة السياسية، فعندما قاد الثورة قال عليه السلام: (...فإن أجبتم سعدتم، وإن أبيتم خسرتم، ولست عليكم بوكيل).
علم التربية والأخلاق: هو العلم الذي يهتم بتنشئة الأفراد على القيم والأخلاق الحسنة, وقد سعى الإمام زيد بن علي عليهما السلام لبناء منظومة تربوية أخلاقية؛ لحماية المجتمع المسلم من الانحراف والفساد, وزرع القيم الأخلاقية فيه من الصدق والعدل، فكان يقول: (والله ما كذبت كذبة، منذ عرفت يميني من شمالي، ولا انتهكت لله محرماً منذ عرفت أن الله يعاقب عليه).
فبدأ عليه السلام بتربية العلماء على سلوك الحق والصدع به، وذلك لما لهم من تأثير على العامة، كما قال عليه السلام: (وأنتم أيها العلماء عصابة مشهورة، وبالورع مذكورة، وإلى عبادة الله منسوبة، وبدراسة القرآن معروفة، ولكم في أعين الناس مهابة، وفي المدائن والأسواق مكرمة، يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويرهبكم من لا فضل لكم عليه، يبدأ بكم عند الدعوة والتحفة، ويشار إليكم في المجالس، وتشفعون في الحاجات إذا امتنعت على الطالبين، وآثاركم متبعة، وطرقكم تسلك، كل ذلك لما يرجوه عندكم من هو دونكم من النجاة في عرفان حق الله تعالى، فلا تكونوا عند إيثار حق الله تعالى غافلين، ولأمره مضيعين، فتكونوا كالأطباء الذين أخذوا ثمن الدواء واعطبوا المرضى، وكرعاة استوفوا الأجر وضلوا عن المرعى، وكحراس مدينة أسلموها إلى الأعداء، هذا مثل علماء السوء).
ثم اتجه عليه السلام إلى بناء المجتمع العلمي من خلال حث الناس على طلب العلم ونشره فكان يقول عليه السلام في مواضع عدة: (سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإنكم لن تسألوا مثلي، والله لا تسألوني عن آية من كتاب الله تعالى إلا أنبأتكم بها، ولا تسألوني عن حرف من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنبأتكم به)(), وروى عليه السلام: ((عالمٌ أفضل من ألف عابدٍ)), و((العلماء ورثة الأنبياء)), و((من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة)).
والمجتمع العلمي المنشود لدى الإمام زيد بن علي عليهما السلام لا بد أن يكون فاعلاً في الواقع، فيترجم ما علمه نظرياً إلى التطبيق، وقد يعرضه ذلك إلى المخاطر ويجب عليه مواجهتها دون مراعاة لحب الدنيا وحلاوة العيش، لا سيما في الجهاد والثورة على الظالمين, وقد كرر عليه السلام في مواضع عدة قوله: (من أحب الحياة عاش ذليلاً), و(من أحب البقاء استدثر الذل إلى الفناء), ففتح عليه السلام باب الجهاد ومقارعة الظالمين، ورسخه كعقيدة دينية لكل الأحرار، وعليه ساروا في كل المواطن.
والاعتصام بحبل الله والوحدة عقيدة إسلامية لدى الإمام زيد عليه السلام حاول بكافة الطرق التربوية إيصالها إلى الناس؛ كونها استجابة لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103], فكان يقول: (والله لوددت أن يدي ملصقة بها - أي الثريا- فأقع إلى الارض أو حيث أقع فأتقطع قطعة قطعة وأنَّ الله أصلح بي أمة محمد صلى الله عليه وآله(, ويقول عليه السلام: )والله لو أعلم أنه تؤجج لي نار بالحطب الجزل، فأقذف فيها(وأن الله أصلح لهذه الأمة أمرها لفعلت).
وكان عليه السلام يوصي ابنه، وهي وصية للجميع بقوله: )يا بني اطلب ما يعنيك بترك مالا يعنيك, فإن في ترك مالا يعنيك دركا لما يعنيك, واعلم أنك تقدم على ما قدمت ولست تقدم على ما أخرت, فآثر ما تلقاه غداً على مالا تراه أبداً).